الفصل الثالث عشر

وقفت جامدة تصافح المرأة بملامح لاتظهر مابداخلها حتى اذا اقتربت الجارة ام سعيد لكي تعانقها وتقبلها بمحبة ذائفة تعلمها عنها جيدًا، شددت زينب بكفها المطبقة على كف ام سعيد ، بإشارة واضحة لعدم الإقتراب، تراجعت المرأة للخلف وهي تشعر بالحرج، من تصرف زينب المباغت لها، ارتسمت على وجهها ابتسامة زائفة ، تخفي بها حرجها وهي تلتف مرة أخرى نحو نعيمة المتسامحة تقول:
- والله وجه اليوم اللي نشوفك اخيرًا فيه يانعيمة، بعد ما سيبتي البلد وقولتي عدولي؛ انتي واسم الله عليها زينب .
ردت نعيمة ببشاشة ا
- اهي خطاوي وبنخطيها ياام سعيد ، وادينا في الاَخر جينا أها، احنا مهما بعدنا عن بلدنا، لازمًا برضك نرجعلها ، يعني احنا لينا بلد غيرها ؟
انتقلت انظار المرأة نحو السيارة الفارهة ؛ تتفحصها جيدًا قبل ان تعود الى زينب ونعيمة، تقيم مايرتدينه من ملابس وما طرأ عليهم من تغيرات، وعيناها تمشطهم من رأسهم لإخمص قدميهم ، بشكلٍ ازعج زينب التي برقت عيناها بغيظ؛ تجاهلته المرأة وهي تحدث نعيمة:
- عينى بارده عليكى يانعيمة؛ دا انتى بجيتى كيف بتك، عيشة البندر والراحه، خلتك حاجه تانية، ولا كمان زينب ماشاء الله عليها، بقت كيف الهوانم، دا انا وادض بتي لما شاور لي عليها ، وقالي الهانم اللي هناك دي كانت بتسوق العربية، مكنتش مصدقة انها واحدة من بلدنا ، وقولت أكيد دي من البندر.
بابتسامة مغتصبة ردت عليها زينب :
- لا ماهي مش بنات البندر بس اللي بتعرف تسوق ، بنات البلد كمان بيعرفوا يعملوا كل حاجة، بس ياخدوا الفرصة ولا يلاقوا حد يساعدهم .
قالت الاَخيرة بمغزى تجاهتله المرأة وهي تتابع:
- حمد لله يا نعيمة، ان ربنا نصفكم على الراجل العفش جوزك ، دا عياله ورثوا قساوة القلب منه ومن صفا ، وزقينه المرار .

مالت رأس زينب تنظر بدهشة عجيبة نحو هذه المرأة المنافقة،حتى كادت ان تنفجر بوجهها وتفرغ هذا الغضب المكبوت بداخلها منها منذ سنوات ، وهي تقف الاَن بكل صفاقة تؤيد موقفها ووالدتها ضد سليمان، وكأن الذاكرة لديها ضعفت، ونسيت زينب كلماتها السامة واستهزائها بهم، ولكنها تماسكت تقديرًا لسماحة والدتها، فقالت من بين اسنانها :
  - طب معلش بقى عايزين نستأذنك من وقفة الشارع، يدوبك ندخل نطل على البيت عشان الوقت ضيق معانا.
ارتدت الجارة ام سعيد للخلف بتردد فهذا الحديث القصير لم يشبع فضولها لمعرفة المزيد عنهم، تود الإختلاء بنعيمة ولكن وجه زينب المتجهم منعها من التطفل اكثر من ذلك، قالت بكياسة :
- طبعًا ياحبيبتي انا مش عايزة اعطلكم اكتر من كدة، اتفضلى ياغالية انتي وهي، ولو عوزتوا اى حاجة؛ اندهوا عليا وقلولي انا هنا جمبيكم وتحت امركم.

أومأت اليها نعيمة براسها مع زينب التي استدارت عنها نحو الباب، وهي تكاد أن تفقد صوابها منها ومن خبثها، تمتمت بغيظ، وهي تضع المفتاح في مزلاج الباب الخشب:
- ربنا ياخدك ياشيخة وياخد امثالك ، مرة حرباية، عاملة نفسها حبيبة معانا واكننا يعني اغبيا ونسينا عمايلها وكلامها السم!
فُتح الباب الثقيل فقالت بصوت واضح لوالدتها وهي تدلف معها لداخل المنزل وتغلقه بعد ذلك:
- انا مسكت نفسي عليها عشان خاطرك انتي بس، لكن والنعمة انا دمي غلي عليها بمجرد ما شوفت خلقتها العفشة، وافتكرت كلامها معانا .
ردت نعيمة يابتسامة:
- قلبك ابيض، يعني ولما تحرجيها ولا تكسفيها هاتستريحي؟ وهي مرة كبيرة عنك واكبر من امك كمان!
قالت زينب بانفعال:
- على الاقل كنت هافش غلي، بدل ما انا باكل في نفسي كدة منها، وانا بفتكر كلامها السم وتلقيحها عليا بالكلام، ولا تريقتها على كليتي، عشان ادبي قال ومش طب عشان اطلع دكتورة .
ازداد اتساع ابتسامة نعيمة وهي ترد عليها:
- بس انتي بجيتي دكتورة يازينب، ودكتورة في الجامعة كمان يعني اكبر، ويمكن تكون كلمتها هي ساعة مالقحت عليكي، من ضمن الاسباب اللي خلتك تشدي حيلك وتوصلي للي انتي فيه؟
سهمت زينب امام كلمات والدتها التي القتها بوجهها، وقد اصابت بذكائها الفطري جزء كبير من الحقيقة، تقدمت نحوها تقبل رأسها وقالت :
- دايمًا كدة بحكتمك دي تغلبيني، وتخليني اتأكد اني مهما وصلت ولا اتقدمت؛ عمري ما هوصل لنص ذكائك .
ردت نعيمة بمداعبة :
- وه ياولاد، الدكتورة زينب اللي بتقول عليا كدة! دا انا اتغر بقى واشوف نفسي .
- انغري ياقمر براحتك وشوفي نفسك عليا وعلى اللي جابوني كمان.
قالتها زينب وعيناها تطوف المكان الذي ذكرها بأول يوم دخلته منذ عدة سنوات، لقد عادت اليه العناكب تنصب شباكها بداخله، وأصابته الاتربة اكثر عن ذلك اليوم بكثير، وزاد عليه هو تشقق الحوائط، بعلامة تنذر بقرب سقوطه، التفتت نحو والدتها التي شردت وتناثرت بعقلها الذكريات، حتى مرت امامها كشريطٍ سينمائي، سنوات الشقاء والدموع والحرية ايضًا .
خاطبتها زينب تخرجها من شرودها :
- مالك ياامى سرحتى فى ايه ؟
ردت نعيمه بتأثر واضح :
- سرحت فى السنين يابتى اللى مرت بينا في البيت ده، ودوقنا فيها المر، وشوفنا فيها برضك ايام حلوة انا وانتي لوحدينا فيه، الحمد لله بقى اهى عدت .
قالت زينب : 
- بس الأيام الحلوة فيه كانت قليلة قوي عن الأيام الصعبة، واحنا اتنبن ولايا في بيت قديم، لا يحمي من برد ولا هوا شديد، المطرة بس لو مطرت كنا بنبقى مرعوبين ليوقع علينا بسببها.
ردت نعيمة :
- بس سترنا يابتي، عن عيون الناس وغنانا عن ذل سليمان ولا تكشيرة مرة خالك لو كنا كتمنا على نفسها،
وقعدنا عندها في بيتها زي ماعرض خالك.
أومأت زينب برأسها :
- عندك حق ياامي، فعلًا هو سترنا وقت ابويا ماطردنا من بيته ومنع يصرف عليا بقرش واحد حتى، كان حاطط في باله إننا نرجعله رافعين الراية البيضا، بعد ما نتذل ونجوع ،لكن ربنا بقى بعدله ماحوجناش ليه؛ وبدل البيت القديم فتحها علينا بشقة جديدة وارض جديدة بعيدة عنه ؛ودا كله كان بسببك يا أمي، لولا تمردك على الواقع اللى كنا احنا عايشينه ماكنش فى اى حاجه من دي حصلت، على الرغم من انى عدت عليا اوقات واناصغيره؛ مكدبش عليكي يعني، كذا مره كنت عايزه افلت منك واروح لابويا رغم قساوته ، عشان اتجوز زى البنات اصحابى، وارحم نفسي من كلام الناس، والعيشة الصعبة في البيت الني بعد ما كنت متعودة على عيشة الشقق الزينة، بس الحمد لله ربنا ستر .
قالت الاخيره وهى تضحك فاكملت نعيمة على قولها :
- انا ماكنتش عايزاكى تتعبى زيى فى دنيتى بابتى، وتبقى روحك فى ايد راجل يحكم ويتحكم فيكى، انا طبعًا عارفة ان الدنيا مليانة ولاد حلال ومش كلهم زي سليمان، بس برضك يابتي، الراجل مهما كان بيحترم المرة القوية ويعملها الف حساب ، والست بتبقى قوية مع الراجل لما تبقي وظيفتها وقرشها في ايديها ، وتعرف تكفي نفسها من غير ما تحتاجه، ياللا بقى الحمد لله ان ربنا وقف معانا ونصفنا فى الاَخر .
تمتمت زينب خلفها بالحمد قبل ان ترفع رأسها تخاطبها:
- طب مش كفايه كده بقى ياحلوة، جينا بيت ابوكي اللي كان نفسك تشوفيه وتعيدي ذكرياتك فيه، يبقى يدوبك بقى عشان نروح على بيت خالى، زمان الدكتور عيسى وصل بالولاد على هناك .
ردت نعيمة وهي تتحرك معها للخروج من المنزل:
- على رأيك يابتى كفايه كده .
............................
بداخل السيارة التي تقودها زينب وبجانبها تجلس نعيمة في المقعد الأمامي، فتسير بنعومة داخل طرقات البلدة فكانت كالمغناطيس وهي تجذب نحوها انظار البشر المندهشة، فتنتبه عليهم زينب في جلسات الرجال على مصاطبهم ، او قعدات النساء على اعتاب منازلهم ، حتى المارة .. تلتف رؤسهم نحو المرأة التي تسوق السيارة بتعجب ، حتى مرت على منزل اباها الذي حرمت بالأمر من دخوله منذ سنوات، فوقعت عيناها على مجموعة من الشباب يتسامرون خلف المنزل، حينما اللتفت الرؤوس نحوها، لمحت شقيقها ناصر الذي عرفته رغم اشتداد عظامه واخششان ملاح وجهه، بعد ان اصبح شابا ، هو ايضًا علمها وبدا هذا من نظرة عيناه نحوها والتي ركزت على وجهها، بعد نظرة خاطفة على السيارة، جذب عيناها هي الأخرى نحوه، وكأن حديثًا بالنظرات يجري بينهم، ما أصعب لقاء الأشقاء كالغرباء! دب بقلبها الحنين رغم ما ادعته واقنعت نفسها بهِ كثيراً بفضل قسوة ابيها وزوجته وتحريم لقاءها بهم، فهل هو ايضًا شعر بما تشعر به؟
- خلي بالك من الطريق يازينب .
- همم بتقولي حاجة يامّا ؟
قالتها مجفلة وهي تسنفيق من شرودها .. أكملت نعيمة وهي تشير بيدها نحو الطريق بلهجة ذات مغزى:
- بقولك خلي بالك من الطريق يابتي، عشان مانعملش حادثة ولا حاجة في البلد، ماحدش هاينفعك ساعتها.
التفتت زينب نحو الطريق وهي تردد بارتباك :
- معلش ياامي لو كنت اتلهيت شوية، بس متخافيش يعني، هي دي اول مرة اسوق فيها ؟
ربتت نعيمة على ذراع ابنتها التي ادعت الانشغال في الطريق رغم شرودها الذي بدا واضحًا على وجهها:
- ماتزعليش يابتي ولا تاخدي على خاطرك ، خواتك لو عايزبنك هايجوا بنفسهم يسألوا عليكي
التمعت عيناها زينب وهي تسالها:
- تفتكري ياما دا ممكن يحصل والاقي خواتي حواليا بعد السنين دي كلها اللي عيشتها وانا وحيدة من غير خوات؟
قالت نعيمة :
- ياما ناس في وسط بيوتهم وبين اخواتهم وبرضك عايشة وحيدة!
التفتت اليها زينب صامتة، فتابعت نعيمة :
- انتي حاولتي معاهم كتير وهما رفضوا ، سبييها بقى على الأيام وهي هاتبين ان كانوا هما كمان نفسهم يوصلوكي ولا مالهومش غاية للصلح معاكي .

......يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي