الفصل الرابعشيطان الصحراء

أمر الملك "أكرمان" بإحضار الأمير "بينيغوس" والأمير "عاموس" إلى قاعة الاجتماع، وتحدث معهما بصفة رسمية، كملك وليس كوالد، لم يوبخهما على هروبهما من القلعة إلى مكان غير آمن، بقدر ما قدم لهما النصح، وأخذ عليهما عهدًا ألّا يقوما بفعل مثيل بعد ذلك، وعليهما أولًا استشارته بصفته والدهما في المقام الأول، وبصفته ملك المملكة وحاكم البلاد، ظلا منكسي رأسيهما والخجل يغمرهما، وكان قرار الملك قاطعًا بعدم خروجهما من القلعة لي سبب أيًا كان، لم يكن منهما إلّا القبول، وهذا في صالحهما، وفي صالح الأسرة الحاكمة، لأنهما الآن هما مستقبل الحُكم لهذه الأمة.
انصرفا من أمامه بعد الركوع بين يديه طاعة، وعاد كل واحد منهما إلى جناحه ليستريح، وأمر الملك بتشديد الحراسة على باب جناح كليهما، وأمر كذلك بوجود حارسين أسفل النوافذ، حتى لا تسول لهما نفسيهما محاولة الفرار عبر النوافذ، لأنهما في المرحلة العمرية التي يجب فيها مراقبتهما جيدًا.
ظل الملك جليس العرش حائرًا، يتذكر ما حدث مع ابنه البِكر الأمير "أوركان"، عندما تركه على غير إرادة منه لسيد الأوليمب "زيوس" تاركًا إيّاه لمواجهة مصير يجهله هو، وقد يجهله "زيوس" نفسه، لأنّه لو كان لدى سيد الأوليمب الشجاعة الكافية لهبط إلى العالم السفلي وأنقذ بناته الثلاث من براثن شرار الكائنات التي تسكن أسوأ بقة في العالم، وترك البشري -المسكين- يقوم عنه بمهمة لو كانت سهلة ما ترك غيره ينفذها.
طاف بخاطره ما حدث أمام كائن "الطنطل" الذي كاد يفتك بصغيريه، لولا جسارة جنوده الذين اقتحموا المغارة بعدما استمعوا إلى صراخ الأميرين، قد وصلوا جميعًا في الوقت المناسب، نهض الملك "أكرمان" عن عرشه والغضب يعتريه، وعقد العزم على الذهاب إلى محبس الكائن السفلي البغيض، للتحقيق معه.

* * *

تعالى ثغاء "بان" و"ساتير" خوفًا من الخروج من الغابات، لأنهما يعلمان تمام العلم أنّ قوتهما لا تكفي لمواجهة كائن الـ "بازوزو" في الخلاء، من المعروف أنّ ميدانه الذي يتفوق فيه دومًا على أعدائه هو الصحراء، لأنه يعرف بـ "شيطان الصحراء"، كما يقول الكلدان، يستطيع ركوب الريح الساخنة الآتية من الجِبال من حدود العالم المأهول، وله القدرة على صدّ الريح التي تحمل العواصف والأمراض، لحماية الإنسان، لكنه لم يعد يفعل ذلك، وأصبح البشر ألد خصومه، لعدم استمراهم على تبجيله، كما يستطيع توجيه الريح العاتية إلى أي مكان أراد، وهو أكثر من ساهم في نشر الأوبئة والأمراض القاتلة، وتنكسر أمام قدرته أجنحة الريح، ويجردها من قوتها، قال أحد كائنات الـ "فون" وهو يضرب الأرض بحافريه:
-  سأخرج أنا أولًا، إن قتلني الـ "بازوزو" لا يخرج أحدكم من هنا حتى يذهب، لأنه لا يترك الصحراء طالما يشعر بأنفاس الكائنات الحية، قبل أن يودي بها.
تقدم الأمير "أوركان" واستلّ سيفه وقال بجدية:
-  لن يخرج أحدكم، سأخرج أنا وأواجه هذا الكائن، ولن أتركه إلّا صريعًا.
وهَمّ بالخروج لولا أن اعترض "بان" طريقه قائلًا:
-  لا تفعل أيها الأمير، لقد أوصاني سيد الأوليمب بأن أوصلكَ سالمًا إلى الطريق.
نحاه الأمير "أوركان" عن طريقة برفق وهو يقول:
-  لن أدع أيًا منكم يفتديني بروحه، فأنا قادر على مواجهته وإقصائه عن طريقي.
ثم تركهم وهَمّ بالخروج وهو يقول:
-  هذه معركتي أنا، وأنا من يجب أن ينتصر فيها.. لا أنتم، لا يتحرك أحدكم من مكانه.
خرج الأمير "أوركان" شاهرًا سيفه نحو السماء، حيث كائن الـ "بازوزو" يحلق بأربعة أجنحة، يتوسط السماء حائمًا، يحدق في الأمير الذي بدا لا يخشاه، أخذ الأمير يتبين ملامح الكائن فإذ به يرى رأسًا وكأنه رأس شيطان، له قرن واحد بنبت من جبهته حتى آخر رأسه على شكل عرف الديك، مقطب الجبين أكشر الحاجبين، عيناه مسحوبتان واسعتان، أسنانه الحادة بارزة خارج فمه، وجسمه منتصب كالإنسان، لكن أطرافه كأطراف الأسد ومخالبه الحادة تظهر بوضوح، انطلق هابطًا نحو الأمير بأقصى سرعة فتبين ذيله الطويل وكأنه لعقرب ضخم، وهذا ما يلدغ به الإنسان، هذا الكائن مجرد ذكر اسمه عند الكلدان كفيل بدّب الرعب في قلوبهم.
ظل الأمير "أوركان" يقف بثبات ينتظر وصول العدو الهابط، وعندما اقترب منه جدًا انحنى الأمير يدور على الأرض متفاديًا انقضاضه، واعتدل واقفًا مرة أخرى، بينما ارتفع الـ "بازوزو" يحلق مرة أخرى وتوقف في السماء بعيدًا، ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على الأمير، قال الـ "بازوزو" بصوت مزدوج مزعج:
-  "أنا "بازوزو"، ابن الإله حنبا، أنا ملك جميع الشياطين الشريرة ليلو، أتسلق الجبال الشامخة الغاضبة كما يحلو لي، أجبرتُ الريح التي أركبها وأتنقل في قلبها على التوجه نحو الغرب كيفما أشاء، واجهتُ الكثير من الشياطين الأخرى، وأقصيتُها، وانتزعتُ أجنحتها دون عناء، وبمتعة أرديتُ الكثير من البشر والكائنات، مَن أنتَ حتى تجرؤ على مجابهتي؟!"
لم يكترث الأمير بقوله، وأحكم قبضته على مقبص سيفه، تحيّن الـ "بازوزو" اللحظة التي اعتدل فيها الأمير ينظر إليه، وانقض هابطًا بأقصى سرعة قاصدًا إصابته بدقة، لكن الأمير "أوركان" في هذه المرة قفز متوقعًا أنّ الكائن اعتقد أنه سيدور أرضًا كما فعل قبل لحظات، وأصبح ظهر الكائن أقرب ما يكون إلى نصل السيف، أصاب النصل جناحي الكائن العلويين، فحلق ببطء وهو يرتفع عن الأرض مخلفًا خيطًا من الدماء، أضعفت الضربة الدقيقة قوّته، وازداد غضبه وعاود مرة أخرى الانقضاض، وهذه المرة لم يدور الأمير "أوركان" على الأرض بسرعة ولم يقفز برشاقة وظل في مكانه، حتى أصبح الكائن على مقربة ذراع منه، وصوب الأمير "أوركان" سيفه بدقة نحو عنقه فقطع وسقط يتدحرج على الرمال، لكن مخالب الكائن أصابت كتف الأمير الذي لم يكترث بآثار المخالب التي خلفت ندبات أليمة.
كانت صرخة الكائن الأخيرة كفيلة بإخراج كائنات الـ "فونوس" من الأحراش وثغاء الفرحة يدوّي في الأرجاء، يجرون بسرعة نحو الأمير "أوركان" الذي أمسك الرأس من العرف وأشهره أمامهم دليلًا على انتصاره الكبير، وعند اقترابهم مسافة كافية ألقى بالرأس ليتدحرج أمام حوافرهم، ثبت "بان" الرأس المتدحرج بأحد حافريه، وانحنى يلتقطه مبتسمًا، ذهب إلى الأمير "أوركان" والرأس في قبضته، اقترب "ساتير" من كتف الأمير المصاب، وأخرج من جعبته عشبًا بلله برضابه ووضعه على كتف الأمير لوقف تسرب الدماء، ولمساعدته على تطبيب الجرح، "ساتير" رغم أنه من كائنات الـ "فونوس"، لم يمنعه ذلك من تعلّم فنون الطب على يد أشهر حكماء الغابات والجبال، فأصبح بارعًا فيه أكثر من أحكم الحكماء، إضافة إلى مهارته في المبارزة والرماية، ولا يفارق قوسه بين عنقه وكتفه، وجعبة الأسهم معلقة على ظهره، وصنع بنفسه بمهارة منقطعة النظير أدق السهام وملأها بها.
انطلق "بان" يبتسم نحو جسد الـ "بازوزو" الصريع، وأخرج نصله الحاد، وراح يفصل أجزاء الكائن الدميم عن بعضها البعض، ويلقي كل جزء منها في مكان بأقصى قوة، لتتفرق أطراف الكائن وذيله السام في أماكن مختلفة في الصحراء العظيمة.
ودّع "بان" الأمير "أوركان" وترك معه صديقه "ساتير" ليرافقه في رحلته، وانصرف آخذًا معه رفاقه من الـ "فونوس"، وفي يده رأس الـ "بازوزو" كي يعطيها لسيد الأوليمب "زيوس" كدليل أكيد على نجاح الأمير في أول معركة له مع الأعداء الخوارق، ما سوف يجعل "زيوس" يأمره بتعليق الرأس المقطوع على رمح فوق صخرة كبيرة على الأرض أسفل هضبة الأوليمب.
انطلق الأمير "أوركان" في طريقه، وإلى جواره "ساتير" يقصّ عليه الطرائف، وبعض المغامرات التي قام بها مع رفاقه من الـ "فونوس" في الغابات والجبال والمراعي، ومواجهتهم لكائنات خارقة يعجز البشر عن مجابهتها، كان الأمير "أوركان" يستمع إليه، لم يكن يزعجه كثرة الحديث الذي لا ينقطع، بقدر ما أزعجه الثغاء المزعج إذا ضحك "ساتير"، فهو لا يتوقف عن الضحك بسهولة، لم يكن يتوقف فجأة عن الضحك إلّا إذا ناداه الأمير "أوركان" باسمه بصوت مرتفع، "ساتير"! فهو إذا واصل الضحك لا يتوقف عنه أبدًا كما هي عادات تلك الكائات، فهذه طبيعتها، وليس بإرادتها، لكن ما أثار دهشة الأمير "أوركان" وإعجابه في آنٍ معًا، إجادة "ساتير" العزف بمهارة على الآلة النفخية "سيرنيكس" التي ابتكرها "بان" نفسه وأطلق عليها آلة الـ "سيرنيكس" تيمنًا باسم حبيبته حورية البحر، وانتشرت بين كائنات الـ "فونوس"، وأطلقوا عليها اسم آلة الـ "بان" تيّمنًا بزعيمهم سيد المراعي والحقول، فما من أحد منهم إلّا ويحمل تلك الآلة، التي تتكون من سبعة أنابيب من أعواد القصب البري الذي يُصنع منه آلة الناي، تختلف أحجام تلك الأنابيب من حيث الطول، مفتوحة من الأعلى، ومسدودة من الأسفل، حيث أخذ "ساتير" طوال الطريق ينفخ في الفتحات العُلوية، مصدرًا أنغامًا عذبة ناعمة، أُعجب بها الأمير "أوركان" أيّما إعجاب، وهذا ما أعانه على تحمل مشقة الطريق الصحرائي الطويل، كما وجد في هذا الكائن اللطيف الرفيق الحقيقي والصديق الوفي الذي لن يتركه في ضائقه، ولسوف يكمل معه الطريق جنبًا إلى جنب مهما حدث.

* * *

وفي قلعة "كينان" العتيقة، قطع الملك "أكرمان" الرواق تلو الآخر، والدرج الحلزوني المفضي إلى أسفل القلعة حيث السجن الكبير، حتى وصل إلى السجن المشدد، أحنى الحارسين المكلفين بحراسة كائن "الطنطل" رأسيهما تحية للملك، الذي أمر بفتح الباب الحديدي الغليظ، دلف أحد الحارسين إلى الداخل أمام الملك، وخلفه دخل الملك "أكرمان" ليجد "الطنطل" جليس الأرض في هيئة بشرية قبيحة، تقيده الأغلال المثبتة في الحائط من يديه ورجليه.
تقدم الملك "أكرمان" ببطء نحو الحائط وأخذ السوط المعلق على قائم حديدي دقيق، وتوقف مباشرة أمام "الطنطل" الذي أخذ يضحك غير مكترث لما سوف يفعله به، فرقع الملك بالسوط ضاربًا الهواء، وقال بنبرة حادة:
-  من أرسلكَ؟
عاود "الطنطل" الضحك ولم يجبه، ضربه الملك ضربة قوية بالسوط على عنقه، شعر "الطنطل" بالألم لكنه لم يظهر ذلك وقال:
-  إذا أخبرتُكَ باسم من أرسلني.. ماذا أنتَ فاعل به؟
اقترب منه الملك "أكرمان" قائلًا:
-  سوف آتي به، ويكون مكانه إلى جواركَ.
أخذ "الطنطل" يقهقه كالمجنون، مما أثار غضب الملك "أكرمان" فانهال عليه ضربًا بالسوط، ولم تمنع الضربات القوية الكائن البغيض من الاستمرار في الضحك، أخذ الملك يقول وهو يضربه:
-  تكلم أيها السفلي الكريه، تكلم وإلّا..
قال "الطنطل" غير مكترث:
-  وإلّا ماذا؟
قال الملك:
-  ستظل حبيسًا ذليلًا هنا إلى الأبد.
قال "الطنطل" مستهترًا:
-  لن أظل هنا إلى الأبد، وسأخرج قريبًا، ولسوف ترى ذلك بأم عينيكَ.
صرخ الملك "أكرمان" فيه قائلًا:
-  اخرس أيها اللعين.. لن تخرج من هنا دون إذني.
صاح "الطنطل" قائلًا:
-  سأخرج رغمًا عنكَ أيها الضعيف، سأخرج وبعدها أغرق الأرض بدماء أعوانكَ.
صرخ الملك فيه غاضبًا وهو يضربه بالسوط قائلًا:
-  اخرس يا حقير.. لن أسمح لكَ بفعل ذلك.
واستمر الملك "أكرمان" ينهال بالضربات على جسم "الطنطل" الذي قطع الضحكات قائلًا:
-  "هاديس".
ما إن سمع الملك اسم "هاديس" حتى توقف عن ضربه وكاد السوط يسقط من يده، وقال:
-  "هاديس" سيد العالم السفلي؟
أومأ "الطنطل" أن نعم، وقال مستهزئًا:
-  ها.. ألا زلتَ تريد أن تأتي به وتجعله إلى جواري؟
صمت الملك "أكرمان" ولم يتحدث، علق السوط مكانه على الحائط، وترك غرفة السجن وخرج شاردًا، بينما أخذ "الطنطل" يستمر في استفزازه قائلًا:
-  اذهب وانتصر عليه وأحضره إلى جواري إن كنتَ تستطيع.
وأغرق الكائن الكريه في الضحك، وتردد صدى ضحكاته في أرجاء القلعة حتى سمعها كل من بها، والملك "أكرمان" من الصدمة كاد يسقط أرضًا، تحامل على نفسه معتمدًا على الحوائط بجواره حتى وصل إلى جناحه الخاص، وألقى بنفسه على فراشه يجد صعوبة في التقاط أنفاسه.

* * *

بعد أيام من المسير، وصل الأمير "أوركان" ورفيق طريقه "ساتير" إلى إحدى المدن، استقبلهما أحد الغلمان كان قصده سرقة جعبة الأمير الذي أمسك بيده وقال:
-  لا تفعل ذلك مرة أخرى.
شعر الأمير "أوركان" بضربات قلب الغلام تتسارع وذراعه يرتجف في قبضته، فتركه فركض مسرعًا ليختفي من أمامه خوفًا، بينما استمر الأمير "أوركان" و"ساتير" في المسير يبحثان عن أقرب حانة، ليرتاحا فيها القليل من الوقت ويتناولان أي شراب، قبل معودتهما المسير إلى مدينة "أور" القديمة، اعترض طريقهما رجل كان يتابع ما حدث مع الغلام السارق، يرتدي غطاء رأس يشبه العمامة، وابتسم قائلًا:
-  إلى أين الوجهة أيها الغريب؟
نظر إليه الأمير "أوركان" وقال:
-  أقرب حانة إذا سمحتَ.
مد الرجل يده مصافحًا وقال:
-  اسمي "قصديم"، أشهر دليل في صحراء "أور".
انتظر "قصديم" أن ينطق الأمير "أوركان" باسمه، لكنه لم يفعل وقال:
-  أين الحانة؟
شعر "قصديم" بشيء يخفيه الأمير، لاحظ ذلك من مظهره الحسن، والسيف العجيب المعلق في غمده اللامع المثبت في حزام وسطه، تقدم أمامهما وقال:
-  خلفي أيها الغريب.
تساءل "ساتير" بصوت مرتفع قاصدًا أن يُسمعه:
-  لماذا لا يوجه حديثه إلى كلينا؟ ألا يلاحظ وجودي؟!
سمعه "قصديم" وقال:
-  لا أتحدث إلى الماعز.
شعر "ساتير" بالإهانة فقال بصوت مرتفع:
-  أنا من الـ "فونوس" ولستُ من الماعز.
قال "قصديم" وهو ينظر أمامه ولا ينظر إليه:
-  لا يهمنى، المهم مظهركَ.
قال "ساتير" متأثرًا:
-  لقد شكّلتني الآلهة على تلك الهيئة، لم يكن لي من الأمر شيء.
توقف "قصديم" والتفت لمواجهة "ساتير" فحال الأمير "أوركان" بينهما وقطب وهو ينظر إلى "قصديم" مقطبًا وقال وهو يقبض بيده على مقبض سيفه قاصدًا أن يراه:
-  يكفي إلى هذا الحد.
ابتلع "قصديم" رضابه وبصعوبة رسم ابتسامة على وجهه والتفت يكمل طريقه إلى الحانة المقصودة، وتبعه الأمير "أوركان" وخلفه صديقه "ساتير" الذي بدا حزينًا مهانًا.
أخذ الأمير يجول ببصره إلى البيوت المهدمة المنتشرة على الجانبين، والبشر الجالسين في الشوارع في حال يرثى لها، ثيابهم متسخة ممزقة، وجوههم عليها غبرة، بدت أشكالهم كالمشردين، أو الشحاذين، أثناء مرور الأمير، منهم من مد يده إليه كي يعطيه هِبة، ومنهم من ركع وجذب طرف ثوبه يرجوه، ومنهم من حاول سرقة الجعبة منه إلّا أن قوته لم تكن كافية، صرخ فيهم "قصديم" ونهرهم فامتنعوا وامتثلوا لأمره، فبدا "قصديم" للأمير أن له سلطة على هؤلاء، وتيقن أنه سوف يساعده إذا تم الاتفاق.
دخل "قصديم" إلى الحانة وهما في أثره، أشار للأمير أن يجلس على أحد المقاعد، جلس الأمير ثم جلس "قصديم" وقبل أن يجلس "ساتير" استوقفه "قصديم" صارخًا:
-  احذر!
تجمّد "ساتير" في مكانه وقال مذعورًا:
-  أحذر ماذا؟
ابتسم "قصديم" قائلًا:
-  احذر أن تجلس على ذيلكَ.
وانتابته نوبة من الضحك، أجبرت كل من في الحانة على النظر إليهم، أغمض "ساتير" عينيه محاولًا كظم غيظه وجلس وأشاح بوجهه بعيدًا عن "قصديم"، الذي ابتلع ضحكاته في جوفه عندما نظر إلى الأمير "أوركان" فوجده يحدق فيه بنظرات حادة وقال بنبرة هادئة لا تخلو من التهديد:
-  هذه آخر مرة تسخر فيها من صديقي "ساتير"، أعدكَ أنكَ في المرة القادمة التي تسخر فيها منه؛ ستكون الأخيرة التي تسخر فيها مِن أحد.
ابتلع "قصديم" رضابه مستشعرًا جدية تهديد الأمير، وقال محاولًا تغيير مجرى الحديث:
-  إلى أين تنوي الذهاب أيها الغامض.
قال الأمير بذات النبرة الهادئة:
-  قلتُ لكَ أقرب حانة، ونحن الآن نجلس ننتظر النادل أن يأتي لنطلب منه إحضار الشراب.
صفق "قصديم" بيديه فحضر النادل مسرعًا، وقال:
-  أمركَ سيد "قصديم".
قال "قصديم":
-  آتِنا بثلاثة أبواق من الجعة.
ذهب النادل لإحضار الشراب، وقال "قصديم" وهو ينظر إلى الأمير:
-  أقصد ما بعد الحانة.. إلى أين؟ أرى أنكَ بحاجة إلى دليل كي تصل إلى وجهتكَ.
صمت الأمير "أوركان" وابتسم قبل أن يعاود النظر إلى "قصديم" المتأهب، وقال:
-  أرى أنكَ أذكى مما كنتُ أتصور.
دق "قصديم" بأصابعه على الطاولة وقال:
-  هذا يتوقف على عدد الذهب المدفوع.
ضحك الأمير "أوركان" وقال:
-  تعجبني صراحتكَ، يبدو أنكَ لا تقوم بفعل شيء إلّا بمقابل.
صاح "قصديم" مبتسمًا:
-  المقابل المناسب، الذي يرضيني.
جاء النادل ووضع أبواق الجعة أمامهم وانصرف، بينما نظر الأمير إلى "قصديم" وقال:
-  أعتقد أننا اتفقنا.
ابتسم "قصديم" وقال:
-  تحديد المقابل بعد معرفة الوجهة.
لم يبتسم الأمير "أوركان" وقال:
-  مدينة "أور" القديمة.
فغر فاه "قصديم" مشدوهًا وقال:
-  يا للآلهة! إنها تبعد عن هنا مسيرة شهر، المدينة خاوية على عروشها، ومهجورة منذ عقود.
قال الأمير "أوركان":
-  أعلم ذلك جيدًا، مقصدي قلعة "أور".
نهض "قصديم" فزعًا، فأشار إليه الأمير أن يجلس فجلس، قال "قصديم" بصوت خفيض:
-  يا هذا.. ألا تعلم أن من يقصد الذهاب إلى المدينة العتيقة يضل الطريق ولا يسمع عنه خبرًا مرة أخرى؟
أومأ الأمير أن نعم، وقال:
-  أعلم، ولكي ترشدنا سأعطيكَ ضعف ثمنكَ.
صمت "قصديم" يتفكر ثم قال:
-  أعرف من يدلنا على الطريق دون أن نضله.
قال الأمير:
-  مَن؟
قال "قصديم" بصوت خافت بالكاد سمعه الأمير:
-  الشامان "حُذام"، المشهورة باسم "زرقاء عيلام".

* * *
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي