الفصل الثالث
الفصل الثامن عشر: العالم بين الحلقات
عندما عبر عادل الفتحة، لم يجد نفسه في عالم يشبه أي شيء عرفه من قبل. لم تكن هناك مدن ولا شوارع، بل فضاء شاسع متداخل الألوان، وكأن الزمن والمكان قد اندمجا في لوحة واحدة تتحرك باستمرار. كان الهواء ثقيلًا لكنه قابل للتنفس، والضوء يأتي من مصادر لا يمكن رؤيتها.
بينما كان يحاول استيعاب هذا العالم الغريب، بدأ يسمع أصواتًا خافتة تتحدث بلغات مختلفة، بعضها مألوف وبعضها بدا وكأنه يأتي من أعماق ذاكرته. شعر فجأة بأنه ليس وحده. كان هناك أشخاص آخرون في هذا الفضاء، يبدون وكأنهم يبحثون عن شيء ما، أو ربما كانوا ضائعين مثله.
اقترب منه شخص يرتدي ملابس لا يمكن تحديد زمنها، وكأنها مزيج من العصور المختلفة. كانت ملامحه غامضة، لكنها مألوفة بشكل غريب. تحدث بصوت هادئ:
"أنت جديد هنا. مرحبًا بك في العالم بين الحلقات."
تردد عادل للحظة، لكنه سأل: "ما هذا المكان؟ هل هو خارج الزمن؟"
رد الشخص بابتسامة صغيرة: "يمكنك القول إنه محطة. هنا يجتمع من حاولوا كسر الحلقات الزمنية في عوالمهم، لكنهم وجدوا أنفسهم في هذه النقطة بدلاً من العودة إلى واقعهم. لكل واحد منا قصة، ولكل منا أمل في الخروج."
بدأت أصوات أخرى تقترب. تجمع حول عادل أشخاص من أعمار وأجناس مختلفة. كانت أعينهم تحمل نفس التعبير الذي رآه في وجه الرجل الغامض: مزيج من الأمل واليأس.
تحدثت امرأة ذات شعر فضي وعينين لامعتين:
"نحن نسمي أنفسنا المتمردين على الزمن. حاولنا، مثلك، كسر الحلقات التي تحاصرنا. البعض منا كان ناجحًا جزئيًا، والبعض الآخر فشل، لكن الجميع انتهى به المطاف هنا."
سأل عادل بقلق: "وما الهدف من هذا المكان؟ هل يمكننا الهروب؟ أم أن هذا مجرد سجن جديد؟"
نظر الرجل الغامض إلى المرأة، ثم أجاب:
"هذا المكان ليس سجنًا، لكنه ليس مخرجًا أيضًا. إنه نقطة توقف. كل من وصل هنا لديه خيار: إما العودة إلى حلقته الزمنية والمواجهة من جديد، أو البقاء هنا والبحث عن الحقيقة الكبرى."
"وما هي الحقيقة الكبرى؟" سأل عادل بحذر.
أجابت المرأة بنبرة مهيبة:
"أن الزمن ليس عدوك، بل مرآتك. لفهم الحلقة وكسرها، عليك أولاً أن تواجه نفسك. كل لحظة، كل قرار، كل ندم، هو جزء من اللغز. إذا استطعت رؤية الصورة الكاملة، قد تجد المفتاح للخروج."
بينما كان عادل يستمع، شعر بشيء عميق يتحرك داخله. لم يكن هذا المكان كما ظنه، مجرد مصيدة أخرى. كان اختبارًا. مكانًا يجمع فيه شتات نفسه ويفهم لماذا كان عالقًا في هذه الحلقة.
"وأنت؟" سأل عادل الرجل الغامض. "هل وجدت الحقيقة؟"
هز الرجل رأسه ببطء وقال:
"ما زلت أبحث. وربما أنت ستكون الجواب الذي نبحث عنه جميعًا."
في تلك اللحظة، بدأت الفتحة التي عبر منها عادل تتلاشى، وكأنها تدعوه للاختيار: البقاء مع المتمردين على الزمن، أو العودة إلى حلقته الزمنية بخبرة جديدة.
نظر عادل إلى الجميع، ثم إلى الفضاء الواسع من حوله. كان أمامه القرار الأهم: هل يستمر في البحث عن الحقيقة هنا، أم يعود إلى مواجهته مع الزمن؟
الفصل التاسع عشر: اختيار المتمردين
وقف عادل وسط مجموعة المتمردين، يشعر بثقل القرار الذي يواجهه. كان المكان مليئًا بالطاقة الغامضة، وكأن الفضاء نفسه يتنفس ببطء. عيون المتمردين كانت مركزة عليه، وكأنهم ينتظرون قراره بفارغ الصبر.
تحدث الرجل الغامض مرة أخرى:
"البقاء هنا ليس قرارًا سهلاً. ستتعلم عن الزمن بطرق لا يمكن لعقلك الحالي أن يستوعبها. لكن العودة إلى الحلقة تعني أنك ستواجه كل ما تركته خلفك، دون ضمانات أن تجد مخرجًا."
قاطعت المرأة ذات الشعر الفضي:
"ليس كل من بقي هنا وجد إجابة، وليس كل من عاد استطاع التحرر. لكننا هنا لنساعدك، إذا اخترت البقاء."
شعر عادل بشيء يتحرك داخله. لم يكن فقط فضولًا لمعرفة المزيد عن الزمن، بل رغبة عميقة لفهم سبب علقه في هذه الحلقة. تحدث أخيرًا:
"إذا اخترت البقاء، ماذا سيحدث لي؟"
أجابت المرأة بابتسامة خافتة:
"ستبدأ رحلتك في فهم الحلقة. ستواجه ذكرياتك، قراراتك، وحتى مشاعرك التي دفنتها في أعماقك. الزمن ليس مجرد خط مستقيم، بل نسيج معقد، وكل عقدة فيه هي لحظة من حياتك. لفك العقدة، عليك أن تفهمها."
تردد عادل للحظة، لكنه سأل:
"وإذا عدت؟"
رد الرجل الغامض:
"إذا عدت، فستكون مسؤولًا عن إعادة بناء الحلقات بنفسك. ولكنك لن تكون وحيدًا. ستأخذ معك الحكمة التي جمعتها هنا، وربما تكون المرة القادمة هي التي تنجح فيها."
كان الصمت يملأ المكان. شعر عادل بأن الوقت نفسه توقف، وكأن القرار الذي سيتخذه لن يؤثر فقط على حياته، بل على كل شيء من حوله.
وأخيرًا، تحدث بصوت ثابت:
"سأبقى. إذا كان هذا المكان يمكن أن يساعدني على فهم الحقيقة، فأنا مستعد للمحاولة."
ابتسمت المرأة ذات الشعر الفضي، وقالت:
"قرار شجاع. لكن اعلم أن الرحلة هنا ليست سهلة. ستواجه ما هربت منه طوال حياتك."
البداية في فهم الحلقة
قادته المرأة إلى حافة منصة شفافة تمتد نحو فضاء لا نهائي. هناك، بدأت سلسلة من الصور تظهر أمامه، كأنها شريط سينمائي يعرض حياته. كانت الصور تحتوي على لحظات مهمة: اختياراته الخاطئة، أحلامه الضائعة، وحتى اللحظات التي كان يعتقد أنه نسيها.
تحدثت المرأة بصوت ناعم:
"كل واحدة من هذه اللحظات تشكل جزءًا من الحلقة. اختر واحدة لتبدأ منها."
نظر عادل إلى الصور بعناية. رأى لحظة فقدان والده، وذكرى قراره بالتخلي عن فرصة عمل مهمة، ومشهدًا من شجار قديم مع صديق مقرب انتهى بالفراق. كانت كل لحظة تحمل ألمًا مختلفًا.
"هذه..." أشار إلى لحظة الشجار مع صديقه. "لطالما شعرت أنني أفسدت شيئًا مهمًا في حياتي بسبب هذه اللحظة."
ابتسمت المرأة وقالت:
"إذاً، فلنبدأ منها. استعد، عادل، لأنك لن تشاهد فقط، بل ستعيشها مجددًا."
المواجهة الأولى
في طرفة عين، وجد عادل نفسه في مقهى قديم يعرفه جيدًا. كان يجلس أمام صديقه يوسف، وسمع الكلمات التي قالها في ذلك اليوم بوضوح:
"أنت دائمًا تعتقد أنك أفضل مني، يوسف. أنا سئمت من هذه العلاقة غير المتوازنة!"
كان يرى صديقه ينظر إليه بصدمة وألم، قبل أن ينهض ويغادر دون كلمة. شعر عادل بنفس المشاعر القديمة، لكنه كان الآن يملك الوعي الكامل بأنه يعيش هذا الحدث من جديد.
حاول التحدث، لكن الكلمات خرجت مختلفة.
"انتظر، يوسف. ربما كنت مخطئًا..."
ولكن يوسف لم يتوقف. الموقف بدأ يكرر نفسه. كلما حاول تغيير الكلمات، كانت اللحظة تعود إلى نفس النقطة.
تعليمات المرأة
سمع صوت المرأة في ذهنه، كما لو أنها تقوده:
"ليس التغيير في الكلمات هو الحل. بل فهم لماذا تصرفت بهذه الطريقة. ما الذي كنت تهرب منه في تلك اللحظة؟"
شعر عادل بأن الإجابة تكمن داخله. كان يشعر بالغيرة من يوسف، لكن الأمر لم يكن بسببه، بل بسبب إحساس عادل بعدم تحقيق ذاته. اللحظة لم تكن عن يوسف، بل عن نفسه.
وفي اللحظة التي أدرك فيها ذلك، توقف الشريط. وجد نفسه يعود إلى المنصة مع المرأة والرجل الغامض، لكن شيئًا ما قد تغير.
قال الرجل بابتسامة:
"لقد بدأت الآن. فهمك لهذه اللحظة هو أول خيط في فك العقدة. الرحلة ما زالت طويلة."
الفصل العشرون: العقدة التالية
بعد عودته إلى المنصة، شعر عادل بإرهاق شديد، لكنه أدرك أن هناك طاقة جديدة بداخله. لم يكن ما فعله سهلاً، لكنه بدأ يرى خيوطًا تربط الأحداث التي عاشها في حياته.
تقدمت المرأة ذات الشعر الفضي وقالت:
"اللحظة التي واجهتها ليست سوى جزء من العقدة الكبرى التي تُبقيك عالقًا. عليك مواجهة المزيد من اللحظات حتى تبدأ الصورة في الوضوح. كل لحظة تقودك إلى الأخرى. هل أنت مستعد؟"
أومأ عادل برأسه بثقة، وقال:
"أنا مستعد. ما اللحظة التالية؟"
ظهرت الصور أمامه مرة أخرى. هذه المرة، كان هناك مشهد مختلف يشد انتباهه: كان يقف أمام باب غرفة المستشفى، مترددًا في الدخول. كانت تلك اللحظة التي فقد فيها والده.
تحدث عادل بهدوء:
"هذه اللحظة... لطالما شعرت أنني خذلته. لم أكن هناك حين احتاجني."
قال الرجل الغامض بصوت هادئ:
"اللحظات التي نندم عليها هي الأكثر تأثيرًا في حلقاتنا. إذا أردت فك العقدة، عليك أن تدخل هذه اللحظة بكل ما تحمله من ألم."
العودة إلى لحظة الوداع
وجد عادل نفسه في ممر مستشفى يعرفه جيدًا. كان الجو مشحونًا بالتوتر والخوف، وصوت الأجهزة الطبية يتردد في الأرجاء. رأى نفسه الأصغر سنًا يقف مترددًا أمام باب غرفة والده، بينما كانت والدته تحثه على الدخول.
"عادل، يجب أن تكون بجانبه الآن. ربما تكون هذه فرصتنا الأخيرة."
لكنه كان يشعر بالخوف، وكأن الكلمات عالقة في حلقه. تراجع قليلاً، وعندما أخيرًا قرر الدخول، كان الوقت قد فات. والده كان قد رحل.
وقف عادل في اللحظة ذاتها، يشاهد نفسه الأصغر سنًا وهو ينسحب ببطء. كانت الرغبة في التدخل قوية، لكنه تذكر تعليمات المرأة: "الفهم، وليس التغيير."
سأل نفسه بصوت داخلي: "لماذا لم أستطع الدخول؟ ما الذي كنت أخافه؟"
بدأت الذكريات تتدفق. لم يكن الخوف من الموت، بل الخوف من مواجهة مشاعره الخاصة. كان يشعر بالعجز والذنب لأنه لم يكن الابن المثالي. كان يخشى أن يرى والده الألم في عينيه، وكأن وجوده لن يغير شيئًا.
لحظة الإدراك
بينما كان عادل يستوعب هذه الحقيقة، بدأت اللحظة تتغير. لم يعد يرى نفسه كشخص ضعيف ومتردد، بل كشخص يحمل عبئًا ثقيلًا لم يكن يعلم كيف يتعامل معه.
سمع صوت المرأة في ذهنه:
"الألم الذي شعرت به كان جزءًا من رحلتك، لكنك سمحت له بأن يصبح عائقًا. سامح نفسك، عادل. سامح ذلك الشاب الذي لم يكن يعرف كيف يواجه هذه اللحظة."
أغمض عادل عينيه وأخذ نفسًا عميقًا. قال بصوت واضح:
"أسامح نفسي. أعلم الآن أن خوفي لم يكن ضعفًا، بل كان مجرد إنسانية."
وفي تلك اللحظة، تبددت الصورة من حوله. عاد إلى المنصة مرة أخرى، لكنه شعر بخفة غريبة في قلبه.
بداية فهم الصورة الكبرى
قال الرجل الغامض وهو يراقبه:
"أنت تتقدم، عادل. كل لحظة تفككها تعيد تشكيل الزمن من حولك. لكن هل ترى الرابط بين اللحظات التي اخترتها؟"
تأمل عادل للحظة. لاحظ أن كلتا اللحظتين التي واجهها كانت مرتبطة بشعوره بالخوف من الفقدان، سواء كان فقدان صديق أو فقدان والد. بدأ يفهم أن هناك خيطًا يربط كل قراراته: خوفه من أن يكون سببًا في ألم الآخرين، وخوفه من المواجهة مع نفسه.
قالت المرأة بابتسامة خفيفة:
"أنت تقترب من فهم العقدة الكبرى، لكن ما زالت هناك لحظات أخرى تنتظرك. السؤال الآن: هل ستستمر؟"
نظر عادل إلى الصور التي بدأت تظهر من جديد. هذه المرة، كانت لحظة لم يرها بوضوح من قبل: مشهد صغير له كطفل، يجلس وحيدًا في ركن مظلم، يبكي بصمت.
شعر بشيء عميق يتحرك داخله، كأن هذه اللحظة كانت الأصل لكل ما تبعها.
قال بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار:
"سأواجهها. أريد أن أفهم كل شيء."
عندما عبر عادل الفتحة، لم يجد نفسه في عالم يشبه أي شيء عرفه من قبل. لم تكن هناك مدن ولا شوارع، بل فضاء شاسع متداخل الألوان، وكأن الزمن والمكان قد اندمجا في لوحة واحدة تتحرك باستمرار. كان الهواء ثقيلًا لكنه قابل للتنفس، والضوء يأتي من مصادر لا يمكن رؤيتها.
بينما كان يحاول استيعاب هذا العالم الغريب، بدأ يسمع أصواتًا خافتة تتحدث بلغات مختلفة، بعضها مألوف وبعضها بدا وكأنه يأتي من أعماق ذاكرته. شعر فجأة بأنه ليس وحده. كان هناك أشخاص آخرون في هذا الفضاء، يبدون وكأنهم يبحثون عن شيء ما، أو ربما كانوا ضائعين مثله.
اقترب منه شخص يرتدي ملابس لا يمكن تحديد زمنها، وكأنها مزيج من العصور المختلفة. كانت ملامحه غامضة، لكنها مألوفة بشكل غريب. تحدث بصوت هادئ:
"أنت جديد هنا. مرحبًا بك في العالم بين الحلقات."
تردد عادل للحظة، لكنه سأل: "ما هذا المكان؟ هل هو خارج الزمن؟"
رد الشخص بابتسامة صغيرة: "يمكنك القول إنه محطة. هنا يجتمع من حاولوا كسر الحلقات الزمنية في عوالمهم، لكنهم وجدوا أنفسهم في هذه النقطة بدلاً من العودة إلى واقعهم. لكل واحد منا قصة، ولكل منا أمل في الخروج."
بدأت أصوات أخرى تقترب. تجمع حول عادل أشخاص من أعمار وأجناس مختلفة. كانت أعينهم تحمل نفس التعبير الذي رآه في وجه الرجل الغامض: مزيج من الأمل واليأس.
تحدثت امرأة ذات شعر فضي وعينين لامعتين:
"نحن نسمي أنفسنا المتمردين على الزمن. حاولنا، مثلك، كسر الحلقات التي تحاصرنا. البعض منا كان ناجحًا جزئيًا، والبعض الآخر فشل، لكن الجميع انتهى به المطاف هنا."
سأل عادل بقلق: "وما الهدف من هذا المكان؟ هل يمكننا الهروب؟ أم أن هذا مجرد سجن جديد؟"
نظر الرجل الغامض إلى المرأة، ثم أجاب:
"هذا المكان ليس سجنًا، لكنه ليس مخرجًا أيضًا. إنه نقطة توقف. كل من وصل هنا لديه خيار: إما العودة إلى حلقته الزمنية والمواجهة من جديد، أو البقاء هنا والبحث عن الحقيقة الكبرى."
"وما هي الحقيقة الكبرى؟" سأل عادل بحذر.
أجابت المرأة بنبرة مهيبة:
"أن الزمن ليس عدوك، بل مرآتك. لفهم الحلقة وكسرها، عليك أولاً أن تواجه نفسك. كل لحظة، كل قرار، كل ندم، هو جزء من اللغز. إذا استطعت رؤية الصورة الكاملة، قد تجد المفتاح للخروج."
بينما كان عادل يستمع، شعر بشيء عميق يتحرك داخله. لم يكن هذا المكان كما ظنه، مجرد مصيدة أخرى. كان اختبارًا. مكانًا يجمع فيه شتات نفسه ويفهم لماذا كان عالقًا في هذه الحلقة.
"وأنت؟" سأل عادل الرجل الغامض. "هل وجدت الحقيقة؟"
هز الرجل رأسه ببطء وقال:
"ما زلت أبحث. وربما أنت ستكون الجواب الذي نبحث عنه جميعًا."
في تلك اللحظة، بدأت الفتحة التي عبر منها عادل تتلاشى، وكأنها تدعوه للاختيار: البقاء مع المتمردين على الزمن، أو العودة إلى حلقته الزمنية بخبرة جديدة.
نظر عادل إلى الجميع، ثم إلى الفضاء الواسع من حوله. كان أمامه القرار الأهم: هل يستمر في البحث عن الحقيقة هنا، أم يعود إلى مواجهته مع الزمن؟
الفصل التاسع عشر: اختيار المتمردين
وقف عادل وسط مجموعة المتمردين، يشعر بثقل القرار الذي يواجهه. كان المكان مليئًا بالطاقة الغامضة، وكأن الفضاء نفسه يتنفس ببطء. عيون المتمردين كانت مركزة عليه، وكأنهم ينتظرون قراره بفارغ الصبر.
تحدث الرجل الغامض مرة أخرى:
"البقاء هنا ليس قرارًا سهلاً. ستتعلم عن الزمن بطرق لا يمكن لعقلك الحالي أن يستوعبها. لكن العودة إلى الحلقة تعني أنك ستواجه كل ما تركته خلفك، دون ضمانات أن تجد مخرجًا."
قاطعت المرأة ذات الشعر الفضي:
"ليس كل من بقي هنا وجد إجابة، وليس كل من عاد استطاع التحرر. لكننا هنا لنساعدك، إذا اخترت البقاء."
شعر عادل بشيء يتحرك داخله. لم يكن فقط فضولًا لمعرفة المزيد عن الزمن، بل رغبة عميقة لفهم سبب علقه في هذه الحلقة. تحدث أخيرًا:
"إذا اخترت البقاء، ماذا سيحدث لي؟"
أجابت المرأة بابتسامة خافتة:
"ستبدأ رحلتك في فهم الحلقة. ستواجه ذكرياتك، قراراتك، وحتى مشاعرك التي دفنتها في أعماقك. الزمن ليس مجرد خط مستقيم، بل نسيج معقد، وكل عقدة فيه هي لحظة من حياتك. لفك العقدة، عليك أن تفهمها."
تردد عادل للحظة، لكنه سأل:
"وإذا عدت؟"
رد الرجل الغامض:
"إذا عدت، فستكون مسؤولًا عن إعادة بناء الحلقات بنفسك. ولكنك لن تكون وحيدًا. ستأخذ معك الحكمة التي جمعتها هنا، وربما تكون المرة القادمة هي التي تنجح فيها."
كان الصمت يملأ المكان. شعر عادل بأن الوقت نفسه توقف، وكأن القرار الذي سيتخذه لن يؤثر فقط على حياته، بل على كل شيء من حوله.
وأخيرًا، تحدث بصوت ثابت:
"سأبقى. إذا كان هذا المكان يمكن أن يساعدني على فهم الحقيقة، فأنا مستعد للمحاولة."
ابتسمت المرأة ذات الشعر الفضي، وقالت:
"قرار شجاع. لكن اعلم أن الرحلة هنا ليست سهلة. ستواجه ما هربت منه طوال حياتك."
البداية في فهم الحلقة
قادته المرأة إلى حافة منصة شفافة تمتد نحو فضاء لا نهائي. هناك، بدأت سلسلة من الصور تظهر أمامه، كأنها شريط سينمائي يعرض حياته. كانت الصور تحتوي على لحظات مهمة: اختياراته الخاطئة، أحلامه الضائعة، وحتى اللحظات التي كان يعتقد أنه نسيها.
تحدثت المرأة بصوت ناعم:
"كل واحدة من هذه اللحظات تشكل جزءًا من الحلقة. اختر واحدة لتبدأ منها."
نظر عادل إلى الصور بعناية. رأى لحظة فقدان والده، وذكرى قراره بالتخلي عن فرصة عمل مهمة، ومشهدًا من شجار قديم مع صديق مقرب انتهى بالفراق. كانت كل لحظة تحمل ألمًا مختلفًا.
"هذه..." أشار إلى لحظة الشجار مع صديقه. "لطالما شعرت أنني أفسدت شيئًا مهمًا في حياتي بسبب هذه اللحظة."
ابتسمت المرأة وقالت:
"إذاً، فلنبدأ منها. استعد، عادل، لأنك لن تشاهد فقط، بل ستعيشها مجددًا."
المواجهة الأولى
في طرفة عين، وجد عادل نفسه في مقهى قديم يعرفه جيدًا. كان يجلس أمام صديقه يوسف، وسمع الكلمات التي قالها في ذلك اليوم بوضوح:
"أنت دائمًا تعتقد أنك أفضل مني، يوسف. أنا سئمت من هذه العلاقة غير المتوازنة!"
كان يرى صديقه ينظر إليه بصدمة وألم، قبل أن ينهض ويغادر دون كلمة. شعر عادل بنفس المشاعر القديمة، لكنه كان الآن يملك الوعي الكامل بأنه يعيش هذا الحدث من جديد.
حاول التحدث، لكن الكلمات خرجت مختلفة.
"انتظر، يوسف. ربما كنت مخطئًا..."
ولكن يوسف لم يتوقف. الموقف بدأ يكرر نفسه. كلما حاول تغيير الكلمات، كانت اللحظة تعود إلى نفس النقطة.
تعليمات المرأة
سمع صوت المرأة في ذهنه، كما لو أنها تقوده:
"ليس التغيير في الكلمات هو الحل. بل فهم لماذا تصرفت بهذه الطريقة. ما الذي كنت تهرب منه في تلك اللحظة؟"
شعر عادل بأن الإجابة تكمن داخله. كان يشعر بالغيرة من يوسف، لكن الأمر لم يكن بسببه، بل بسبب إحساس عادل بعدم تحقيق ذاته. اللحظة لم تكن عن يوسف، بل عن نفسه.
وفي اللحظة التي أدرك فيها ذلك، توقف الشريط. وجد نفسه يعود إلى المنصة مع المرأة والرجل الغامض، لكن شيئًا ما قد تغير.
قال الرجل بابتسامة:
"لقد بدأت الآن. فهمك لهذه اللحظة هو أول خيط في فك العقدة. الرحلة ما زالت طويلة."
الفصل العشرون: العقدة التالية
بعد عودته إلى المنصة، شعر عادل بإرهاق شديد، لكنه أدرك أن هناك طاقة جديدة بداخله. لم يكن ما فعله سهلاً، لكنه بدأ يرى خيوطًا تربط الأحداث التي عاشها في حياته.
تقدمت المرأة ذات الشعر الفضي وقالت:
"اللحظة التي واجهتها ليست سوى جزء من العقدة الكبرى التي تُبقيك عالقًا. عليك مواجهة المزيد من اللحظات حتى تبدأ الصورة في الوضوح. كل لحظة تقودك إلى الأخرى. هل أنت مستعد؟"
أومأ عادل برأسه بثقة، وقال:
"أنا مستعد. ما اللحظة التالية؟"
ظهرت الصور أمامه مرة أخرى. هذه المرة، كان هناك مشهد مختلف يشد انتباهه: كان يقف أمام باب غرفة المستشفى، مترددًا في الدخول. كانت تلك اللحظة التي فقد فيها والده.
تحدث عادل بهدوء:
"هذه اللحظة... لطالما شعرت أنني خذلته. لم أكن هناك حين احتاجني."
قال الرجل الغامض بصوت هادئ:
"اللحظات التي نندم عليها هي الأكثر تأثيرًا في حلقاتنا. إذا أردت فك العقدة، عليك أن تدخل هذه اللحظة بكل ما تحمله من ألم."
العودة إلى لحظة الوداع
وجد عادل نفسه في ممر مستشفى يعرفه جيدًا. كان الجو مشحونًا بالتوتر والخوف، وصوت الأجهزة الطبية يتردد في الأرجاء. رأى نفسه الأصغر سنًا يقف مترددًا أمام باب غرفة والده، بينما كانت والدته تحثه على الدخول.
"عادل، يجب أن تكون بجانبه الآن. ربما تكون هذه فرصتنا الأخيرة."
لكنه كان يشعر بالخوف، وكأن الكلمات عالقة في حلقه. تراجع قليلاً، وعندما أخيرًا قرر الدخول، كان الوقت قد فات. والده كان قد رحل.
وقف عادل في اللحظة ذاتها، يشاهد نفسه الأصغر سنًا وهو ينسحب ببطء. كانت الرغبة في التدخل قوية، لكنه تذكر تعليمات المرأة: "الفهم، وليس التغيير."
سأل نفسه بصوت داخلي: "لماذا لم أستطع الدخول؟ ما الذي كنت أخافه؟"
بدأت الذكريات تتدفق. لم يكن الخوف من الموت، بل الخوف من مواجهة مشاعره الخاصة. كان يشعر بالعجز والذنب لأنه لم يكن الابن المثالي. كان يخشى أن يرى والده الألم في عينيه، وكأن وجوده لن يغير شيئًا.
لحظة الإدراك
بينما كان عادل يستوعب هذه الحقيقة، بدأت اللحظة تتغير. لم يعد يرى نفسه كشخص ضعيف ومتردد، بل كشخص يحمل عبئًا ثقيلًا لم يكن يعلم كيف يتعامل معه.
سمع صوت المرأة في ذهنه:
"الألم الذي شعرت به كان جزءًا من رحلتك، لكنك سمحت له بأن يصبح عائقًا. سامح نفسك، عادل. سامح ذلك الشاب الذي لم يكن يعرف كيف يواجه هذه اللحظة."
أغمض عادل عينيه وأخذ نفسًا عميقًا. قال بصوت واضح:
"أسامح نفسي. أعلم الآن أن خوفي لم يكن ضعفًا، بل كان مجرد إنسانية."
وفي تلك اللحظة، تبددت الصورة من حوله. عاد إلى المنصة مرة أخرى، لكنه شعر بخفة غريبة في قلبه.
بداية فهم الصورة الكبرى
قال الرجل الغامض وهو يراقبه:
"أنت تتقدم، عادل. كل لحظة تفككها تعيد تشكيل الزمن من حولك. لكن هل ترى الرابط بين اللحظات التي اخترتها؟"
تأمل عادل للحظة. لاحظ أن كلتا اللحظتين التي واجهها كانت مرتبطة بشعوره بالخوف من الفقدان، سواء كان فقدان صديق أو فقدان والد. بدأ يفهم أن هناك خيطًا يربط كل قراراته: خوفه من أن يكون سببًا في ألم الآخرين، وخوفه من المواجهة مع نفسه.
قالت المرأة بابتسامة خفيفة:
"أنت تقترب من فهم العقدة الكبرى، لكن ما زالت هناك لحظات أخرى تنتظرك. السؤال الآن: هل ستستمر؟"
نظر عادل إلى الصور التي بدأت تظهر من جديد. هذه المرة، كانت لحظة لم يرها بوضوح من قبل: مشهد صغير له كطفل، يجلس وحيدًا في ركن مظلم، يبكي بصمت.
شعر بشيء عميق يتحرك داخله، كأن هذه اللحظة كانت الأصل لكل ما تبعها.
قال بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار:
"سأواجهها. أريد أن أفهم كل شيء."