الفصل الثالث
بينما كان فخر يهبط الدرج، وجد "نجيب" يصعده كاد يستكمل هبوطه فأوقفه قائلًا باستهزاء:
- طلعِت ولا نزلت خدامة!
تقدم فخر منه خطوة واحدة ولم يظهر أنه تأثر أو انفعل من جملته، على العكس قال بهدوء ساخر:
- وانت طلعت ولا نزلت نصاب وحرامي وضلالي!.. أظن إنك آخر واحد تتكلم..!
برزت عروقه بشدة وقد ارتعشت عضلة فكه الأيسر وهو يرمقه بنظرات ملتهبة قاسية، يُريد قتله حتى تهدأ نفسه!!
فواصل فخر بوعيد:
كل اللي إنت فيه ده من فلوس أمي اللي إنت كلتها، أوعى تفتكر إني ساكت عن حقها ضعف أو خوف، أنا ساكت عشان خاطر ولادك بس، اللي هما يبقوا إخواتي، مش عاوزهم يشوفوا أبوهم في وضع وحش زي الوضع اللي ممكن أحطك فيه.
اقترب نجيب يجذبه من تلابيبه فأمسك بيديه دافعًا إياه بعنف وهو يخبره بتهديد:
- ماتلعبش معايا، لأنك خسران في كُل الأحوال، اللعب معايا نار والنار هتحرقك.
.................................
- يعني جينا لقينا باباك هنا يا زين ولا في الشغل ولا حاجه...!!
أردفت فيروز في عتاب وقد رمقته بنظرة ثاقبة.
بينما قال زين في هدوء وهو يجلس على طرف الفراش بعد أن بدل ملابسه:
- هو ماكنش هنا وكان فعلا في الشغل بس لسه جاي قبل ما إحنا نوصل.
تأففت فيروز وهي تتجه نحوه لتجلس إلى جواره قائلة بانزعاج:
- على فكرة شكل والدك بيستقل بينا يا زين على رأي خالي!
زين بعد أن ابتسم وقد لف ذراعه حول كتفيها هامسًا:
- ماعاش اللي يستقل بيكِ يا فيروزة، وبعدين ممكن تسيبك من أبويا وأمي والناس كلها وتركزي معايا دلوقتي!!
تخضبت وجنتاها سريعًا بحمرة الخجل، ثم نهضت بارتباك قائلة بتوتر:
- زين.. ماتتوهش الموضوع، وبعدين أنا عاوزة أنزل الجنينة أشم هوا لحسن حاسة إني مخنوقة من اللي باباك عمله!
رفع زين أحد حاجبيه مُرددا:
أهاااا، ده عند أم لطفي يا حبيبتي، بقولك إيه ماتجننيش على المسا أنا بقول أهووو.
ضحكت فيروز مُهقهة وهي تسأله بمرح:
- مين أم لطفي دي بقى إن شاء الله؟!
زين وقد استغل ضحكاتها مقتربا منها هامسًا بمزاح:
- مش عارف بس البت مي أختي قالتلي إنها بتنور وتطفي!!
........................................
جلس فخر على الأرجوحة في حديقة القصر الخارجية، وقد أسند رأسه للخلف مغلقًا عينيه وراح يشرد في سنواتٍ مرت... في ذكرياتٍ أليمة وأخرى كانت فرصة.. فرصة رفعته عاليًا، وقد تشبث بها بكُل قوتهُ
قرر الذهاب إلى أعمامه هؤلاء الذين حكت عنهم والدته وأخبرته بهم، ولكنه لم يكن يتوقع تلك المُقابلة الترحيبية، ذلك الجو العائلي الذي استقبلوه به وكأنهم كانوا ينتظرون عودته إلى أحضانهم بالفعل، وأين كانوا كُل هذه المدة؟!! ..
لمَ لم يبحثوا عنه حتى ينقذوه من عالم نجيب القاس!
كُل هذه الأسئلة كانت تدور برأسه، وها هو عمه "وحيد" يُجيب عليه في ثبات:
- إحنا عرضنا على والدتك أكتر من مرة إنك تيجي تعيش معانا وهي كانت بترفض ومكانتش بتبلغك بده!
فخر بهدوء:
- أمي متعلقة بيا ومكانش ينفع أسيبها لنجيب، حتى وإن كنت مش عارف أحميها، كفاية إنها جنبي، ومتنساش يا عمي إنها الوحيدة اللي ربتني ومعايا من صغري، فهيكون قلة أصل مني لما أسبها بعد دا كله وأجي أعيش معاكم.
وحيد بتفهم:
- فاهمك، بس حتى هي مكانتش راضية تعرفنا عليك يابني ودي أنانية منها!
أومأ فخر برأسه موافقا إياه:
- معاك إنها غلطانة بس حط نفسك مكانها، هي حكتلي كل حاجة وقالتلي ان جدي الله يرحمه طردها هي وبابا من البيت وانتوا كلكم كنتوا مع جدي وسبتوا أبويا رغم إنه أخوكم.
- جدك كان شديد جدا ماحدش يقدر يكسر له كلمة، لكن كنت بدور على أبوك دايما لأنه لحمي ودمي ملقتهوش أخد أمك وفص ملح وداب ويوم ما عرفت أوصله....
صمت فجأة وهو يحاول التماسك حتى لا ينخرط بالبكاء الحار حزنا على أخيه..
تابع بعد أن هدأ قليلًا:
- لقيته مات وإتدفن وأمك إتجوزت الحقير اللي إسمه نجيب دا، حتى مكلفتش خاطرها تيجي وتعرفنا بوفاة أخونا، بعدها جدك مات بسبب حسرته على إبنه اللي عصاه وإتجوز أمك غصب عنه.
رد فخر متنهدًا بعد أن استند بمرفقيه على ساقيه:
- هي غلطانة بس كان فيه دافع وهو جدي اللي هو أبوها ونجيب، جدي أجبرها على نجيب عشان البزنس ونجيب عيشها في جحيم وهي في الآخر ضحية يا عمي.
هز عمه رأسه بإيجاز، ثم قال وقد ابتسم من جديد:
- مش هنفتح في اللي فات يا إبن أخويا، بس هات من الأخر وقولي طلباتك وإيه اللي فكرك بينا..؟!
فخر بعد أن نظر له بثبات:
- الدنيا ضاقت بيا، أنا إتجوزت ونجيب طردني خايف على أمي وهي معاه لوحدها، أنا عاوز أبقى أقوى من نجيب وجيت ليك تدلني يا عمي.
ربت على كتفه باطمئنان، ثم أخبره بنبرة جادة:
- من اللحظة دي إنت أقوى منه، لأن ورث أبوك من أبوه كله هيكون ليك وبإسمك ملكك لوحدك، شركة من شركات "الهلالي" نصيب أبوك من ضمن نصيبه في الورث وكمان ليه رصيد في البنك يعني ماتقلقش خالص، لو عاوز تجيب مراتك وتيجي تسكن معانا هنا في القصر يبقى تنورنا مش حابب يبقى تشتري المكان اللي يعجبك، قلت إيه؟
فخر بنبرة يملؤها الوعيد:
- لا ده ولا ده، أنا عاوز أرجع القصر، القصر في الأصل بتاع أمي ونجيب ضحك عليها وخد كل حاجة منها أنا عاوز أرجع حق أمي كله يا عمي، عاوز أرجع القصر!!
................................
خرج مروان من غرفته مُتلفتا حوله حذرًا، ثم ببطء شديد هبط درجات السلم وراح يخرج من باب القصر الداخلي حيث خرج إلى الحديقة، لم يكن يتخيل أن يجد فخر فتوقع أنه نام مثل البقية!! ..
وقف حائرًا لعدة ثوانِ وهو يزفر أنفاسه بضيق محدثا ذاته:
- ده صاحي بيعمل إيه دلوقتي!!!.. ثم واصل حديثه الخافت:
- دلوقتي يفتحلي محضر رايح فين وجاي منين.
ثم لم يجد أمامه مخرج سوى أنه غير مساره وتخفى في الأشجار حتى وصل للباب الخارجي ولكن هيهات ليجد أحد حُراس فخر يسد عليه الطريق قائلًا بصوتٍ أجش:
- حضرتك رايح فين يا مروان بيه؟
صُدم مروان من سؤاله، وبغضب رد عليه:
- نعم ياخويا؟! إنت إتجننت ولا إيه، إوعى من طريقي!
حرك رأسه سلبًا، ثم أخبره بجدية:
- دي تعليمات فخر بيه، ومعنديش أي تعليمات أخرجك لا إنت ولا أي حد من إخوات حضرتك.
مروان وقد جذبه من تلابيبه هادرًا به:
- بقولك إيه أنا مجنون وماتخلنيش أمد إيدي عليك، إفتح البوابة وعدي يومك على خير!
وعندما رفض مرة أخرى، صفعه مروان بقوة فتعالى صوته وهو يسبه، ليستمع فخر له فنهض مُسرعا إليه وقد صاح بانفعال:
- إيه اللي بيحصل؟؟.. في إيه يا مروان!!
مروان بضيق شديد:
إنت إزاي تديله تعليمات تمنعني من الخروج، جرى إيه يا فخر في إيه؟؟
أشار فخر لفرد الحرس بأن يبتعد، فامتثل له وابتعد بالفعل، ليقول فخر هادئا:
- لأني لازم أعرف إنت رايح فين وجاي منين وماينفعش تخرج بدون علمي.
مروان بانزعاج:
لا والله، ده على أساس إني عيل في تانية إعدادي؟؟ إنت مالك يا فخر، إذا كان أبويا ذات نفسه لا بيقولي ولا بيعدلي؟.
فخر بلهجة حادة:
- أبوك ما بيخفش عليك زيي، أبوك مابيحبش إلا نفسه، إنت اه مش صغير بس طايش ومابتقوليش إنت رايح فين عشان أطمن عليك يا حضرت الظابط!!
مروان وهو يغلق عيناه بنفاد صبر متأففا:
يا الله على المحاضرات اللي مش هخلص منها دلوقتي،... ثم فتح عينيه ليستكمل بحنق:
- بص يا فخر كُل الحكاية إني خارج مع إصحابي.
فخر بجدية وهو ينظر إلى ساعة معصمه:
- الساعة 3 بعد نص الليل يا مروان!.. وهتروحوا فين بقى على كده؟!
مروان وهو يمسح على وجهه بغضب:
- هنتمشى على الكورنيش، على فكرة إنت مزودها أوي يافخر ومش ملاحظ إني ظابظ وإصحابي ظباط يعني مايتخفش علينا.
قهقه فخر ضاحكًا:
- ضحكتني يا عم الظابط، ما هي دي المصيبة، ما علينا، إتفضل إخرج يا مروان، بس خلي بالك من نفسك وإبقى رد على تلفونك لما أتصل بيك تمام!!
تنفس مروان بارتياح ورد:
- تمام، قول للحيطان اللي على الباب دي بقى تفسح الطريق.
أشار لهم فخر فأفسحوا المجال له، في حين استقل سيارته وانطلق خارجا من القصر فغُلقت البوابة بعد أن خرج، والتفت فخر متجها إلى الداخل... ولكنه توقف قليلًا عندما خطرت بباله زوجته مرح، يعلم أنها بالتأكيد غاضبة منه، وهو قادرًا على إزالة غضبها كُليا بأبسط الوسائل، عاد إلى طاقم الحراسة مرة أخرى مُناديا على أحدهم..
أخبره بما يريد في هدوء، ونفذ ما طلبه منه حيث توجه إلى الخارج وبعد دقائق عاد حاملًا حقيبة بلاستيكية تحتوي على مثلجات ومقرمشات زائد كُل أنواع الشوكولاتة المُحببه لمرح، أخذها منه وصعد..
ما إن وصل للغرفة ولج وأغلق الباب خلفه، وجدها تجلس حزينة على الأريكة تقرأ وتُشاهد إحدى المجلات، ألقت عليه نظرة يتيمة، ثم عادت تنظر إلى المجلة بضيق، فضحك بخفوت واتجه نحوها جاثيا أمامها على ركبتيه، ورفع رأسه إليها يُطالعها دون كلام، فقط ابتسم وهو يضع الحقيبة جوارها، نظرت له وقد خفق قلبها، تعلم أنه أتى معتذرًا، وها هو يشاكسها حين قال مازحا:
جبتلك كل الحاجات اللي بتحبيها يا حبيبي، سامحيني بقى ومتخاصمنيش عشان خاطري!!
نهضت مبتعدة عنه، فزفر من فعلتها، نهض خلفها ليقول بنبرة هادئة:
- خلصنا يا مرح!
هزت رأسها نافية، ثم عقدت ساعديها أمامها في ضيق وقالت:
- ماخلصناش!.. إنت ليه.....
قاطعها بصوت حاد:
- تاني يا مرح..؟ قولتلك مليون مرة مش عاوز مناقشة في الموضوع ده لأن اللي شايفه صح هتعمليه ومش معنى إني جاي أصالحك عشان زعلتك أبقى هوافق تنزلي تحت وتقعدي مع الخدم، الموضوع منتهي ومالكيش قعاد معاهم تاني ولا حتى كلام، ودلوقتي فضينا بقى من الموال دا.
أدمعت عيناها وهي تشعر بتسلطه المُبالغ فيه، إنه يجبرها قسرًا على فعل ما يُريد، ولا نقاش فيما يُريد!!
اقترب منها وراح يحتضن وجهها بين كفيه، ثم بحنان همس لها :
- إسمعي كلامي وبس، عشان خاطري.. أنا بحبك يامرح، أكتر من أي حد أكتر من نفسي، وإنتِ أمانة فرقبتي مابحبش أزعلك، فاسمعي الكلام أحسن، والله بعمل كل دا من حبي وخوفي عليكِ
إنه يُصر وهي ضعيفة، يُحبها وهي أيضًا، يفرض سيطرته وهي تُوافق!، تُجادله أحيانا.. ولكن حُبها سيرحب بذلك التسليط وفرض السيطرة أيضًا...!!
كانت تتمايل فوق خشبة المسرح مع أنغام الموسيقى الصاخبة التي صدحت عاليًا في أرجاء الملهى الليلي ذاك.
ومع تمايلها المُثير جدًا له، اقتربت تميل عليه وهي تغمز له بعينها، فكان ينظر لها بجمود بعينين حادتين تتوعدان لها، ولقد استشفت هي ذلك منه، فراحت تبتعد وتدور عدة مرات حول نفسها حتى انتهت رقصتها وركضت إلى غُرفتها، نهض خلفها بخطوات متمهلة حتى طرق الباب في انتظارها تفتح، وثوان معدودة حتى قامت بفتح الباب وأنفاسها تتصارع وهي تناظره بوجل، دفعها للخلف ودخل مُغلقًا الباب خلفه، تراجعت وتقدم هو منها، ابتسمت في محاولة منها لتهدئته، ولكنه هدر بها وقد جذب خصلات شعرها بيده:
- بقى حتة بت زيك إنتِ تستغفلني أنا؟؟؟!
تألمت وبشدة صارخة من قبضته على خصلات شعرها، فتلوت محاولة التملص من بين يده هاتفه من بين أنفاسها اللاهثة:
- في إيه يا مروان، والله ما عملت حاجة، قولي بس أنا عملت ايه؟!!
شدد من قبضته أكثر وجذبها نحوه هامسًا بوعيد:
- أيوة إتمسكني وإعمليهم عليا، مش الزفت اللي إسمه شاهر ده كان عندك إمبارح، إوعي تفتكري إني نايم على وداني ومش فاهم القذارة اللي بتعمليها.
مازالت تتأوه بألم، تحاول تخليص خصلاتها من بين أصابعه المطبقة عليها بشدة، فأردفت متوسلة:
- طب سيبني بس وأنا هفهمك، والله ما عملت حاجة.
تركها بعنف حيث دفعها لتهبط على الأريكة من خلفها، ثم دنا منها هاتفا بصوته الجهوري:
- فهميني!؟
أومأت رأسها بإيجاب، ثم ازدردت ريقها قبل أن تخبره بحذر:
- والله العظيم هو اللي جه، وإنت عارف إنه بيحوم حواليا وأنا بصده، وبيقعد يرخم عليا وإمبارح جه عمل كده بس أنا طردته، والله هو ده كل اللي حصل يا مروان.
مروان بعدم اقتناع:
- مش مصدقك، ما إنتِ اللي زيك لحمه رخيص وعندك إستعداد تعملي أي حاجة في سبيل مصلحتك.
آلمتها جملته، فجعلت قلبها وكأنه ينزف، حينها هتفت بانكسار:
- أنا مش رخيصة أوي كده لدرجة إني أكون بحبك وفي نفس الوقت بخونك.
قهقه مروان ساخرًا، ثم توقف عن ضحكاته قائلًا باستهزاء:
الله أكبر يا طاهرة، لا يا بت ضحكتيني، ده على أساس إنك بتتقي الله؟!.. جرى إيه إوعي تنسي نفسك ده إنتِ عَرض للجميع واللي ما يشتري يتفرج..!!!!
نهضت عن الأريكة فجأة وهي تمسح دموعها بقوة هاتفة:
- وأما أنا كده مهتم بيا ليه!؟ وجاي تحاسبني ليه؟؟؟
أردف بتهكم:
- عشان مزاجي كده، وعشان ماتخلقش اللي يتحدى مروان الشناوي، وشاهر إن كان فاكر نفسه....
قاطعته بصياح:
- يعني أنا رهان بينكم؟؟؟ إنت بتراهن عليا مع شاهر، إنت معلقني بيك وخلتني أحبك عشان خاطر تفرج شاهر إني متعلقة بيك إنت؟؟؟؟
ظهرت على ثغره ابتسامة شيطانية وهو يقترب منها، ثم غمز لها بوقاحة:
- لا ما إنتِ عجباني يا سوزي، بس الحب ده مش سكتي أساسا.
دفعته بكلتا يديها في صدره وهي تهتف به بشراسة:
- ابعد عني، ابعد وروح لحالك بعيد عني واوعى اشوف وشك هنا تاني!!!
عاد يغرز أصابعه بين خصلاتها جاذبا إياها بطريقة موجعة، ثم أخبرها بنبرة أشبه بالفحيح:
- مش بمزاجك، قلت لك مزاجي كده، أسيبك بمزاجي أنا وأرجع برضوه بمزاجي أنا، وخلي في علمك إن لا شاهر ولا أي حد هيقدر يقف قصادي وإنتِ إن لعبتي بديلك أظن عارفة أنا ممكن أعمل فيكِ إيه!!
وما إن أنهى كلامه دفعها بقوة فسقطت على الأرض من خلفها، فأرسل لها قبلة في الهواء غامزًا باستفزاز قبل أن يفتح الباب ويخرج تاركا إياها تبكي قهرًا.
ً.......................................
مرت الساعات إلى أن برزت الشمس في صفحة السماء وانتشر دِفئها تُعلن عن بدء يومٍ جديد.
وقفت مرح تنتقي له ملابسه من الخزانة حيث يعتمد هو يوميًا على ذوقها في اختيار ملابسه، تفاجأت به يحتضنها من الخلف وصوته الهادئ وصل إلى مسامعها:
- صباح الخير يا حبيبتي.
ابتسمت سريعا وهي تلتفت له قائلة بخفوت:
- صباح النور، يلا حضرتلك هدومك يا دوبك تلبس وتفطر.
طبع قبلته الصباحية فوق جبهتها، ليبتسم بحب مرددًا:
- مالك، إنتِ لسه زعلانه مني؟!
حركت رأسها نافية وهي تجيب:
- لا مش زعلانة، إنت عارف إني للأسف مابعرفش أزعل منك.
ضحك باستمتاع وهو يقرص وجنتها بخفة قائلًا: للأسف؟!.. يعني إنتِ زعلانة عشان مابتعرفيش تزعلي مني؟؟
أومأت برأسها مؤكدة وأخبرته متذمرة:
- طبعا، عشان لو كنت بزعل كنت عملت حساب لزعلي.
رمقها بنظرة معاتبة قبل أن يعقد ما بين حاجبيه قائلًا بضيق:
- أنا مابعملش حساب لزعلك يا مرح؟!، أومال بعمل حساب مين، هو في حد في الدنيا دي أصلا بيهمني غيرك، ده إنتِ النفس اللي بتنفسه يا مرح، عيب تقولي كده وإنتِ عارفة غلاوتك عندي!
عاتبت نفسها بعد أن سمعت كلامه ذاك الذي لا ريب فيه، هي تعلم مدى حبه وصدقه وعشقه لها حتى وإن كان العشق على طريقته هو، فيكفيها أنه الحبيب والقريب وكل ما تمتلك من الدنيا، هو من حماها ووقف قبالة الجميع في سبيلها..
ولذلك قالت وهي تحتضن كف يده بين راحتي يديها بحنانها المعهود:
- آسفة، ماتخدش على كلامي أنا بقول أي كلام، إنت عارف إنك أغلى الغاليين عندي فك التكشيرة دي بقى عشان بخاف يا فخر.
بالفعل ارتخت ملامحه وجذبها إلى أحضانه رابتا على ظهرها، لكنه قال بتحذير:
- إياكِ تخافي طول ما أنا موجود، وأوعي تخافي مني مهما عملت ومهما إتعصبت، ده إنتِ حبيبتي يا مرح.
اِفتر ثغرها عن ابتسامة وردية وهي تقول بارتياح:
_ حاضر مش هخاف، ربنا يديمك نعمة في حياتي..
...........................
وقفت تهندم ملابسها الوقورة أمام المرآة وتتأمل ملامح وجهها الهادئة فبرغم أنها تخطت الخمسون عامًا من عمرها إلا أنها مازالت تحتفظ برونقها ووقار مظهرها الجذاب، وبرغم حجم المعاناة بداخلها، تحاول الإعتناء بذاتها قدر الإمكان...
خرجت من غرفتها لتتفاجأ بزين وزوجته يخرجان من غرفتهما سويا، فابتسمت قبل أن تقول بعتاب:
- ليه خارجين من أوضتكم يا زين!؟
زين وقد بادلها الابتسامة:
- قلنا نفطر معاكم يا ماما.
تابعت أحلام بجدية:
- وليه يابني ما أنا كنت هبعتلكم فطار مخصوص ده إنتوا عرسان!
- طلعِت ولا نزلت خدامة!
تقدم فخر منه خطوة واحدة ولم يظهر أنه تأثر أو انفعل من جملته، على العكس قال بهدوء ساخر:
- وانت طلعت ولا نزلت نصاب وحرامي وضلالي!.. أظن إنك آخر واحد تتكلم..!
برزت عروقه بشدة وقد ارتعشت عضلة فكه الأيسر وهو يرمقه بنظرات ملتهبة قاسية، يُريد قتله حتى تهدأ نفسه!!
فواصل فخر بوعيد:
كل اللي إنت فيه ده من فلوس أمي اللي إنت كلتها، أوعى تفتكر إني ساكت عن حقها ضعف أو خوف، أنا ساكت عشان خاطر ولادك بس، اللي هما يبقوا إخواتي، مش عاوزهم يشوفوا أبوهم في وضع وحش زي الوضع اللي ممكن أحطك فيه.
اقترب نجيب يجذبه من تلابيبه فأمسك بيديه دافعًا إياه بعنف وهو يخبره بتهديد:
- ماتلعبش معايا، لأنك خسران في كُل الأحوال، اللعب معايا نار والنار هتحرقك.
.................................
- يعني جينا لقينا باباك هنا يا زين ولا في الشغل ولا حاجه...!!
أردفت فيروز في عتاب وقد رمقته بنظرة ثاقبة.
بينما قال زين في هدوء وهو يجلس على طرف الفراش بعد أن بدل ملابسه:
- هو ماكنش هنا وكان فعلا في الشغل بس لسه جاي قبل ما إحنا نوصل.
تأففت فيروز وهي تتجه نحوه لتجلس إلى جواره قائلة بانزعاج:
- على فكرة شكل والدك بيستقل بينا يا زين على رأي خالي!
زين بعد أن ابتسم وقد لف ذراعه حول كتفيها هامسًا:
- ماعاش اللي يستقل بيكِ يا فيروزة، وبعدين ممكن تسيبك من أبويا وأمي والناس كلها وتركزي معايا دلوقتي!!
تخضبت وجنتاها سريعًا بحمرة الخجل، ثم نهضت بارتباك قائلة بتوتر:
- زين.. ماتتوهش الموضوع، وبعدين أنا عاوزة أنزل الجنينة أشم هوا لحسن حاسة إني مخنوقة من اللي باباك عمله!
رفع زين أحد حاجبيه مُرددا:
أهاااا، ده عند أم لطفي يا حبيبتي، بقولك إيه ماتجننيش على المسا أنا بقول أهووو.
ضحكت فيروز مُهقهة وهي تسأله بمرح:
- مين أم لطفي دي بقى إن شاء الله؟!
زين وقد استغل ضحكاتها مقتربا منها هامسًا بمزاح:
- مش عارف بس البت مي أختي قالتلي إنها بتنور وتطفي!!
........................................
جلس فخر على الأرجوحة في حديقة القصر الخارجية، وقد أسند رأسه للخلف مغلقًا عينيه وراح يشرد في سنواتٍ مرت... في ذكرياتٍ أليمة وأخرى كانت فرصة.. فرصة رفعته عاليًا، وقد تشبث بها بكُل قوتهُ
قرر الذهاب إلى أعمامه هؤلاء الذين حكت عنهم والدته وأخبرته بهم، ولكنه لم يكن يتوقع تلك المُقابلة الترحيبية، ذلك الجو العائلي الذي استقبلوه به وكأنهم كانوا ينتظرون عودته إلى أحضانهم بالفعل، وأين كانوا كُل هذه المدة؟!! ..
لمَ لم يبحثوا عنه حتى ينقذوه من عالم نجيب القاس!
كُل هذه الأسئلة كانت تدور برأسه، وها هو عمه "وحيد" يُجيب عليه في ثبات:
- إحنا عرضنا على والدتك أكتر من مرة إنك تيجي تعيش معانا وهي كانت بترفض ومكانتش بتبلغك بده!
فخر بهدوء:
- أمي متعلقة بيا ومكانش ينفع أسيبها لنجيب، حتى وإن كنت مش عارف أحميها، كفاية إنها جنبي، ومتنساش يا عمي إنها الوحيدة اللي ربتني ومعايا من صغري، فهيكون قلة أصل مني لما أسبها بعد دا كله وأجي أعيش معاكم.
وحيد بتفهم:
- فاهمك، بس حتى هي مكانتش راضية تعرفنا عليك يابني ودي أنانية منها!
أومأ فخر برأسه موافقا إياه:
- معاك إنها غلطانة بس حط نفسك مكانها، هي حكتلي كل حاجة وقالتلي ان جدي الله يرحمه طردها هي وبابا من البيت وانتوا كلكم كنتوا مع جدي وسبتوا أبويا رغم إنه أخوكم.
- جدك كان شديد جدا ماحدش يقدر يكسر له كلمة، لكن كنت بدور على أبوك دايما لأنه لحمي ودمي ملقتهوش أخد أمك وفص ملح وداب ويوم ما عرفت أوصله....
صمت فجأة وهو يحاول التماسك حتى لا ينخرط بالبكاء الحار حزنا على أخيه..
تابع بعد أن هدأ قليلًا:
- لقيته مات وإتدفن وأمك إتجوزت الحقير اللي إسمه نجيب دا، حتى مكلفتش خاطرها تيجي وتعرفنا بوفاة أخونا، بعدها جدك مات بسبب حسرته على إبنه اللي عصاه وإتجوز أمك غصب عنه.
رد فخر متنهدًا بعد أن استند بمرفقيه على ساقيه:
- هي غلطانة بس كان فيه دافع وهو جدي اللي هو أبوها ونجيب، جدي أجبرها على نجيب عشان البزنس ونجيب عيشها في جحيم وهي في الآخر ضحية يا عمي.
هز عمه رأسه بإيجاز، ثم قال وقد ابتسم من جديد:
- مش هنفتح في اللي فات يا إبن أخويا، بس هات من الأخر وقولي طلباتك وإيه اللي فكرك بينا..؟!
فخر بعد أن نظر له بثبات:
- الدنيا ضاقت بيا، أنا إتجوزت ونجيب طردني خايف على أمي وهي معاه لوحدها، أنا عاوز أبقى أقوى من نجيب وجيت ليك تدلني يا عمي.
ربت على كتفه باطمئنان، ثم أخبره بنبرة جادة:
- من اللحظة دي إنت أقوى منه، لأن ورث أبوك من أبوه كله هيكون ليك وبإسمك ملكك لوحدك، شركة من شركات "الهلالي" نصيب أبوك من ضمن نصيبه في الورث وكمان ليه رصيد في البنك يعني ماتقلقش خالص، لو عاوز تجيب مراتك وتيجي تسكن معانا هنا في القصر يبقى تنورنا مش حابب يبقى تشتري المكان اللي يعجبك، قلت إيه؟
فخر بنبرة يملؤها الوعيد:
- لا ده ولا ده، أنا عاوز أرجع القصر، القصر في الأصل بتاع أمي ونجيب ضحك عليها وخد كل حاجة منها أنا عاوز أرجع حق أمي كله يا عمي، عاوز أرجع القصر!!
................................
خرج مروان من غرفته مُتلفتا حوله حذرًا، ثم ببطء شديد هبط درجات السلم وراح يخرج من باب القصر الداخلي حيث خرج إلى الحديقة، لم يكن يتخيل أن يجد فخر فتوقع أنه نام مثل البقية!! ..
وقف حائرًا لعدة ثوانِ وهو يزفر أنفاسه بضيق محدثا ذاته:
- ده صاحي بيعمل إيه دلوقتي!!!.. ثم واصل حديثه الخافت:
- دلوقتي يفتحلي محضر رايح فين وجاي منين.
ثم لم يجد أمامه مخرج سوى أنه غير مساره وتخفى في الأشجار حتى وصل للباب الخارجي ولكن هيهات ليجد أحد حُراس فخر يسد عليه الطريق قائلًا بصوتٍ أجش:
- حضرتك رايح فين يا مروان بيه؟
صُدم مروان من سؤاله، وبغضب رد عليه:
- نعم ياخويا؟! إنت إتجننت ولا إيه، إوعى من طريقي!
حرك رأسه سلبًا، ثم أخبره بجدية:
- دي تعليمات فخر بيه، ومعنديش أي تعليمات أخرجك لا إنت ولا أي حد من إخوات حضرتك.
مروان وقد جذبه من تلابيبه هادرًا به:
- بقولك إيه أنا مجنون وماتخلنيش أمد إيدي عليك، إفتح البوابة وعدي يومك على خير!
وعندما رفض مرة أخرى، صفعه مروان بقوة فتعالى صوته وهو يسبه، ليستمع فخر له فنهض مُسرعا إليه وقد صاح بانفعال:
- إيه اللي بيحصل؟؟.. في إيه يا مروان!!
مروان بضيق شديد:
إنت إزاي تديله تعليمات تمنعني من الخروج، جرى إيه يا فخر في إيه؟؟
أشار فخر لفرد الحرس بأن يبتعد، فامتثل له وابتعد بالفعل، ليقول فخر هادئا:
- لأني لازم أعرف إنت رايح فين وجاي منين وماينفعش تخرج بدون علمي.
مروان بانزعاج:
لا والله، ده على أساس إني عيل في تانية إعدادي؟؟ إنت مالك يا فخر، إذا كان أبويا ذات نفسه لا بيقولي ولا بيعدلي؟.
فخر بلهجة حادة:
- أبوك ما بيخفش عليك زيي، أبوك مابيحبش إلا نفسه، إنت اه مش صغير بس طايش ومابتقوليش إنت رايح فين عشان أطمن عليك يا حضرت الظابط!!
مروان وهو يغلق عيناه بنفاد صبر متأففا:
يا الله على المحاضرات اللي مش هخلص منها دلوقتي،... ثم فتح عينيه ليستكمل بحنق:
- بص يا فخر كُل الحكاية إني خارج مع إصحابي.
فخر بجدية وهو ينظر إلى ساعة معصمه:
- الساعة 3 بعد نص الليل يا مروان!.. وهتروحوا فين بقى على كده؟!
مروان وهو يمسح على وجهه بغضب:
- هنتمشى على الكورنيش، على فكرة إنت مزودها أوي يافخر ومش ملاحظ إني ظابظ وإصحابي ظباط يعني مايتخفش علينا.
قهقه فخر ضاحكًا:
- ضحكتني يا عم الظابط، ما هي دي المصيبة، ما علينا، إتفضل إخرج يا مروان، بس خلي بالك من نفسك وإبقى رد على تلفونك لما أتصل بيك تمام!!
تنفس مروان بارتياح ورد:
- تمام، قول للحيطان اللي على الباب دي بقى تفسح الطريق.
أشار لهم فخر فأفسحوا المجال له، في حين استقل سيارته وانطلق خارجا من القصر فغُلقت البوابة بعد أن خرج، والتفت فخر متجها إلى الداخل... ولكنه توقف قليلًا عندما خطرت بباله زوجته مرح، يعلم أنها بالتأكيد غاضبة منه، وهو قادرًا على إزالة غضبها كُليا بأبسط الوسائل، عاد إلى طاقم الحراسة مرة أخرى مُناديا على أحدهم..
أخبره بما يريد في هدوء، ونفذ ما طلبه منه حيث توجه إلى الخارج وبعد دقائق عاد حاملًا حقيبة بلاستيكية تحتوي على مثلجات ومقرمشات زائد كُل أنواع الشوكولاتة المُحببه لمرح، أخذها منه وصعد..
ما إن وصل للغرفة ولج وأغلق الباب خلفه، وجدها تجلس حزينة على الأريكة تقرأ وتُشاهد إحدى المجلات، ألقت عليه نظرة يتيمة، ثم عادت تنظر إلى المجلة بضيق، فضحك بخفوت واتجه نحوها جاثيا أمامها على ركبتيه، ورفع رأسه إليها يُطالعها دون كلام، فقط ابتسم وهو يضع الحقيبة جوارها، نظرت له وقد خفق قلبها، تعلم أنه أتى معتذرًا، وها هو يشاكسها حين قال مازحا:
جبتلك كل الحاجات اللي بتحبيها يا حبيبي، سامحيني بقى ومتخاصمنيش عشان خاطري!!
نهضت مبتعدة عنه، فزفر من فعلتها، نهض خلفها ليقول بنبرة هادئة:
- خلصنا يا مرح!
هزت رأسها نافية، ثم عقدت ساعديها أمامها في ضيق وقالت:
- ماخلصناش!.. إنت ليه.....
قاطعها بصوت حاد:
- تاني يا مرح..؟ قولتلك مليون مرة مش عاوز مناقشة في الموضوع ده لأن اللي شايفه صح هتعمليه ومش معنى إني جاي أصالحك عشان زعلتك أبقى هوافق تنزلي تحت وتقعدي مع الخدم، الموضوع منتهي ومالكيش قعاد معاهم تاني ولا حتى كلام، ودلوقتي فضينا بقى من الموال دا.
أدمعت عيناها وهي تشعر بتسلطه المُبالغ فيه، إنه يجبرها قسرًا على فعل ما يُريد، ولا نقاش فيما يُريد!!
اقترب منها وراح يحتضن وجهها بين كفيه، ثم بحنان همس لها :
- إسمعي كلامي وبس، عشان خاطري.. أنا بحبك يامرح، أكتر من أي حد أكتر من نفسي، وإنتِ أمانة فرقبتي مابحبش أزعلك، فاسمعي الكلام أحسن، والله بعمل كل دا من حبي وخوفي عليكِ
إنه يُصر وهي ضعيفة، يُحبها وهي أيضًا، يفرض سيطرته وهي تُوافق!، تُجادله أحيانا.. ولكن حُبها سيرحب بذلك التسليط وفرض السيطرة أيضًا...!!
كانت تتمايل فوق خشبة المسرح مع أنغام الموسيقى الصاخبة التي صدحت عاليًا في أرجاء الملهى الليلي ذاك.
ومع تمايلها المُثير جدًا له، اقتربت تميل عليه وهي تغمز له بعينها، فكان ينظر لها بجمود بعينين حادتين تتوعدان لها، ولقد استشفت هي ذلك منه، فراحت تبتعد وتدور عدة مرات حول نفسها حتى انتهت رقصتها وركضت إلى غُرفتها، نهض خلفها بخطوات متمهلة حتى طرق الباب في انتظارها تفتح، وثوان معدودة حتى قامت بفتح الباب وأنفاسها تتصارع وهي تناظره بوجل، دفعها للخلف ودخل مُغلقًا الباب خلفه، تراجعت وتقدم هو منها، ابتسمت في محاولة منها لتهدئته، ولكنه هدر بها وقد جذب خصلات شعرها بيده:
- بقى حتة بت زيك إنتِ تستغفلني أنا؟؟؟!
تألمت وبشدة صارخة من قبضته على خصلات شعرها، فتلوت محاولة التملص من بين يده هاتفه من بين أنفاسها اللاهثة:
- في إيه يا مروان، والله ما عملت حاجة، قولي بس أنا عملت ايه؟!!
شدد من قبضته أكثر وجذبها نحوه هامسًا بوعيد:
- أيوة إتمسكني وإعمليهم عليا، مش الزفت اللي إسمه شاهر ده كان عندك إمبارح، إوعي تفتكري إني نايم على وداني ومش فاهم القذارة اللي بتعمليها.
مازالت تتأوه بألم، تحاول تخليص خصلاتها من بين أصابعه المطبقة عليها بشدة، فأردفت متوسلة:
- طب سيبني بس وأنا هفهمك، والله ما عملت حاجة.
تركها بعنف حيث دفعها لتهبط على الأريكة من خلفها، ثم دنا منها هاتفا بصوته الجهوري:
- فهميني!؟
أومأت رأسها بإيجاب، ثم ازدردت ريقها قبل أن تخبره بحذر:
- والله العظيم هو اللي جه، وإنت عارف إنه بيحوم حواليا وأنا بصده، وبيقعد يرخم عليا وإمبارح جه عمل كده بس أنا طردته، والله هو ده كل اللي حصل يا مروان.
مروان بعدم اقتناع:
- مش مصدقك، ما إنتِ اللي زيك لحمه رخيص وعندك إستعداد تعملي أي حاجة في سبيل مصلحتك.
آلمتها جملته، فجعلت قلبها وكأنه ينزف، حينها هتفت بانكسار:
- أنا مش رخيصة أوي كده لدرجة إني أكون بحبك وفي نفس الوقت بخونك.
قهقه مروان ساخرًا، ثم توقف عن ضحكاته قائلًا باستهزاء:
الله أكبر يا طاهرة، لا يا بت ضحكتيني، ده على أساس إنك بتتقي الله؟!.. جرى إيه إوعي تنسي نفسك ده إنتِ عَرض للجميع واللي ما يشتري يتفرج..!!!!
نهضت عن الأريكة فجأة وهي تمسح دموعها بقوة هاتفة:
- وأما أنا كده مهتم بيا ليه!؟ وجاي تحاسبني ليه؟؟؟
أردف بتهكم:
- عشان مزاجي كده، وعشان ماتخلقش اللي يتحدى مروان الشناوي، وشاهر إن كان فاكر نفسه....
قاطعته بصياح:
- يعني أنا رهان بينكم؟؟؟ إنت بتراهن عليا مع شاهر، إنت معلقني بيك وخلتني أحبك عشان خاطر تفرج شاهر إني متعلقة بيك إنت؟؟؟؟
ظهرت على ثغره ابتسامة شيطانية وهو يقترب منها، ثم غمز لها بوقاحة:
- لا ما إنتِ عجباني يا سوزي، بس الحب ده مش سكتي أساسا.
دفعته بكلتا يديها في صدره وهي تهتف به بشراسة:
- ابعد عني، ابعد وروح لحالك بعيد عني واوعى اشوف وشك هنا تاني!!!
عاد يغرز أصابعه بين خصلاتها جاذبا إياها بطريقة موجعة، ثم أخبرها بنبرة أشبه بالفحيح:
- مش بمزاجك، قلت لك مزاجي كده، أسيبك بمزاجي أنا وأرجع برضوه بمزاجي أنا، وخلي في علمك إن لا شاهر ولا أي حد هيقدر يقف قصادي وإنتِ إن لعبتي بديلك أظن عارفة أنا ممكن أعمل فيكِ إيه!!
وما إن أنهى كلامه دفعها بقوة فسقطت على الأرض من خلفها، فأرسل لها قبلة في الهواء غامزًا باستفزاز قبل أن يفتح الباب ويخرج تاركا إياها تبكي قهرًا.
ً.......................................
مرت الساعات إلى أن برزت الشمس في صفحة السماء وانتشر دِفئها تُعلن عن بدء يومٍ جديد.
وقفت مرح تنتقي له ملابسه من الخزانة حيث يعتمد هو يوميًا على ذوقها في اختيار ملابسه، تفاجأت به يحتضنها من الخلف وصوته الهادئ وصل إلى مسامعها:
- صباح الخير يا حبيبتي.
ابتسمت سريعا وهي تلتفت له قائلة بخفوت:
- صباح النور، يلا حضرتلك هدومك يا دوبك تلبس وتفطر.
طبع قبلته الصباحية فوق جبهتها، ليبتسم بحب مرددًا:
- مالك، إنتِ لسه زعلانه مني؟!
حركت رأسها نافية وهي تجيب:
- لا مش زعلانة، إنت عارف إني للأسف مابعرفش أزعل منك.
ضحك باستمتاع وهو يقرص وجنتها بخفة قائلًا: للأسف؟!.. يعني إنتِ زعلانة عشان مابتعرفيش تزعلي مني؟؟
أومأت برأسها مؤكدة وأخبرته متذمرة:
- طبعا، عشان لو كنت بزعل كنت عملت حساب لزعلي.
رمقها بنظرة معاتبة قبل أن يعقد ما بين حاجبيه قائلًا بضيق:
- أنا مابعملش حساب لزعلك يا مرح؟!، أومال بعمل حساب مين، هو في حد في الدنيا دي أصلا بيهمني غيرك، ده إنتِ النفس اللي بتنفسه يا مرح، عيب تقولي كده وإنتِ عارفة غلاوتك عندي!
عاتبت نفسها بعد أن سمعت كلامه ذاك الذي لا ريب فيه، هي تعلم مدى حبه وصدقه وعشقه لها حتى وإن كان العشق على طريقته هو، فيكفيها أنه الحبيب والقريب وكل ما تمتلك من الدنيا، هو من حماها ووقف قبالة الجميع في سبيلها..
ولذلك قالت وهي تحتضن كف يده بين راحتي يديها بحنانها المعهود:
- آسفة، ماتخدش على كلامي أنا بقول أي كلام، إنت عارف إنك أغلى الغاليين عندي فك التكشيرة دي بقى عشان بخاف يا فخر.
بالفعل ارتخت ملامحه وجذبها إلى أحضانه رابتا على ظهرها، لكنه قال بتحذير:
- إياكِ تخافي طول ما أنا موجود، وأوعي تخافي مني مهما عملت ومهما إتعصبت، ده إنتِ حبيبتي يا مرح.
اِفتر ثغرها عن ابتسامة وردية وهي تقول بارتياح:
_ حاضر مش هخاف، ربنا يديمك نعمة في حياتي..
...........................
وقفت تهندم ملابسها الوقورة أمام المرآة وتتأمل ملامح وجهها الهادئة فبرغم أنها تخطت الخمسون عامًا من عمرها إلا أنها مازالت تحتفظ برونقها ووقار مظهرها الجذاب، وبرغم حجم المعاناة بداخلها، تحاول الإعتناء بذاتها قدر الإمكان...
خرجت من غرفتها لتتفاجأ بزين وزوجته يخرجان من غرفتهما سويا، فابتسمت قبل أن تقول بعتاب:
- ليه خارجين من أوضتكم يا زين!؟
زين وقد بادلها الابتسامة:
- قلنا نفطر معاكم يا ماما.
تابعت أحلام بجدية:
- وليه يابني ما أنا كنت هبعتلكم فطار مخصوص ده إنتوا عرسان!