3 انقلاب عسكري

«بداخل البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
بعد لحظات.

هرول ثور نحو الملڪ رئيف بالتزامن مع سعي رجاله لتأمين ظهره وتغطيته هذا النزال الشريف كما طلبه ثور، وكما أمر الملڪ رئيف، وما إن وصل ثور لزاوية تُمكنه من القفز للوصول للملڪ رئيف حتىٰ قام الملڪ بإنعاش جبلٍ من تحت الأرض بحركة من إحدىٰ يديه.

تحرڪ الجبل بسرعة وكأنه سلاح يستخدمه الملڪ ضد ثور، ضربه الجبل الذي أخرجه الملڪ رئيف من تحت الأرض فسقط بزاوية أخرىٰ بعيدة تمامًا عن رئيف، هنا قام رئيف بالاعتدال قائلًا:

- كنت أحسبڪ أكثر قوة من هذا، أنا لم أُحرڪ أحد سلاحيَّ بعد!

تمالڪ ثور نفسه فتوقف علىٰ قدميه مُقشرًا عن أنيابه -حرفيًّا- قبل أن يُزمجر من مكانه، فهرول للمرة الثانية متوجهًا صوب الملڪ، ليتفاجئ بالأرض تتشقق من تحته، وكان هذا بعد أن ضرب الملڪ رئيف الأرض بإحدىٰ قدميه، ولولا أن كانت خطوات ثور حريصة لكان قد سقط بين شقات الأرض.

إلىٰ أن وصل لمسافة قريبة آمنة تُمكنة من مواجهة الملڪ رئيف، فرفع سلاحه موجهًا إياه نحوه بكلتا يديه، فما كان من الملڪ رئيف سوىٰ أن التفت فترڪ الأمر لدرعه الذي يرتديه علىٰ ظهره لصد هذا السلاح القوي.

كانت الضربة كفيلة بإحداث صوتٍ رهيب سمعه كُل مَن كان علىٰ قرب مسافة خمسون مترًا منهما، وبعد أن صد الدرع الضربة التفت الملڪ رئيف لـثور بسيفه أولًا، الضربة الأولىٰ ثم الثانية ثم الثالثة، ولٰكن ثور كان بارعًا في الصد أو التفادي.

وبمكانٍ آخر، علىٰ نفس ساحة المعركة، نرىٰ آشير الذي بدأ يشعر بالدوار لما أصابه من النشال الطيار، والذي كان قد التقطه عن الأرض فأخذ يلف به لما يُقارب الخمسة عشر دقيقة.

هنا قرر آشير التفكير خارج الصندوق، فأخذ يُراقب الأبراج العالية التي يمر النشال بالقرب منها، إلىٰ أن وصل للقرب من أحدهم، فقام بالإمساڪ بأحد أعلامه، فأوقف نفسه هوَ والنشال بقوة جعلته يتركه مُستجيبًا لقوة المقاومة التي أودته بعيدًا عن آشير.

أمّا آشير، فبالكاد تمالڪ جسده قبل أن يُحاول التوقف فوق البرج، فالتفت عدة مرات حول نفسه باحثًا عن المكان الذي سقط به النشال:

- عمومًا، شُكرًا علىٰ الرحلة، أينما كُنت!

ثم التفت نحو حيث كان الملڪ رئيف، فوجد القتال علىٰ أشُدّه..

لكمتين من الملڪ علىٰ الوجه، وضربه بركبته في البطن، تليها ركلة خلفية من الأعلىٰ إلىٰ الأسفل قامت بإحداث أثرًا في الأرض من اصطدام ثور بها؛ وكأن الملڪ يقول لـثور: «فلتنتبه، فقد أُنعش الملڪ رئيف!».

كان ثور يُزمجر ويغضب ويُطلق أصواتًا من غيظه بالنزال أكثر من تسديده الضربات الصحيحة نحو الملڪ رئيف، وكأن هذا الشيء الوحيد الذي كان ليتمكن أن يفني فيه غضبه أمام فارسًا كالملك رئيف.

لكمة أخرىٰ علىٰ الوجه، تليها لطمة علىٰ الزاوية الأخرىٰ، بعدها ركلة بالركبة في البطن، ومن ثم قام الملڪ بركلة بوجه إحدىٰ قدميه في مُنتصف صدره، فدفعه مسافة الخمسة وعشرون مترًا بعيدًا عنه.

سقط ثور أرضًا أمام جماعته وجنود الملڪ رئيف، مُحاولًا تمالڪ ما بقيَ من كرامته، ولٰكن الأمر كان صعبًا، فاضطر للجوء لقواه أخيرًا..

توقف علىٰ قدميه، وبحركة مُفاجئة استحال جسده نارًا مُدججة تغلي، وقد أطلق صيحة بنفس وقت استحالته لهذا الشكل.

رأىٰ آشير هذا، فأدرڪ أن المعركة محسومة، لن يتمكن الملڪ رئيف من لكمة أو لطمه أو ركلة بعد أن فعل هذا، وحتىٰ أن ثور سيتمكن من استخدام نار جسده في صهر دروع وأسلحة الملڪ.

يجب أن يتدخل مُستشاري الملڪ رئيف!

بالفعل، اقترب أحدهم من الملڪ رئيف، فأشار له الملڪ بالتراجع:

- تراجع، هذا أمر!
- إنه يغش، مولايَ الملڪ!
- هذا ليس شأنڪ!

ثم التفت الملڪ رئيف لـثور قائلًا باستهزاء مُستخدمًا يديه:

-... لقد ارتعب بدني خوفًا يا فتىٰ!
- عاااا..!!

***

«أحد قصور الأمير قاران - مملكة الشمس».
بنفس التوقيت.

تعسكر مجموعة من رجال الجِن الناري مِمَّن لم يصلهم نبأ هدر دم الأمير بالحديقة الأمامية للقصر، وقد اتفقوا جميعًا علىٰ عدم معرفتهم بسبب التعسكر الطارئ، والغريب بالأمر، وما زاد الطين بلّة، أن خرج لهم الأمير قاران ومعه حام، ذٰلڪ الجنّي الطيار، ما الذي يفعله هنا، ولم اجتمع معه الأمير قاران؟

فتح الأمير قاران يديه لكُل همهمة وتمتمة بين الجنود، وكانت إشارة لهم بالصمت، فقال لهم بعدها بعِلو صوته:

-... يا قوم، لكُل مَن لا يعلمني جيدًا، أنا الأمير قاران، ابن الملڪ قامان، ملڪ الشمس، وحاكم مملكة الشمال، والوريث الشرعي للعرش؛ أقول، لقد تعرضتُ لمؤامرة خسيسة من الكائدين لنا ولحُكمنا.

ثم قال:

-... لقد ساعد أحد جواسيس ودُخلاء قصر آل قامان المُعظم في تعكير صفو العلاقات بيني وبين جلالة الملڪ، لقد أُهدر دمي بالمملكة!

التفت كُل جُندي لزميله مذهولًا مِمَّا سمعه، ليتأكد أنه لم يكن الوحيد الذي سمعه، وقد كثرت الأقاويل الجانبية فيما بينهم، قبل أن يصيح بهم قاران كاتمًا كُل لسانٍ نطق:

-... ولٰكن هيهات! نحن الآن مُجتمعون لإثبات أحقيتي بالعرش، لإثبات أنني ومهما كان ما ملكتُ من قوة وسُلطة و مُلڪ، لن انقلب علىٰ والدي.

ثم صاح:

-... سنريهم فقط ما يُمكننا فعله!

وتبعت صيحته تهليلات وتكبيرات من الجنودـ.

***

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
بنفس التوقيت.

كانت المعركة قد اشتعلت فيما بينهما -حرفيًّا-، فقد تمكن ثور من صهر سلاحي الملڪ رئيف، ولولا هذا الدرع الفولاذي لصار أعزل أمام جبروت ما تملكه ثور.

من زاوية أخرىٰ، نرىٰ أن فقار قد تمكن من استخدام الرمال في تعكير طريق النشال الذي هجم عليه، فتمكن بعدها من التعامل معه يدويًّا، وكان هذا كفيلًا بجعله ينتصر.

كان ما يشغله بعد الانتصار مُباشرةً هوَ الملڪ رئيف، فهرول من مكانه الذي كان به بداخل المملكة باحثًا عن الملڪ.

وبزاوية ثالثة، نرىٰ آشير يُراقب تطور الأحداث بهذا النزال، تطورًا رهيبًا للدرجة التي أوحت لـآشير أن العواقب لن تكون حميدة...

-... سيقتله، سيقتل الملڪ!

كان الملڪ رئيف يتحمل لهيب جسد ثور بعد كُل لكمة، وكُل لطمة، وكُل ركلة يُسددها نحوه، كان الأمر مؤلمًا بحق، حتىٰ أن جلد قبضته قد انصهر تمامًا!

ولٰكن الملڪ رئيف لم يكن يُبالي، كان كُل ما يهمه أن ثور لا يتمكن من الوصول حتىٰ إلىٰ وجهه، فكان يُحاول فقط إمساڪ وجهه، فإذا فعل.. لن يتركه حتىٰ يصهره تمامًا؛ والملڪ يعلم نواياه الخبيثة.

كانت إحدىٰ الخطط التي يتبعها الملڪ رئيف للتعامل مع هذا الوحش المُلتهب تكمن في إطفاءه برمال الأرض، ولٰكنه كُلما فعل استشاط جسد ثور مُلتهبًا مرة أخرىٰ، فكان الأمر غير مُجدي.

-... لمَ لا تموت بحق الله!
- أنا لا أتبع الله!

كانت الأولىٰ من الملڪ رئيف، والثانية من خصمه، والتي كانت كفيلة بتشتيته عن التركيز عن المُحاولة، وقد اغتنم ثور تلڪ الفرصة لإمساڪ وجهه، لولا أن أمسڪ الملڪ رئيف كلتا يدي ثور، فأخذ يصرخ لعواقب هذا الأمر.

وقبل حتىٰ أن يُدرڪ أحد الجنود ما يحدث، تدخل فقار، فقام بإمساڪ ثور من رقبته ليُبعده تمامًا عن الملڪ رئيف، سحبه و رفعه ثم ألقاه بعيدًا بعزم قوته، غير مُبالي لآلام لمسه، بالرغم من ضخامة جسد ثور عنه، ولٰكن الأمر كان يتطلب المحاولة، كما أن جسد فقار لم يكن صغيرًا.

وما إن ألقاه بعيدًا حتىٰ صاح للملڪ رئيف:

- فلترحل من هُنا يا مولاي!.. أنا ستولّىٰ أمره.

وبالفعل، نفذ الملڪ رئيف أوامر فقار، فتوجه نحو ما كان يمطتيه ليرحل، فالتفت بعدها فقار ليجد ثور قد اغتنم فُرصة مُراقبته للملڪ أثناء رحيله ليهجم عليه هوَ دون أن يشعر باقترابه.

فأمسڪ وجهه بكلتا يديه المُشتعلتين، حاول فقار أن يُمسڪ يدي ثور ولٰكنه كان كُلما لمسها صرخ من ألم لمسه لها، فما بالڪ بالآلام التي أصابت وجهه، والتشوهات التي تكاد تصهره الآن!

كان آشير يُراقب كُل هذا من بعيد...

-... ليس شأنڪ، رحل الملڪ، إرحل الآن وإلّا أمسكك رجال مملكة الغرب!

كان يُرددها لنفسه بصوتٍ مسموع، بالرغم من تعابير وجهه التي كانت توحي عدم إيمانه بما كان يقوله، وبعد دقائق من المُجادلة الداخلية أعرض آشير ظهره عن هذا كُله.

وبالجهة الأخرىٰ، نرى أن فقار قد استسلم لما أصاب وجهه، والذي بدأ يُزهق طاقته تدريجيًّا، حتىٰ أنزل يديه تمامًا، وقد بدأت قدميه تُقاوم السقوط رويدًا رويدًا.

-... أرقد بسلام يا أيها الجندي الشجاع، ولا تقلق، سأحرص علىٰ أن يُنحت لڪ تمثالًا أمام تلڪ البوابة الملعـ...

كاد يُكمل قوله فاجئته رياحًا قوية ضربته فأطفئت لهيب جسده، التفت لمصدر الرياح فوجده آشير، والذي لم ينفڪ ثانية أخرىٰ قبل أن يُصفق بعزم قوته بكلتا يديه نحو ثور، ليُحدِث هذا رياحًا قوية أصابت طبلة أذن ثور ولهيب جسده، فترڪ فقار مُمسكًا بكلتا أذنيه، متألمًا مِمَّا حدث.

اقترب آشير مُتلكئًا علىٰ قدميه من ثور، وهوَ يُراقب أظافره بهدوء وسلام داخلي، فقال وهوَ يقترب:

-... أتعلم أن عشرة صفعات من جنّي هوائي قد تتسبب لڪ بالصمم؟.. وأن عشرة صفعاتٍ أخرىٰ قد تقتلڪ؟!

رفع ثور رأسه مُراقبًا اقتراب آشير بنظراتٍ في غاية الغِل والكُره، ولٰكنه في النهاية لا يقدر علىٰ التحرڪ.

-... أنا قد أجعلڪ تفقد اتزانڪ الآن، إنها خدعة سحرية بسيطة!

ثم قام بطرقعة أصابعه من أمامه، ومن بعدها قام بطرقعة رقبته بكِلا الاتجاهين، فقال:

-... فلنبدأ.

***

«ميدان الطور العظيم - مملكة الشمس».
بنفس التوقيت.

لم يُكذب الملڪ قامان خبر انقلاب ولده، والأمير الشرعي، والنائب الأكبر للعرش، واقترابه من العاصمة بجيشًا من الجان الغير مؤهلين لحماية عرش الملڪ قامان، فما كان منه سوىٰ أن قام بتجميع أقوىٰ وأفتڪ وأعظم مَن عرفتهم مملكة الشمس من جانٍ ناري، كانوا بقيادته هوَ شخصيًّا.

وقد وصل نبأ هذا الأمر للأمير قاران من حام، قبل بضعة كيلو مترات من الميدان، والذي تم تهجيره استعدادًا ليكون ساحة المعركة.

فأمر الأمير قاران رجاله بالتعسكر بأماكنهم لحين أمرهم بالتحرڪ...

وما كان هذا إلّا وقفًا له ليس لهم، ليُفكر بأمر مُقابلة والده في ساحة المعركة.

ترىٰ ماذا سيفعل؟

***

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
قبل دقائق.

صفعة ثانية وثالثة من آشير كانت كفيلة بإسقاط ثور أرضًا، هنا توقف آشير مكانه مُشيرًا نحوه ليقول:

- إنها فُرصتك لترحل من هُنا.

بالفعل، زحف ثور ليهرب من المكان، دون أن يرد، إن كان يستطيع!

هنا قرر آشير ترك المكان، ففتح جناحيه ليترك تلك المعركة التي لا تخصه، وما إذا حلّق بجناحيه حتى وقعت عينيه على تُرك، المُمطتي تنينًا نفاث، والذي كان بمواجهة بعض جنود البوابة بتأمينًا من بعض زُملاءه.

جحظت عينيه وقد عُقدت عيني تُرك من رؤيته، فالتفت آشير بالجهة الأخرى ليهرب، ولكن التنين لم يتركه، أو بمعنى أصح.. تُرك هوَ من اتبعه.

كانت سُرعته بالمُقارنة بتلك الكائنات الضارية ليست بكافية لهرب، فكان يستغل صِغر حجمه مُقارنةً بالتنين للتوجه لحواري وأزقة ضيقة لا يتمكن التنين من عبورها، فكان يلاحقها من فوقها، حتى أن آشير كان يعبر من خلال نوافذ الأبراج، فكان التنين يُدمر تلك الأبراج تمامًا.

نرى أن جنود الجِن الأرضي كانوا يُحاولون قتل التنين النفاث.. ليس تأمينًا لظهر آشير، بل لأنه كان يتجول فوق سماء المملكة الغربية يمينًا ويسارًا.

ولسوء الحظ، بات التنين يقترب من آشير أكثر فأكثر، فبات صيدة سهلة الاستهداف إذا نفث التنين، فكان كُلما فتح التنين فمه لينفث النار، التفت له آشير ليوجه نحوه صفعه كانت تُشتته وتطفئ النار بفمه، ثم كان يستكمل طيرانه وكأن شيئًا لم يكن.

كان بارع!

***

«قصر الملڪ رئيف - وسط مملكة الغرب».
بعد دقائق.

وصل الملڪ رئيف بإصاباته، ومن حوله جنوده ومُستشاريه وحتىٰ رجال الأطباء الذين حاولوا التعامل مع جروحه بشكلٍ مبدأي كشكلٍ مؤقت لحين انتهاءه من أوامره بخصوص الحرب.

وكان هذا كله قبل أن تراه زوجته الأولىٰ، وأكثرهن إخلاصًا إليه، وأول مَن أحب، فصاحت من رؤية ما رأته عليه:

- آه، مولاي، ماذا أصابڪ؟
- لا شيء، أنا بخير.

حاولت التقاطه بداخل أحضانها للإطمئنان عليه، ولٰكنه أبعدها عنه بنظراته الجادة التي كانت تهتم أكثر بما يحدث علىٰ حدود المملكة، فالتفت لأحد مُستشاريه قائلًا:

- لن نتمكن من الوصول لتنانين الجِن البحري، يجب إطلاق سراح الصمَّام!
- أوامر مولاي!

رددها الأخير قبل أن يتوجه نحو قصرًا جاور قصر الملڪ رئيف مُباشرةً، علىٰ الرغم من أن غراره كان قريبًا إلىٰ قلعة سجن مُحصنة من الداخل والخارج، كما كان لونه قاتمًا، مُقبضًا، علىٰ العكس من ألوان قصر الملڪ رئيف.

فأمر رجال القلعة بتحرير الصمَّام!

***

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
بعد دقائق.

بنفس هذا التوقيت علىٰ حدود المملكة، كانت المعركة لا تزال علىٰ أشدها، وكانت الخسائر تتوالىٰ سجالًا للطرفين، وكانت المطاردة لا تزال قائمة للقبض علىٰ آشير.

فنراه يُحلق هاربًا من تنين تُرڪ، ونرىٰ تُرڪ يصيح مُهللًا به بأكثر الجُمل التوعدية، والتي لم يكن آشير يردها حتىٰ.

-... لن تهرب مني!
- أنا لا أهرب، أنا أحلق؛ أنتَ من تلحق بي.
- نيعاااا..!!

وبينما كانا بجدالهما حيال هذا الأمر سمعا مثلهما كمثل كُل مَن علىٰ أرض أو في سماء نطاق هذا المربع.. صوت دبّاتٍ قوية، مُنتظمة، تقترب من المكان، فالتفتوا جميعًا للمصدر ليتضح أنه الأسطورة التي لطالما تحدث عنها المتشردين ومُعمّرين الجِن الأرضي.

إنه ذٰلڪ العملاق الضخم، والذي قيل أنه آخر بنو جنسه، الأمر الذي حُسم بعد أن قُتلت زوجته، وآخر إناث بني جنسه، من قِبل الملڪ قامان، قبل زمنٍ عتيق؛ وقد حسمت تلڪ الأسطورة تزعم الجِن الناري لكُل الأنسال الأخرىٰ من باقي أصناف الجان.

توقف تُرڪ وتنينه عن اِتباع آشير، كما توقف آشير هوَ الآخر، وقد تأملوا ظهوره بالرغم من بُعده عنه كيلومترات، ولٰكن ضخامته جعلت منه جسدًا واضحًا لكُل مَن يقف علىٰ مكانٍ عالي.

- إنه حقيقي!

قالها تُرڪ، فالتفت له آشير قائلًا بصدق:

-... إن كُنت تريد العودة لحبيبتڪ مرة أخرىٰ، أنصحڪ بالانسحاب، أنتَ وكُل مَن تبعوڪ إلىٰ هنا.
- أتدعونني لخيانة الملڪ جبريل؟!
- أتقصد «حماڪ»؟!.. سيعفو عنڪ فور علمه أن الصمَّام حقيقي.

قال «حماڪ» باستهزاء، الأمر الذي أثار تشتيتًا بتفكير تُرڪ، ولٰكن صاحبنا لم يتركه لحاله، إذ التفت له قائلًا بنبرة آمرة ناهية:

-... لمَ لا تنصت إلي، قُلت إرحل؛ الآن!

بالفعل، سحب تُرڪ تنينه متوجهًا لخارج البوابة، وقد صاح لفرقة قادة التنانين الأخرىٰ لينسحبوا.

-... أتأمرنا بالإنسحاب ونحن علىٰ أبواب الانتصار؟!

كانت من أحد الجنود المُقربين إلىٰ الملڪ جبريل.

-... بل نحن علىٰ أبواب الهزيمة، إنها دبّات الصمَّام، إنه يقترب!

لم يكن هُناڪ وقتًا للتفكير بحكمة، كان الأمر الأكثر حكمة الآن في الانسحاب.

***

«معسكر تخييم جيش الأمير قاران».
بعد ساعتين تقريبًا.

كان الأمر صعبًا بالنسبة لـقاران، للدرجة التي استبصرها حام بملامحه، فاقترب منه حيث كان جالسًا لحاله، أمام تلڪ الشعلة من النار التي أقامها بوسط المعسكر.

- لمَ كُل هذا التفكير؟

قالها حام قبل أن يُجاوره المجلس، فبدت ملامح مُقاطعة التفكير علىٰ وجه قاران، وكأنك قد ألقيته بمكانٍ بعيد للغاية وأعدته فجأة.

-... لا أنفڪ أتذكر أنه والدي يا حام، لقد أُهدر دمي من قِبل والدي!
- أنتَ لم تختار هذا المصير.
- ولا أرضىٰ أنا أُجبر عليه.

ثم قال بضيق:

-... لطالما كان والدي الأول والأخير في اختيار قرارات حياتي، وحتىٰ هذا القرار الذي أنا بصدده الآن، اختاره هوَ لي!

قبض يديه بغيظ، فاشتدت النيران بالشعلة التي أقامها جراء هذا، دون قصدٍ منه، ولمَّٰ رأىٰ حام هذا قال:

- سنترڪ خبرًا بالمعسكر بألّا يُصيب الملڪ أي مكروه.
- هذا أمر مفروغ منه!

قالها بحسم موجهًا نظره إليه، فأومأ الأخير برأسه علامة الإيجاب.

***

«المملكة الجنوبية - مملكة البحر».
صباح اليوم التالي.

وصل تُرڪ ومعه أحد مُستشاري الملڪ جبريل لحضرته، وكانت تمتزج ملامحهم بالأرق والإجهاد، وبالرغم من هذا هُم هُنا.

- حضرة الملڪ جبريل، لدينا أخبارًا سيئة!

كان الملڪ جبريل وقتها يُحضر هجومًا عسكريًّا جديدًا، بخصوص مملكة الغرب، لم يكن يتوقع أن الأخبار القادمة له قد تجعله يُراجع حساباته تمامًا، فأمر مَن كانوا معه بالانسحاب والعودة بوقتٍ آخر.

- أفرغ ما في جُعبتڪ!

قالها للمستشار، فرمق المُستشار تُرڪ مُنتظرًا الرد منه:

-... الصمَّام، إنه حقيقي!

ملامح ثابتة لا تُبدي الإيمان أو النفي، تلڪ التي اعتلت وجه الملڪ جبريل، بعدها دقق بعيناه النظر لعيني تُرڪ مُتسآئلًا:

- أرأيته بعينيڪ؟
- نعم، وإلّا فما كُنت هُنا الآن.

عقد جبريل يديه وراء ظهره مُتحركًا بداخل القاعة، في حين اقترح عليه المُستشار بعض الاقتراحات التي قد تُساعدهم بهذا.

-... قد نستغل ميزة السرعة يا مولاي، لن نُضاهي قوة الصمَّام أبدًا، ولٰكننا حتمًا أسرع منه بقوات التنانين النفاثة لدينا، كما أننا قد نعمل علىٰ التشتيت، وتوجيه الضربة بأكثر من مكان في آنٍ واحد، ولتكون الأغلبية لتنانيننا النفاثة.

أشار نحوه جبريل مُرتضيًا ما قاله.

- أنتَ مُحق، ولٰكنه أمرٌ يحتاج الدراسة أولًا...

تنهد، ثم قال:

- إجمع لي مُستشاريَّ بقاعة الاجتماعات الليلة.
- أمر مولاي.

قالها قبل أن ينحني هوَ وتُرڪ، وبعدها مُباشرةً انسحبا من القاعة.

***

«ساحة المعركة - مملكة الشمس».
آخر لحظات الغروب.

وصلت جنود الأمير قاران إلىٰ حيث كان رجال الملڪ قامان مُتعسكرين، ينتظرون فقط وصوله للمكان، كان الأمر محتومًا، حتىٰ وإن أرسل الأمير قاران مُستشارًا له للتفاوض أو لإعلان مطالبه.. في النهاية العاقبة واحدة؛ ستُقام الحرب لا محالة!

أشار الأمير قاران لجماعته بأن يتوقفوا، ثم أمر حام ومُستشاره الخاص بالتقدم معه ليتوجها نحو الملڪ للمفاوضة، وبالفعل، اقترب ثلاثتهم أكثر من الجيش المقابل، وبعد دقائق حضر مُستشار الملڪ قامان لوحده.

-... أتستهزئ بنا، أين الملڪ؟

قالها مُستشار الأمير قاران، فردَّ مُستشار الملڪ:

- نحن لن نتفاوض، أنتم خونة، مُعتدون، ونحن لا نتفاوض مع المعتدون!

كاد المُستشار يرد، ولٰكن الأمير أكتمه بإشارة واحدة من يده، فقال:

-... أخبر والدي أنني أود مُخاطبته.
- أرسلني مولاي برسالة واحدة، ولن أعود بأخرىٰ.

شعر الأمير قاران بأنها القشة التي بينه هوَ و والده، وقد قطمها والده تمامًا، فصمت، لم يكن يعلم أن ما سيعرفه سيكون أكثر قسوة، في حين أتىٰ الرد من حام:

- إذًا، فلتنبئنا بما أرسلڪ به.
-... «لا وَلدَڪ ولا زوجتڪ باتوا لڪ، إنها أمانة من الله، وقد أعدتُها إليه!».

صمت الأمير قاران قليلًا ليُحاول استيعاب ما قيل، فرفع سبابته للمُستشار مُشيرًا إليه بالتريث.

- مهلًا، ماذا قُلت؟!.. وَلَدي و زوجتي!

لم يرد المُستشار، فجحظت عيني الأمير قاران:

- وَلَدي الذي تركته مع زوجتي، و زوجتي التي كانت بمأمنٍ في بيت آل زوجها، بالقصر؛ أأصابهما مكروه!؟
- لقد أمر الملڪ بقتلهما صباح اليوم.

ثلاثة أنفاسٍ من الأمير قاران أمام تأمل من حام ومُستشاره، ثم تنهد بهدوء وقد ارتسمت ملامح التسليم علىٰ وجهه، فشعر المُستشار أن الأمر هين.

وبعد أربعة ثوانٍ من سماع الخبر، قام الأمير قاران بإخراج خنجره ودبّه في بطن مُستشار الملڪ، ومن بعدها قام بشق الصدر إلىٰ الأعلىٰ، وحتىٰ وصل إلىٰ الرقبة، فأنزل كُل أمعاءه أرضًا أمامهم، وهوَ لا يزال واقفًا مُشتتًا، مذهولًا.

تأمل مُستشار الملڪ ما أصابه أولًا، ثم ترڪ ثانية أخرىٰ قبل أن يسقط أرضًا مُستسلمًا لملڪ الموت.

رأىٰ الملڪ قامان كُل هذا بعينه المُجردة، فقد كان هذا يبعده هوَ وجنوده حوالي خمسة كيلو مترات..

وبالرغم من موت مُستشاره إلّا أن الأمير كان أكثر منه غيظًا وقتها، تلاقت عينيهما ببعضها البعض، وقد أشار الأمير قاران نحو والده بخنجره مُهدِّدًا إياه، هنا رفع الملڪ قامان يده أمام جنوده.. ثم أقبض علىٰ كفه.

كانت تلڪ هيَ إشارة الإنطلاق!

رأىٰ المُستشار و حام جنود الملڪ قامان تقترب، مُهللة، صائحة، فقال الأول:

- مولاي، يجب أن نرجع لصفوف رجالنا الآن!

لم يرد الأمير قاران.

- مولاي!!

***

«جناح الأميرة لارا - مملكة البحر».
بنفس التوقيت تقريبًا.

كان لا ينفڪ يُقابلها بجناحها سِرًّا، إمّا لمُعاشرتها جنسيًّا أو لاطلاعها علىٰ أحوال المملكة والجيش، ففي النهاية هيَ الوريث الأكبر من أولاد الملڪ جبريل، وإن كان لها أخوة من خيرة رجال الجِن المائي.

كانوا كذٰلك يُحاولون مرارًا وتكرارًا -بالطبع بالتوصية من أمتهاتهن- بالتودد والتقرب إلىٰ الملڪ، وطاعته في كُل ما يرغب، إمّا في أمور الحرب أو أمور السِلم، ففي النهاية لم يكونوا جميعًا بالجيش.

-... كنت أعتقد أن الصمَّام كائنًا أسطوري.

قالتها تلڪ التي كانت تُعد لهما شيئًا ساخنًا ليشرباه، فقال -عاري الصدر-، بينما كان مُستلقيًا علىٰ سريرها الذي قد يُقتل أحد أُمراء الجِن المائي فداء تجربة الاستلقاء عليه، بالطبع بجوار مالكته:

- ليته كان كذٰلك، ولٰكنني رأيته بأم عينيّ.

صبّت ما صبّته بكأسٍ صغير، ثم عادت به لـتُرڪ، فمدّته إليه قبل أن تستلقي بجواره وهيَ تُخاطبه:

-... وماذا سيفعل والدي حيال هذا؟

تناول رشفة، ثم قال:

- سنُشتتهم، وسنستغل سُرعة تنانيننا النفاثة.
- عظيم!

كانت الرشفة الثانية قبل أن يترڪ تُرڪ الكأس من يده، ليتوقف مكانه قائلًا وقد هرع بارتداء ملابسه:

- يجب أن أرحل.
- بتلڪ السرعة؟!
- مولاي يود تجميع خيرة مُستشاريه بحضرته الليلة، سيُعلمهم بالخطوط الرفيعة بخطته.

توقفت لتقترب منه بشوق، فقالت متوددة وهيَ تُساعده في ارتداء ملابسه، وعلىٰ وجهها ابتسامة رقيقة:

- فلتعُد لي بعد الإجتماع.
- سأحاول.

هنا بدأت ملامحها تتحول جِدًّا، وقد قامت بعقد يديها حول رقبته لتُقربه منها أكثر.

- هذا أمر ملكي يا أيها الجندي!
- أمر مولاتي مُطاع!

قالها هوَ أيضًا بابتسامة.

***

«ساحة المعركة - مملكة الشمس».
بنفس التوقيت.

-... مولاي، سمو الأمر قاران!

لا ينفكّا يُحاولان إقناعه بالعودة، وبعد أن شارف جنود الملڪ قامان علىٰ الوصول إليهم، صاح بهما قاران وكأنه قد استفاق أخيرًا:

- أنت.. ستحملني مُحلقًا نحو الملڪ، وأنت.. ستتمسڪ بقدميَّ!

كان قد خاطب حام بالأولىٰ، ومُستشاره بالثانية، وبالرغم من ذهولهما من أوامره، إلّا أن الوقت لم يكن ليسمح لهما بالتعارض أو بالاستغراب.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي