4 استراتيجية التشتيت
«ساحة المعركة - مملكة الشمس».
بعد لحظات.
لطالما كانت هُناڪ أصولًا وقواعد لحمل جنيًّا لآخر، بل أن الأمر كان يتطلب أحيانًا دروسًا لتمرس الأمر بدون أخطاء، يبدأ الأمر بإقباضڪ علىٰ صدر الشخص المرغوب حمله من تحت إبطيه، وعقد قدميڪ حول خصره، و استخدام جناحيڪ لركل الأرض.
هذا بالضبط ما فعله حام قبل أن تصل إليه جنود الملڪ قامان، وقد تأكد قبل انطلاقه أن المُستشار مُمسكًا بقدمي الأمير قاران.
حاول رُماة القوات الملكية استهدافهم، الأمر الذي كان وشيكًا لأكثر من مرة، وكان دقيقًا بإحداهن في إصابة مُستشار الأمير قاران، ما جعله يترڪ قدمي الأمر عن غير عمد.
لن تكون المشكلة في الوقوع من مكان عالي كهذا، بل ستكون في مَن سيستقبلونڪ بالأسفل!
- جَليْ..!
قالها الأمير قاران وهوَ يُراقب وقوع مُستشاره بين تلڪ الجموع من الجنود، بعدها مُباشرةً أمر حام بالإشهال:
- أسرع يا حام، أسرع!
هنا خطر ببال حام أن يستعين بالرياح لمعاونته، فأمرها بدفعه للأمام نحو الملڪ قامان، الأمر الذي سبق أمر الأمير قاران إليه بإلقاءه مُباشرةً نحوه.
ففعل حام، فسقط قاران مُخرجًا خنجره، مُشيرًا به نحو الملڪ، تمامًا حيث كان من المُفترض أن يسقط، وبالرغم من رؤية الملڪ قامان له، إلّا أنه اكتفىٰ بالابتسام مُغمضًا عينيه، ليقابله قاران بالخنجر مُستهدفًا به رقبته.
سقط الخنجر تمامًا كالرصاصة، اخترق رقبة الملڪ قامان تمامًا، وأسقطت جسده تحت ذٰلڪ الجسد الضخم الواقع فوقه!
وبقيَ الأمير قاران علىٰ حالته كمَن يتلذذ الأمر، وكأنه يتأكد من موت الملڪ، أمام كُل جُندي، وكُل مُستشار، وكُل فارس، وكُل رامي بالجيش!
ظلّوا يتأملونه مُتعجبين..
لقد مات المُستشار، والآن مات الملڪ!
مَن سيقود الحرب؟
حتىٰ أن القوات المُتوجهة نحو قواته للهجوم قد توقفت تمامًا من بعد أن سمعوا القوات من ورائهم تتشتت وتُهلل:
- قُتل الملڪ، قُتل الملڪ قامان!
وكان ما اتفق عليه الخصمان أن ما حدث ليس بخبرٍ سار.
***
«مأوىٰ الساحرة نولا - الغابات الغربية».
مساء ذات اليوم.
وصل آشير للمكان الذي يعلمه جيدًا بعد أن قرر معرفة ما ستؤول إليه الأحداث فيما بعد، إذ كان آخر ما عاصره ليس بطبيعي، أحد الملوڪ أوشڪ علىٰ الموت أمامه، وتم إعلان الحرب من قبل مملكة علىٰ أخرىٰ.
يجب استشارة ساحرة مُتمرسة في استبصار المُستقبل ومعرفة النبوءات!
وصل لأمام البيت الخشبي المُتهالڪ، والمُتآكل، فطرق بابه، وبعد المرة الثالثة فتحت له ساحرة غير مُهندمة الشعر أو الملبس، لا تهتم بنظافتها الشخصية، ترتدي الكثير من الإكسسوارات، كُل ملابسها دُبغت من جلود الحيوانات.
كانت تعتلي وجهها ابتسامة عريضة من مرآه، فقالت وقد أفسحت له مجالًا للدخول، بحروفًا مُتباعدة، وكأنها تتلكئ بالحروف التي تنطقها:
- آشير! لقد عُدت أخيرًا.. تمامًا كما توقعت.
- من فضلڪ، لا تعتبرينها مسألة شخصية، أنا هُنا لسؤالٍ واحد.
قالت بنبرة ماكرة، خبيثة:
-.. سؤالٌ واحد؟!
- لا تُلاعبينني يا نولا.
- تفضل.
أشارت له ليدخل، فدخل، وما إن فعل أغلقت الباب، فالتفتت له قائلة برقبتها المرفوعة عاليًا، صفة تغالب علىٰ أولٰئِڪ الذين يثقون بما يعلمونه:
-... أنتَ هنا لنبوءةٍ ما؟
التفت هوَ بملامح مُستاءة، فأومأ برأسه علامة الإيجاب.
- اسأل.
- متىٰ ستُنزل الملائكة للأرض مرة أخرىٰ؟
عقدت حاجبيها مُتعجبة السؤال.
- من أين لڪ بتلڪ المعلومة؟
- سمعتُ أحدهم يُرددها لزميله بإحدىٰ الخمارات.
يبدو أنها كانت تُحاول تناسي هذا، فقالت بعد تنهيدة حارة:
-... بعد موت الملوڪ الأربعة.
بدت تعابير الذهول علىٰ وجه آشير، قبل أن توضح هيَ له الأمر:
- لقد نُزلت الملائكة لإنذارنا قبلًا، وقيل أن فُرصتنا الأخيرة ستكون في ملوكنا الأربعة، فإن ماتوا أو قُتلوا، ستكون النهاية، سينزلون مرة أخرىٰ ولٰكن ليس بهيئتهم التي كانوا عليها؛ بل بهيئة أخرىٰ لا نعلم عاقبتها.
صمت آشير ليتذكر حالة الملڪ رئيف التي تركه عليها آخر مرة، كان بخير حسبما تذكر آشير، فسأل:
- ماذا لو كان أحدهم علىٰ وشڪ الموت؟
- لا يجوز، إمّا أن يموت أو لن تتحقق النبوءة.
يجب أن يتحرىٰ آشير هذا الأمر بنفسه، قد يكون الملڪ رئيف قد أُصيب بشيء في رحلة عودته إلىٰ القصر مثلًا.
- يجب عليَّ الرحيل!
كاد يخرج لولا أوقفته مُلتقطه إحدىٰ يديه، فقالت:
- أنتَ الآن مُرسل، قد تُنجو الملايين من الأرواح فداء ما تسعىٰ إليه، كُن حريصًا يا آشير، رجاءً!
أومأ برأسه علامة الإيجاب، ثم رحل.
***
«اجتماع الملڪ جبريل - قصر الملڪ».
بعد ساعة واحدة.
-... أظن الخطة واضحة للجميع الآن، وكُلًّا منكم يعلم دوره جيدًا!
قالها بمُجرد أن أنهىٰ خطته، فأومأ الجميع رؤوسهم إيجابًا للرد عليه، فأذن لهم بالرحيل، وكان من بينهم تُرڪ الذي تم تحديد دوره لقيادة قوات تشتيت الصمَّام، بما أنه الوحيد الذي رآه.
***
«قصر الملڪ قامان - مملكة الشمس».
مُنتصف الليل.
وصل الأمير قاران لمملكة القصر -علىٰ غير العادة- في حالة من صمت المُقابلين، لا تحيات، لا تصفيقات حارة، لا تهليلات بدوام العُمر للأمير ولوالده الملڪ ولمملكة الشمس.
فمشي مُنتكس الرأس، وسط حرسه الشخصي، وحام، وكأنه هارب من حُكمٍ ما، لا يلتفت يمينه أو يساره، فقط متوجه نحو مكانٍ مُحدد للغاية بداخل قصر الملڪ قامان؛ سابقًا.
وصل لجناحه الخاص، فالتفت لحرسه آمرًا إياهم بالرحيل.. «إنه بيتي قبل أي شيء، لن يصيبني فيه مكروه!»، وعلىٰ العكس من المُعتاد، اختار الجنود عصيان أمره، بشكلٍ غير مباشر، فقال أحدهم:
- لن نتركك أبدًا مولاي، سننتظر بالقرب من الجناح، ولٰكننا لن نتركك!
التفت قاران لـحام قائلًا بنبرة مُتعبة للغاية:
- حام، أنا لا أريد أن يقول العامة «لقد اقتحم الأمير قصر والده!»، يكفي أنهم سيقولون: «قتل الأمير والده!»، من فضلڪ خُذ الحرس وارحل من هنا!
أومأ حام برأسه علامة الإيجاب، ولٰكنه ترڪ جُملته لـقاران قبل الرحيل:
- ولٰكن للحديث بقية غدًا.
- حسنٌ.
وبالفعل، رحل حام ومن معه، ليشاء القدر، أن قبل دخول الأمير قاران جناحه تظهر له إحدىٰ زوجات والده، وأقربهن إليه، وقد بدا عليها الحُزن في عيونها، إحمرار عينها، وانسياب أنفها، وعلامات وجهها؛ كُل تلڪ الأدلة كانت توحي أنها بقيت اليوم بطوله تبكي، مُنذ أن أتاها الخبر اليقين!
طأطأ الأمير قاران رأسه دون أن يُقابل عينيها بعينيه، فهرولت هيَ نحوه لتضربه علىٰ صدره وكتفيه، بشكلٍ ضعيف، مهما حاولت العكس.
- لمَ فعلت هذا، لمَ قتلت والدڪ؟.. لعنة الله عليڪ، أنتَ وأمثالڪ مثواهم جهنم وبئس المصير!
ولٰكنه لم يرد، فقط تركها بعد أن توقفت عن الضرب، وقد خبئت وجهها بين يديها لتستكمل بُكائها، ثم دخل جناحه الخاص، مُغلقًا الباب وراءه.
لأول مرة، مُنذ أن تزوج مُنذ عشرات السنين، يدخل جناحه في حالة من الصمت والهدوء، فقد اعتاد علىٰ أن تُقابله زوجته بتلهف واشتياق، اعتاد علىٰ أن يكون أول ما يُقابله بالجناح حُضنًا دافئًا منها.
ولٰكنها الآن ليست موجودة، لا هيَ ولا وَلَده!
فأغمض عينيه ليُدمع في صمت...
لقد فقد أعز وأقرب ثلاثة أشخاصٍ إليه في هذه الدنيا، بليلة واحدة!
***
«قصر الملڪ رئيف - مملكة الغرب».
بنفس التوقيت.
وصل آشير للمملكة تحليقًا، فكان عليه الهبوط ليدخل القصر من بابه، أوقفه ما يزيد عن العشرون حارسًا مُسلحًا بالسيوف والرماح وغيرها من الدروع والأسلحة المعدنية.
- مهلًا، إهدأوا.. أنا لا أمتلڪ سوىٰ هذا الخنجر!
قالها رافعًا يديه أمام كُل هؤلاء، والذين قام اثنان منهم بتقييده فور أن وصلوا إليه، فأشار نحو خنجره الذي كان بحزامه، فالتقط أحد أكبر الحرس الخنجر ليأخذه منه.
-... كان هذا لجدي الأكبر.
- مَن أنت، وما الذي أتىٰ بڪ إلىٰ هُنا؟
قال وهوَ لا يزال بموقفه الذي لا يُحسد عليه.
- ألم تسمعوا عن آشير من قبل؟!.. يا للعار!
حاول الحارس تذكر هذا الإسم:
-... يبدو هذا الإسم مألوفًا لي، أأنتَ هاربٌ من العدالة؟!
- في الحقيقة، العدالة هيَ التي تلحق بي، أنا لستُ هاربًا منها.
قال الحارس بجِد، بعد أن أمر الرجال بتركه:
- وما الذي أتىٰ بڪ إلىٰ هُنا، تُخطط لسرقةٍ ما؟!
- إن الأمر خطيرًا جدًا تلڪ المرة، أنا -وعلىٰ العكس من المُعتاد، وشيمي التي نشأتُ عليها، وما اعتدتُ فعله- هُنا لفعل خير.
ابتسامة مُستهزءة تلڪ التي اعتلت وجه الحارس وأغلبية المُحيطين به وبـآشير، قبل أن يلتفت الحارس لبعض الموجودين حولهما قائلًا بصوتٍ مسموع:
- «آشير والخير» بجُملة واحدة؟!.. وكيف لنا أن نُصدق هذا؟
قال آشير رافعًا كتفيه:
- أنتَ مُحق، أنا أيضًا لا أُصدق هذا.
قال الحارس بجِد مرة أخرىٰ:
- أفرغ ما في جُعبتڪ!
- أنا هُنا لإثبات حقيقة نبوءة في غاية الخطورة، إن الملڪ رئيف وغيره من بقية الملوڪ الثلاثة الآخرين لفي خطيرٍ وشيڪ!
صمت الحارس، وكثرت التمتمات حوله بين الحرس، قبل أن يرد أحدهم:
-... لقد سمعتُ أن الملڪ قامان قد قُتل مُنذ ساعات!
التفتوا جميعًا لمَن قالها، فيما عدا الحارس وآشير، الذي أشار نحو قائلها، ناظرًا للحارس، ليقول:
- يجب أن تدعني أرىٰ الملڪ.
أومأ الحارس برأسه علامة النفي:
- ولمَ هذا، ألا تُصدقني؟!
- علىٰ العكس، أنا أصدقك تمامًا، ولٰكن الملڪ علىٰ فراش الموت.
- ماذا؟!.. كيف هذا؟
***
وصل معه للجناح الخاص بالملڪ، بالطبع دون أن يُدخله، اكتفىٰ بجعله يُلقي نظره عليه عبر الباب الموارَب، حيث رأىٰ آشير كيف كان الملڪ في حالة مُتأخرة، وكيف كان مُحاوطًا بأهل قصره ونسله من نفس عائلته.
-... لا نعلم كيف حدث هذا، ولٰكننا اكتشفنا تعرضه لإصابة مُسممة بعد وصوله للقصر، حاول الأطباء التعامل مع الأمر؛ ولٰكنه كان مُستحيلًا طالما لا نعلم سبب التسمم أو نوع السِم.
هنا تحرڪ آشير مع الحارس تاركين المكان، بعد أن اكتفىٰ من رؤية الملڪ رئيف وهوَ بحالته المزرية، فسأل:
-... هل سيصمد حتىٰ نهاية الأسبوع؟
أومأ برأسه نفيًا.
- نرجو هذا، ولٰكن حالته لا تُبشر بخير.
بدت علامات عدم الرضىٰ علىٰ وجه آشير، فقال:
- مات ملِكان، نحن علىٰ حافة الهاوية يا أيها الحارس، لو كنت مكانك لودعت أقرب الناس إلي.
ثم تركه وترڪ القصر بأكمله ليحاول إنقاذ الاثنان المُتبقيان، وما إن خرج حتىٰ وصل للحارس نبأ وصول جنود الجِن المائي بتنانينهم النفاث للحدود الشرقية للمملكة.
فهرول مع مَن أنبئه بهذا لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه.
***
«الحدود الشرقية لمملكة الغرب».
بنفس التوقيت.
وصل تُرڪ ومَن معه من الجنود المُكلفين بالتشتيت للحدود الشرقية، وبدأوا بالعمل علىٰ الخطة علىٰ أكمل وجه، إذ كانت الرياح لصالحهم، وكانت الرياح من فوق الجِن الأرضي غاضبة وكأن يد الله تُساندهم!
فأُصدر الأمر بإطلاق الصمَّام، وما كان منه سوىٰ أن توجه نحو المكان المُطلوق إليه مِن قِبل رجال الملڪ، حيث كان رجال تُرڪ، في حين كان صاحبنا المُستشار الخاص والمسئول عن القصر الملكي بطريقه لقصر الأمير خاشع.
كان الأمير أحد أولٰئِڪ الجان الأرضي الذين تبناهم الملڪ رئيف ببداية فترة حُكمه، وكان الأمر بعد أن علِم الملڪ أن ليس لهذا الجني أحدًا غيره، فتبناه وأمر ببناء قصرًا له في الضفة الجنوبية من المملكة، وقد كان.
حتىٰ مرت السنين وانعزل خاشع تمامًا عن الملڪ، أو لنقول أن مشاغل المملكة لم تكن تلڪ التي يتمنى يومًا أن ينالها أو أن تكون أكبر همه، في حين كان الملڪ رئيف علىٰ العكس منه تمامًا.
وبالرغم من أن الأمير خاشع قد ورث اسم الملڪ رئيف، إلّا أن علاقته به لم تكن أكثر من علاقة صاحب بصاحبه الأصغر منه سنًا.
وصل كبير الحرس للقصر المعني، والذي لم يكن يومًا مُضججًا بالحرس، فتوجه مُباشرةً للداخل وهوَ يصرخ ويُنادي:
- يا سمو الأمير، يا سمو الأمير خاشع!
خرج من مكتبته، مُرتديًا اختراع علىٰ أنفه، مُعلقًا بأذنيه، به زُجاجتين دائريتين، وكان بيده مخطوطة كُتبت علىٰ جلود الحيوانات، فقال:
- ماذا هُناڪ؟
- سمو الأمير، ما هذا الذي ترتديه علىٰ وجهڪ؟!
- آه، إنه اختراعي الجديد، صممته ليُساعدني علىٰ التدقيق بما أكتبه.
وكأن الحارس قد نسي ما كان هنا لأجله من بعد هذا التعجب الجلي الذي كان علىٰ وجهه، فقال بعد أن تلجلج:
- آاء، آاه.. نحن نحتاجڪ يا مولاي!
- ماذا هُناڪ؟
- جلالة الملڪ، إنه يحتضر، والمملكة تتعرض لهجوم من الجهة الشرقية!
صُعق خاشع:
- ماذا قُلت؟!!
توجه خاشع لمكتبته للتحضر للقدوم مع الحارس، فما كان من الحارس سوىٰ أن نبّهه لأهميته حضوره للحدود الشرقية لقيادة قوات الدفاع، والرفع من معنويات قوات الحدود.
-... ليس هذا الوقت المُناسب لقيادة معركة يا أيها الحارس!.. يجب عليَّ أن أقف بجوار والدي في موقف كهذا.
وبالفعل، تحضر، فكاد يخرج حتىٰ أوقفه الحارس مُتطاولًا عليه، وقد أمسڪ أحد ذراعيه بقوة قائلًا:
- لا يا مولاي، هذا خطأ!.. إن ذهبتَ إليهم الآن، وبعد كُل تلڪ السنوات من الغياب والاختفاء عن العرش والقصر، سيعتقدون أنڪ هُناڪ لترثه، وأنا أعلم جيدًا أن هذا ليس ما ببالڪ...
صمت خاشع، وابتدت علىٰ ملامحه الإقتناع بالمُقدمة.
-... فإن سمحت لي، الأفضل الآن أن يكون أول ظهورٍ لڪ في ساحة المعركة، لا بجوار جسد الملڪ، إن آلَهُ وأقرب الأقربين إليه يقفون بالقرب منه الآن، إننا بأمس الحاجة إليڪ في ساحة المعركة الآن!
أنزل الأمير خاشع النظارات عن وجهه، فقال:
- جهز لي الحيوانات الضارية لنتحرڪ!
ابتسم الحارس.
- أوامر مولاي.
***
«قصر الملڪ جبريل - مملكة البحر».
بعد ساعة واحدة.
حضرت الأميرة لارا لجناح الملڪ بُناءً علىٰ أوامره التي أرسلها لها عبر إحدىٰ جارياتها، فوصلت للجناح وتقدمت بخطواتها المتواضعة والمُتباطئة، وعلىٰ غير العادة، لم يكن الملڪ هُناڪ ليُقابلها لوحده، فقد كان علىٰ يمينه أميرًا هيَ تعلمه جيدًا، وتطيق العمىٰ عن الجلوس معه، وعلىٰ يساره كانت هُناڪ جارية هيَ تعلمها جيدًا كذٰلك، هيَ تخدم الأمير ذاته.
انحنت الأميرة لارا بشكلٍ بسيط، ثم رددت:
- مولاي، لقد طلبتني.
- نعم يا لارا، لقد فعلت، هُناڪ ما أود مُناقشته معڪِ.
- أوامر مولاي.
هنا أشار الملڪ جبريل للخادمة.
- تلڪ الخادمة علىٰ وشڪ أن تُعدم، وقد تُعفىٰ من هذا..!
رمقت لارا الخادمة، فلاحظت أن علىٰ وجهها تعابير هلع شبه مُخبئة، لولا التدقيق لما رأته لارا، فرمقت الملڪ وأنصتت إليه باهتمام.
-... إن لديها شهادة في غاية الخطورة، وأود أن أُشارككِ إياها.
- طبعًا، تفضل.
قالتها له، فأشار الملڪ لتلڪ المسكينة بالحديث، فقالت بنبرة متلجلجة بالكاد تنطق:
- آاء، لقد ر.. لقد رأيت أحد الجنود لديڪَ يا مولاي خارجًا من جناحها مساء اليوم؛ وأنا أعلمه جيدًا.
جحظت عيني لارا لأجزاءٍ من الثوانِ، قبل أن تواري هذا ناظرةً للأرض، فرمق الملڪ جبريل ابنته مُترقبًا ردها عمَّا قيل بحقها، فلم تنطق، فقال:
-... أنا أيضًا أعتقد أنها قد فقدت عقلها، في النهاية ليست الأميرة لارا، ابنة ملڪ البحر، و وراث عرش المملكة الجنوبية، التي قد تقع بغلطة شنيعة كتلك! يبدو أنني سأُعلن عن موعدها مع المقصلة فجر الغد.
فصاح مُناديًا علىٰ حارسه الخاص أمام ملامح الأمير الموجود، والذي انبسطت أساريره من بعد أن اطمئن لسُمعة تلڪ التي ينوي الزواج بها.
- يا حُراس!
- لا!!
قالتها أمام ثلاثتهم، فتبدلت ملامحهم جميعًا، إمّا للتعجب بعد الإطمئنان، أو للإطمئنان بعد الهلع، أو للذهول بعد الشڪ.
فرمقها والدها، والذي كان يشڪ لأمرها خصوصًا بعد أن صمتت عن التُهم الموجهة إليها، فقال:
- ألديڪِ شيءٌ آخر تودين مُشاركتنا إياه؟!
قالها لها، فازدردت ريقها.
***
«أمام قصر الملڪ جبريل».
بنفس التوقيت.
حضر أحد الجنود لمقر كبير الحرس وهوَ علىٰ عُجالة من أمره، فألقىٰ التحية العسكرية أولًا، قبل أن يسأله كبير الحرس عن سبب مجيئه بهذا التوقيت، وهوَ يُطالع بعض الأوراق المُهمة عن تسليح الجيش.
-... إنه أحد الجِن الطيارة يا سيدي، لقد أمسكناه وهوَ يُحاول التسلل لداخل قصر الملڪ؛ وقال أن لديه شيئًا خطيرًا يود إخباره به.
التفت الحارس مُتعجبًا لمَن أمامه، فسأل:
- أين هوَ الآن؟
- بانتظارڪ في الخارج، وسط مجموع مِمَّن ألقوا القبض عليه.
فتحرڪ معه الحارس للخارج، حيث وجد آشير كعادته، يُماطل ويُجادل مَن يُحاولون السيطرة عليه وإخراسه.
-... أتعلمون عناء السفر من مملكةٍ لأخرىٰ في أقل من ساعتين؟!.. جربوا الإلتفاف حول القارة عومًا وسترون!
قاطعه وصول الحارس إليه، فقال بمُجرد أن توقف أمامه، وبنبرة في غاية الجدية:
- هات ما لديڪ، وإلّا فصلنا رأسڪ عن جسدڪ الآن، دون مُحاكمة أو تقديم أمرٍ عسكري.
تنهد آشير، فقال:
- إن ملككهم علىٰ وشڪ الموت، مثله كمثل الملڪ قامان والملڪ رئيف!
- ملڪ النار وملڪ الأرض؟!
أومأ آشير برأسه علامة الإيجاب، فعقد الأخير حاجبيه مُتعجبًا، قبل أن يُشير برأسه نفيًا، مُعرضًا ظهره عنه ليرحل.
- هذا الكلام لا يمت للمنطق بصِلة!
-... أأنتَ مؤمنًا بالملائكة؟
قالها فأوقف الحارس، وما إن توقف...
-... لقد نُزل الملائكة قبلًا، ولٰكننا كذبنا تنزيلهم، وأعرضنا ظهورنا عنهم، وافترينا عليهم بالكذب والبُهتان! تقول النبوءة أنه بعد عدة أعوام من صعود الملائكة سيموت الملوڪ الأربعة، وبعدها مُباشرةً ستُنزل الملائكة مرة أخرىٰ؛ لتؤدي الأمانة!
التفت الحارس إليه:
- عن أي أمانةٍ تتحدث؟
قال آشير بعد ثلاث ثوانِ وكأنه لا يود البوح:
- إبادتنا!
صُعق الجميع، وكثرت الهمهمات فيما بينهم، وبالرغم من شخصية الحارس القوية في المُعتاد، إلّا أنه عجز عن إيقاف ألسنتهم تلڪ المرة، فأمر الحرس بترڪ آشير، وبعد أن نفذوا أوامره سأله مُشيرًا سبابته نحو صدره:
- إن تركتك لتُقابل جلالة الملڪ، هل ستتمكن من إقناعه بوجهة نظرڪ؟
رفع آشير كتفيه:
- سأبذل قصارىٰ جُهدي.
هنا أشار له الحارس بالتقدم معه.
***
«جناح الملڪ جبريل - بداخل القصر».
بعد دقائق.
وصل الحارس مع آشير لباب الجناح، والذي صودف أن كان مفتوحًا وقتها، فسمعا معًا صوت الملڪ يتعالىٰ علىٰ ابنته الأكبر، والتي يُفضلها علىٰ غيرها من باقي الذين أنجبهم.
-... يبدو أن الأمر خطيرًا، إن الأميرة لارا هيَ الأقرب لقلب الملڪ!
- كما يقولون: «الحظوظ بالأقدام!».
رأىٰ آشير والحارس الذي معه أن الأمير قد حاول التدخل، فصاح به الملڪ جبريل لكي لا يتدخل، وبعدها صمت ليتلقىٰ أنفاسه، ثم أمر الأمير أن يرحل هوَ وجاريته من هُنا.
ففعل الأمير تنفيذًا لرغبة الملڪ، بالرغم من عدم رضاءه الكامل عن المُعاملة، فخرج مرورًا بهما دون أن يرد أحدهما عمّا حدث، فقط انحنىٰ الحارس، وابتسم آشير ابتسامة بلهاء وكأنه يقول: «شرفتنا!».
بعدها التفتا لما يحدث بالداخل...
-... ابنتي الكُبرىٰ، وبعد كُل تلڪ السنوات التي أمضيتها وأنا أُحاول إبعاد الشُبهات عنها، تخون شرفي وعرضي وإسمي؟!
مال آشير علىٰ الحارس:
- «شرفه وعرضه»؟!.. أهيَ ابنته أم زوجته؟
أومأ الحارس برأسه علامة النفي:
- أنا مثلڪ يا آشير، لا أفهم ما يحدث!
- إذًا، أدخلني قبل أن يُصيبه مكروه.
ابتسم الحارس مُستهزءً.
- أنتَ تمزح، إنها ابنته! لن يُصيبه أي مكروه.
وبالإلتفات للحديث الدائر بينهما، نرىٰ تطورًا واضحًا في نبرة تلڪ التي انفرد صدرها فجأة، بعد أن كانت مُطأطأة الرأس، ومُنحنية الظهر، فقالت بنبرة هجومية:
-... لا تنسىٰ أنڪ السبب وراء كُل هذا، أن تود إجباري علىٰ زواج يليق بڪ وبإسم العائلة الملكية، حتىٰ وإن كُنت غير راضيةً عنه.
صفعها الملڪ أمام ناظريهما، فقال:
- سأقتل ذٰاڪ الخائن بنفسي، سأحرص علىٰ أن يُقدم للـصمَّام ليفطر به صباح الغد، وانتظري حتىٰ تسمعين الخبر بنفسڪ!
ثم توجه نحو الباب، فتراجع آشير والحارس وقد ضبطا وقفتيهما لكي لا يُرىٰ أنهما كانا يُراقبان ما يحدث، ولٰكنه لم يكد يصل للبوابة لمُناداة حارسه الشخصي حتىٰ تفاجئ بها تهجم عليه من ظهره.
تعلقت علىٰ ظهره بيديها وقدميها كالحيوانات، فبدأ هوَ بالصراخ!
التفت آشير والحارس لما يحدث مذهولان...
قبل أن تقودهما تلقائيتهما للتدخل، فما كان من الحارس سوىٰ أن أخرج سيفه بتلقائية، في حين أمسڪ آشير الأميرة بكلتا يديه مُبعدًا إياها عن والدها، ليُلقيها بعيدًا.
ولمَّٰ رأىٰ الحارس أن آشير كان كافيًا لإبعادها عن الملڪ، وجد أنه لا حاجة لاستعمال السيف، فألقاه بعيدًا بمُجرد أن رأىٰ ما فعلته تلڪ العفريتة بوالدها، فقد أصابته بخدوشًا سامة بظهره، عن طريق سلاحٍ صغير كان لديها.
- مولاي، أنتَ مُصاب!
قالها الحارس، فردَّ عليه آشير باستهزاء:
- «لن يصيبه مكروه!»، هاه؟!
لم يكن مُنتبهًا لتلڪ التي هرولت نحو سيف الحارس المُلقي أرضًا، وما إن لاحظ هذا حتىٰ فتح جناحيه مهرولًا نحوها، فدفع بجسدها جسدها أرضًا، مُستخدمًا جناحيه ليثبتهما.
- كفاكِ عنادًا!
ولٰكنها لا تزال تُقاوم رغم ذٰلڪ، وبالرغم من أنه كان يُثبتها جيدًا.
- يا حُراس، أحضروا الطبيب!
صدرت من الحارس، فالتفت له آشير والأميرة لارا ليجدا أن الملڪ لم يكن يُجيب، فاقدًا التحكم بجسده، بالرغم من وعيه الكامل الذي كان به، وكان السِر وراء هذا في المخلوط الكيميائي الذي أخرجته هيَ من المُحيط الأبيض -كما أُطلق عليه من قِبل الجِن المائي-، والذي كان من ضمن مُميزاته كسُمًّا قوي المفعول، الشلل، فُقدان القدرة علىٰ التحكم بالعضلات، ضعف ضربات القلب، ضيق التنفس.. ثم القتل علىٰ المدىٰ البطئ.
رمقها آشير بغضب.
- لمَ فعلتِ هذا؟
ردت بضيق:
- جرب أن تحيىٰ مع شخصٍ يدعو نفسه والدڪ، يجبرڪ علىٰ الصغيرة والكبيرة!
- ليتني أفعل، ولٰكنني لم أجد مَن يتعطف عليَّٰ بهذا المعروف!
فلم تجد ما ترد به. وكانت تلڪ اللحظة التي وصل بها مجموعة من الحرس الملكي، ومعهم كبير أطباء القصر الذي حاول التعامل مع تلڪ الحالة المُتأخرة بكُل ما أوتي من خبرات.
بعد لحظات.
لطالما كانت هُناڪ أصولًا وقواعد لحمل جنيًّا لآخر، بل أن الأمر كان يتطلب أحيانًا دروسًا لتمرس الأمر بدون أخطاء، يبدأ الأمر بإقباضڪ علىٰ صدر الشخص المرغوب حمله من تحت إبطيه، وعقد قدميڪ حول خصره، و استخدام جناحيڪ لركل الأرض.
هذا بالضبط ما فعله حام قبل أن تصل إليه جنود الملڪ قامان، وقد تأكد قبل انطلاقه أن المُستشار مُمسكًا بقدمي الأمير قاران.
حاول رُماة القوات الملكية استهدافهم، الأمر الذي كان وشيكًا لأكثر من مرة، وكان دقيقًا بإحداهن في إصابة مُستشار الأمير قاران، ما جعله يترڪ قدمي الأمر عن غير عمد.
لن تكون المشكلة في الوقوع من مكان عالي كهذا، بل ستكون في مَن سيستقبلونڪ بالأسفل!
- جَليْ..!
قالها الأمير قاران وهوَ يُراقب وقوع مُستشاره بين تلڪ الجموع من الجنود، بعدها مُباشرةً أمر حام بالإشهال:
- أسرع يا حام، أسرع!
هنا خطر ببال حام أن يستعين بالرياح لمعاونته، فأمرها بدفعه للأمام نحو الملڪ قامان، الأمر الذي سبق أمر الأمير قاران إليه بإلقاءه مُباشرةً نحوه.
ففعل حام، فسقط قاران مُخرجًا خنجره، مُشيرًا به نحو الملڪ، تمامًا حيث كان من المُفترض أن يسقط، وبالرغم من رؤية الملڪ قامان له، إلّا أنه اكتفىٰ بالابتسام مُغمضًا عينيه، ليقابله قاران بالخنجر مُستهدفًا به رقبته.
سقط الخنجر تمامًا كالرصاصة، اخترق رقبة الملڪ قامان تمامًا، وأسقطت جسده تحت ذٰلڪ الجسد الضخم الواقع فوقه!
وبقيَ الأمير قاران علىٰ حالته كمَن يتلذذ الأمر، وكأنه يتأكد من موت الملڪ، أمام كُل جُندي، وكُل مُستشار، وكُل فارس، وكُل رامي بالجيش!
ظلّوا يتأملونه مُتعجبين..
لقد مات المُستشار، والآن مات الملڪ!
مَن سيقود الحرب؟
حتىٰ أن القوات المُتوجهة نحو قواته للهجوم قد توقفت تمامًا من بعد أن سمعوا القوات من ورائهم تتشتت وتُهلل:
- قُتل الملڪ، قُتل الملڪ قامان!
وكان ما اتفق عليه الخصمان أن ما حدث ليس بخبرٍ سار.
***
«مأوىٰ الساحرة نولا - الغابات الغربية».
مساء ذات اليوم.
وصل آشير للمكان الذي يعلمه جيدًا بعد أن قرر معرفة ما ستؤول إليه الأحداث فيما بعد، إذ كان آخر ما عاصره ليس بطبيعي، أحد الملوڪ أوشڪ علىٰ الموت أمامه، وتم إعلان الحرب من قبل مملكة علىٰ أخرىٰ.
يجب استشارة ساحرة مُتمرسة في استبصار المُستقبل ومعرفة النبوءات!
وصل لأمام البيت الخشبي المُتهالڪ، والمُتآكل، فطرق بابه، وبعد المرة الثالثة فتحت له ساحرة غير مُهندمة الشعر أو الملبس، لا تهتم بنظافتها الشخصية، ترتدي الكثير من الإكسسوارات، كُل ملابسها دُبغت من جلود الحيوانات.
كانت تعتلي وجهها ابتسامة عريضة من مرآه، فقالت وقد أفسحت له مجالًا للدخول، بحروفًا مُتباعدة، وكأنها تتلكئ بالحروف التي تنطقها:
- آشير! لقد عُدت أخيرًا.. تمامًا كما توقعت.
- من فضلڪ، لا تعتبرينها مسألة شخصية، أنا هُنا لسؤالٍ واحد.
قالت بنبرة ماكرة، خبيثة:
-.. سؤالٌ واحد؟!
- لا تُلاعبينني يا نولا.
- تفضل.
أشارت له ليدخل، فدخل، وما إن فعل أغلقت الباب، فالتفتت له قائلة برقبتها المرفوعة عاليًا، صفة تغالب علىٰ أولٰئِڪ الذين يثقون بما يعلمونه:
-... أنتَ هنا لنبوءةٍ ما؟
التفت هوَ بملامح مُستاءة، فأومأ برأسه علامة الإيجاب.
- اسأل.
- متىٰ ستُنزل الملائكة للأرض مرة أخرىٰ؟
عقدت حاجبيها مُتعجبة السؤال.
- من أين لڪ بتلڪ المعلومة؟
- سمعتُ أحدهم يُرددها لزميله بإحدىٰ الخمارات.
يبدو أنها كانت تُحاول تناسي هذا، فقالت بعد تنهيدة حارة:
-... بعد موت الملوڪ الأربعة.
بدت تعابير الذهول علىٰ وجه آشير، قبل أن توضح هيَ له الأمر:
- لقد نُزلت الملائكة لإنذارنا قبلًا، وقيل أن فُرصتنا الأخيرة ستكون في ملوكنا الأربعة، فإن ماتوا أو قُتلوا، ستكون النهاية، سينزلون مرة أخرىٰ ولٰكن ليس بهيئتهم التي كانوا عليها؛ بل بهيئة أخرىٰ لا نعلم عاقبتها.
صمت آشير ليتذكر حالة الملڪ رئيف التي تركه عليها آخر مرة، كان بخير حسبما تذكر آشير، فسأل:
- ماذا لو كان أحدهم علىٰ وشڪ الموت؟
- لا يجوز، إمّا أن يموت أو لن تتحقق النبوءة.
يجب أن يتحرىٰ آشير هذا الأمر بنفسه، قد يكون الملڪ رئيف قد أُصيب بشيء في رحلة عودته إلىٰ القصر مثلًا.
- يجب عليَّ الرحيل!
كاد يخرج لولا أوقفته مُلتقطه إحدىٰ يديه، فقالت:
- أنتَ الآن مُرسل، قد تُنجو الملايين من الأرواح فداء ما تسعىٰ إليه، كُن حريصًا يا آشير، رجاءً!
أومأ برأسه علامة الإيجاب، ثم رحل.
***
«اجتماع الملڪ جبريل - قصر الملڪ».
بعد ساعة واحدة.
-... أظن الخطة واضحة للجميع الآن، وكُلًّا منكم يعلم دوره جيدًا!
قالها بمُجرد أن أنهىٰ خطته، فأومأ الجميع رؤوسهم إيجابًا للرد عليه، فأذن لهم بالرحيل، وكان من بينهم تُرڪ الذي تم تحديد دوره لقيادة قوات تشتيت الصمَّام، بما أنه الوحيد الذي رآه.
***
«قصر الملڪ قامان - مملكة الشمس».
مُنتصف الليل.
وصل الأمير قاران لمملكة القصر -علىٰ غير العادة- في حالة من صمت المُقابلين، لا تحيات، لا تصفيقات حارة، لا تهليلات بدوام العُمر للأمير ولوالده الملڪ ولمملكة الشمس.
فمشي مُنتكس الرأس، وسط حرسه الشخصي، وحام، وكأنه هارب من حُكمٍ ما، لا يلتفت يمينه أو يساره، فقط متوجه نحو مكانٍ مُحدد للغاية بداخل قصر الملڪ قامان؛ سابقًا.
وصل لجناحه الخاص، فالتفت لحرسه آمرًا إياهم بالرحيل.. «إنه بيتي قبل أي شيء، لن يصيبني فيه مكروه!»، وعلىٰ العكس من المُعتاد، اختار الجنود عصيان أمره، بشكلٍ غير مباشر، فقال أحدهم:
- لن نتركك أبدًا مولاي، سننتظر بالقرب من الجناح، ولٰكننا لن نتركك!
التفت قاران لـحام قائلًا بنبرة مُتعبة للغاية:
- حام، أنا لا أريد أن يقول العامة «لقد اقتحم الأمير قصر والده!»، يكفي أنهم سيقولون: «قتل الأمير والده!»، من فضلڪ خُذ الحرس وارحل من هنا!
أومأ حام برأسه علامة الإيجاب، ولٰكنه ترڪ جُملته لـقاران قبل الرحيل:
- ولٰكن للحديث بقية غدًا.
- حسنٌ.
وبالفعل، رحل حام ومن معه، ليشاء القدر، أن قبل دخول الأمير قاران جناحه تظهر له إحدىٰ زوجات والده، وأقربهن إليه، وقد بدا عليها الحُزن في عيونها، إحمرار عينها، وانسياب أنفها، وعلامات وجهها؛ كُل تلڪ الأدلة كانت توحي أنها بقيت اليوم بطوله تبكي، مُنذ أن أتاها الخبر اليقين!
طأطأ الأمير قاران رأسه دون أن يُقابل عينيها بعينيه، فهرولت هيَ نحوه لتضربه علىٰ صدره وكتفيه، بشكلٍ ضعيف، مهما حاولت العكس.
- لمَ فعلت هذا، لمَ قتلت والدڪ؟.. لعنة الله عليڪ، أنتَ وأمثالڪ مثواهم جهنم وبئس المصير!
ولٰكنه لم يرد، فقط تركها بعد أن توقفت عن الضرب، وقد خبئت وجهها بين يديها لتستكمل بُكائها، ثم دخل جناحه الخاص، مُغلقًا الباب وراءه.
لأول مرة، مُنذ أن تزوج مُنذ عشرات السنين، يدخل جناحه في حالة من الصمت والهدوء، فقد اعتاد علىٰ أن تُقابله زوجته بتلهف واشتياق، اعتاد علىٰ أن يكون أول ما يُقابله بالجناح حُضنًا دافئًا منها.
ولٰكنها الآن ليست موجودة، لا هيَ ولا وَلَده!
فأغمض عينيه ليُدمع في صمت...
لقد فقد أعز وأقرب ثلاثة أشخاصٍ إليه في هذه الدنيا، بليلة واحدة!
***
«قصر الملڪ رئيف - مملكة الغرب».
بنفس التوقيت.
وصل آشير للمملكة تحليقًا، فكان عليه الهبوط ليدخل القصر من بابه، أوقفه ما يزيد عن العشرون حارسًا مُسلحًا بالسيوف والرماح وغيرها من الدروع والأسلحة المعدنية.
- مهلًا، إهدأوا.. أنا لا أمتلڪ سوىٰ هذا الخنجر!
قالها رافعًا يديه أمام كُل هؤلاء، والذين قام اثنان منهم بتقييده فور أن وصلوا إليه، فأشار نحو خنجره الذي كان بحزامه، فالتقط أحد أكبر الحرس الخنجر ليأخذه منه.
-... كان هذا لجدي الأكبر.
- مَن أنت، وما الذي أتىٰ بڪ إلىٰ هُنا؟
قال وهوَ لا يزال بموقفه الذي لا يُحسد عليه.
- ألم تسمعوا عن آشير من قبل؟!.. يا للعار!
حاول الحارس تذكر هذا الإسم:
-... يبدو هذا الإسم مألوفًا لي، أأنتَ هاربٌ من العدالة؟!
- في الحقيقة، العدالة هيَ التي تلحق بي، أنا لستُ هاربًا منها.
قال الحارس بجِد، بعد أن أمر الرجال بتركه:
- وما الذي أتىٰ بڪ إلىٰ هُنا، تُخطط لسرقةٍ ما؟!
- إن الأمر خطيرًا جدًا تلڪ المرة، أنا -وعلىٰ العكس من المُعتاد، وشيمي التي نشأتُ عليها، وما اعتدتُ فعله- هُنا لفعل خير.
ابتسامة مُستهزءة تلڪ التي اعتلت وجه الحارس وأغلبية المُحيطين به وبـآشير، قبل أن يلتفت الحارس لبعض الموجودين حولهما قائلًا بصوتٍ مسموع:
- «آشير والخير» بجُملة واحدة؟!.. وكيف لنا أن نُصدق هذا؟
قال آشير رافعًا كتفيه:
- أنتَ مُحق، أنا أيضًا لا أُصدق هذا.
قال الحارس بجِد مرة أخرىٰ:
- أفرغ ما في جُعبتڪ!
- أنا هُنا لإثبات حقيقة نبوءة في غاية الخطورة، إن الملڪ رئيف وغيره من بقية الملوڪ الثلاثة الآخرين لفي خطيرٍ وشيڪ!
صمت الحارس، وكثرت التمتمات حوله بين الحرس، قبل أن يرد أحدهم:
-... لقد سمعتُ أن الملڪ قامان قد قُتل مُنذ ساعات!
التفتوا جميعًا لمَن قالها، فيما عدا الحارس وآشير، الذي أشار نحو قائلها، ناظرًا للحارس، ليقول:
- يجب أن تدعني أرىٰ الملڪ.
أومأ الحارس برأسه علامة النفي:
- ولمَ هذا، ألا تُصدقني؟!
- علىٰ العكس، أنا أصدقك تمامًا، ولٰكن الملڪ علىٰ فراش الموت.
- ماذا؟!.. كيف هذا؟
***
وصل معه للجناح الخاص بالملڪ، بالطبع دون أن يُدخله، اكتفىٰ بجعله يُلقي نظره عليه عبر الباب الموارَب، حيث رأىٰ آشير كيف كان الملڪ في حالة مُتأخرة، وكيف كان مُحاوطًا بأهل قصره ونسله من نفس عائلته.
-... لا نعلم كيف حدث هذا، ولٰكننا اكتشفنا تعرضه لإصابة مُسممة بعد وصوله للقصر، حاول الأطباء التعامل مع الأمر؛ ولٰكنه كان مُستحيلًا طالما لا نعلم سبب التسمم أو نوع السِم.
هنا تحرڪ آشير مع الحارس تاركين المكان، بعد أن اكتفىٰ من رؤية الملڪ رئيف وهوَ بحالته المزرية، فسأل:
-... هل سيصمد حتىٰ نهاية الأسبوع؟
أومأ برأسه نفيًا.
- نرجو هذا، ولٰكن حالته لا تُبشر بخير.
بدت علامات عدم الرضىٰ علىٰ وجه آشير، فقال:
- مات ملِكان، نحن علىٰ حافة الهاوية يا أيها الحارس، لو كنت مكانك لودعت أقرب الناس إلي.
ثم تركه وترڪ القصر بأكمله ليحاول إنقاذ الاثنان المُتبقيان، وما إن خرج حتىٰ وصل للحارس نبأ وصول جنود الجِن المائي بتنانينهم النفاث للحدود الشرقية للمملكة.
فهرول مع مَن أنبئه بهذا لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه.
***
«الحدود الشرقية لمملكة الغرب».
بنفس التوقيت.
وصل تُرڪ ومَن معه من الجنود المُكلفين بالتشتيت للحدود الشرقية، وبدأوا بالعمل علىٰ الخطة علىٰ أكمل وجه، إذ كانت الرياح لصالحهم، وكانت الرياح من فوق الجِن الأرضي غاضبة وكأن يد الله تُساندهم!
فأُصدر الأمر بإطلاق الصمَّام، وما كان منه سوىٰ أن توجه نحو المكان المُطلوق إليه مِن قِبل رجال الملڪ، حيث كان رجال تُرڪ، في حين كان صاحبنا المُستشار الخاص والمسئول عن القصر الملكي بطريقه لقصر الأمير خاشع.
كان الأمير أحد أولٰئِڪ الجان الأرضي الذين تبناهم الملڪ رئيف ببداية فترة حُكمه، وكان الأمر بعد أن علِم الملڪ أن ليس لهذا الجني أحدًا غيره، فتبناه وأمر ببناء قصرًا له في الضفة الجنوبية من المملكة، وقد كان.
حتىٰ مرت السنين وانعزل خاشع تمامًا عن الملڪ، أو لنقول أن مشاغل المملكة لم تكن تلڪ التي يتمنى يومًا أن ينالها أو أن تكون أكبر همه، في حين كان الملڪ رئيف علىٰ العكس منه تمامًا.
وبالرغم من أن الأمير خاشع قد ورث اسم الملڪ رئيف، إلّا أن علاقته به لم تكن أكثر من علاقة صاحب بصاحبه الأصغر منه سنًا.
وصل كبير الحرس للقصر المعني، والذي لم يكن يومًا مُضججًا بالحرس، فتوجه مُباشرةً للداخل وهوَ يصرخ ويُنادي:
- يا سمو الأمير، يا سمو الأمير خاشع!
خرج من مكتبته، مُرتديًا اختراع علىٰ أنفه، مُعلقًا بأذنيه، به زُجاجتين دائريتين، وكان بيده مخطوطة كُتبت علىٰ جلود الحيوانات، فقال:
- ماذا هُناڪ؟
- سمو الأمير، ما هذا الذي ترتديه علىٰ وجهڪ؟!
- آه، إنه اختراعي الجديد، صممته ليُساعدني علىٰ التدقيق بما أكتبه.
وكأن الحارس قد نسي ما كان هنا لأجله من بعد هذا التعجب الجلي الذي كان علىٰ وجهه، فقال بعد أن تلجلج:
- آاء، آاه.. نحن نحتاجڪ يا مولاي!
- ماذا هُناڪ؟
- جلالة الملڪ، إنه يحتضر، والمملكة تتعرض لهجوم من الجهة الشرقية!
صُعق خاشع:
- ماذا قُلت؟!!
توجه خاشع لمكتبته للتحضر للقدوم مع الحارس، فما كان من الحارس سوىٰ أن نبّهه لأهميته حضوره للحدود الشرقية لقيادة قوات الدفاع، والرفع من معنويات قوات الحدود.
-... ليس هذا الوقت المُناسب لقيادة معركة يا أيها الحارس!.. يجب عليَّ أن أقف بجوار والدي في موقف كهذا.
وبالفعل، تحضر، فكاد يخرج حتىٰ أوقفه الحارس مُتطاولًا عليه، وقد أمسڪ أحد ذراعيه بقوة قائلًا:
- لا يا مولاي، هذا خطأ!.. إن ذهبتَ إليهم الآن، وبعد كُل تلڪ السنوات من الغياب والاختفاء عن العرش والقصر، سيعتقدون أنڪ هُناڪ لترثه، وأنا أعلم جيدًا أن هذا ليس ما ببالڪ...
صمت خاشع، وابتدت علىٰ ملامحه الإقتناع بالمُقدمة.
-... فإن سمحت لي، الأفضل الآن أن يكون أول ظهورٍ لڪ في ساحة المعركة، لا بجوار جسد الملڪ، إن آلَهُ وأقرب الأقربين إليه يقفون بالقرب منه الآن، إننا بأمس الحاجة إليڪ في ساحة المعركة الآن!
أنزل الأمير خاشع النظارات عن وجهه، فقال:
- جهز لي الحيوانات الضارية لنتحرڪ!
ابتسم الحارس.
- أوامر مولاي.
***
«قصر الملڪ جبريل - مملكة البحر».
بعد ساعة واحدة.
حضرت الأميرة لارا لجناح الملڪ بُناءً علىٰ أوامره التي أرسلها لها عبر إحدىٰ جارياتها، فوصلت للجناح وتقدمت بخطواتها المتواضعة والمُتباطئة، وعلىٰ غير العادة، لم يكن الملڪ هُناڪ ليُقابلها لوحده، فقد كان علىٰ يمينه أميرًا هيَ تعلمه جيدًا، وتطيق العمىٰ عن الجلوس معه، وعلىٰ يساره كانت هُناڪ جارية هيَ تعلمها جيدًا كذٰلك، هيَ تخدم الأمير ذاته.
انحنت الأميرة لارا بشكلٍ بسيط، ثم رددت:
- مولاي، لقد طلبتني.
- نعم يا لارا، لقد فعلت، هُناڪ ما أود مُناقشته معڪِ.
- أوامر مولاي.
هنا أشار الملڪ جبريل للخادمة.
- تلڪ الخادمة علىٰ وشڪ أن تُعدم، وقد تُعفىٰ من هذا..!
رمقت لارا الخادمة، فلاحظت أن علىٰ وجهها تعابير هلع شبه مُخبئة، لولا التدقيق لما رأته لارا، فرمقت الملڪ وأنصتت إليه باهتمام.
-... إن لديها شهادة في غاية الخطورة، وأود أن أُشارككِ إياها.
- طبعًا، تفضل.
قالتها له، فأشار الملڪ لتلڪ المسكينة بالحديث، فقالت بنبرة متلجلجة بالكاد تنطق:
- آاء، لقد ر.. لقد رأيت أحد الجنود لديڪَ يا مولاي خارجًا من جناحها مساء اليوم؛ وأنا أعلمه جيدًا.
جحظت عيني لارا لأجزاءٍ من الثوانِ، قبل أن تواري هذا ناظرةً للأرض، فرمق الملڪ جبريل ابنته مُترقبًا ردها عمَّا قيل بحقها، فلم تنطق، فقال:
-... أنا أيضًا أعتقد أنها قد فقدت عقلها، في النهاية ليست الأميرة لارا، ابنة ملڪ البحر، و وراث عرش المملكة الجنوبية، التي قد تقع بغلطة شنيعة كتلك! يبدو أنني سأُعلن عن موعدها مع المقصلة فجر الغد.
فصاح مُناديًا علىٰ حارسه الخاص أمام ملامح الأمير الموجود، والذي انبسطت أساريره من بعد أن اطمئن لسُمعة تلڪ التي ينوي الزواج بها.
- يا حُراس!
- لا!!
قالتها أمام ثلاثتهم، فتبدلت ملامحهم جميعًا، إمّا للتعجب بعد الإطمئنان، أو للإطمئنان بعد الهلع، أو للذهول بعد الشڪ.
فرمقها والدها، والذي كان يشڪ لأمرها خصوصًا بعد أن صمتت عن التُهم الموجهة إليها، فقال:
- ألديڪِ شيءٌ آخر تودين مُشاركتنا إياه؟!
قالها لها، فازدردت ريقها.
***
«أمام قصر الملڪ جبريل».
بنفس التوقيت.
حضر أحد الجنود لمقر كبير الحرس وهوَ علىٰ عُجالة من أمره، فألقىٰ التحية العسكرية أولًا، قبل أن يسأله كبير الحرس عن سبب مجيئه بهذا التوقيت، وهوَ يُطالع بعض الأوراق المُهمة عن تسليح الجيش.
-... إنه أحد الجِن الطيارة يا سيدي، لقد أمسكناه وهوَ يُحاول التسلل لداخل قصر الملڪ؛ وقال أن لديه شيئًا خطيرًا يود إخباره به.
التفت الحارس مُتعجبًا لمَن أمامه، فسأل:
- أين هوَ الآن؟
- بانتظارڪ في الخارج، وسط مجموع مِمَّن ألقوا القبض عليه.
فتحرڪ معه الحارس للخارج، حيث وجد آشير كعادته، يُماطل ويُجادل مَن يُحاولون السيطرة عليه وإخراسه.
-... أتعلمون عناء السفر من مملكةٍ لأخرىٰ في أقل من ساعتين؟!.. جربوا الإلتفاف حول القارة عومًا وسترون!
قاطعه وصول الحارس إليه، فقال بمُجرد أن توقف أمامه، وبنبرة في غاية الجدية:
- هات ما لديڪ، وإلّا فصلنا رأسڪ عن جسدڪ الآن، دون مُحاكمة أو تقديم أمرٍ عسكري.
تنهد آشير، فقال:
- إن ملككهم علىٰ وشڪ الموت، مثله كمثل الملڪ قامان والملڪ رئيف!
- ملڪ النار وملڪ الأرض؟!
أومأ آشير برأسه علامة الإيجاب، فعقد الأخير حاجبيه مُتعجبًا، قبل أن يُشير برأسه نفيًا، مُعرضًا ظهره عنه ليرحل.
- هذا الكلام لا يمت للمنطق بصِلة!
-... أأنتَ مؤمنًا بالملائكة؟
قالها فأوقف الحارس، وما إن توقف...
-... لقد نُزل الملائكة قبلًا، ولٰكننا كذبنا تنزيلهم، وأعرضنا ظهورنا عنهم، وافترينا عليهم بالكذب والبُهتان! تقول النبوءة أنه بعد عدة أعوام من صعود الملائكة سيموت الملوڪ الأربعة، وبعدها مُباشرةً ستُنزل الملائكة مرة أخرىٰ؛ لتؤدي الأمانة!
التفت الحارس إليه:
- عن أي أمانةٍ تتحدث؟
قال آشير بعد ثلاث ثوانِ وكأنه لا يود البوح:
- إبادتنا!
صُعق الجميع، وكثرت الهمهمات فيما بينهم، وبالرغم من شخصية الحارس القوية في المُعتاد، إلّا أنه عجز عن إيقاف ألسنتهم تلڪ المرة، فأمر الحرس بترڪ آشير، وبعد أن نفذوا أوامره سأله مُشيرًا سبابته نحو صدره:
- إن تركتك لتُقابل جلالة الملڪ، هل ستتمكن من إقناعه بوجهة نظرڪ؟
رفع آشير كتفيه:
- سأبذل قصارىٰ جُهدي.
هنا أشار له الحارس بالتقدم معه.
***
«جناح الملڪ جبريل - بداخل القصر».
بعد دقائق.
وصل الحارس مع آشير لباب الجناح، والذي صودف أن كان مفتوحًا وقتها، فسمعا معًا صوت الملڪ يتعالىٰ علىٰ ابنته الأكبر، والتي يُفضلها علىٰ غيرها من باقي الذين أنجبهم.
-... يبدو أن الأمر خطيرًا، إن الأميرة لارا هيَ الأقرب لقلب الملڪ!
- كما يقولون: «الحظوظ بالأقدام!».
رأىٰ آشير والحارس الذي معه أن الأمير قد حاول التدخل، فصاح به الملڪ جبريل لكي لا يتدخل، وبعدها صمت ليتلقىٰ أنفاسه، ثم أمر الأمير أن يرحل هوَ وجاريته من هُنا.
ففعل الأمير تنفيذًا لرغبة الملڪ، بالرغم من عدم رضاءه الكامل عن المُعاملة، فخرج مرورًا بهما دون أن يرد أحدهما عمّا حدث، فقط انحنىٰ الحارس، وابتسم آشير ابتسامة بلهاء وكأنه يقول: «شرفتنا!».
بعدها التفتا لما يحدث بالداخل...
-... ابنتي الكُبرىٰ، وبعد كُل تلڪ السنوات التي أمضيتها وأنا أُحاول إبعاد الشُبهات عنها، تخون شرفي وعرضي وإسمي؟!
مال آشير علىٰ الحارس:
- «شرفه وعرضه»؟!.. أهيَ ابنته أم زوجته؟
أومأ الحارس برأسه علامة النفي:
- أنا مثلڪ يا آشير، لا أفهم ما يحدث!
- إذًا، أدخلني قبل أن يُصيبه مكروه.
ابتسم الحارس مُستهزءً.
- أنتَ تمزح، إنها ابنته! لن يُصيبه أي مكروه.
وبالإلتفات للحديث الدائر بينهما، نرىٰ تطورًا واضحًا في نبرة تلڪ التي انفرد صدرها فجأة، بعد أن كانت مُطأطأة الرأس، ومُنحنية الظهر، فقالت بنبرة هجومية:
-... لا تنسىٰ أنڪ السبب وراء كُل هذا، أن تود إجباري علىٰ زواج يليق بڪ وبإسم العائلة الملكية، حتىٰ وإن كُنت غير راضيةً عنه.
صفعها الملڪ أمام ناظريهما، فقال:
- سأقتل ذٰاڪ الخائن بنفسي، سأحرص علىٰ أن يُقدم للـصمَّام ليفطر به صباح الغد، وانتظري حتىٰ تسمعين الخبر بنفسڪ!
ثم توجه نحو الباب، فتراجع آشير والحارس وقد ضبطا وقفتيهما لكي لا يُرىٰ أنهما كانا يُراقبان ما يحدث، ولٰكنه لم يكد يصل للبوابة لمُناداة حارسه الشخصي حتىٰ تفاجئ بها تهجم عليه من ظهره.
تعلقت علىٰ ظهره بيديها وقدميها كالحيوانات، فبدأ هوَ بالصراخ!
التفت آشير والحارس لما يحدث مذهولان...
قبل أن تقودهما تلقائيتهما للتدخل، فما كان من الحارس سوىٰ أن أخرج سيفه بتلقائية، في حين أمسڪ آشير الأميرة بكلتا يديه مُبعدًا إياها عن والدها، ليُلقيها بعيدًا.
ولمَّٰ رأىٰ الحارس أن آشير كان كافيًا لإبعادها عن الملڪ، وجد أنه لا حاجة لاستعمال السيف، فألقاه بعيدًا بمُجرد أن رأىٰ ما فعلته تلڪ العفريتة بوالدها، فقد أصابته بخدوشًا سامة بظهره، عن طريق سلاحٍ صغير كان لديها.
- مولاي، أنتَ مُصاب!
قالها الحارس، فردَّ عليه آشير باستهزاء:
- «لن يصيبه مكروه!»، هاه؟!
لم يكن مُنتبهًا لتلڪ التي هرولت نحو سيف الحارس المُلقي أرضًا، وما إن لاحظ هذا حتىٰ فتح جناحيه مهرولًا نحوها، فدفع بجسدها جسدها أرضًا، مُستخدمًا جناحيه ليثبتهما.
- كفاكِ عنادًا!
ولٰكنها لا تزال تُقاوم رغم ذٰلڪ، وبالرغم من أنه كان يُثبتها جيدًا.
- يا حُراس، أحضروا الطبيب!
صدرت من الحارس، فالتفت له آشير والأميرة لارا ليجدا أن الملڪ لم يكن يُجيب، فاقدًا التحكم بجسده، بالرغم من وعيه الكامل الذي كان به، وكان السِر وراء هذا في المخلوط الكيميائي الذي أخرجته هيَ من المُحيط الأبيض -كما أُطلق عليه من قِبل الجِن المائي-، والذي كان من ضمن مُميزاته كسُمًّا قوي المفعول، الشلل، فُقدان القدرة علىٰ التحكم بالعضلات، ضعف ضربات القلب، ضيق التنفس.. ثم القتل علىٰ المدىٰ البطئ.
رمقها آشير بغضب.
- لمَ فعلتِ هذا؟
ردت بضيق:
- جرب أن تحيىٰ مع شخصٍ يدعو نفسه والدڪ، يجبرڪ علىٰ الصغيرة والكبيرة!
- ليتني أفعل، ولٰكنني لم أجد مَن يتعطف عليَّٰ بهذا المعروف!
فلم تجد ما ترد به. وكانت تلڪ اللحظة التي وصل بها مجموعة من الحرس الملكي، ومعهم كبير أطباء القصر الذي حاول التعامل مع تلڪ الحالة المُتأخرة بكُل ما أوتي من خبرات.