الفصل الخامس

ابتسمت بخجل ثم أمسك يدها متجهًا بها بإتجاه اللعبة التي أرادت، انتظروا حتى آتى دورهم، نزل الجميع من على كراسيهم ثم صعد الإثنان ليجلسا في كرسيين متجاورين لكن عندما بدأت اللعبة في الدوران نظرت إليه بخوف: خالد، خليهم يوقفوا اللعبة دي أنا غيرت رأيي
ابتسم على خوفها ثم أمسك يدها يطمئنها، نظرت له بعينين يملؤهما العشق، بدأت اللعبة في الدوران وهو مازال ممسكًا يدها بإحكام.
بدأت اللعبى ببطء وهي تبتعد عن الأرض رويدًا رويدًا، ثم بدأت السرعة تزداد والكراسي تبتعد عن بعضها البعض إلا أنه ظل ممسكًا يدها بإحكام حتى نهاية اللعبة.
*****************************************************************************************************************************************
ترجل من السيارة سريعًا عندما لمح سيارتها؛ أخرج من جيبه بضع جنيهات وأعطاهم للسائق الذي طلب منه الأخير أن ينتظره قليلًا، وافق السائق بسعادة عندما أخبره بأنه سيضاعف أجرته، اقترب من سيارتها ثم طرق على نافذة الزجاج بضع طرقات ليلفت إنتباهها، فتحت باب السيارة تترجل منها فور رؤيته، ثم قالت بفرحة: أنتَ جيتّ
أجابها بقلق بالغ: أنتِ كويسة.. حصلك حاجة؟
- أنا بخير بس العربية عطلت بيا هنا، والموبايل فصل شحن بعد ما بعتلك المسدج على طول، أنا كنت خايفة أوي
أجابها دون التفكير: طول ما أنا جنبك متخافيش
اتسعت عينا هدى إندهاشًا ثم سألت: أنت قلت ايه؟
تنحنح ثم قال بعدما استوعب ما قاله: أنا آسف، أنا ماكنتش أقصد..
قاطعته بإشارة من يدها: بس أنا مش آسفة يا يحيى
أجابها متسائلًا: يعني ايه؟
قالت: يعني عيزاك على طول العمر جنبي يا يحيى
تلاقت الأعين.. تمنى أن يتوقف الزمن عند تلك اللحظة لتكون إلى الأبد يريد أن يضمها بين أحضانه، يخبرها أنه منذ أن وقعت عيناه عليها أشرقت معها شمس حياته من جديد، يريد أن يخبرها أنها الوحيدة التي أسرت قلبه وانه لها حتى النهاية، تاركًا كل أفكار الطبقية وراء ظهره اللعنة على كل من يفكر بتلك الطريقة الدنيوية
*************************************************************************************************************************************
قفزت "حورية" من سيارة الأجرة قبل أن تتوقف تمامًا أخرجت بضع جنيهات تعطيهم إلى السائق، ثم توجهت مسرعة إلى مقر عملها.
مشت في الرواق الطويل ثم اتجهت يمينًا ووقفت أمام مكتب رئيس التحرير ، طرقت الباب ثم دخلت إلى المكتب تلمح ذلك الاسم الذي كُتب بعناية على لافة بحروف من ذهب "محمود الحافظ" رئيس تحرير مجلة الخبر.
ألأقت تحية الصباح على الفتاة الجالسة خلف مكتب السكرتيرة ثم اقتربت من بابه وطرقات الباب بخفة ثم انتظرت أن يأذن لها بالدخول، سمعت صوته يأذن لها فدخلت تبتسم ملقية عليه تحية الصباح.
أشار إليها بالجلوس ثم استطرد في الحديث قائلًا: امبارح حصلت مطاردة بين أفراد الشرطة وتجار مخدرات انتهت بالقبض عليهم
لم تتحدث لذلك أكمل: القبض عليهم يرجع بفضل الارائد زين الرفاعي، طبعًا الكل حاول يوصل ليه ويعمل معاه مقابلة شخصية لكنه رافض تمامًا
تسائلت: والمطلوب؟
آتاها الرد سريعًا: تعملي معاه مقابلة ووتكون سبق صحفي لمجلتنا
رفعت حاجبيها ثم قالت بإستنكار: طب ودي هعملها ازاي؟
أجابها بصوت أجش: والله مش أنا اللي حعلمك شغلك يا أستاذة
قالت بغيظ مكتوم: بس حضرتك بتقول أنه رافض يقابل أي صحفي، وواضح من كلام حضرتك أنه صعب الوصول ليه فأنا بقى...
قاطعها بحزم ضاربًا بكف يده على مكتبه: أستاذة حورية أعتقد لما أنتش جيتي تشتغلي في المجلة هنا كنتِ مستميتة عشان تحققي نفسك، ودي قضيتك وفرصة جت لحد عندك المفروض تتمسكِ بيها
ثم أضاق بتحذير: وخلي بالك حياتك المهنية في المجلة متوقفة على المقابلة دي
حاولت الإعتراض لكنه قاطعها بإشارة من يده ثم قال: اتفضلي يا أستاذة وفي نهاية الأسبوع ياريت يكون المقال على مكتبي.
***********************************************************************************************************************************
في غرفة كبيرة كان يجلس على حافة سريره واضعًا حاسوبه المحمول على ساقيه يعمل بجد حتى ينتهي من ذلك العمل سريعًا لكي لا تفوته رحلته، وعدها أنه سيحضر اليوم لذلك عليه الإسراع قليلًا، انتهى من مراجعة الرسومات ثم عاد بظهره للخلف يطقطق رقبته التي عانت معه منذ بداية اليوم، ثم أمسك هاتفه ليجري إتصالًا: ألو
جاء صوت من الجهة الأخرى: مساء الخير مستر يحيى
قال بنبرة عملية: الرسومات كلها إتراجعت وبعتها دلوقتي عن طريق الفاكس
اتصل يحيى بسكرتيرة رب عمله ليؤكد على تسليم تلك الرسومات قبل أن يقلع بطائرته عائدًا إلى أرض الوطن، وطنه الذي لم يخطيه منذ تلك الليلة المشؤومة هاربًا من كل شيء حتى من نفسه واليوم هو على وشك إستقبال تلك الذكريات مرةً أخرى.
نفض تلك الأفكار عن عقله عندما آتاه صوت السكرتيرة تؤكد استلامها الرسومات، متمنية له رحلة سعيدة
أغلق الهاتف وهو يقوم من مكانه على مضض قائلًا بنبرة تشجيع: أنت قدها يا يحيى
"السادة ركاب طيران الإمارات (..) والمتجهة إلى مصر يرجى التوجه إلى البوابة (..) فورًا"
سمع ذلك النداء لكنه لم يقم من مكانه لا يريد الذهاب، لمَ أصروا على إكمال تعليمهم في مسقط رأسهم؟
ألم يكن بوسعهم الحياة معه دون المجئ إلى هنا!
قاطع تفكيره سماع النداء الأخير لرقم رحلته، قام من مكانه وهو على وشك التراجع عن ذلك القرار إلا أنه أوقف نفسه يحفزها: مينفعش تخذلهم يا يحيى لازم تكمل، أنت وعدتهم
أمسك حقيبة سفره بعصبية يحاول إخفاءها ثم تحرك جارًا إياها.
صعد الطائرة واستقر مكانه شاخصًا بنظرة إلى اللاشيء بجانب نافذته ليشرد إلى ذلك اليوم الذي بدء معه كل شيء
تذكرها عندما دلفت إلى مكتبه في اليوم الذي تلى ما حدث لسيارتها وبيدها كوبين أشارت له بإحدهم قائلة: قولت أجبلك نسكافية عشان تقدر تكمل
ابتسم لها شاكرًا ثم مد يه يأخذ أحدهم وهو يضعه على مكتبه، ساد الضمت بينهما لكنها قاطعته: شكرًا
أجهابها بعدم فهم: على ايه؟
أجابته بود حقيقي ظهر على محياها لأول مرة يراها هكذا، لم تكن هكذا منذ البداية، قاطع تفكيره صوتها وهي تجيبه على سؤاله:
إنك جيت ولحقتني
ابتسم وهو يجيبها: مفيش داعي للشكر أي حد مكاني كان هيعمل كده
أجابته بصدق: صدقني مفيش حد في حياتي كان هيعمل كده
اعتدل منتبهًا إليها ثم قال: تقصدي ايه؟
أجابته بحزن: أقصد أن كل اللي في حياتي بياخدوا بس
فهم ما تشعر به لا بل أحس بها يعلم هو ذلك الشعور جيدًا، وأهل والده هم خير دليل على ذلك فبعد وفاته جاءوا إليه طالبين بحقهم في منزل والده يخبرونه أن لهم الحق بذلك ولا بد له أن يعترف بما أخبراه للتو.
ابتسم بمرارة عندما تذكر كل تلك الذكريات لكنه طردها سريعًا ناظرًا إليها، لا يعلم ما الذي عليه قوله ليخفف عنها ما تمر به، مر بضع من الوقت في صمت دون الحديق قاطعه يحيى عندما قال: أنا موجود!
أجابته بخفة ظل: عايز ايه أنت كمان؟
رفع حاجب واحد بطريقة مضحكة، ثم عدل كرسيه: ساندوتشين مع النسكافية ده
انفجرت هدى في الضحك قائلة من بين صوت قهقهاتها العالية: لا ده أنت داخل على طمع بقى
نظر إليها قائلًا بتحذير ساخر: خافي بقى
نظرت له بإمتنان صادق ثم قالت: عمري ما أخاف وأنتَ جنبي
تلاقت أعينهم وساد الصمت لكن كانت النظرات تنطق بالكثير، لم يلتفتا لأي شيء، لا لزملاء العمل أو الدقائق التي تمر لبداية إجتماعها التي كانت تجهز له منذ أسبوع مر
بإبتسامة حانية أجابها: وأنا هفضل على طول جنبك
لم تعلم كم من الدقائق مرت لكنها تداركت نفسها سريعًا صائحة: الإجتماع!
ثم قفزت مكانها لكنه أمسك يدها يربت عليها في محاولة منه لتهدئتها، لُجمت أنفاسها وتسارعت دقات قلبها أثر لمسته لها: متخافيش... هتنجحي
كأنه قرأ أفكارها، كانت على وشك أن تسأله إذا كان يرى لها النجاح أم لا
ابتسمت وهي تقول: عرفت إزاي إني خايفة؟
أجابته سريعًا: مش أنا اللي عرفت، ثم أكمل مشيرًا على مكان قلبه: ده اللي عرف
لم تشعر بنفسها إلا وهي تحتضن يده بيدها قائلة بفرحة كبيرة: ده معناه أنه بيدق عشاني
اقترب منها قاطعًا المسافة التي تفصل بينهم قائلًا كلمة واحدة: بحبك!
************************************************************
أخرج هاتفه الجوال ثم فتحه يخرج صورتها يتأمل ملامحا الرقيقة وعيونها الواسعة ذات الأهداب الكثيفة يتذكر اليوم الذي تقابلا به وسوء الفهم الذ حدث عندما صعد درجات سلم بيته الجديد الذي أستأج به شقة، لتصبح مأواه بعد أن ترك تلك الغرفة الصغيرة بعد أن وجد عمل يليق بشهادته الجامعية، تذكر معاناته بدرا الأيتام عندما علم أنه وحيد في ذلك العالم، بل ولم يكتفى العالم بما يعانيه ليزيد على جرحه عندما خرج للعالم الحقيقي وبدأت تساؤلاتهم التي لا يملك لها أي إجابة، من أين أنت؟ من أنت؟ لكنه أصر على النجاح ومواصلة حياته قبل أن يصطدم بالعالم الخارجي الذي كان يطرح عليه سؤالًا: ابن من أنت؟
حاول كثيرًا الوصول إلى طرف خيط بسيط ليعلم من هو وهل هو ابن شرعي أم..؟
لم يستطع نطقها لا يريد حتى التطرق في التفكير بأنه ابن غير شرعي، بل فضل التفكير على أنه ذات أصل طيب لكن كان للقدر كلمته الأخيرة لتفرقته عن والديه؛ فضل التعايش على تلك الفكرة كانت مريحة بالنسبة له لكنه لم يستطع تكوين الصداقات مفضلًا الإنفصال عن أي شخص من الممكن يسأله أي شيء عن ماضيه، إلا من قدر بسيط تعرف عليهم سواء من خلال دراسته أو أصدقائه القدامى ، أصبح يكتفي بهذا القدر البسيط من الأصدقاء بل مع الوقت كانت تلك الدائرة تضيق بسبب إنغلاقه على نفسه بعد ما مر به طوال حياته.

يتبع
#رحاب_قابيل
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي