الفصل الثاني عشر

كما وعدت ابنتها أوفت نعيمة بأن فتحت بابها لمقابلة العريس وأهله، رحبت بهم وأبدات موافقتها على الفتى، حتى لاتحرم ابنتها من الفرصة كما تخيل لزينب ولكنها طلبت من الفتى واهله إنتظارها حتى تكمل رسالتها معها في تعليمها الجامعي مع عدم اقامة خطبة رسمية أو وعدٍ قاطع يلتزم به الفتى، ولكنها أقسمت بأنها لن تكون لغيره لو انتظرها ، وان لم يستطع الإنتظار وتزوج بأخرى فسوف تكون هي وابنتها اول المهنئين ، .
وبذلك تكون اعطته فرصة ولم تغلق الباب بوجهه لو يريدها بحق، فيكون هو احق البشر بها حتى لو لم يكافئها في التعليم؛ والخيار بيده !
وهذا طبعًا بموافقة زينب حتى تعلم جيدًا ان والدتها لن تغلق الباب أمام فرصة لها، ولكن حدث ماتوقعته نعيمة فقد تزوج الفتى في السنة التالية ولم يستطع الانتظار، خشيت نعيمة من حزن زينب على ضياع الفتى منها وهي تظنه فرصة لن تتكر ولكن تفاجأت برد فعل زينب المتماسك ، فنضوجها المبكر من قسوة ماتواجهه في يومها خفف عنها وطئة الحدث، وجعلها تتمسك بتعلمها اكثر وتجاهد للتقدم، حتى تثبت لنفسها ولوالدتها صدق موقفهم، امام من لم يدخروا جهدًا في تكدير عيشهم وادخال الحزن بقلوبهم حتى وقت فرحهم .
كم كانت تؤلمها نظرات النساء المغمغة بكلمات الشفقة والإستنكار حينما تجدنها تضخك وسط قريناتها المتزوجات ، فقد كانت زينب الفتاة الوحيدة المتبقية دون زواج في القرية التي تزوج فتياتها من عمر الرابعة عشر وأحيانًا اقل، كم اَلمها تلمحيات السيدات الساخطة على المرأة التى أوقفت حال ابنتها ومنعتها من الزواج بحجة اكمال تعليمها الجامعي في كلية ادبية وليست حتى علمية ، كي تستحق التضحية ، لقد قالتها جارتها ام سعيد في إحدى المرات بلسانها حينما سألتها عن اسم كليتها حينما رأتها في أحد الافراح واقفة مع إحدى صديقاتها القدامى، أجابتها زينب بحسن نية :
- كليتي اداب انجليزي ياخالة .
غمغمت المرأة تمصمص بشفتيها مستنكرة :
- اداب ! امال لو كنتي طب و هاتبقي دكتورة صح ؟ كانت عملت إيه نعيمة كمان على كدة؟
تبعتها بضحكة مستخفة مع مرأة أخرى كانت واقفة معها، وزادت باستخفافها:
- حرمان ياخيا فاكراها هاتطلع دكتورة من العمايل اللي بتعملها نعيمة عشانها، قال وموقفالي حالها، وكل ما يجيها حد ترفضه على ما بتها تخلص كليتها، واللي طلعت في الاَخر اداب ههههه
مرت الكلمات على زينب وكأنها خنجر مسموم داخل صدرها، تماسكت امام المرأة وصديقتها ولم تبدي امامهم رد فعل، حتى انسحبت بخفة وعادت للمنزل، لمنزلها تذرف دمعات القهر داخل حجرتها من تسفيه المرأة لجهدها وجهد والدتها بقرقعة مستهينة من فمها، وضحكة رقيعة بجهلها، أقسمت زينب في هذا اليوم على انها ستأخذ لقب دكتورة؛ حتى وان لم تدخل الطب، وستستعى لإسعاد والدتها وانصافها مهما رأت من تسفيه المحيطين حولهم وسخريتهم، حتى لو كلفها هذا عدم الزواج نهائيًا، لقد ضحت والدتها من اجلها وتحدت الجميع ، الا تستحق هي ايضًا التضحية ؟
ومن الاَن ستكف عن محاولاتها المستميتة للتواصل مع مع أبيها الذي تخلى عنها وتنحى عن واجبه نحوها نهائيًا وكأنها لم تعد موجودة فعلًا، لن تحاول مرة اخرى بغباءها وصل ماانقطع
....................................
وضعت زينب همها في مذاكرتها لتجتهد وتتفوق على نفسها، ووضعت نصب أعيُنها التقدم للوصول لهدفها، أزاحت عن عقلها كل فكرة تعرقل حلمها او تلهيها عن تحقيقه ، ونعيمة لم تدخر جهدًا في توفير المناخ المناسب الذي يساعد ابنتها قي مهمتها، رغم كل ما يواجهنه من صعاب وتحديات ، وتمُر السنوات والأيام بحلوها ومرها، على الاثنتان وكل واحدة منهمن تفعل المستحيل من أجل إسعاد الأخرى، ولإجل الوصول بمركبهم الصغيرة وهي تسبح وسط الأمواج الهادرة والغادرة الى بر الأمان .

حتى أتي هذا اليوم العظيم والذي تخرجت به زينب، بعد ان أكملت سنوات دراستها بعد مُر الصبر والعذاب ، تخرجت بدرجة عالية ومتفوقة في الدراسة، أهلتها لنيل الفرصة بالتعين فى الجامعه كمعيدة ، أول قرار اتخدته زينب بعد نيل وظيفتها كان البحث عن سكن مناسب لها هي ووالدتها فى المدينة، بعيداً عن القريه وسكانها، ليستقرا هناك وتترقى فى الدرجات العلمية .. وتنشئ مستقبل باهر يليق بها ويُسعد والدتها، وتحصد نعيمة اَخيرًا ثمار الصبر وسنين الشقاء ،بتحقيقى الحلم فى تعليم ابنتها
واكتملت السعادة بزواجها بأحد زملاءها من هيئة التدريس، رجلُ راقي يليق بها وتليق، يستحقها وتستحقه ، وكان شرطها الأساسي هو السكن مع والدتها وعدم البعد عنها، تقبل شرطها بصدرٍ رحب، ولم يعترض؛ بل اعتبرها كالوالدته التي افتقدها صغيرًا، وكنتيجة طبيعية كلل زواجهم بالأطفال، وبعد مرور عدة سنوات بعيدًا عن القرية عدن الاثنتان في زيارة للخال حسان، بناءًا على دعوة تلقوها منه ، وذلك احتفالاً بحصول زينب على درجة الدركتوراة .
............... ................

توقفت بسيارتها أمام منزل جدها القديم والذى عاشت فيه قسطا ليس بالهين ، بل الأصح هو القسط الأصعب في سنوات عمرها، لشقاء أمراءة تحدت وتمردت على زوجها وظلمه، من اجل ابنتها ، بعد أن كانت ضعيفة ومستكينة، ومتقبلة لظلمه هو وزوجته، من اجل أبنتها ايضًا.
ترجلت من السيارة الفارهة، من المقعد الأمامي خلف المقود ، بعد ان لفتت نظر معظم اهل قريتها، فرؤية امرأة تقود السيارة لهي من اندر المشاهد في القرية، رتبت سترتها الجلدية قبل ان تفتح الباب الخلفي وتساعد والدتها للخروج منها .
استندت نعيمة على ساعد ابنتها وهي تضع قدمها على الأرض قائلة :
- خلاص يابتي انا هاعرف انزل لوحدي .
لم تعير كلماتها اهتمامًا زينب ولم تتركها سوى بعد ان استقامت بجذعها وابتعدت عن السيارة، اغلقت باب السيارة زينب لتلحق بوالدتها التي لم تنتظرها وسبقتها الي منزل ابيها وعائلتها قديمًا .
انتبهت زينب على النظرات الفضولية حولهم من جيران او اناس عادين عابرين للشارع، والذين استوقفهم مشاهدة المرأتان الغريبتان بملابسهم الغير معتادة لأهل القرية، مطت شفتيها غير عابئة وهي تكمل طريقها حتى توقفت بجوار والدتها، والتي تسمرت خلف الباب من الخارج واضعة كفيها الإثتنان على خشبه، وكأنها تشتم رائحته و بلمسها له تستعيد دفء عائلتها الراحلة عنه .
- إيه ياأمي؟ هاتفضلي كدة واقفة كتير على الباب من غير ما تفتحيه؟
التفتت لها نعيمة بابتسامة جميلة ترد:
- مش عارفة يابتي، والنبي ما عارفة ايه اللي صابني لما حطيت يدي على الباب، مخي لف كدة في ذكريات قديمة ويدي سابت عن فتحه .
أشرق وجه زينب هي الأخرى بابتسامة رضا وهي تتمعن النظر في وجه والدتها " نعيمة" والتي تغيرت ملامحها الاَن بشكل جذري بعد هذه السنوات القليلة التي قضتها معها في المدينة، فقد ازداد وزنها وتوردت وجنتيها و ظهرت على ملامحها النضارة بشكل واضح، وكأنها عادت فى العمر ٢٠ عاما للخلف عكس بقية النساء في عمرها.. من يراها الاَن لا يصدق ان من تقف بجوار الباب الخشبي المتهالك، هي نفسها نعيمة؛ والتي رسم البؤس على ملامح وجهها لوحه كئيبه طول فترة زواجها من سليمان، هذا الوجه المشرق ليس بسبب العيش المرفه بعد شقاء، وانما هي اشراقة رضا نابعة من اعماقها، وذلك بعد ان حققت مبتاغاها، في بناء ابنتها جيدًا ومساعدتها لتخطي واقعها للقفز نحو التقدم ووصولها لدرجة علميه متميزه بشهادة الجميع ومركز اجتماعى مرموق يليق بكفاحها وبشخصها المتميز .
قالت نعيمة بمشاكسة :
- اديكي انتي كمان وقفتي وتنحتي قدام الباب؟ لهو انتي كمان افتكرتي ذكريات؟
هزت زينب رأسها تضحك بيأس وهي تدنوا على حقيبتها تبحث داخلها عن المفتاح القديم وتردد:
- لا يااختي الحمد لله، انا مافكرتش في ذكريات زيك ولا حاجة، واهو المفتاح اللي هافتح بيه ياستي.
قالت الاَخيرة وهي تلوح بهِ امامها بعد ان اخرجته من الحقيبة، وقبل ان تهم بإدخال المفتاح بالمزلاج اوقفها الصوت الانثوي الصادر من قريب:
- انتوا مين ياخيه عشان تفتحوا باب البيت ده واصحابه مش موجودين؟
اللتفتت لها " زينب " وبعدها " نعيمه " التى قامت هى بالرد
- انا وبتى اصحاب البيت ياام سعيد

اقتربت منهم المرأه وهى تتسأل مندهشه :
- ام سعيد !!........ لاهو انتو عارفي........واااه " نعيمه " .. ازيك ياغاليه
قالت الاخيره وهى ترتمي على نعيمة تعانقها وتقبلها من وجنتيها، والاخرى تبادلها العناق والقبلات.
- عاش من شافك ياغالية ، والنبي ليكي وحشة كبيرة في قلبي يانعيمة .
- وانتي كمان اكتر ياحبيبتي، انتي وكل أهل البلد .
- بلد مين يامرة ياخاينة وانتي بقى بعيدة عنها وعن ناسها، استني عليا بس، اسلم على القمر دي اللي واقفة معاكي .
قالتها بإشارة نحو زينب التي حينما اقتربت منها تفعل المثل، اوقفتها محلها بحنكة واكتفت بسلام الايدى، دون الاستسلام للعناق والقبلات الكاذبة منها، فهى لم تنسى ولن تنسى على ألإطلاق، افعال هذه المرأه معها و التى كم اَلامتها بالكلمات الجارحة، بدايةً من تلميحلتها المستفزة عن تأخرها في الزواج ، وحتى استهزائها بتعليمها الجامعي وما فعلته والدتها من تضحيات من اجله..

.....يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي