2 هَدر دم

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
مُنتصف ليل اليوم الثالث بالشهر.

أوشڪ أفراد النشالون من الجِن الأرضي علىٰ الانتهاء من هدم أساسات الأسوار الخارجية للمملكة، الأمر الذي كان من ضمن الخطة التي وضعها صاحبنا ثور، فكان هوَ ومَن معه علىٰ أحر من الجمر، مُنتظرين النتائج العمل.

وبينما كانوا علىٰ أُهبة الاستعداد، مُنتظرين فحسب الإشارة المُتفق عليها للإنطلاق علىٰ الحرس الموجودين فوق و وراء البوابة، كان هُناڪ مَن يعمل بالجهة الأخرىٰ، علىٰ سطح أحد الأبراج الموجودة بداخل المملكة.

أُعرفكم بـفقار، أحد أقوىٰ وأنبل وأشجع رجال الجان الأرضي، ليس فقط لكونه مُنضمًا للحرس العسكري لمملكة الغرب، ولٰكن لعودة الفضل له في العديد من الانتصارات العائدة للمملكة، لقوته وسرعته في الهجوم والرد.

انتقل فقار للحرس الملكي المسئول عن تأمين الحدود مُنذ بضعة أيام، وكان السبب وراء هذا في ظنون جلالة الملڪ حيال ما تُدبره مملكة الشرق له ولـآل بيته، فبحسب ما أكده له بعض جواسيس الأرض لديه.

أقول..

أنه إن رأىٰ أو سمع فقار شيئًا، أو أحدث إنجازًا في المجال العسكري، فلا مجال في تدخل الصدفة لهذا، الأمر الذي حدث توًّا، بعد أن لمح بأُم عيناه جيوشًا من النيران تقترب من حدود المملكة!

مع بعض التدقيق، يستنتج صاحبنا فقار أنها كانت مشاعل أولٰئِڪ الجان البحري، المُمطتين حيواناتهم الضارية، تلڪ المهرولة بأرجلها و رؤوسها الضخمة نحو البوابة بكُل ما أوتيت من قوة!

جحظت عيني صاحبنا قبل أن يلتقط مطرقة قرع أجراس حالة الخطر بالمملكة، وقام بعزم قوته بطرق الجرس الموجود علىٰ ذات البرج الواقف عليه هوَ، وما إن فعلها حتىٰ فعل زميلًا آخر بِبُرجًا آخر المثل، دون حتىٰ التأكد من صحة الأمر، ولٰكنه بعد أن طرق المرة الأولىٰ رأىٰ ما رآه فقار.

ليتبع نهجهما زميلًا ثالث، ورابع، بداخل المملكة...

سمع ثور بمكانه ما حدث، فاعتقد في بادئ الأمر أنه هوَ المقصود و زُملاءه، فأشار للحفارين بأن يوقفوا عملية الحفر، ولينسحبوا في الحال!

بعدها مُباشرةً رأىٰ اقتراب قوات مملكة الجِن البحارة من المكان، فأدرڪ ما يحدث، إنها حربًا مُعلنة!

***

«مملكة الشمس - شمال القارة العظيمة».
بنفس هذا التوقيت.

طرق الخادم المُخصص بجناح الملڪ قامان الباب أولًا للاستئذان في دخول ابنه، سمو الأمير قاران، فأُذِن له بالدخول، فدخل، ليجد أن الملڪ لم يكن لوحده، بل وكان معه مُستشاره الخاص، وذٰلڪ الواشي.

مع مُراعاة الفرق في مساحة اقتراب كُلًّا منهما للملڪ قامان، وكان العامل المُشترڪ فيهم أجمعين، غير أنهم كانوا يتأملونه بنظراتٍ مُطالعة، وكأنهم يرون خلقًا جديد!.. في الصمت الجماعي الذي كان حاللًا علىٰ ألسنتهم.

-... جلال الملڪ!

قالها وهوَ يقترب، فانتظر ثانية وصوله للمسافة المسموحة له، فانحنىٰ بشكلٍ يليق بملڪ مملكة الشمس، و رب شمال القارة العظيمة؛ الملڪ قامان المُعظم!

-... هات ما عندڪ يا قاران.

رمقهما قاران بعينين ثابتتين قبل أن يزفر:

- أُفضل أن يكون علىٰ انفراد، جلالة الملڪ!
- ما مِن غريبٍ هُنا، إنهما مُستشاري الخاص، وخادمي الخاص؛ فلتنطق بما تود النُطق به، أو فلترحل من هُنا.

إنه لأسلوبٍ جديد ذٰلڪ الذي يتعمد الملڪ إحراج به أمير المملكة، و ولده قبل الإمارة، وبالرغم من تعجب قاران من كلام والده، إلّا أنه قرر تجميد هذا بقلبه دون البوح به، فقال:

- لقد نبئني خبرٌ ليس بِسار يا جلالة الملڪ!

رفع يديه عن يدي العرش لأول مرة مُنذ أن وصل قاران، فعقدهن أمام ذقنه العريضة ليستند عليها، فكان فُرصة لنا لنرىٰ الذهب الذي يغطي أغلب أصابع اليدين، ولنرىٰ كذٰلك باقي الذهب الذي يملأ يديه، ويغطي رقبته، ناهيڪ عن هذا التاج الذي كان يعتلي رأسه، مع مُراعاة الحرير الذي يرتديه، و ريش الطيور الضارية التي لا يرتديها إلّا آل قصر الملڪ قامان.

اللهم إلّا قاران، فقد كان يُفضل ارتداء الجلود السوداء، والمعادن، ليكون مُتجهزًا إن حدث هجوم أو حالة طارئة.

أقول..

أن ذٰلڪ الملڪ الذي كاد يستحيل ذهبيَّ اللون من كثرة ما يرتديه من ذهب، قد ظلَّ يتأمل ابنه الوحيد بناظرين جامدين مُجمدين، ينتظر أن يبيح له بما لديه، ليرد قاران:

-... لقد هُدرت دمائنا!

سأل قامان بنبرة تبدو هادئة بالمقارنة مع هذا الخبر العظيم:

-... مِمَّن، ومَن الذين تعنيهم بكلامك؟
- نحن، كُل نسل الجان علىٰ الأرض، هُدرت دمائنا لدىٰ أهل السماء، في خلال شهرٍ واحد بالكثير سيتم تنفيذ العدالة الإلَٰهية فينا!

رمق قامان مُستشاره الخاص بنظرة سريعة، قبل أن يفعل المثل مع خادمة الواشي، ثم تراجع للوراء ليستند علىٰ العرش، فتنهد ليقول:

-... أتحسبني مُغفلًا يا قاران؟!
- مولاي؟!
- أتعتقد أن هذا التخريف الذي تبوح به أمامي الآن سيعفيڪ من تُهمة تحالفڪ السري مع جُندي مملكة الشرق المجهول الذي أدخلته قصر آل قامان سِرًّا..؟!

ازدرد قاران غصة فزعه مِمَّا قيل، فتبدلت ملامح جبينه وحاجبيه العكس، تُرىٰ كيف عرف الملڪ بهذا؟ ولٰكن في شتىٰ الحالات، يجب أن يعترف قاران بمُجمل الأمر، حتىٰ لا يُتهم ظُلمًا.

- مولاي، أنا لن أنكر حقيقة علاقتي بـحام، لقد كانت تجمعنا علاقة صداقة مُنذ عشرات السنين، كان الأمر قبل أن تنشأ حتىٰ مشاكلًا سياسية بيننا وبين باقي الممالڪ، وبالرغم من المشاكل التي كانت بين مملكتينا.. إلّا أن هذا الأمر يتطلب مِنّا التكاتُف والترابط لمواجهة ما هوَ مُقبل.

صاح به قامان:

-.. أنتَ تهذي لتنجو برقبتڪ من الإعدام!

فصمت قاران مذهولًا من هذا الرد، قبل أن يردف الملڪ قامان، وقد تجلىٰ عن عرشه أخيرًا، فتحرڪ بهذا الرداء الطويل الذي يُغطي كتفيه:

-... وإن كان ما تقوله صحيحًا، فإن هذا يعني إزاحة الخلافة عن الأرض! أنه لأمرٌ مفعول يا جلالة الأمير، إذا قُضي حقًّا كما تدَّعي، ونحنُ النسل المُحبب، حتمًا لن يُقضىٰ علينا بأمر ومصير مجهول كهذا.

هنا رفع قاران فكَّهُ عن رقبته لمواجهة والده، بناظرين مُتبدلين تمامًا عن ذي قبل، وملامح مُستاءة مِمَّا تراه، ثم أن يقوم بلف عباءته حول رقبته قائلًا بحسم:

- إذًا، فليكن يا مولاي.

والتفت ليرحل قبل أن تستوقفه نبرة والده:

- أين تعتقد نفسڪ ذاهبًا يا قاران!

توقف مُلتفتًا لوالده بتعجب، مُنتظرًا التوضيح منه:

-... سأعود لقصري!

فكان رد الملڪ قامان:

- لا، لن تذهب لقصرڪ تلڪ الليلة، أعتقد أنڪ ستبيت بمكانٍ آخر.
- ماذا؟!

لم يكد يستكمل تفكيره بما سمعه، حتىٰ قاطعه وصول اثنين من حرس القصر، ليحاوطا كِلا الاتجاهين لـقاران، فرمق كُلًّا منهما بنظرة سريعة ليتأكد من موقفه، بعدها طالع والده بنظرات الظن والتخوين.

-... أستأمرهم بالقبض علىٰ ولدڪ؟!
- لا، سآمرهم بالقبض علىٰ المُتحالف مع الممالڪ الأخرىٰ، وسمو الأمير قاران بن قامان، أمير مملكة الشمس السابق!

صاح به قاران:

-... أتقول لي أن هُناڪ مَن سينوب عنڪ العرش بدلًا مني؟!
- أنسيت يا «وَلدي»، أن لڪ أخًّا غير شقيق؟!.. أم أن بريق العرش قد أضاع بصرڪ!

فانفعل قاران:

-... لقد فقدتَ عقلڪ!
- ماذا تقول؟!

كانت تلڪ الجُملة من قامان بالتزامن مع وضع أحد الحارسين يده أمام صدر قاران، وكان رد فعل الأمير أن أشهر سيفه بثانية، وقام بشق رقبة الحارس بالثانية الأخرىٰ، بعدها وجه سلاحه صوب الآخر مُهددًا إياه بالذبح كزميله.

فتراجع الحارس الناجي رافعًا يديه، مُستسلمًا لأمر الأمير، ثم التفت الحارس للملڪ مُنتظرًا الأوامر منه، في حين قال الأمير دون الالتفات لمواجهة والده:

- يا للعار.. أبٍ يُحاول قتل ولده لمزاعم كاذبة، وللحفاظ علىٰ عرشه اللعين!

وكان يعني الخادم الواشي بكلمَتي: «مزاعم كاذبة»، فقام بإعادة سيفه لمكانه تاركًا الحارس كما هوَ، متوجهًا لخارج مقر العرش دون أن يُعقب بكلمة.

-... لن أرحمڪ يا قاران، وستدفع ثمن خيانتڪ غاليًا!

***

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
بعد حوالي ساعة من الهجوم.

كما نرىٰ، فقد استمرت مقاومة البوابة الشمالية لهجوم الجِن البحارة لساعة كاملة دون أن تُقدر خسائرهم بالدرجة الفادحة، إذ كانت الرمال لصالح جنود مملكة الغرب؛ حرفيًّا، يستخدمونها كما يشاؤوا ويُحركون بها الأعاصير والرمال المُحيطة بالبوابة كما يريدون.

الأمر الذي جعل من أغلب جنود الجِن البحارة كالصيدة السهلة في أيادي جِن مملكة الغرب، والأمر الذي كاد يحسم المعركة لصالح مملكة الغرب.

وبينما كان ثور وجماعته من «النشالون» يراقبون ما يحدث من مكانهم البعيد القريب، ويتابعون أحداث الحملة من دون أن يدركهم أي الطرفين، رأوا بأم أعينهم حيواناتٍ ضارية طائرة تقترب من المكان.

كانت جيوشًا من التنانين النافثة للنيران، رآها ثور و جنوده، ومن بعده مُباشرةً كان فقار، والذي صُعق من مرآها. إن المُهاجمون علىٰ تلڪ المملكة يعلمون جيدًا أن قوىٰ الجِن الأرضي لا تصل لحد السماء، أو لتلڪ التنانين النفاثة للنيران؛ الأمر الذي يجعلهم في موقف صعب.

- المجانيق، حضّروا المجانيق الآن!!

صاح بها فقار لزُملاءه من الجنود، بينما توجه بنفسه نحو الرُماة الذين كانوا يُحاوطون أسوار البوابة من الأعلىٰ، والذين كانوا يستهدفون فرسان الجِن البحري الذين سبقوا مروضين التنانين منهم، ليساعدهم في إنهاء تلڪ المعركة قبل وصول دعم جِن الماء.

أمرٌ صعب، أليس كذٰلك؟

***

«إحدىٰ خمارات الطرق - حدود مملكة الشرق».
بنفس التوقيت تقريبًا.

وصل آشير للخمارة علىٰ قدميه، بعد أن كان قد أهدر طاقته كُلها علىٰ الطيران لخارج حدود مملكة البحر، وها هوَ الآن يستسلم لتعبه، اقترب من الخمارة حتىٰ وصل لبوابتها، فتأكد أن لا وجود لأي حارس تابع لأي مملكة بالداخل.

فدفع الباب ليدخل، وما إن فُتح الباب حتىٰ التفت له أغلب الموجودين بالداخل مُطالعين إياه كمُطالعة الوطني للّاجئ، وكان آشير يتجاهل مُطالعتهم متوجهًا نحو وجهة مُحددة للغاية.. البار.

وصل للمقعد المواجه لساكب الخمر تمامًا، فجلس قائلًا:

-... بكم الليلة؟
- ثلاث عُملات، أمّا إذا كُنتَ هاربًا من حُكمٍ ما؛ فسيكون السعر خمسة.

أخرج آشير من حزامه خمسة عُملات، فقال:

-... فلتُسرع لي بمُفتاح الغرفة، أكاد أسقط من التعب.
- بكل سرور!

التقط ساكب الخمر العملات، وبادر بتنفيذ الأمر، وما هيَ إلّا لحظات قبل أن يقترب من ظهر آشير أحد أضخم الموجودين -إن لم يكن أضخمهم- قاصدًا المتاعب، وقد رآه آشير بانعكاس إحدىٰ المرايا الموجودة أمامه، دون أن يُظهر أنه مُدركه.

وصل الغريب لجوار آشير، فقام بضرب الباب الخشبي بخنجره، فقام بتثبيته أمام عيني آشير، بهدف إرهابه، ويبدو من ملامح آشير أنه لم يرتهب.

فكانت تعتلي وجهه نفس النظرة البلهاء التي اعتاد عليها لسببٍ ما..

-... سمعتُ أنڪَ مطلوب للعدالة.

ردَّ آشير دون التفات:

- وما رأيڪ؟
-... أنتَ آشير، أنا أعلمڪ جيدًا.

لا يرد.

-... وصولڪ إلىٰ هُنا بتلڪ الليلة يعني أنڪ قد ارتكبت جريمة جديدة.
- كنتُ وشيكًا، للأسف!

عقد الغريب حاجبيه، قبل أن يقول لأحد زُملاءه:

- إذهب وأحضر الحرس، يبدو أننا قد وجدنا شيئًا يخصهم.

ثم التفت لالتقاط الخنجر، ولٰكن آشير كان أسرع، فبمُجرد أن مدَّ الضخم يده لالتقاط الخنجر قام آشير بإخراج خنجره الخاص، فقام بدبّه بيد الضخم الممدودة، ليثبتها علىٰ منضدة البار وهيَ علىٰ وشڪ تحرير الأخرىٰ.

تجمدت ملامح الضخم تمامًا علىٰ التحديق بيديه، غير مُصدقًا ما حدث، قبل أن يصرخ بعزم صوته وبكل ما أوتي من صوت.

- يبدو أنني قد أهدرت الخمسة عُملات سُدىٰ!

قالها قبل أن يلتفت لبقية الموجودين، ليقول لهم بنبرة مُستهزءة:

- كُنتم خير كارمين للضيف يا رفاق!

ثم تحرڪ تاركًا المكان.

***

«قصر الملڪ رئيف - مملكة الرمل».
بعد ساعة واحدة.

عُرف عن الملڪ رئيف اسم «الملڪ الأبتر»، إذ أنجب ما يزيد عن السبعة أولاد من الذكور، كُلٌّ منهم كان لزوجة مُختلفة، وماتوا أجمعين، منهم مَن مات مسمومًا دون أن يُعرف الجاني، ومنهم مَن مات وهوَ يُقاتل بساحة المعركة، ومنهم مات بشكلٍ طبيعي.

ولٰكن النهاية كانت واحدة، وهيَ أن يعود الملڪ رئيف دون أولاد مرة أخرىٰ! مِن المُستشارين مَن اقترح أن يلجأ الملڪ للسحر، ومنهم قال أن السبب غضبًا من عِند الله، ولٰكن صاحبنا اعتاد علىٰ عدم اللجوء أو إلقاء الأذن لأحد.

فكان يُعرض عن كُل الاقتراحات التي كانت تأتيه، مُتمسكًا بقاعدته: «سأظل مُمسكًا بالحكم إلىٰ أن يقبض الله روحي، عندها فقط ستعلمون مَن سيحكمكم!»، منهم فسر هذا بأنه يُخفي وليًّا للعهد، ومنهم فسره بأن أحد وارثيه الشرعيون ستقع عليه الخلافة؛ وإن كره.

نراه خارجًا من مملكته، حاملًا سيفه بيد، و رُمحه باليد الأخرىٰ، وقد حمل درعه علىٰ ظهره كعادته ما إذا خرج للاصطياد، ولٰكن اليوم ليس يوم الاصطياد من السنة، ولا تلڪ المُناسبة تسمح له بترڪ القصر للذهاب للاصطياد، فهوَ يخرج مُلبّيًا نداء الواجب، سيقوم بنفسه بالتصدي لهذا العدوان الذي يبعد عن القصر مئات الكليو مترات.

خرج معه صفوة من رجال المُستشارين والحُماة الشخصيين من جِن الأرض، فامتطي كُلًّا منهم حيوانه المُصفح بالدروع، ثم تحركوا مُتبعين بملكهم.

***

«نهر الدُرَّة - بالقرب من حدود مملكة الرمل».
بنفس التوقيت.

وصل آشير أخيرًا لمكانٍ قد يستريح به لبعض الوقت، هُنا يُعسكر المُسافرين والتُجار و رُعاة الأغنام لبعض الوقت، فوجد صاحبنا بالفعل أكثر من مُعسكر حول النهر، فقرر تجنب التعامل مع أيًّا منهم لعدم تكرار ما حدث.

ارتدىٰ قلنسوة الرداء الذي كان يُغطي به جسده، ثم توجه نحو النهر بهدوء ليستغل وليروي عطش الطريق، فوجد ثلاثة من جِن الأقزام يتبادلون أطراف الحديث عن أخبار الممالڪ الأربعة، وبالرغم من كونه شخصًا يرفض الحديث في السياسة.. إلّا أن هذا لم يمنع اختلاسه السمع.

-... سمعت أحد جنود الجان الطيارة يقولون أن الحرب قد أًعلنت علىٰ مملكة الغرب، وأن الأمر لن يمر مرور الكرام.
- ولما هذا يا بن الغلام؟
- وحده الملڪ جبريل وحاشيته المُقربين يعلمون السبب.

كان هذا أهم ما وصل لـآشير من اختلاسه السمع، والذي بدّل ملامحه تمامًا من بعد أن سمعه، لم يدري لحظتها كيف التصرف.

اقترب من الأقزام الثلاثة راسمًا ملامح الفضول علىٰ وجهه، فسأل دون الخوض في تفاصيل السلام والاستئذان:

-... من أين لڪ بتلڪ المعلومة يا هذا؟
- ومَن أنتَ يا ترىٰ؟!

ثم مال علىٰ زميلاه:

- أتعرفانه؟
- لأ.
- لم أره من قبل؟

بدت ملامح الغضب علىٰ وجه آشير، فقال:

-... من فضلڪ، أخبرني أين سمعت تلڪ الأخبار.

عقد القزم يديه أمامه، ثم مدَّ رأسه لـآشير قائلًا باستهزاء:

-... وإلّا؟

وما كاد يُكمل ثانية أخرىٰ علىٰ استهزاءه من آشير حتىٰ رفعه الأخير بيدٍ واحدة عن الأرض من مؤخرة ياقته، أمام زميلاه الذان بادرا بمُحاولات إنقاذ زميلهما، ولٰكن هيهات! فقد باءت كُل مُحاولاتهما بالفشل.

-... أنزلني، أنزلني يا ضخم وإلّا قتلتڪ!
- سأفعل، لن أتركك طول العُمر مُعلقًا، ولٰكن بعد إجابة أسئلتي أولًا.
- لا أعلم، إنه أحد الجنود.
- متىٰ ستنطلق الجنود؟
- لأ أعلم، هل أبدو لڪ مُستشارًا بالقصر البحري؟!

هنا أنزله آشير، فانتظر قليلًا مع نفسه يُفكر بالأمر.

***

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
بنفس التوقيت.

وصلت قوات الفرسان المُمطتية التنانين النفاثة للبوابة، بقيادة تُرڪ، وبدأ الاشتباڪ بينهم وبين قوات الجِن الأرضي يلتحم مِمَّا لم يدع مجالًا لـثور ومَن معه للتدخل، حتىٰ أن النشالون قد حاولوا إقناعه بالرحيل، وأن العملية يجب أن تؤجل ليومٍ آخر.

وكانت «إن الحظ حليفنا اليوم، لن نحظىٰ بفرصة أفضل من تلڪ قط!» هيَ الرد الذي يردده مرارًا وتكرارًا للرد علىٰ زُملاءه المُستائين.

حتىٰ وصلت قوات الدعم من الجهة الأخرىٰ من البوابة بقيادة الملڪ رئيف وأعوانه، وكأنها يد الله تمتد لقوات المملكة الشمالية -من منظورهم-، الأمر الذي دفع بعضهم للتهليل بحماسة:

- الملڪ رئيف معنا، إنّا لمُنتصرون!

الأمر الذي لفت انتباه تُرڪ وقواته للملڪ رئيف، وكان هذا ما غيَّر مجرىٰ المعركة تمامًا، فجعلهم يستهدفونه دون غيره من بقية الجنود، وكأن هذا كان ليصيبه بمكروه، بل علىٰ العكس تمامًا، إذ كان رئيف خير مُقاتل قبل أن يكون ملكًا للمملكة الغربية.

فكان كُلما اقتربت التنانين النفاثة بأمرٍ من مُمطتييها للأرض، لإصابة أو نفث النيران نحو الملڪ، عبث بها وبمجرىٰ طيرانها عبر موجة من الرمال جعل منها عاصفة تصب عليهم وتودي بهم بعيدًا عنه.

وصل أحد الأقزام أو كما يدعونهم أغلب الجان الناري؛ قاطني الأرض، نظرًا لاستخدامهم الأنفاق والآبار كمنازل يعيشون بها، إلىٰ حيث كان ثور ومَن معه من النشالون، حاملًا معه نبئًا سينهي تلڪ المعركة.

- سيدي ثور، إن الملڪ رئيف بنفسه ضمن صفوف الجِن الأرضي!

قالها، فاشتعلت شرارة التخطيط بعيني ثور، قبل أن يسأل:

- أمتأكدٌ من هذا يا نَجد؟
- تمامًا كتأكدي من مُخاطبتڪ.
- عظيم!

وكان كُل ما يحتاجه مسافة قريبة من الملڪ، فاستعان ببعض رجاله من الجِن الطيار للتحليق به من فوق البوابة الشمالية، في حين غفلة من رجال الجِن الأرضي.

بالفعل، تمكن من عبور البوابة بمعاونة اثنين من رجال النشالون من الجِن الطيارة، فرأىٰ بأم عيناه الملڪ البسل العنيد، وهوَ مُلتحمًا في المعركة، فأمر رجاله بإلقاءه أرضًا، وبما أنه قويًّا كفاية لتحمل وقعة من مكانٍ بهذا الارتفاع، لم تكن تلڪ أكبر مشاكله.

وبالفعل، سقط أرضًا، مُستندًا علىٰ ركبتيه، وما إن فعل هذا حتىٰ أخرج من حزامه سلاحه المعروف بإسم «الجبار»، نظرًا لضخامة رأس السلاح، و وجود أكثر من سكين بها، ونهايتها بخُطاف لسحب الضحايا.

واقترب بخطواته المُتسللة، الواثقة، بينما كان الملڪ وأعوانه ملهيون بما يشغلهم عن رؤيته وهوَ يقترب من المكان.

وبمُجرد أن وصل ثور لمسافة خمسة أمتار -مسافة الخطر-، قام برفع سلاحه وقفز من مكانه قفزة عالية حتمًا ستصل للملڪ رئيف.. فالتفت الملڪ نحو هذا الذي ظهر فجأة، دون أن يُدرڪ مَن هوَ.

وقبل اللحظة الأخيرة، ظهر آشير الطائر بجناحيه، مُصطدمًا بـثور بثِقل جسده ليدفعه تمامًا عن وجهته التي كان يصب نحوها، فألقاه بعيدًا عن مكان الملڪ، غير مُدركًا مَن هذا.. أو ما الذي فعله الآن.

هنا هبط آشير أرضًا، مُشيرًا نحو ثور:

- تُحاول قتل ملڪ الغرب، أمجنونٌ أنت؟!

رمقه ثور باستهزاء نظرًا لصغر جسده مُقارنةً به، فقال:

- وإنتَ مَن ستُحاول منعي؟!
- بالطبع لا، هوَ سيفعل.

قالها آشير مُشيرًا نحو أحدهم وراء ثور، فالتفت ثور لِلّكمة القوية التي كانت بانتظاره من يد فقار، والتي لم تكن لتكفي أبدًا للرد علىٰ مُحاولة قتل الملڪ رئيف!.. إذ قام بتسديد لكمة أخرىٰ بكعب سيفه القوي، ومن بعدها ضربة أخرىٰ بوجه درعه الذي كان يُمسكه.

لم يكن هُناڪ وقتًا حتىٰ للتفكير في الضربات التي يُسددها فقار نحو ثور، وبينما كان ثور يتلقىٰ تلڪ الضربات، وبينما كان آشير يُراقبه سعيدًا بما يحدث، هجم اثنين من النشالون الطيارة، واحدًا منهما علىٰ آشير، والآخر علىٰ فقار، فقاما بإلهائهما عن ثور.

الذي تمالڪ نفسه، واستعاد وعيه بعد دقيقة واحدة، فقرر مُعاودة المُحاولة لقتل الملڪ رئيف...

ولسوء الحظ، كان تُرڪ وأعوانه من جنود الجِن البحري المُمطتين التنانين النفاثة، لا يزالون يُحاولون مُقاومة الملڪ رئيف و أعوانه.

***

«المُعسكر الغربي لمملكة الشمس».
بنفس التوقيت.

كان قاران قد وصل للمعسكر مع مُستشاريه مُنذ وقت، وكانوا يقفون بالمُعسكر يُحضرون لأمرٍ ما بالرغم من عدم وجود ما يكفي من الجنود لتأمين ظهورهم من أي ضربة مُفاجئة قد تصيبهم، من داخل المملكة أو من خارجها.

وبينما كانوا يقفون مُنتبهون لهذا التخطيط الذي كان يشرحه لهم قاران، سمعوا صوت خطوات دابة سريعة تقترب من المكان، فهمهم لهم قاران:

- تحضروا، قد يكون هذا جاسوسًا!

نَفَذوا أوامره، فكانوا علىٰ أهبَّة الاستعداد للاشتباڪ مع أيًّا ما كانت هويته ذٰلڪ الذي اقترب من المكان، ولٰكنه كان حام!

- حام، لقد وصلت أخيرًا..!

قالها قاران، فأنزل جنوده أسلحتهم من جراء أنفسهم، في حين ترجل الآخر عن ما كان يمطتيه ثم اقترب من الملڪ بخطواتٍ مُتعبة.

-... بالكاد تمكن من التسلل، كان من الصعب أن أصِل إلىٰ هنا طيرانًا.
- خيرًا ما فعلت، اقترب لنتحدث.

وقف حام بمواجهة الأمير قاران، فقال له الأخير:

- لقد سمعت وأنا في التاسعة من عُمري أن هُناڪ رُسلًا نُزلت من السماء، لينذرونا بيومٍ كهذا، وأن كُلًّا منهم قد نُزل علىٰ قومٍ غير غيره، وأنهم جميعًا قد كُذِبوا وقُتلوا، أسمعت مثل تلڪ الأقاويل قبلًا، أم أنها مُجرد أساطير لا أساس لها؟

صمت حام قليلًا، ثم فتح فمه ليردد، فقاطعه قاران واضعًا إحدىٰ يديه علىٰ فمه:

-... ولٰكن قبل أن ترد، أود منڪ أن تتحرىٰ الصدق فيما ستقول، أو لتصمت!

أومأ حام برأسه علامة الإيجاب.

- اطمئن مولاي، لن يصلڪ مني إلّا كُل صدق.
- إذًا، هات ما لديڪ.
-... لقد نُزل بالفعل رُسل من السماء، ولٰكن ليسوا من الجِن، كانوا ملائكة، والملائكة لا تموت! لذا، فإن الأقاويل التي وصلتڪ ما هيَ إلّا تعظيمًا وتجليل من شأن كُل جنّي وملڪ وأمير وسُلطان نُزل عليه الأمر، وتقليل من شأن رُسل السماء وأهلها..

ثم أكمل:

-... مولاي، إنه لأمرٌ مُشين، يُضاعف ادانتنا، ويُضعف موقفنا.

فشعر قاران بأن الهلاڪ قادمًا لا محالة، وبينما كان غارقًا في تفكيره واستياءه وإحباطه ويأسه، قاطعه حام عن كُل هذا بسؤاله:

-... ولٰكن أخبرني، ماذا ستفعل حيال أمر والدڪ؟

سأله قاران بصدق:

- ماذا عنه؟
- ألا تعلم؟!
- لا.
- لقد أهدر دمڪ بالمملكة!

فجحظت عيني قاران، وفُتح فمه، وتجمدت ملامحه بكُل ما تحمل الكلمة من معانِ لسماعه هذا النبأ.

***

«البوابة الشمالية لمملكة الغرب».
بنفس التوقيت.

بينما كان الملڪ رئيف يتلاعب بالأعاصير التي تُحاوطه هوَ وأعوانه فاجئه وصول ثور للمرة الثانية، والذي فتح صدره وانتصب أمامه وأمام كُل جندي يُدافع عنه، فقال بعِلو صوته، وبضِعف نبرته:

- أنتَ لي، وأنا كفيلٌ بڪ، فهل ستتركم يقتلونني؛ أم ستفعلها أنت؟!

كاد أحد رجال الجِن الرملي أن يتحرڪ من مكانه لتلبية نداء ثور، ولٰكن الملڪ رئيف صاح به:

- توقف!!

فالتفت الجندي مذهولًا للملڪ رئيف، قبل أن يرد عليه بنبرة عظيمة جادة كالنار:

- لقد طلبني!

ثم ضرب سلاحيه ببعضهما البعض مُحدثًا صوتًا قوي، فزمجر قبل أن يُردد لـثور:

-... اقترب، أم أنڪ تهاب شأن الملڪ رئيف؟!

هنا ضرب ثور رأسه بسلاحه، فأصاب رأسه بجرحٍ بالغ لم يؤثر عليه البتة، وكأنه يُحاول رفع حماسته، ثم زمجر صائحًا مهرولًا نحو الملڪ.

- عاااا..!!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي