الفصل الثامن
تنهدت بثقل وشردت نظراتها في أمواج البحر أمامها وتحدثت بخفوت شارد.. تبادر في فتح كتاب حياتها له..
-رمزي، حامد ، عبدالله، رضوى
اربعة ابناء انجبهم السيد يحيى، مكانته في المجتمع
كان عميدًا سابقًا لكلية الهندسة.. وزوجته السيدة طاهرة العايدي إبنة عمه وهي طبيبة عظام
انجبوا أطفالهم في عمر صغير
تزوجها وهو بعمر الثامنة عشر.. وهي كانت بالخامسة عشر.. وابويهما كانا محبان للعلم شغوفان به
فقررا أن يكمل كلٌ من يحيى وطاهرة تعليمهما رغم زواجهم.. ووفروا لهم كل الوسائل الممكنة التي تشجعهم
فكانت والدة يحيى تهتم بطعامهم طيلة شهور الدراسة.. ووالدة طاهرة تهتم بنظافة المنزل رغم رفضها للـ "الكلام الفارغ" الذي يحدث.
ومع أول طفلٍ ليحيى وطاهرة ازدادت المسؤولية على الأهل.. فكانت الوالدات يتناوبن الاعتناء بالصغير..
ولكن حينما جاء لهم يحيى في نهاية عامه الحامعة يزف لهم بشرى حصوله على " امتياز " في كل أعوام دراسته وسهولة تعيينه معيدًا في الكلية.. ذهب ألم المسؤولية وشعر الاباء بالفخر أنهم السبب في هذا
أما طاهرة فكانت في أول اعوامها بكلية الطب.. تجاهد بين تعليمها ومتطلبات زوجها وحملها
ومع مرور السنين زاد أولا يحيى وطاهرة
واحد والثاني سافر يحيى إلى المدينة ليُدرس في أحد الجامعات،وايضًا يحضر رسالة الدكتوراة
ولا يأتي للقرية إلا للعطلات الكبيرة،وفي كل عطلة يسافر ويعود بها، يمتلئ بطن طاهرة بطفلٍ جديد حتى جاء باقي اطفالهم
وازداد حِمل الأطفال على الأهل.. وبدأت المشاكل والعراقيل تظهر، وبعد تخرج طاهرة من كلية الطب
وتعينها في مشفى بالقاهرة..تعين عليها السفر هي الاخرى وترك جزءًا من أطفالها مع العائلة
فقررت أخذ أصغر طفلين وتركت اكبرهم وهم
" رمزي وحامد "
بدأت السنون تجري بهم دون أن يدركوا ما ضاع عليهم في سبيل تحقيق رغبة الاباء.. وما ضاع على ابنائهم بسبب غيابهم عنهم
توفى والد يحيى وبعد شهورٍ قليلة توفيت والدته حزنًا على فراق زوجها
فتولى عمه "كاشف" وزوجته تربية رمزي وعبدالله
حتى بلغا اشدهما وانهو دراستهم الثانوية
التحق رمزي بكلية التجارة.. أما حامد ففضل الزراعة والعيش كفلاحٍ دؤوب بناءً على نصيحة جدته لوالدته
وانقسم الابناء لفريقين.. فريق لم يخرج من القرية ولا يروا والديهم إلا في العطلات الرسمية
وفريقٍ عاش بالمدينة وأخذ من مباهج الحياة كثيرًا
ولم يدرك السيد يحيى خطأه إلا حينما توفيت زوجته السيدة طاهرة وهي بعمر الأربعين في حادث سيارة وتوفيت كذالك ابنته رضوى معها..ولم يحزن عليها ولداها الكبيران.. بل تلقوا الخبر بهدوء اعصاب وبعض الحزن الذي انتهى بعد ايامٍ لا أكثر
حينها قرر يحيى جمع ابنائه حوله ليعتني بهم جميعًا
وحينما طالب بهم من عمه كاشف، وافق فورًا
بخلاف زوجته الي احتجت رافضة أن تعطيه ما القاه لها منذ سنوات.. وبدأت بشحن نفوس اولاده عليه
فكبر رمزي وحامد على الجفاء والحقد تجاه والدهم الغريب.. وشقيقهم عبدالله
ورغم ان حامد لم يكن شديد البعد عن والده
ولكنه لم يكن بالقرب الكافي..
حينما مرض والدهم وهو في عمر الخمسون اتى حامد سريعًا من القرية ليعتني به مع عبدالله
ومن هنا بدأت العلاقة بينهم تتحسن.. بخلاف رمزي الذي فضل أن يبقى على بغضه ويتزوج امرأة حقوده مثله
اما عبدالله فتزوح زميلته في الكلية وانجبا طفلة صغيرة وحيدة..إلى أن أتت لهم فرصة جيدة للعمل خارج البلاد فشجعه والده على السفر والتمسك بها
وعاش يحيى وحيدًا لمدة عشرون عامًا.. لا يعتني به سوى حامد الذي ياتي من القرية كل اسبوعان مع زوجته
كي يعتني بوالده وتحضر له زوجة ابنه طعامًا يكفيه لحين ميعاد الزيارة القادمة.. ومن بين عامين وأخرين ياتي عبدالله مع زوجته وابنته لمدة عشر ايأم ويغادر من جديد
وظل يحيى يدرس يدرس في الجامعة التي كان عميدها
وكان يكتفي بالعمل والوحدة.. إلى أن جائه خبر وفاة ولده عبدالله وتشييع جثمانة إلى البلاد لدفنه
هنا زاد تعب الأب أكثر وكانت الصدمة كبيرة عليه
في الماضي توفيت زوجته وابنته.. وبعد أعوامٍ طويلة مات ولده.. وهو يذق مرارة الفقد والوحدة أكثر وأكثر
جائت أرملة ولده وسكنت معه هي وابنتن بضعة أشهر إلى أن جائها انذار من عملها بالفصل فاضطرت للسفر وترك ابنتها التي تجاوزت الواحد والعشرون مع جدها
وتآلفت الفتاة مع جدها وآنست وحدته وعوضها انشغال والداها عنها في الغربة
إلى ان وصلها خبر زواج والدتها.. غضبت وبكت معترضة وقررت أن تستقر مع جدها والذي أحب كثيرًا أن تمكث معه.. استقروا معًا وأحبت الحياة معه رغم انه كان رجل قروي حاد الطباع يرفض تصرفاتها الغربية
ولكن ماان يغضب منها يعود ويراضيها فورًا
إلى أن عكر صفو حياتهم أن ولده حامد وأولاده رفعوا عليه دعوي قضائية بالحجر على أمواله
تلك كانت القشة الي قسمت ظهر البعير.. فتفاقم مرضه ومات منذ شهران.. وكانت وصيته لحفيدته ألا تنساه
وتزور قبره تؤنس وحشته من وقتٍ إلى آخر
اشاحت وجهها له تنظر لوجهه الناظر لها بانصات ويبدو على وجهه الخيبة والحدة لما تسرده عليه
وفي عيناه تساؤل قرأته واجابت عليه بذات الخفوت...
-وفي يوم.. ذهبت للمقابر وأطالت جلستها معه
إلى أن ظهر شاب فاسد يحاول التعدي عليها.. فظهر رجلًا كفارسٍ مغوار انقذها من ذاك الوقح ولكن تلقى ضربة مؤذية على رأسه.. فأخذته لمنزلها كي تعتني به
ثم اكتشفت انه مجنون هارب ووسيم
أنهت كلماتها ضاحكة وهي تغمز له بعيناها
فظهرت ابتسامة مترددة على وجهه وهو يشيح وجهه عنها يرفض أن يسقط في بئرها الفتان.. فوصله صوتها اللحوح وهي تمسك كفه بقوة قائلة...
-هيا يانديم أخبرني كيف وصلت للمقابر.. واخبرني لمَ يقولون عنك مجنونًا ويعرضون صورتك وبياناتك
وأين عائلتك
نظر لها بطرف عيناه فوجدها تقرب منه ورقة وقلم ليكتب ويخبرها باستفاضة.. لوهلة اخبره قلبه أن يفتح اوراقه أمامها.. ويقص عليها مايؤرقه هو الأخر.. يخبرها بالخفايا التي لا يعلمها اياه.. هي وثقت وآمنت به أنه ليس مجنون
بل وعرضت نفسها لخطر الهروب معه كي لا يجدوه
فلا ضرر من أن يخبرها الحقيقة.. فا في الأخير سيأتي يوم ويرحل عنها ويفترقا
تنهد وهو يجذب الدفتر والقلم منها ويبدء الكتابة بخطٍ متعرج ثقيل.. بدء يكتب بشرود يكتب ماحدث منذ ثلاثة أعوامٍ كاملة
وكلما كتب حدث يسعفه عقله بالأخر.. تفاجئ انه لازال يذكر بعض التفاصيل المؤلمة التي ظن أنه نسيها تمامًا
ولكن عقله الباطن أمده بكل ما كان يود نسيانه
فظل يكتب ويكتب ويكتب إلى أن مضت عشرون دقيقة كاملة.. وهو يكتب بأنامل متصلبة.. وعيون تفيض بالدمع
واسنانه تجز على بعضها بقوة يكاد يكسرها
وكأنه غرق في بحر الذكريات الذي ابتلعه بلا رحمة
خافت حينما رأته في هذه الحالة وخشيت أن ينتهي به الأمر في نوبة جنونية عنيفة تعرضه للخطر!
ربتت على كتفه المتصلب تقول بقلق...
-لا عليك يانديم.. لا تكتب شيئًا لا أود أن اعرف اي شيء
لم يبدو انه سمعها فهو ظل يخط كلماته بعنف إلى أن انهار القلم في يده وانكسر.. يعلن عدم تحمله ضغط تلك الأنامل
اقتربت طيف من نديم وحاولت أن تفك قبضته عن انبوب الحبر كي تتركه ويهدئ من هذيانه المجنون
ولكنه كمن تتعلق حياته بكتابة تلك الكلمات.. حتى أن انفاسة العالية بدأت تخرج كهديرٍ عال.. أو زئير مجروح
دموعه تقطر على يده التي جرحت من شظايا القلم الذي كُسر.. وظهرت قطرات الدماء على الورقة البيضاء فلوثتتها
ولازال هو يحاول الكتابة بالانبوب إلى أن اطلق صرخة منفلعة وهي يقف ويلقي الدفتر وينظر للأمام بعيون حمراء دامعة ووجه محتقن انفعالا
بينما كانت طيب تقف على مقربة منه تنكمش في نفسها خوفًا وعيناها تذرف الدمع خشيةً عليه وشفقة على حالة
وبصعوبة تغلبت على خوفها واقتربت منه بشجاعة زائفة تربت على كتفه فينتفض جسده وينظر لها بانفعال ولا وعي.. انفعال قد يؤذيها وينتهي بها الأمر على غير مايرام..
ولكنها اندفعت تضم جسده لها الذي كان من الصعب ضمه من كثرة انتفاضته وتربت على ظهره المتصلب عله يهدئ وهي تقول بخفوت مرتعش...
-اهدء سيكون كل شيء على مايرام.. اهدء ايًا يكن ماحدث فهو بات من الماضي الآن، لا شيء سيحدث
لقد تخطيت ما حدث وتخطيت الأذى، انت في أمان الآن
ظل ينتفض وشهقاته الباكية تعلو أكثر وأكثر
اغمض عيناه يحاول الهروب من تلك الأصوات والهلاوس التي تلاحقه.. يحاول ازاحة ذاك الوجه المغرق بالدماء من ذهنه، يحاول نسيان الصرخات والعويل الذي لاحقه
يحاول نسيان تلك الكلمات الذي نفثها رائد في وجهه بكره وحقد...
"أنت لا تعقل لا تسمع لا تتكلم.. لا تضطرني أقول ولا ترى
انت في نظر العالم ميت.. وفي نظر نفسك مجرد مجنون منبوذ، حافظ على حياة اقربائك وعائلتك بنبذك..تذكر جيدًا أنت لا تسمع لا تتكلم لا تعقل.. انت قتلت أخي وهي في أوج شبابه وانت ايضًا ستموت وانت على قيد الحياة
هذه كفارتك عن خطأك.. تعفن هنا إلى أن تموت"
بدأت الكلمات تتشوش في عقله.. والصور تتداخل والأصوات تختفي حينما شعر بأنامل تمسد رأسه.. وتعبث في شعره تشتته عن عقله الباطن.. واليد الأخرى تربت على ظهره برقة تنتشله من كل شيء
فوجد ساقاه لا تحملانه ابدًا.. ابتعد عن طيف وارتمى جالسًا على الرمال يحاوط رأسه يمسح دموعه، ويحاول التحكم في نوبة غضبه التي ستقتلع حياة اخرى بريئة
يكفيه انه قتل نفسًا في الماضي.. سيموت مختنقًا إن أعاد ماحدث مرة اخرى
جلست طيف جواره وهي تمسح دموعها وتقول بخفوت..
-كان هناك ملك في المدينة طلب من حكماء القرية أن يعطوه حكمة تختصر دروس الحياة كُلها
فأهداه أحد الحكماء حاتمًا فضي مكتوب عليه
"لا شيء يدوم "
واخبره الحكيم أن عليه تذكر تلك الجملة دائمًا وهو في أوج حزنه وأشد فرحه
ومرت السنوات وانقلبت الحاشية على الملك وأرادو قتله
وبالفعل قُتل كل الحراس حوله وهرب الملك في أحد الكهوف، وهو يشعر أنها النهاية.. نهاية مُلكه ونهاية حياته
ولكن من نظرة واحدة إلى الخاتم في اصبعه قرأ الحكمة
"لا شيء يدوم"
حينها دبت القوة في صدره وخرج من الكهف يجمع اعوانه والمخلصين من حوله وقضى على الحاشية الفاسدة وأعاد مُلكه وتربع على عرشه من جديد
وفرح الشعب به وأقاموا احتفالا كبيرًا مُرحبين بعودته
ولكن في نظرة واحدة لخاتمه تكدر وجهه وهو يتذكر أن
"لا شيء يدوم"
لا الحزن يدوم ولا الفرح يدوم.. تتقلب الدنيا بين وقوفٍ وسقوط، هكذا اخبرني جدي رحمه الله
تنهدتت وهي تربت على يده الدامية وتمسح عنه الدماء بطرف ثوبها وهي تقول برفق..
-وهذا ما أقوله لك انت ايضًا لا شيء سيدوم.. وستزهر أيامك بعد ماعانيته فقط حاول تخطي ماحدث.. حسنًا!
لم يجيبها بل تعلقت عيناها بأناملها التي تطيب جرح كفه
كعادته.. صامت يتقلب مابين الصمت والجنون
وهي تثرثر.. ترقع ثوب صمته بثرثرتها حول حياتها وحبها للطبخ.. وعملها في القناة.. وحب سعد لها منذ أن عملت في القناة ولكنها تفشل بالشعور به
اخبرته بشعورها الدائم أنها تود السفر للخارج حيث والدتها
رغم غضبها الشديد منها إلا أنها تعذر رغبتها في وجود أنيس في حياتها.. وايضًا هي تملئ حسابها البنكي بالكثير من الأموال تعويضًا عن غيابها.. ثرثرت بكل مايجعله ينظر لها صامتًا يسمع فقط بلا مبادرة..!
وبعد أن دلفوا لينام كلٍ منهم إلى مكانه
اتجهت طيف إلى فراشها بعدما اغلقت باب الغرفة
وسكنت عليه تبسط قبضتها على تلك الورقة التي تهرأت
ونقاط الحبر والدماء شوهت بعض الكلامات
ولكن توسعت عيناها وهي تقرأ تلك الكلمات المرتجفة
وكانت بدايتهن صادمة
" لقد قتلت ابن عمي.. قتلته في حادث سرق حياته وهو لازال في عمر السادسة والعشرون.. كنت سببًا انهيار عائلته
كنت سببًا كل الفوضى التي حدثت في اسرتي
قتلته بتهوري واندفاعي.. صدّيق كان يستحق الحياة
صدّيق كان يستحق الحياة بيننا والزواج ممن يحبها
أنا من كان يستحق الموت.. وكان تكفيري عن ذنبي هو الاقرار علنًا أنني متُ.. أما في السر أنا أحقر من أن اموت بسهولة.. فكنت كالمنبوذ في مشفى الأمراض العقلية
حيث الكهرباء ليلاً والاحتقار نهارًا.. وملازمة من فقدو عقولهم فأفقد عقلي مثلهم
رائد قال لي أن هذا هو تكفيري عن موت أخاه صدّيق
فكتبت رسالة انتحاري وتبعته إلى منفاي
فمن مثلي لا حياة له.. من مثلي وجب عليه الصم والبكم والجنون.. أنا لست ميتًا في أعين الناس فقط
أنا متُ في عين نفسي يوم وفاة صدّيق
أنا....
توالت دموعها تباعًا بصدمة وهي تضع كفها على فمها تكتم شهقاتها العالية.. تحاول قرائة الكلمات التي اختفت تحت الحبر والدماء.. ولكنها فشلت.. فشلت في تخمين أخر سطورة.. ولكن ظهرت جملته الاخيرة في الورقة
" لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة"
-رمزي، حامد ، عبدالله، رضوى
اربعة ابناء انجبهم السيد يحيى، مكانته في المجتمع
كان عميدًا سابقًا لكلية الهندسة.. وزوجته السيدة طاهرة العايدي إبنة عمه وهي طبيبة عظام
انجبوا أطفالهم في عمر صغير
تزوجها وهو بعمر الثامنة عشر.. وهي كانت بالخامسة عشر.. وابويهما كانا محبان للعلم شغوفان به
فقررا أن يكمل كلٌ من يحيى وطاهرة تعليمهما رغم زواجهم.. ووفروا لهم كل الوسائل الممكنة التي تشجعهم
فكانت والدة يحيى تهتم بطعامهم طيلة شهور الدراسة.. ووالدة طاهرة تهتم بنظافة المنزل رغم رفضها للـ "الكلام الفارغ" الذي يحدث.
ومع أول طفلٍ ليحيى وطاهرة ازدادت المسؤولية على الأهل.. فكانت الوالدات يتناوبن الاعتناء بالصغير..
ولكن حينما جاء لهم يحيى في نهاية عامه الحامعة يزف لهم بشرى حصوله على " امتياز " في كل أعوام دراسته وسهولة تعيينه معيدًا في الكلية.. ذهب ألم المسؤولية وشعر الاباء بالفخر أنهم السبب في هذا
أما طاهرة فكانت في أول اعوامها بكلية الطب.. تجاهد بين تعليمها ومتطلبات زوجها وحملها
ومع مرور السنين زاد أولا يحيى وطاهرة
واحد والثاني سافر يحيى إلى المدينة ليُدرس في أحد الجامعات،وايضًا يحضر رسالة الدكتوراة
ولا يأتي للقرية إلا للعطلات الكبيرة،وفي كل عطلة يسافر ويعود بها، يمتلئ بطن طاهرة بطفلٍ جديد حتى جاء باقي اطفالهم
وازداد حِمل الأطفال على الأهل.. وبدأت المشاكل والعراقيل تظهر، وبعد تخرج طاهرة من كلية الطب
وتعينها في مشفى بالقاهرة..تعين عليها السفر هي الاخرى وترك جزءًا من أطفالها مع العائلة
فقررت أخذ أصغر طفلين وتركت اكبرهم وهم
" رمزي وحامد "
بدأت السنون تجري بهم دون أن يدركوا ما ضاع عليهم في سبيل تحقيق رغبة الاباء.. وما ضاع على ابنائهم بسبب غيابهم عنهم
توفى والد يحيى وبعد شهورٍ قليلة توفيت والدته حزنًا على فراق زوجها
فتولى عمه "كاشف" وزوجته تربية رمزي وعبدالله
حتى بلغا اشدهما وانهو دراستهم الثانوية
التحق رمزي بكلية التجارة.. أما حامد ففضل الزراعة والعيش كفلاحٍ دؤوب بناءً على نصيحة جدته لوالدته
وانقسم الابناء لفريقين.. فريق لم يخرج من القرية ولا يروا والديهم إلا في العطلات الرسمية
وفريقٍ عاش بالمدينة وأخذ من مباهج الحياة كثيرًا
ولم يدرك السيد يحيى خطأه إلا حينما توفيت زوجته السيدة طاهرة وهي بعمر الأربعين في حادث سيارة وتوفيت كذالك ابنته رضوى معها..ولم يحزن عليها ولداها الكبيران.. بل تلقوا الخبر بهدوء اعصاب وبعض الحزن الذي انتهى بعد ايامٍ لا أكثر
حينها قرر يحيى جمع ابنائه حوله ليعتني بهم جميعًا
وحينما طالب بهم من عمه كاشف، وافق فورًا
بخلاف زوجته الي احتجت رافضة أن تعطيه ما القاه لها منذ سنوات.. وبدأت بشحن نفوس اولاده عليه
فكبر رمزي وحامد على الجفاء والحقد تجاه والدهم الغريب.. وشقيقهم عبدالله
ورغم ان حامد لم يكن شديد البعد عن والده
ولكنه لم يكن بالقرب الكافي..
حينما مرض والدهم وهو في عمر الخمسون اتى حامد سريعًا من القرية ليعتني به مع عبدالله
ومن هنا بدأت العلاقة بينهم تتحسن.. بخلاف رمزي الذي فضل أن يبقى على بغضه ويتزوج امرأة حقوده مثله
اما عبدالله فتزوح زميلته في الكلية وانجبا طفلة صغيرة وحيدة..إلى أن أتت لهم فرصة جيدة للعمل خارج البلاد فشجعه والده على السفر والتمسك بها
وعاش يحيى وحيدًا لمدة عشرون عامًا.. لا يعتني به سوى حامد الذي ياتي من القرية كل اسبوعان مع زوجته
كي يعتني بوالده وتحضر له زوجة ابنه طعامًا يكفيه لحين ميعاد الزيارة القادمة.. ومن بين عامين وأخرين ياتي عبدالله مع زوجته وابنته لمدة عشر ايأم ويغادر من جديد
وظل يحيى يدرس يدرس في الجامعة التي كان عميدها
وكان يكتفي بالعمل والوحدة.. إلى أن جائه خبر وفاة ولده عبدالله وتشييع جثمانة إلى البلاد لدفنه
هنا زاد تعب الأب أكثر وكانت الصدمة كبيرة عليه
في الماضي توفيت زوجته وابنته.. وبعد أعوامٍ طويلة مات ولده.. وهو يذق مرارة الفقد والوحدة أكثر وأكثر
جائت أرملة ولده وسكنت معه هي وابنتن بضعة أشهر إلى أن جائها انذار من عملها بالفصل فاضطرت للسفر وترك ابنتها التي تجاوزت الواحد والعشرون مع جدها
وتآلفت الفتاة مع جدها وآنست وحدته وعوضها انشغال والداها عنها في الغربة
إلى ان وصلها خبر زواج والدتها.. غضبت وبكت معترضة وقررت أن تستقر مع جدها والذي أحب كثيرًا أن تمكث معه.. استقروا معًا وأحبت الحياة معه رغم انه كان رجل قروي حاد الطباع يرفض تصرفاتها الغربية
ولكن ماان يغضب منها يعود ويراضيها فورًا
إلى أن عكر صفو حياتهم أن ولده حامد وأولاده رفعوا عليه دعوي قضائية بالحجر على أمواله
تلك كانت القشة الي قسمت ظهر البعير.. فتفاقم مرضه ومات منذ شهران.. وكانت وصيته لحفيدته ألا تنساه
وتزور قبره تؤنس وحشته من وقتٍ إلى آخر
اشاحت وجهها له تنظر لوجهه الناظر لها بانصات ويبدو على وجهه الخيبة والحدة لما تسرده عليه
وفي عيناه تساؤل قرأته واجابت عليه بذات الخفوت...
-وفي يوم.. ذهبت للمقابر وأطالت جلستها معه
إلى أن ظهر شاب فاسد يحاول التعدي عليها.. فظهر رجلًا كفارسٍ مغوار انقذها من ذاك الوقح ولكن تلقى ضربة مؤذية على رأسه.. فأخذته لمنزلها كي تعتني به
ثم اكتشفت انه مجنون هارب ووسيم
أنهت كلماتها ضاحكة وهي تغمز له بعيناها
فظهرت ابتسامة مترددة على وجهه وهو يشيح وجهه عنها يرفض أن يسقط في بئرها الفتان.. فوصله صوتها اللحوح وهي تمسك كفه بقوة قائلة...
-هيا يانديم أخبرني كيف وصلت للمقابر.. واخبرني لمَ يقولون عنك مجنونًا ويعرضون صورتك وبياناتك
وأين عائلتك
نظر لها بطرف عيناه فوجدها تقرب منه ورقة وقلم ليكتب ويخبرها باستفاضة.. لوهلة اخبره قلبه أن يفتح اوراقه أمامها.. ويقص عليها مايؤرقه هو الأخر.. يخبرها بالخفايا التي لا يعلمها اياه.. هي وثقت وآمنت به أنه ليس مجنون
بل وعرضت نفسها لخطر الهروب معه كي لا يجدوه
فلا ضرر من أن يخبرها الحقيقة.. فا في الأخير سيأتي يوم ويرحل عنها ويفترقا
تنهد وهو يجذب الدفتر والقلم منها ويبدء الكتابة بخطٍ متعرج ثقيل.. بدء يكتب بشرود يكتب ماحدث منذ ثلاثة أعوامٍ كاملة
وكلما كتب حدث يسعفه عقله بالأخر.. تفاجئ انه لازال يذكر بعض التفاصيل المؤلمة التي ظن أنه نسيها تمامًا
ولكن عقله الباطن أمده بكل ما كان يود نسيانه
فظل يكتب ويكتب ويكتب إلى أن مضت عشرون دقيقة كاملة.. وهو يكتب بأنامل متصلبة.. وعيون تفيض بالدمع
واسنانه تجز على بعضها بقوة يكاد يكسرها
وكأنه غرق في بحر الذكريات الذي ابتلعه بلا رحمة
خافت حينما رأته في هذه الحالة وخشيت أن ينتهي به الأمر في نوبة جنونية عنيفة تعرضه للخطر!
ربتت على كتفه المتصلب تقول بقلق...
-لا عليك يانديم.. لا تكتب شيئًا لا أود أن اعرف اي شيء
لم يبدو انه سمعها فهو ظل يخط كلماته بعنف إلى أن انهار القلم في يده وانكسر.. يعلن عدم تحمله ضغط تلك الأنامل
اقتربت طيف من نديم وحاولت أن تفك قبضته عن انبوب الحبر كي تتركه ويهدئ من هذيانه المجنون
ولكنه كمن تتعلق حياته بكتابة تلك الكلمات.. حتى أن انفاسة العالية بدأت تخرج كهديرٍ عال.. أو زئير مجروح
دموعه تقطر على يده التي جرحت من شظايا القلم الذي كُسر.. وظهرت قطرات الدماء على الورقة البيضاء فلوثتتها
ولازال هو يحاول الكتابة بالانبوب إلى أن اطلق صرخة منفلعة وهي يقف ويلقي الدفتر وينظر للأمام بعيون حمراء دامعة ووجه محتقن انفعالا
بينما كانت طيب تقف على مقربة منه تنكمش في نفسها خوفًا وعيناها تذرف الدمع خشيةً عليه وشفقة على حالة
وبصعوبة تغلبت على خوفها واقتربت منه بشجاعة زائفة تربت على كتفه فينتفض جسده وينظر لها بانفعال ولا وعي.. انفعال قد يؤذيها وينتهي بها الأمر على غير مايرام..
ولكنها اندفعت تضم جسده لها الذي كان من الصعب ضمه من كثرة انتفاضته وتربت على ظهره المتصلب عله يهدئ وهي تقول بخفوت مرتعش...
-اهدء سيكون كل شيء على مايرام.. اهدء ايًا يكن ماحدث فهو بات من الماضي الآن، لا شيء سيحدث
لقد تخطيت ما حدث وتخطيت الأذى، انت في أمان الآن
ظل ينتفض وشهقاته الباكية تعلو أكثر وأكثر
اغمض عيناه يحاول الهروب من تلك الأصوات والهلاوس التي تلاحقه.. يحاول ازاحة ذاك الوجه المغرق بالدماء من ذهنه، يحاول نسيان الصرخات والعويل الذي لاحقه
يحاول نسيان تلك الكلمات الذي نفثها رائد في وجهه بكره وحقد...
"أنت لا تعقل لا تسمع لا تتكلم.. لا تضطرني أقول ولا ترى
انت في نظر العالم ميت.. وفي نظر نفسك مجرد مجنون منبوذ، حافظ على حياة اقربائك وعائلتك بنبذك..تذكر جيدًا أنت لا تسمع لا تتكلم لا تعقل.. انت قتلت أخي وهي في أوج شبابه وانت ايضًا ستموت وانت على قيد الحياة
هذه كفارتك عن خطأك.. تعفن هنا إلى أن تموت"
بدأت الكلمات تتشوش في عقله.. والصور تتداخل والأصوات تختفي حينما شعر بأنامل تمسد رأسه.. وتعبث في شعره تشتته عن عقله الباطن.. واليد الأخرى تربت على ظهره برقة تنتشله من كل شيء
فوجد ساقاه لا تحملانه ابدًا.. ابتعد عن طيف وارتمى جالسًا على الرمال يحاوط رأسه يمسح دموعه، ويحاول التحكم في نوبة غضبه التي ستقتلع حياة اخرى بريئة
يكفيه انه قتل نفسًا في الماضي.. سيموت مختنقًا إن أعاد ماحدث مرة اخرى
جلست طيف جواره وهي تمسح دموعها وتقول بخفوت..
-كان هناك ملك في المدينة طلب من حكماء القرية أن يعطوه حكمة تختصر دروس الحياة كُلها
فأهداه أحد الحكماء حاتمًا فضي مكتوب عليه
"لا شيء يدوم "
واخبره الحكيم أن عليه تذكر تلك الجملة دائمًا وهو في أوج حزنه وأشد فرحه
ومرت السنوات وانقلبت الحاشية على الملك وأرادو قتله
وبالفعل قُتل كل الحراس حوله وهرب الملك في أحد الكهوف، وهو يشعر أنها النهاية.. نهاية مُلكه ونهاية حياته
ولكن من نظرة واحدة إلى الخاتم في اصبعه قرأ الحكمة
"لا شيء يدوم"
حينها دبت القوة في صدره وخرج من الكهف يجمع اعوانه والمخلصين من حوله وقضى على الحاشية الفاسدة وأعاد مُلكه وتربع على عرشه من جديد
وفرح الشعب به وأقاموا احتفالا كبيرًا مُرحبين بعودته
ولكن في نظرة واحدة لخاتمه تكدر وجهه وهو يتذكر أن
"لا شيء يدوم"
لا الحزن يدوم ولا الفرح يدوم.. تتقلب الدنيا بين وقوفٍ وسقوط، هكذا اخبرني جدي رحمه الله
تنهدتت وهي تربت على يده الدامية وتمسح عنه الدماء بطرف ثوبها وهي تقول برفق..
-وهذا ما أقوله لك انت ايضًا لا شيء سيدوم.. وستزهر أيامك بعد ماعانيته فقط حاول تخطي ماحدث.. حسنًا!
لم يجيبها بل تعلقت عيناها بأناملها التي تطيب جرح كفه
كعادته.. صامت يتقلب مابين الصمت والجنون
وهي تثرثر.. ترقع ثوب صمته بثرثرتها حول حياتها وحبها للطبخ.. وعملها في القناة.. وحب سعد لها منذ أن عملت في القناة ولكنها تفشل بالشعور به
اخبرته بشعورها الدائم أنها تود السفر للخارج حيث والدتها
رغم غضبها الشديد منها إلا أنها تعذر رغبتها في وجود أنيس في حياتها.. وايضًا هي تملئ حسابها البنكي بالكثير من الأموال تعويضًا عن غيابها.. ثرثرت بكل مايجعله ينظر لها صامتًا يسمع فقط بلا مبادرة..!
وبعد أن دلفوا لينام كلٍ منهم إلى مكانه
اتجهت طيف إلى فراشها بعدما اغلقت باب الغرفة
وسكنت عليه تبسط قبضتها على تلك الورقة التي تهرأت
ونقاط الحبر والدماء شوهت بعض الكلامات
ولكن توسعت عيناها وهي تقرأ تلك الكلمات المرتجفة
وكانت بدايتهن صادمة
" لقد قتلت ابن عمي.. قتلته في حادث سرق حياته وهو لازال في عمر السادسة والعشرون.. كنت سببًا انهيار عائلته
كنت سببًا كل الفوضى التي حدثت في اسرتي
قتلته بتهوري واندفاعي.. صدّيق كان يستحق الحياة
صدّيق كان يستحق الحياة بيننا والزواج ممن يحبها
أنا من كان يستحق الموت.. وكان تكفيري عن ذنبي هو الاقرار علنًا أنني متُ.. أما في السر أنا أحقر من أن اموت بسهولة.. فكنت كالمنبوذ في مشفى الأمراض العقلية
حيث الكهرباء ليلاً والاحتقار نهارًا.. وملازمة من فقدو عقولهم فأفقد عقلي مثلهم
رائد قال لي أن هذا هو تكفيري عن موت أخاه صدّيق
فكتبت رسالة انتحاري وتبعته إلى منفاي
فمن مثلي لا حياة له.. من مثلي وجب عليه الصم والبكم والجنون.. أنا لست ميتًا في أعين الناس فقط
أنا متُ في عين نفسي يوم وفاة صدّيق
أنا....
توالت دموعها تباعًا بصدمة وهي تضع كفها على فمها تكتم شهقاتها العالية.. تحاول قرائة الكلمات التي اختفت تحت الحبر والدماء.. ولكنها فشلت.. فشلت في تخمين أخر سطورة.. ولكن ظهرت جملته الاخيرة في الورقة
" لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة"