الفصل الثالث الطنطل

تلفت الأمير "بينيغوس" حوله وعندما تأكد من عدم وجود أحد قال بنفس النغمة الخافتة:
-  انتشرت في القلعة أخبار سيئة.
تساءل الأمير "عاموس":
-  ما هي؟
أجابه الأمير "بينيغوس" قائلًا:
-  لقد قدّم والدنا أخانا الأكبر الأمير "أوركان" قربانًا لآلهة الأوليمب.
شهق الأمير "عاموس" قائلًا:
-  وماذا يعني هذا؟
قال الأمير "بينيغوس":
-  علينا أن نهرب قبل أن يأخذنا أبانا ويقدمنا مثله كقربانين لهم.
انتفض الأمير "عاموس" مسرعًا وساعده الأمير "بينيغوس" على ارتداء ملابسه، وقبل أن يخرجا من الباب توقف الأمير "عاموس" متسائلًا:
-  انتظر! إلى أين سنهرب؟
قال الأمير "بينيغوس" بجدية:
-  لا يهم إلى أين سنهرب، المهم أن نخرج من القلعة.
قال الأمير "عاموس":
-  هيا بنا.
خرج الأمير "بينيغوس" وخلفه الأمير "عاموس".
أخذا بسرعة يخوضان الأروقة، الرواق تلو الآخر، يهبطان الدرج تلو الدرج، حتى نجحا في الخروج من القلعة، وانطلقا يهرعان نحو الغابات التي تحتل الأفق أمامهما، يهتديان بضوء القمر.

* * *

ذهب الأمير "أوركان" رفقة "زيوس" إلى هضبة الأوليمب، استقبلته "أفروديت" بابتسامة صافية ومدت إليه يديها فأمسك بهما وقبلهما، ثم تركته وذهبت وجاءت وفي إحدى يديها جرة والأخرى كأسًا، أعطته إليه، وصبّت من جرتها في الكأس ليمتلئ بنبيذ الأوليمب المعتق، ابتسم "زيوس" ونظر إلى الأمير وقال:
-  اشرب أيها الأمير، فشربة واحدة من جرة الربة "أفروديت" لن تظمأ بعدها أبدًا.
أومأ الأمير "أوركان" مستجيبًا وتجرع الكأس، وبدا عليه أنه استعذب طعم الشراب، ابتسم سيد الأوليمب وزوجته إلى الأمير الهادئ، ترك "زيوس" يد زوجته وسار نحو الأمير، وقال:
-  بعد أن تعود بالثالوث، أعدكَ بأن أزوَجك إحدى ابنتي، وأنفذ لكَ ما تشاء.
أحنى الأمير "أوركان" رأسه في تأدب وقال:
-  أمركَ سيد الأوليمب.
اقتربت "أفروديت" من زوجها "زيوس" وأمسكت يده بتحنان وقالت وهي تنظر نحو الأمير:
-  اسمح لي أن أقترح اقتراحًا يا سيد الأوليمب.
ابتسم "زيوس" قائلًا:
-  تفضلي يا ربة الحب والجمال.
ابتسمت "أفروديت" وقالت:
-  قبول الأمير "أوركان" الجسور بهذه المهمة الصعبة ليس بالأمر الهيّم أبدًا، لذا أقترح أن نزوجه بربة الحُسن "يوفروسيني" إلهة البهجة والسرور، فهي أصغر إلهات الحُسن سِنًّا، وأكثرهن دلالًا، ولسوف تجعل حياة الأمير غامرة بالبهجة والسعادة، وتملأ بيته بالبنين والبنات.
اتسعت ابتسامة "زيوس" وقال:
-  أحسنتِ القول يا ربة الحب والجمال.
ثم وجه "زيوس" نظره نحو الأمير وقال مبتسمًا:
-  يا لحظكَ السعيد أيها الأمير، إنّها أحب بناتي إلى قلبي.
أحنى الأمير "أوركان" رأسه وقال:
- ليكن ما يأمر به سيد الأوليمب وقرينته.
اقترب "زيوس" من الأمير وقال بنبرة هادئة:
-  أعلم ما يجول بخاطركَ.
قطب الأمير "أوركان" وهو ينظر إلى "زيوس" وقال:
-  ماذا يقصد سيد الأوليمب؟
قال "زيوس" مبتسمًا:
-  أنتَ تفتقد لقاء "نرغال"، أليس كذلك؟
قال الأمير "أوركان" متأثرًا:
-  أجل يا سيد الأوليمب.
قال "زيوس" مطيبًا:
-  ستلتقي بـ "نرغال" فور نزولكَ إلى العالم السفلي، ووصولكَ إلى ضفة نهر "أشيرون"، لكن عليكَ أولًا أن تكسر أقفال قفصه بسلاحكَ، وتحرره من أغلاله.
قال الأمير "أوركان" متحمسًا:
-  سأفعل يا سيد الأوليمب.
قال "زيوس":
-  أثق بأنكَ ستفعل، لكنكَ ستجابه الصعاب أولًا، فور هبوطكَ إلى الأرض، وحتى تصل إلى أسفل العالم.
أحنى الأمير "أوركان" رأسه وقال بالحماسة نفسها:
-  ائذن لي يا سيد الأوليمب بالهبوط الآن وأخوض طريقي في الحال.
تنهد "زيوس" وقال:
-  ليس بهذه السرعة أيها الأمير الجسور، أولًا سأحضر "بيغاسوس" (الحصان المجنح) كي يهبط بكَ من هنا إلى الأرض، ثم تبدأ رحلتكَ في الصحراء وتلتقي بأناس ستختار منهم مَن يرافقكَ طريقكَ حتى تصل إلى قلعة "أور" العتيقة وتنزل إلى سردابها الغائر في باطن الأرض، وتعثر على سلاحكَ الذي سيكون أقرب الرفاق إليكَ.
أحضرت "أفروديت" سيفًا مقبضه مرصع بالجواهر واليواقيت التي لا مثيل لها عند البشر، نصله غائر في غمدٍ مصنوع من جلد لامع لم يرَ الأمير "أوركان" مثيله من قبل قط، مدت يديها به إليه، فنظر الأمير نحو "زيوس" الذي نظر إليه مبتسمًا وقال:
-  خذه أيها الأمير، إنّه لكَ الآن، سيف نادر لا مثيل له على الأرض، صنعته الآلهة بنفسها من معدن الأوليمب المثقول.
أحنى الأمير "أوركان" رأسه وهو يأخذ السيف من يدي "أفروديت"، أمسك بيده مقبض السيف بقوّة، قبل أن يستله من غمده ليلمع النصل ويبرق أمام عينيه ويتطاير منه الشرر، فغر فاه الأمير من الدهشة وبدا معجبًا بالسيف إلى أبعد حد، ربط حزام الغمد في حزام وسطه وأحنى رأسه مرة أخرى احترامًا شاكرًا سيد الأوليمب وقرينته على الهدية الثمينة.

رفرف نسر "زيوس" الواقف على صخرة عظيمة من صخور هضبة الأوليمب بجناحيه ضاربًا الهواء وأطلق صفيرًا طويلًا، بعد قليل تعالى الحفيف القادم من السماء يضرب الهواء بقوّة مصحوبًا بصهيل متواصل وقرب الحافة هبط الحصان المجنح "بيغاسوس"، ناصع البياض، مقتربًا عدة خطوات منهم، يسير برشاقة ورأسه يتمايل بثقة متوج بخصلات ناصعة ناعمة تتطاير منسابة مداعبة الهواء، أحنى رأسه تحية لسيد الأوليمب "زيوس" الذي ابتسم واقترب من حيوانه الطائر ومسح براحته على رأسه وبين عينيه برفق كما تعود، تركه ليعتدل واقفًا يتأمّل رفيقه الجديد، الأمير "أوركان" الكلداني الذي علم من مسحات يد "زيوس" أنه سيوصله إلى المناطق الحدودية الفاصلة بين بلاد "أيونيا" أسفل هضبة الأوليمب، وبين بلاده ومسقط رأسه بلاد كلدان، لكن عليه أولًا أن يتخطى حزام الغابات الحدودية التي تفصلهما عن بعضهما عند سفح جبل "بارنيس"، كي يبدأ الرحلة المستحيلة.
امتطى الأمير "أوركان" ظهر الحصان المجنح "بيغاسوس"، أمسك بخصلاته التي تقوم بدور اللجام متشبثًا كي لا يسقط، ضرب الحصان الهواء بجناحيه وطار به من فوق هضبة الأوليمب، تفرقت السحب عن بعضها البعض احترامًا للكائن النبيل، الذي لا يمتطيه إلّا الفرسان الأشاوس الذي يرضى عنهم سيد الأوليمب فحسب.
هبط به إلى الأرض بعد رحلة ممتعة لم يقم أبدًا بمثيلها في حياته من قبل، لوّح بيده مودعًا أول رفاق رحلته، وقف "بيغاسوس" على قائمتيه الخلفيتين ولوّح بالأماميتين في الهواء عدة مرات وقفز يرفرف بجناحيه مبتعدًا عائدًا إلى الهضبة العتيقة لينال قسطًا من الراحة استعدادًا للمهمة التالية التي سيكلفه بها سيد الأوليمب.
انطلق الأمير "أوركان" مقتربًا من حزام الغابات الكثيفة التي تحتل الأفق أمامه، ما إن يتخطاها حتى يبدأ خوض الصحراء التي تعتبر أول حدود بلاده، بلاد الكلدان، ومن هناك تبدأ رحلته الحقيقية، وعليه أن يلتقي بالعديد من الكائنات حتى يختار منهم رفاق رحلته كما أخبره "زيوس"، لكن عليه الاختيار بعناية.
مضت الليلة الأولى والأمير "أوركان" يسير بثبات في طريقه داخل الغابات، لم يشعر في الغابات بالجوع أو العطش، يقطف الثمار الطازجة من الأشجار ويتناولها، ويشرب الماء العذب من الينابيع المنتشرة في كل الأرجاء، وكأن آلهة الأوليمب قد سخرت تلك الغابات لرفقته في رحلته واختباره الصعب.

* * *

في قلعة "كينان"، انتشرت أخبار اختفاء الأميرين الصغيرين "بينيغوس" و"عاموس" من القلعة تمامًا، حتى وصلت الأخبار إلى أسماع الملك "أكرمان" الحزين الغائب في خلوته، فقطع خلوته وانطلق مع أعوانه وجنوده، خارجين من القلعة للبحث عنهما، وفور خروجهم وجدوا الكثير من الشعب الكلداني، يحملون المشاعل، متبرعين للبحث معهم، ينتظرون أمر الملك أن يأذن لهم بمعاونته، فوافق الملك وانطلقوا معهم، وأمامهم الغابات الممتدة إلى ما لا نهاية، دوّت النداءات بين الأشجار باسميهما "بينيغوس"، "عاموس"، لكن ما من أثر لهما، وبدا الملك في حيرة من أمره، يغمره الحزن على ما آل إليه حاله وحال أولاده، لا يعلم ماذا يفعل، يتساءل في نفسه أهي لعنة الآلهة الكلدانية لأنه رضخ لأمر آلهة الأوليمب؟ أو قد تكون هذه هي نهايته المحتومة وينتهي نسله باختفاء صغيريه، وقبلهما تركه لابنه البكر في معيّة "زيوس" سيد الأوليمب الذي أوكله بمهمة مستحيلة لن يعود منها حيًّا إذا بدأ طريقه إليها.
ظل البحث مستمرًا طيلة ثلاثة أيام دون أن يجدوا لهما أثرًا، وفي كل يوم يفقد الملك الأمل في العثور على صغيريه، ورغم بدنه المتعب وروحه الحائرة لم يأمر بالعودة إلى القلعة، ولن يأمر بذلك قبل أن يجدهما إما على قيد الحياة، أو أن يعود بجثتيهما على الأقل، بينما لم يمل الباحثون من البحث عنهما بكل ما أوتوا من القوة والصبر.

* * *

وفي قلب إحدى المغارات الغائرة في باطن الأرض بين أشجار الغابات؛ اختبأ الأميران، "بينيغوس" و"عاموس"، فإذ بأحد الشياطين الخوارق يتصوّر في هيئة كهل نحيف يدخل المغارة يُسعل ليفزع على سعاله "عاموس" وينهض من نومه يتابع القادم، بينما "بينيغوس" لا يزال نائمًا نومًا عميقًا بسبب التعب الشديد، فقد سارا طيلة الليل حتى وصلا إلى تلك المغارة البعيدة، استقبل "عاموس" الكهل بجبين مقطب، ونغمة حادة:
-  من أنتَ؟
ابتسم الكهل وقال:
-  أنا صياد فقير بلغتُ من الكِبر عِتيًا، أعيش في هذه الغابات منذ سنوات.
قال "عاموس" بنفس النبرة الحادة:
-  ماذا تريد منا.
قال الكهل:
-  هذه مغارتي، وأنتما ضيفاي، لتستريحا كيفما شئتما، وبعد ذلك أساعدكما على الخروج من الغابات.
ظل الأمير "عاموس" يقبض بيده على مقبض خنجره وهو يحدق في الكهل الذي سأل:
-  كم عمركَ أيها الصغير؟
ازداد تقطيب "عاموس" وهو يُخرج نصف الخنجر من غمده وقال:
-  أحد عشر.
ابتسم الكهل قائلًا:
-  يبدو لي أنكَ أكبر من ذلك بكثير.
قال "عاموس" بغضب:
-  ماذا تريد يا هذا؟
قال الكهل ببكائية:
-  أنا لا أريد لكَ إلّا الصالح.
قال "عاموس" بفضول:
-  ماذا تقصد؟
قال الكهل:
-  إنكَ أحق بالمُلك منه.
قطب الأمير "عاموس" قبل أن ينظر في الجهة التي ينظر الكهل إليها، حيث أخيه "بينيغوس" النائم، ثم عاود النظر إلى الكهل قائلًا:
-  نحن توأمان، لكن أخي "بينيغوس" وُلد قبلي بقليل.
اقترب الكهل من "عاموس" بخطوات ثقيلة عرجاء، وقال بنغمة مبحوحة:
-  أفإن مات أو قُتل.. تكون ولاية العهد حقكَ المشروع، والمُلك بعد وفاة أبيك الملك.
شعر "عاموس" بالغضب يعتريه فصاح في الكهل:
-  أتريدني أن أقتل أخي من أجل العرش؟!
هنا، استيقظ "بينيغوس" من نومه فزعًا بسبب صياح أخيه، الذي وجده يشهر نصل الخنجر في وجه الكهل، الذي ما إن رأى الأمير "بينيغوس" يقترب منهما حتى قال متباكيًا:
-  أهذه أخلاق الأمراء! تشهر خنجركَ في وجه كهل نحيل أعزل؟!
صاح "بينيغوس" في أخيه "عاموس" ينهره:
-  ماذا تفعل يا "عاموس"! لا يصح أن تشهر سلاحكَ في وجه الأكبر سِنًّا.
التفت "عاموس" إلى أخيه غاضبًا وصاح قائلًا:
-  أنتَ لا تعرف ماذا يريدني أن أفعل بكَ..
أثناء ذلك أطاح الكهل بحركة سريعة الخنجر من يد "عاموس" فسقط بعيدًا، وتحولت هيئة الكهل إلى هيئة قبيحة، ليتبين للصغيرين أنه ليس كهلًا وليس بشرًا من الأساس، إنه "الطنطل"، ذلك الشيطان الخبيث الذي يتشكل في هيئة بشرية حتى يوقع بفريسته من بني الإنس، انتاب الرعب الصغيرين وتراجعا إلى أحد أركان المغارة، كادا يموتان من الهلع لولا أن تهادى إلى أسماعهما أصواتًا قادمة من الخارج تنادي باسميهما..
- "بينيغوس".. "عاموس"..
صرخا طالبين النجدة بأعلى صوت فهرع جنود المملكة إلى داخل المغارة وصارعوا الطنطل حتى أسقطوه أرضًا، فتمثل في صورة بشرية، وكبلوه بالأغلال، ودخل الملك "أكرمان" واحتضن صغيريه، وأخذ يهدئ من روعهما، ولم يستطع منع دموع الفرحة من أن تنساب على خديه المتأججين.
خرجوا جميعًا من المغارة عازمين على العودة مرة أخرى إلى القلعة بعد نجاحهم في العثور على الصغيرين، بينما الجنود يجرون خلفهم "الطنطل" المكبل بالأغلال يقهقه بأعلى صوت حتى اهتزت الأشجار من حوله، رغم ذلك لم يهتز الجنود ولم يجد الرعب مكانًا في قلوبهم، وظلوا يجذبوه لمعاودة السير كلما تباطأ في المسير عن قصد، يسيرون بثبات في طريق العودة إلى القلعة.

* * *

استمر الأمير "أوركان" يسير داخل الغابات لثلاثة أيام ولا تنتهي، يتقدم في طريقه بين الأغصان والأوراق والحشائش، شعر بالملل بسبب الوحدة، لكنه لم يشعر بالخوف، شعر بالتعب عند المغيب فتوقف عند إحدى الأشجار الكبيرة، تفحصها جيدًا ليجد جذعها عظيم يستدير مسافة ليست عادية، أخذ يدور مع جذعها ليجد شقًا يكفي لمروره إلى قلبها إذا انحنى، دفعه فضوله للدخول، انحنى ودخلها ليجدها من الداخل كأنها كوخ يتسع لإنسان وفراش وطاولة وبعض الأغراض الأخرى، خرج وجمع الكثير من أوراق الشجر صنع بها فِراشه، وبعضًا منها وسادة، والباقي سيغطي به نفسه إن شعر بالبرد. وضع الأمير جعبته إلى جواره، وخلع حزام السيف والغمد ووضعهما أسفل الأوراق التي صنع منها وسادته، واستلقى على ظهره يتهيأ للنوم، لم يمضِ الكثير من الوقت حتى نام الأمير نومًا عميقًا لم يذق طعمه منذ زمن بعيد.
عند الشقشقة، أيقظته زقزقات الطيور، نهض يستقبل اليوم الجديد، أحكم تثبيت الغمد على حزام وسطه، وارتدى قلنسوته على رأسه، وعلق جعبته على ظهره وثبتها بين كتفه وعنقه، بعدما أخذ منها ثمرة أكلها على مهل قبل أن يشرع في الذهاب، انحنى ليخرج من الشجرة التي استضافته كأفضل ما يكون وشكرها على ذلك وهو يربت على جذعها من الداخل قبل خروجه.
خرج وظل منحنيًا، وما إن حاول رفع رأسه ليعتدل فإذ بعينيه لا ترى إلا أقدام الماعز، وكأن جيشًا جرارًا من الماعز يحاصر شجرته العتيقة، ويعيقه عن رؤية شيء آخر، اعتدل واقفًا وراح يتفحص النصف العلوي، وجده كثيف الشعر كشعر الماعز أيضًا، لكنه لقوام بشري، قاماتهم منتصبة كالبشر، مفتولي العضلات، مع الفارق أنّ آذانهم مدببة قليلًا، ولا تستقر في مكان، وكأنها تتحرك لتهش جرادة، أو أنّ حركتها الطبيعية للأمام والخلف كما يرى الآن، ومن جبهة كل منهم ينبت قرنان قصيران عند البعض، أو طويلان عند البعض الآخر، ومنهم من ينبت من جبهته قرنًا مكسورًا والآخر في مكانه، تدعى كائنات الـ "فونوس"، تقدم أحدهم نحوه مبستمًا، يدعى "بان" -سيد المراعي والأحراش والصيد البري- وهو زعيمهم، وقال:
-  صباح الخير.
رد الأمير "أوركان" بنبرة هادئة:
-  صباح الخير..
بعد أن ابتسم مد "بان" يده ليصافح الأمير "أوركان" الذي مد يده هو الآخر كي لا يخذله، وصافحه.
قال "بان" وابتسامته تتسع شيئًا فشيئًا فبدا للأمير أنّ فمه أيضًا كفم الماعز أو يشبهه إلى هذا الحد:
-  أنا "بان" سيد المراعي والأحراش والصيد البري.
ثم أشار "بان" إلى أحدهم يشبهه جدًا، فجميعهم يشبهون بعضهم إلى حد لا يصدق، فتقدم، وقال:
-  وهذا صديقي "ساتير"، من القوات المصاحبة لي.
مد "ساتير" يده ليصافح الأمير "أوركان" الذي مد يده إليه ببطء وصافحه أيضًا، اتسعت ابتسامة "ساتير" وأطلق ثغاءً يشبه الضحك وبدا فرحًا، قطب الأمير "أوركان" وتساءل:
-  ما الأمر؟
ابتسم "بان" وقال:
-  سنكون أنا وصديقي "ساتير" رفيقين لكَ في رحلتكَ، تنتهي رفقتي بخروجكَ من الغابات التي صار لكَ فيها ثلاثة ليالٍ تدور في نفس المكان.
فغر فاه الأمير وهو يقول:
-  حقًا؟!
أومأ "بان" أن نعم، وقال:
-  لذا بعثني سيد الأوليمب كي أخرجكَ من هنا، ثم أترك معكَ صديقي "ساتير" ليكون رفيقًا لكَ في الطريق حتى تصل سالمًا.
ابتسم الأمير "أوركان" كي يداري شعوره بالخجل من نفسه، وهو لثلاث ليالٍ يعتقد أنّ الغابات كبيرة لدرجة ألا نهاية لها، صرف "بان" قواته، وأشار بيده إلى الأمير أن يتقدم قائلًا:
-  تفضل أيها الأمير.
فابتسم الأمير "أوركان" قائلًا:
-  من بعدكَ يا صديقي.
ابتسم "بان" وتقدم وإلى جواره "ساتير" وخلفهما الأمير "أوركان" ينظر إلى الأرض ويهز رأسه مبتسمًا مقاومًا شعوره بالخجل والذي سيطر عليه تمامًا، وحاول جاهدًا ألّا يقهقه، وإلّا اعتقد الكائنين العجيبين أنه فقد عقله بسبب تيهه في تلك الغابات.
تبدد شعور الأمير "أوركان" بالخجل، ورفع رأسه ونظر أمامه فإذ به يصدم بظهري صديقيه الرفيقين، لديهما أيضًا ذيلان كالماعز، هز رأسه مبتسمًا نصف ابتسامة، وراح يتحدث إلى نفسه قائلًا: "ولم لا يكون لكل منهما ذيل كالماعز، الفارق بينهما وبين الماعز أنّ قامتهما منتصبة مفتولة العضلات ويتحدثان كالبشر، لو رأيتُ أحدهما نائمًا لن يخطر ببالي إلّا أنه ماعز، ولا شيء غير ذلك، لكنني لن أُفاجأ إلّا إذا تحدث إليّ".
توقف "بان" و"ساتير" فجأة عندما استمعا إلى وقع حوافر تقترب بسرعة، توقف الأمير "أوركان" أيضًا على مقربة منهما، ظهر ثلاثة من أقرانهم من كائنات الـ "فونوس" قادمين من الجهة المقصود الوصول إليها، بعد وصلة تجمع بين الثغاء واللهاث، تحدث أحدهم قائلًا:
-  لا يخرج أحدٌ منكم من الغابات.. إنّ الوضع في الخارج خطير جدًا.
قطب "بان" متسائلًا:
-  ماذا هناك؟
ابتلع الثاني رضابه وقال:
-  قبل خروجنا لتفقد الطريق استقبلتنا ريح ساخنة كاللهيب، وفقدنا ثلاثة من أقراننا كانوا في الطليعة.
أكمل الثالث قائلًا:
-  وعندما نظرتُ إلى السماء وجدتُ الـ "بازوزو" يحلق متفاخرًا بفعله.
كان وقع الكلمة على مسامع الأمير "أوركان" كالصواعق التي تصاحب سيد الأوليمب عند الغضب.

* * *
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي