حراس الظلمات

محمد آدم`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-14ضع على الرف
  • 83.9K

    تم التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول قربان الأوليمب

نفرت عروقه واقشعرّت شعيرات ذراعيه المجَعَّدَيْن المشتعلَين بالمشيب واجتاحتهما رعشات قوية أعجزتهما عن الاتكاء، شعره الأشيب ناصع كثيف يتجاوز أُذنيه بقليل كان ذات يوم أشقر، أخذ يجترّ أنفاسه التي تمنّعَت وتقطّعت فصارت شهيقًا تشوبه الحشرجات، وراح يزفرها قصيرة منهكة، استجمع قوّته دون جدوى، حاولَت جاريته مساعدته لكنه أبعد يديها عنه ورمقها بنظرة حادة فبدت حدقتاه زرقاوين كسماء نهارٍ صافٍ لا يعكّره غيم؛ إلّا من احمرار طفيف بسبب النوم لأوقات طويلة ولا تزالان تبرقان، شحب وجهه فقط في الأشهر الأخيرة فقد كان متوردًا ينضح بالحيوية، عضّ على شفته السُفلى المتشققة وبلّلها بلسانه معاوِدًا محاولة مرتعشة للنهوض، بصعوبة بالغة كرّر محاولاته ولم يكتب لها النجاح، تراجع عن تكرار المحاولة مستسلمًا لشيخوخته ووضع رأسه على وسادته وتمدّد.
تساءل في نفسه أين غادرته صحته؟ أين ذهبت قوّة ساعده الذي قذف بمقلاعه الحجر ليستقرّ في جبهة كبير الجبابرة العماليق "عمليق" فقتله قبل نيف وأربعة عقود؟
أخذته ذاكرته رغمًا عنه إلى ذاك اليوم البعيد..
* * *
وثب الفتى الأشقر برشاقة ووقف بثبات أمام الجبّار المهيب المدجج بالسلاح، رفع رأسه لأقصى حد وأخذ يتفحّص خوذته الحديدية العملاقة نحاسية اللون المزينة بالريش الملوّن، لم يهتز لبريق الترس العظيم الذي يتحصّن به، ولم يأبه لمقبض سيفه المذهب القوي اللامع الذي يستقر متأهّبًا في غمده، أو حتى طول ذلك الرمح المدبب برأس برّاق صُنع من الصوان الذي جيء به من الصخور المنتشرة في وديان "أوروك" ويقبض عليه بيده يتحيّن تلك اللحظة المناسبة التي يقذفه به. رمقه الجبّار متفحصًا ضآلته الملحوظة مقارنة بحجمه، أطلق ضحكات مزعجة لرؤيته الفتى لا يلبس لباس الحرب، ولا يحمل أي سلاح، لم يحمل إلّا عصا كان يهشّ بها على غنمه، وحول خصره يلفّ جرابًا باهتًا من صوف الأغنام بالكاد يتّسع لرغيف خبز وثمرة فاكهة، ثم نظر إلى جيش أعدائه وقال:
-  أهذا الفتى هو من سيبارزني؟ أهو أشجعكم؟ أليس بينكم رجلًا قويًا يظهر نفسه أمامي؟
لم يجبه أحد، قهقه العملاق وقال باستخفاف:
-  إذن، تعالَ إليّ أيها الصغير، اليوم أُجهز عليكَ وتصير طعامًا للكواسر وجيفة للجوارح..
وضع الفتى يده في جرابه يتحسس الأحجار الخمسة التي انتقاها بعناية عند ضفة النهر القريب، اختار واحدًا، ناعمًا مدببًا، وضعه في مقلاعه، شحذ همّته وادخر كل قوّته في ذراعه وبكل ما أوتي من قوّة ألقى ما في المقلاع صوب الرأس الكبير، اخترق الحجر جبين الجبّار ففقد اتزانه، وغرّبت عيناه، أخذ يترنّح يمينًا ويسارًا وخرّ على جبينه طريح الأرض. ركض الفتى مسرعًا إليه وقفز فوقه فنحر عنقه وفصل الرأس الكبير عن الجسد الضخم بسيفه المتأهّب، ولمّا رأى العماليق الفتى يرفع رأس جبّارهم المقطوع بثقة وثبات أصابهم الذعر وفرّوا من أمامه.
* * *
ساعِداه اللذان حملا رأس الجبّار يومئذ وألقياه عند قدمي أبيه الملك "عامور" في مقرّه بعصامته "عامورا" لا يقدران على مساعدته اليوم؟! أدرك "كينان" أنّه بلغ من الكِبَر عِتيًا، لم يعد ذاك الفتى الأشقر الجميل الملآن بالحيوية، المُحلّى بالحِكمة، المشهور بالعدل. ملك أربعين سنة، أصبح طريح الفراش يلازمه لأيامٍ طويلة، وقلّما كان يخرج، ولم يكمل بناء بيت الرب الذي أمره ببنائه. اجتراره لذكريات الفتوّة والشباب أصابته بخيبة أمل قاسية فغلبه النعاس.
اليوم التالي..
أرسل "كينان" إلى كبير الكهنة والوزير فحضرا مسرعَين، أمرهما بإحضار باقي الحاشية والقادة، فلما جاءوا أوصاهم جميعًا بأصغر أبناءه "باديش" وإعانته كما أعانوه، وأمرهم أن يُركّبوه على البغلة التي له، وأمر الكاهن أن يمسحه ملكًا في معبد الإله بالعاصمة، وقد كان. وهناك ضُرب بالبوق، وردّد الشعب "ليحيا باديش الملك".
تمّت المراسيم كما أمر الملك "كينان"، وعادت الحاشية والقادة إلى مَلكهم يهنئونه، فأمرهم بإحضار ابنه، فمثل بين يديه وقبّلهما وأطرق رأسه فمسح أبيه عليه، وأوصاه قائلًا:
"أنا ذاهب إلى النعيم السماوي، فتشدد وكن رجلًا وملكًا صالحًا كأبيكَ وأسلافكَ من قبل، لغتكَ الأكّديّة، احفظ شعائر ناموسنا، وسر في طريق الحق منفذًا فرائضه ووصاياه وأحكامه وشهاداته كما هو مكتوب في الناموس، لتفلح في كل ما تفعل وحيثما توجهت، ليبارككَ الإله، ليكن حكمكَ عادلًا وعمركَ مديدًا".
* * *
وذات ليلة..
شعر "كينان" بقوّة تسري في أوصاله، فنهض عن فراشه بهِمّة وتوجّه إلى محرابه، أمسك بقيثارته وراح يداعب أوتارها بأصابع لم يدركها الهِرم، أخذ يرنّم ويرتّل من مزاميره بصوت عذب لا مثيل له، يُطرب حتى الجبال، زقزقات الطيور خارج المحراب تناغمت مرددة خلفه، دبيب الدواب توقّف في الخارج لينصتوا، كل المخلوقات والكائنات أيّما كانت تنسى أحوالها عندما يترنّم، في السابق حين كانت الدواب تعكف على سماعه ينسون حالهم لدرجة أن مات بعضهم من الجوع والعطش. أي هبة ساحرة تلك التي وهبكَ إلهكَ إيّاها يا ابن "عامور ابن ياريد الكلدانيّ"؟
على أوتار قيثارته أخذ يعزف ويترنّم..
"إلهي لا توبّخني بغضبك، ولا تؤدّبني بسخطك، إلهي إنّي ضعيف فارحمني، عظامي قد ارتجفَت فاشفني، ونفسي قد ارتاعت جدًّا فنجّها ونجّني، وبرحمتكَ خلّصني، إلهي ليس في الموت من يذكركَ، ولا في الهاوية من يحمدكَ، تعبتُ في تنهّدي، مللتُ الغوص في أسِرّتي، وأدمعي في كل ليلة تغرق فَرشتي، ساخت من الغم عينيّ، شاخت من كل مضايقيّ، اذهبوا يا جميع فاعِلي الإثم وابتعدوا عنّي، لقد سمع إلهي صوت بكائي، وفرّج كربي وغمّي، استمع إلهي لتضرعي، واقبل تبتّلي وصلاتي، فليَخزَ وليرتاع جميع أعدائي، وليرتدوا عائدين إلى الوراء خائبين بالبغتة مخذولين.. هَلِّلُويا".
استعاد ملك المرنمين مجده، وكان على أهبة الاستعداد، تبسّم حتى اختفت حدقتاه السماويتين خلف عينيه التي تحوّلت إلى خط رفيع من فرط تبسمه، شعر بدفء الطيف الزائر خلفه يقف على مقربة منه، توقف "كينان" عن التبتّل وسأله ولا زال يبتسم:
-  من ذا الذي يجرؤ على مشاركة الملك خُلوة المحراب؟
فقال:
-  أنا الذي لا أهاب الملوك وآتي إليهم دون إذن، ولن يستطيع الحُجّاب منعي.
قال "كينان" ولا يزال يبتسم:
-  وماذا تريد إذن؟
قال الزائر:
-  أيها الملك نفدت السنون، وحان الوقت.
اتسعت ابتسامة "كينان" وقال:
-  هلا أرسلتَ إليَّ فأستعد؟
-  أرسلتُ إليكَ كثيرًا.
-  من كان رسولكَ؟
-  أين والديكَ؟
-  ماتا.
-  أين أخوتكَ؟
-  ماتوا.
-  أين جيرانكَ ومعارفكَ وأصدقاء طفولتكَ؟
-  ماتوا.
-  فجميعهم رُسُلي إليكَ، إنَّكَ الآن تلحق بهم.
أخذَت ابتسامة "كينان" تتسع إلى أقصى حد.
* * *
بعد مضي أربعين سنة
ذات ليلة، في أحد شوارع "عامورا" عاصمة مملكة "كينان"، قرب معبد الإله، أَصدر أحد الشياطين نقيقًا متقطعًا ثلاث مرات، فجاءه الرد بمثله من بعيد، التفت حواليه يستشعر الظلام، فتح عينيه المشقوقتين بالطول عن آخرهما فتبيّنت حدقتاه الصفراوان، فتح جفنيه أكثر حتى سقطتا الحبتين من محجريهما، لم يلبث حتى استنبت بدلًا عنهما باثنتين حمراوين مشتعلتين، وضع كفيه عليهما وأزاحهما بسرعة فخرج منهما شعاعان قويّان نشرا الضوء في محيطه، فلما تأكد أن لا أحد يراقبه استبدل جلده المرقط بآخر يطابق ألوان الحائط، فلم يتبيّن منه شيء وكأنه الحائط.
تسلّل إلى داخل الخلوة المحرّمة، أحكم إلصاق حراشف أطرافه على سطح الجدار الناعم، تسلّق الحائط المرتفع بسرعة ورشاقة دون صوت، توقف عند أحد الأركان، جعل رأسه الأقرن يستدير دورة كاملة، وأخذ ينظر إلى ظهر الملك وشعره الحالك المنسدل فوق كتفيه العريضين، شَعَر بوجوده ونظر بطرف عينه حيث مكانه، ابتسم وأغلق عينيه وأكمل تبتّله، نشبت النيران في الشيطان فأخذ يصرخ متألمًا، وتحوّل إلى غبار اختفى قبل أن يصل رفاته إلى أرضية المحراب.
لم تتعظ الجن بما حدث للشياطين، وفي محاولته الأولى للتسلل كانت الأخيرة في ذات الوقت، احترق الجني وتحول إلى غبار هو الآخر، توالى الشيطان تلو الآخر والجنيّ تلو الجني، وجميع محاولاتهم لاختلاس النظر واستراق السمع تبوء بالفشل، ويلاقي المتسلل المصير المحتوم كأنّه لم يكن.
    * * *
وبعد عدة ليالٍ.. اختلس عِفريتٌ من الجِنّ نظرة إلى الملك "باديش" المتكئُ على مِنسأته منذ أشهُر وهو على حاله، يراقب أعمالهم، لا يأكل ولا يشرب، لا ينام ولا يرتد إليه طرفه، لا يقوم من مقامه ولا يُسمع له حِسًّا، دبّت قشعريرة في أوصال العِفريت تنذره بما قد يحيق به فقفز طائرًا يسبح في فضاء الصَرْح الشامخ المُمرّد بالقوارير، وانضم إلى باقي أقرانه وأخذ يعمل معهم على زخرفة السقف اللُّجيّ الشاسع المتكئ على أعمدة شاهقة من المرمر والذي أمرهم ببنائه المَلك، فهُم منقادين له ويخضعون كُلّيًا لإمرته، وأن يفعلون ما يؤمرون، وليس عليهم أن يتململوا أو يتكاسلوا، وألّا تبدر منهم شكوى، وإلّا عوقبوا أشدّ العقاب، وأُلحق بهم العذاب المُهين، فمن عصى منهم لُعن ونُفيَ إلى أقاصي البسيطة، ومنهم من تقلّص وحُبس في قمقم وأُلقيَ به في أعماق البحار، وهناك مَن سُخطوا إلى دُويبات تقتات عليها دوابّ الأرض، وآخرين مقيّدين في الأصفاد.
لم تنتبه الشياطين إلى تلك الأَرَضَة التي ظلّت حَولًا كاملًا تقرض منسأة الملك "باديش"؛ فمَن كان يتسلّل منهم إلى خلوته ويختلس النظر إليه وهو يتبتلّ احترق على الفور، إلّا أحدهم، تسلّل يومها ولم يحترق، استرق السمع فلم يسمع، فدنى منه ونظر إليه، تفقّد نفسه فتأكد أنّه لم يصب بأذى.
أمعن النظر إلى المَلك فوجده خرّ ميّتًا وعصاته ملقاة إلى جواره وطرفها الملامس للأرض متآكل من أثر القرض، فعلم أنّه فارق الحياة منذ مدة ليست بقليلة، صرخ الشيطان صرخة ألم طويلة وصل صداها إلى أقرانه فتوافدَت الشياطين وفي أعقابهم الجِنّ مسرعين إليه، أصابتهم الصدمة جميعًا عند رؤيتهم المَلك فأخذوا يصرخون والجِنّ ينوّحون حسرة على الأشهُر التي قضوها ينفذّون أوامره وهو ميّت!
عندما شعر "باديش" بدُنوّ أجله أوصى أهله إن مات ألّا يخبروهم بموته حتى يستكملوا بناء ما أمرهم به، ثم دعا إلهه ألّا تعلم الجِنّ والشياطين بموته حتى تعلم الإنس أنّ الشياطين كذّابة ولا تعلم الغيب.
    * * *
العالم السفلي
في قاعة الاجتماع ذات الأعمدة الشاهقة المصنوعة من عظام العماليق الأوائل (أبناء غايا) وطعمت بطبقة من تراب الجحيم، وتمت تقويتها بالحمم السائلة حتى تماسكت وصارت متينة لا يمكن هدمها، على الأقل في الوقت الراهن، فوق ذلك العرش المرعب المكون من جماجم وعظام البشر، جلس "بولوش" أحد حاكم العالم السفلي بأمر سيد العالم السفلي "هاديس"، وبين يديه وقف "سيرابيس" حارس الجحيم، ينظر إليه بافتخار وزهو سعيدًا بخبر موت "باديش" الملك الذي عذب الشياطين لأربعين سنة وذاقوا على يديه كل ألوان العذاب، تنهد بعدما أثنى على فكرة خادمه، وقال بنبرة هادئة:
-  خادمي المطيع "سيرابيس" يا حارس الجحيم، اذهب ونفذ، ولا تعد إلا ظارفرًا.
أحنى "سيرابيس" رأسه وقال بحماسة:
-  خادمكَ المطيع طوع أمركِ سيدي سيد العالم السفلي، وقريبًا سيد العالَمين.
وانصرف لتنفيذ الأمر بالحماسة نفسها.
بينما أخذ "بولوش" ينقر بصولجانه على قاعدة عرشه ليتردد صدى رنينه مدويًّا في أرجاء العالم السفلي، وعندما استمعت إليه الكائنات السفلية الراقدة في أقفاصها متأهبة للأمر المنتظر، تعالى الزئير والنباح والفحيح كجوقة تردد ترنيمة بحماسة دون انقطاع.
    * * *
قرب هضبة الأوليمب اختلط هدير الماء المنهمر من بحيرة النعيم، بتغريدات طيور الكناري المنبعثة من الأشجار التي تزين الضفاف التي لا حد لها، وتعالت ضحكات "ثالوث الحُسن" (الكارايتات): "ثاليا" سيدة الاحتفالات وأكبرهن سِنًّا، "آغليا" سيدة الجمال والمجد وزوجة "هفستوس" وأنجبت منه أربعة جميلات يعتبرن سيدات الحُسن الصغيرات، "يوفروسيني" سيدة البهجة والسرور، وهن تجسيدات الرقص والموسيقى والإبداع، خرجن في الصباح الباكر لأخذ حمامهن البارد كما تعودن، تجردن من ملابسهن ورحن يتراشقن بالماء الذي تحول إلى قطع من الثلج، والطيور الرابضة فوق الأغصان تتابعهن، والضوء المنبعث من أجسامهن الناصعة يكاد يعمي الأبصار.
فجأة توقف التغريد، وتركت الطيور أماكنها للنجاة بأرواحها من اللهيب القادم، احتبست الأنفاس وتلاشت الضحكات، وتبخرت السعادة غارقة في قاع البحيرة، وتعالى صوت شهيق النار المنبعث من أجنحة الأحصنة النارية المحلقة فوق البحيرة، يجرون عربة يقودها "سيرابيس" يفرقع بسوطه الناري ضاربًا الهواء فيخلف دخانًا ملأ سواده السماء، تعالت صرخات الثالوث يطلبن النجاة، لكن صوت شهيق النار كان أعلى، وبقوة لا تعرف التعامل مع الجمال اختطف الخدام الثالوث وعادوا جميعًا خلف سيدهم من حيث جاءوا.
    * * *
بعد وصول "سيرابيس" وأعوانه إلى العالم السفلي، وحبس "الثالوث" في أقفاص قاسية، عاد "سيرابيس" إلى سيده "بولوش" الجالس فوق عرشه يضحك مستمتعًا بصرخات الثالوث، يلوح بصولجانه في الهواء، شكره وأثنى عليه، أمره بتشديد الحراسة عليهن، لأنه يعلم أنّ بعد الملك "باديش" سيأتي بشريٌّ آخر يحاول تخليصهن، وإعادة السيطرة البشرية على الكائنات السفلية، لكن "بولوش" سوف يستغل الوقت جيدًا لإغراق عالم البشر في براثنه، وسيجعل خدامه يعيثون الفساد في الأرض، وينشرون الرعب في قلوب بني الإنس.
فأمر أحد خدام الجحيم بالتنكر في صورة بشري والذهاب إلى "عامورا" عصامة مملكة "كينان"، فذهب الشيطان لتنفيذ أمر سيد العالم السفلي وإغواء البشر وخداعهم بما كلف به.
* * *
بوصوله دُهش الناس من حُسنه وزينته التي لم يرو مثيلها، فقال بصوت مرتفع بعدما اجتمع الناس حوله:
-  أيها الناس، إنّ "باديش" لم يكن ملكًا، بل كان ساحرًا، ومُلكه مشيد على السحر، فالتمسوا سحره في متاعه وبيته.
توقف الناس مشدوهين، فقال:
-  إن لم تكونوا مصدقي، تعالوا خلفي إلى داره.
ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، دخل الناس أفواجًا، ونبشوا أسفل العرش، واستخرجوا المخطوطات المدفونة في باطن الأرض، تعالت همهماتهم:
-  صدق الرجل.
-  هذه تعاويذ وتعازيم سحرية.
-  لقد كان ساحرًا، يركب الريح.
-  سحره مدوّن هنا.
-  بهذا تعبدنا.
-  وبهذا قهرنا.
هرع الناس إلى الخارج والمخطوطات التي خطتها الشياطين بين أيديهم وفيها كل أنواع التعاويذ والتعازيم، وهذا ما يفضله سكان العالم السفلي، وإذا نفذ الإنس ما فيها يعينون بعضهم بعضًا على مطالب ضعيفي الأنفس، أولئك الذين يسعون خلف المال والجاه، وبها يخلطون فيها الكذب بأمور غائبة، ومن الأمور الأخرى التي تصيب البشر بالأمراض بسبب السحر، وإعانة السفليين لهم على أفعال لم تكن لتحدث أيام الملك "باديش" الذي ساد العدل في أيامه وحجّم شياطين الجن والإنس وسخرهم لخدمته، وبعده هذا ما آل إليه حال البشر.
أخذ الرجل ينظر إلى الناس بزهوٍ فرحًا بصنيعه وتنفيذ أمر سيده الذي سيذهب إليه بعد قليل يزف إليه الخبر السعيد، وحوله التف السحرة والكهنة وكل جنس الخوارق، فرحين بما حدث للناس، يتنازعون حول حيازة المخطوطات، وكانت الحيازة للأقوى بحق الذراع.
* * *
بعودتهم إلى العالم السفلي، كان الخدام قد صنعوا من قطع كبيرة أخذوها من صخور الجحيم؛ الكثير من الشياطين الحراس لحراسة أقفاص الثالوث، والتصدي لمن يقترب من البشر وإلحاق به ما يستحق، جلسوا جميعًا بين يدي سيد العالم السفلي، ليوزع على كل منهم مهامه المكلف بها، هزوا جميعًا رؤوسهم راضخين للأمر، بينما أخذ يضرب بصولجانه قاعدة عرشه فتهتز الأرض أسفل منهم، فعل هذا لترهيبهم، وهو يعي أنهم بالفعل يرهبونه، وهم على أهبة الاستعداد لخدمته، سواء كانوا من شياطين الجن أو الإنس، أشار بصولجانه لأعلى فنهضوا وهموا بالانصراف.
نهض "بولوش" عن عرشه بعدما فرغت قاعة الاجتماع من حاشيته وأعوانه وخدامه، وسار على مهل يجر صولجانه خلفه فتتشقق الأرض من أثر احتكاكه بها وتأجج الشرر يتطاير خلفه كالذباب المشتعل، يتبعه إلى حيثما يذهب، وصل إلى أقفاص الثالوث، وراح يقهقه فأصاب قلوبهن بالذعر وانطلقت الصرخات من أفواههن على غير إرادة منهن، وانكمشت كل واحدة منهن على نفسها عند أبعد زاوية بالقفص خوفًا منه، بينما تركهن مذعورات يرتجفن من فرط الهلع، وذهب بذات الخطوات الآلية إلى جناحه لينال قسطًا من الراحة لمعاودة أعماله في اليوم التالي.
* * *

العالم السفلي
في قاعة الاجتماع ذات الأعمدة الشاهقة المصنوعة من عظام العماليق الأوائل (أبناء غايا) وطعمت بطبقة من تراب الجحيم، وتمت تقويتها بالحمم السائلة حتى تماسكت وصارت متينة لا يمكن هدمها، على الأقل في الوقت الراهن، فوق ذلك العرش المرعب المكون من جماجم وعظام البشر، جلس "بولوش" أحد حاكم العالم السفلي بأمر سيد العالم السفلي "هاديس"، وبين يديه وقف "سيرابيس" حارس الجحيم، ينظر إليه بافتخار وزهو سعيدًا بخبر موت "باديش" الملك الذي عذب الشياطين لأربعين سنة وذاقوا على يديه كل ألوان العذاب، تنهد بعدما أثنى على فكرة خادمه، وقال بنبرة هادئة:
-  خادمي المطيع "سيرابيس" يا حارس الجحيم، اذهب ونفذ، ولا تعد إلا ظارفرًا.
أحنى "سيرابيس" رأسه وقال بحماسة:
-  خادمكَ المطيع طوع أمركِ سيدي سيد العالم السفلي، وقريبًا سيد العالَمين.
وانصرف لتنفيذ الأمر بالحماسة نفسها.
بينما أخذ "بولوش" ينقر بصولجانه على قاعدة عرشه ليتردد صدى رنينه مدويًّا في أرجاء العالم السفلي، وعندما استمعت إليه الكائنات السفلية الراقدة في أقفاصها متأهبة للأمر المنتظر، تعالى الزئير والنباح والفحيح كجوقة تردد ترنيمة بحماسة دون انقطاع.
    * * *
قرب هضبة الأوليمب اختلط هدير الماء المنهمر من بحيرة النعيم، بتغريدات طيور الكناري المنبعثة من الأشجار التي تزين الضفاف التي لا حد لها، وتعالت ضحكات "ثالوث الحُسن" (الكارايتات): "ثاليا" سيدة الاحتفالات وأكبرهن سِنًّا، "آغليا" سيدة الجمال والمجد وزوجة "هفستوس" وأنجبت منه أربعة جميلات يعتبرن سيدات الحُسن الصغيرات، "يوفروسيني" سيدة البهجة والسرور، وهن تجسيدات الرقص والموسيقى والإبداع، خرجن في الصباح الباكر لأخذ حمامهن البارد كما تعودن، تجردن من ملابسهن ورحن يتراشقن بالماء الذي تحول إلى قطع من الثلج، والطيور الرابضة فوق الأغصان تتابعهن، والضوء المنبعث من أجسامهن الناصعة يكاد يعمي الأبصار.
فجأة توقف التغريد، وتركت الطيور أماكنها للنجاة بأرواحها من اللهيب القادم، احتبست الأنفاس وتلاشت الضحكات، وتبخرت السعادة غارقة في قاع البحيرة، وتعالى صوت شهيق النار المنبعث من أجنحة الأحصنة النارية المحلقة فوق البحيرة، يجرون عربة يقودها "سيرابيس" يفرقع بسوطه الناري ضاربًا الهواء فيخلف دخانًا ملأ سواده السماء، تعالت صرخات الثالوث يطلبن النجاة، لكن صوت شهيق النار كان أعلى، وبقوة لا تعرف التعامل مع الجمال اختطف الخدام الثالوث وعادوا جميعًا خلف سيدهم من حيث جاءوا.
    * * *
بعد وصول "سيرابيس" وأعوانه إلى العالم السفلي، وحبس "الثالوث" في أقفاص قاسية، عاد "سيرابيس" إلى سيده "بولوش" الجالس فوق عرشه يضحك مستمتعًا بصرخات الثالوث، يلوح بصولجانه في الهواء، شكره وأثنى عليه، أمره بتشديد الحراسة عليهن، لأنه يعلم أنّ بعد الملك "باديش" سيأتي بشريٌّ آخر يحاول تخليصهن، وإعادة السيطرة البشرية على الكائنات السفلية، لكن "بولوش" سوف يستغل الوقت جيدًا لإغراق عالم البشر في براثنه، وسيجعل خدامه يعيثون الفساد في الأرض، وينشرون الرعب في قلوب بني الإنس.
فأمر أحد خدام الجحيم بالتنكر في صورة بشري والذهاب إلى "عامورا" عصامة مملكة "كينان"، فذهب الشيطان لتنفيذ أمر سيد العالم السفلي وإغواء البشر وخداعهم بما كلف به.
* * *
بوصوله دُهش الناس من حُسنه وزينته التي لم يرو مثيلها، فقال بصوت مرتفع بعدما اجتمع الناس حوله:
-  أيها الناس، إنّ "باديش" لم يكن ملكًا، بل كان ساحرًا، ومُلكه مشيد على السحر، فالتمسوا سحره في متاعه وبيته.
توقف الناس مشدوهين، فقال:
-  إن لم تكونوا مصدقي، تعالوا خلفي إلى داره.
ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، دخل الناس أفواجًا، ونبشوا أسفل العرش، واستخرجوا المخطوطات المدفونة في باطن الأرض، تعالت همهماتهم:
-  صدق الرجل.
-  هذه تعاويذ وتعازيم سحرية.
-  لقد كان ساحرًا، يركب الريح.
-  سحره مدوّن هنا.
-  بهذا تعبدنا.
-  وبهذا قهرنا.
هرع الناس إلى الخارج والمخطوطات التي خطتها الشياطين بين أيديهم وفيها كل أنواع التعاويذ والتعازيم، وهذا ما يفضله سكان العالم السفلي، وإذا نفذ الإنس ما فيها يعينون بعضهم بعضًا على مطالب ضعيفي الأنفس، أولئك الذين يسعون خلف المال والجاه، وبها يخلطون فيها الكذب بأمور غائبة، ومن الأمور الأخرى التي تصيب البشر بالأمراض بسبب السحر، وإعانة السفليين لهم على أفعال لم تكن لتحدث أيام الملك "باديش" الذي ساد العدل في أيامه وحجّم شياطين الجن والإنس وسخرهم لخدمته، وبعده هذا ما آل إليه حال البشر.
أخذ الرجل ينظر إلى الناس بزهوٍ فرحًا بصنيعه وتنفيذ أمر سيده الذي سيذهب إليه بعد قليل يزف إليه الخبر السعيد، وحوله التف السحرة والكهنة وكل جنس الخوارق، فرحين بما حدث للناس، يتنازعون حول حيازة المخطوطات، وكانت الحيازة للأقوى بحق الذراع.
* * *
بعودتهم إلى العالم السفلي، كان الخدام قد صنعوا من قطع كبيرة أخذوها من صخور الجحيم؛ الكثير من الشياطين الحراس لحراسة أقفاص الثالوث، والتصدي لمن يقترب من البشر وإلحاق به ما يستحق، جلسوا جميعًا بين يدي سيد العالم السفلي، ليوزع على كل منهم مهامه المكلف بها، هزوا جميعًا رؤوسهم راضخين للأمر، بينما أخذ يضرب بصولجانه قاعدة عرشه فتهتز الأرض أسفل منهم، فعل هذا لترهيبهم، وهو يعي أنهم بالفعل يرهبونه، وهم على أهبة الاستعداد لخدمته، سواء كانوا من شياطين الجن أو الإنس، أشار بصولجانه لأعلى فنهضوا وهموا بالانصراف.
نهض "بولوش" عن عرشه بعدما فرغت قاعة الاجتماع من حاشيته وأعوانه وخدامه، وسار على مهل يجر صولجانه خلفه فتتشقق الأرض من أثر احتكاكه بها وتأجج الشرر يتطاير خلفه كالذباب المشتعل، يتبعه إلى حيثما يذهب، وصل إلى أقفاص الثالوث، وراح يقهقه فأصاب قلوبهن بالذعر وانطلقت الصرخات من أفواههن على غير إرادة منهن، وانكمشت كل واحدة منهن على نفسها عند أبعد زاوية بالقفص خوفًا منه، بينما تركهن مذعورات يرتجفن من فرط الهلع، وذهب بذات الخطوات الآلية إلى جناحه لينال قسطًا من الراحة لمعاودة أعماله في اليوم التالي.
* * *
تعالى الزئير والخوار يدوي في سماء مملكة "كينان" ليهرع كل الكلدان مذعورين للاحتماء داخل بيوتهم خوفًا على أنفسهم من الشر القادم، واحتل السماء "الثور المجنح" الذي يسمونه "شيدو" أو " الآلادلامو "، وهو عبارة عن ثور مجنح برأس إنسان له لحية قائمة مجدولة، يبرز من تاجه قرنان طويلان مدببان، قائميه الأماميين لأسد قوي، والخلفيين لثور مكتنز، له أربعة أجنحة عظيمة، شكّلته الآلهة الأكّادية على هيئته تلك لتجتمع فيه عناصر الكمال الأربعة، (رأس الإنسان دلالة على الحكمة، والأسد للشجاعة، والثور للقوة، وأجنحة النسر للمجد)، أخذ ينفث النيران المنبعثة من بين فكيه القويين ليحرق كل البيوت دون رحمة! واحترقت المملكة عن آخرها وما ترك عليها من دابة تحيا.
هنا انتفض الملك "أكرمان" من هذا الكابوس مفزوعًا يتعرق، هذا الكابوس الذي ظل يراوده ويقض مضجعه لأيام منذ وفاة الملك "باديش"، تدفقت الدموع من عينيه حسرة على ما آل إليه الحال، يندب حظه العثر، لقد ورث مملكة مترامية الأطراف مع الكثير من العداوات بين شياطين الجِن والإنس على حد سواء.
* * *
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي