الفصل الحادي عشر

حينما تدبرت نعيمة استقلالها بالمسكن والمال اللذى يمكنها من تحقيق هدفها الأسمى وهو تعليم ابنتها، كانت تظن انها قد قطعت نصف المشوار ولم يبقى سوى تعليم زينب بالجامعة، ولكن كان هذا ظنها في البداية، قبل ان تصطدم بالواقع المرير وتواجه مصاعب عيش امرأة وحدها مع ابنتها التي اصرت على اكمال تعليمها ورفضت زواجها في هذه السن الصغيرة؛ وكان الثمن هو طلاقها، والذي تقبلته نعيمة بصدر رحب، ولم تتقبله الناس حولها ، وهذا ما كان يبدوا في تصرفاتهم معهما او في احاديث النميمة التي كانت تسمع همسها كلما مرت على مجموعة من النساء او حتى الرجال في المناسبات او جلسات الشارع ، الا يكفي ما تعانيه مع ابنتها تربية العز والمعيشة المرفهة في تقبلها السكن في بيتً اَيل للسقوط ومستوى مادي اقل مما كانت معتادة عليه بحرمانها من أشياء ضرورية لها كفتاة في هذه المرحلة الحساسة من عمرها؟ حتى تصطدم بهولاء وهمزاتهم ولمزاتهم، ولو عليها هي فقط لتحملت وتجاهلتهم من أجل هدفها الأسمى وهو تعليم ابنتها، ولكن ما كان يتعبها بحق هو هذه النظرة التعسة التي كانت تراها على وجه زينب كلما ذهبت لمناسبة اجتماعية كفرح إحدى صديقاتها او تهنئة بخطوبة أو اسبوع ولادة واحدة منهمن، فمعظمهن ان لم يكن جميعهن تزوجن صغيرات ، من كانت في عمرها او اقل عنها في العمر، هي لم تكن تتكلم حتى لا تُحزن والدتها ولكن نعيمة بشعور الأم كانت تقرأ ما بقلب ابنتها من نظرة واحدة لعيناها الحزينة، وهي تدعي عكس ذلك، كم ودت نعيمة لو تكلمت زينب واخرجت ما في صدرها، حتى تعلم ما بعقلها وتطمئنها، ولكن مع مرور الايام اتت هذه اللحظة؛ و كان ذلك حينما تفاجأت بزيارة لإحدى جارتها تخبرها برغبة اخيها الشاب ذو الخامسة والعشرون ربيعًا من عمره يريد الزواج من زينب، وكان هذا الأمر امام ابنتها؛ همت للرفض القاطع كالعادة مع كل طالب يأتيها بالزواج من زينب، ولكنها تفاجات بتدخل زينب وردها للفتاة الشابة بالإنتظار قليلًا للتفكبر في الأمر ، تلجمت نعيمة على الإعتراض امام الفتاة ولكن بعد ذهاب الزائرة وخرجها من المنزل كان هذا الحوار :

- كان قصدك ايه لما طلبتي من سعاد بسطاوي انها تتنظر شوية على ما نفكر؟
سألتها نعيمة بعد ان عادت من توصيل الفتاة لخارج البيت وأغلقت الباب .فكان رد زينب بهدوء :
- قصدي اللي سمعتيه يامّا.. انا عايزة فترة عشان افكر فيها .
جلست نعيمة في الإريكة مقابلها تسألها بعدم استيعاب:
- نعم يااختى؟ لهو انني فعلًا عايزة تفكري في امر جوازك عامر بسطاوي اخو زهرة؟
ردت بنفس الهدوء:
- وفيها ايه بس يامّا لما افكر؟ عامر من عيلة زينة وحالتهم المادية كويسة، دا غير انهم مأصلين في تعاملاتهم مع الناس وزهرة اخته زي ما انتي شوفتي بنفسك، لبسها زين وحديتها زين زيها، واكنها واحدة جاية من البندر .
قاطعتها نعيمة تسألها بتوجس :
- والعريس نفسه يازينب ايه رأيك فيه ؟
ردت زينب تجيبها بارتباك:
- ااا عامر محترم ومؤدب والكل يشهد باخلاقه و...
- وشكله حلو ولبسه غالي والبنته كلها نفسها في واحد زيه .
قالتها نعيمة بمقاطعة حادة اجفلت زينب وجعلتها ترد بلجلجة :
- يعني.. وافرضي يعني كان شكله حلو ولبسه زين؟ هي دي حاجة تعيبه مثلًا؟
ردت نعيمة بقوة وهي تميل اليها برأسها :
- لا طبعًا ياحبيبتي دي حاجة ماتعيبهوش.. لكن تعيبك انتي عشان نسيتي تعبنا طول الشهور اللي فاتت واتحدينا ابوكي والناس كلها؛ لجل ما تكملي تعليمك وتبقي حاجة زينة، وانتي مع اول اختبار عايزة تقفي في نص السكة وماتكمليش.
نهضت زينب قائلة بدفاعية :
- مين اللي قال اني مش عايزة اكمل؟ انا بس مش عايزة نرفض كدة من الباب للطاق من غير سبب .
نهضت ايضًا نعيمة في مواجهتها:
- خليكي جريئة وقوليها بخشمك يا زينب ، انتي الواض عاجبك ونفسك تتجوزيه حتى لو ها يخليكي تسيبي تعليمك .
ردت زينب بسرعة :
- لا والنعمة يامّا، انا عايزة اكمل تعليمي ومش عايزة اوقف في نص السكة زي ما بتقولي، بس كمان مش عايزة ارفض عامر بسطاوي كدة على طول، دا فرصة بتحلم بيها كل البنتة .
اقتربت منها نعيمة تحدثها بمهادنة :
- يابتي الراجل مش منظر وبس، ومش اي راجل شكله حلو بيعتبر فرصة، بعد الجواز بتروح زهوة الشكل الحلو وبتفضل بس المعاملة بين الراجل ومرته، يعني الراجل ممكن يبقى شكله عفش في الظاهر، لكن بمعامتله لمرته تشوفه احلى الرجال، وممكن يبقى في جمال الشكل مافيش زيه، ولكن بمعاملته برضوا مع مرته تشوفه اعفش الرجال!
انتي عيلة صغيرة ولسة ماعرفتيش من الدنيا غير الظاهر ، انا مش عايزة اجيبلك حكاياتي انا وابوكي مثال، بس عايزة افكرك بمستقبلك لو مكملتيش جامعتك، هاتبقي زيك زي اللي متعلمتش واسأليني انا .
قال زينب بتردد وهي تتهرب بعيناها من والدتها :
- طب ماهي زهرة أهي واخدة دبلوم واديكي شوفتي بنفسك، اللي يشوفها وهي كدة بشياكتها وكلامها الزين يفتكرها من بنات البندر .
وكأن دلوًا من الماء المثلج سقط فوق رأسها؛ انعقد لسانها ودارت الدنيا بها، وهي تسمع هذه الكلمات المفاجئة من ابنتها؛ ابنتها زينب معجبة بالشاب وتريد الموافقة، وعقلها يرسم لها احلام الارتباط بهِ، ويجعلها تنسى حلمها الأساسي، وهي بناء نفسها أولًا، يبدوا ان نعيمة قد خسرت معركتها وهذه هي البداية.
تمالكت نفسها تسألها وهي تسقط على الاَريكة خلفها:
- عايزة تتجوزي يازينب وتسيبي كليتك؟
التفتت اليها زينب مجفلة:
- مين قال اني عايزة اسيب كليتي؟ انا بس مش عايزة ارفضه، تفرق يامّا .
هزت رأسها تسالها بعدم استيعاب :
- تفرق ايه بالظبط ؟ يعني انتي عايزة تتجوزي وتكملي تعليمك في بيته؟
ترددت قليلًا قبل ان تجيبها:
- بصراحة انا حاسة إن الحكاية دي هاتبقى صعبة، خصوصًا كمان لو حصل خلفة، طب هو ممكن يرض لو استناني تلت سنين خطوبة على ما كملت جامعة؟
تنهدت بعمق تسايرها رغم هذا الألم الذي شق صدرها :
- معرفش يازينب عشان ماسألتوش.. لكن لو تحبي انتي وليكي غاية في كدة اسأله .
ردت زينب بحماس تحاول ان تخفيه رغم هذا البريق الذي ظهر بعيناها :
- طب مانجرب يامّا وندخلهم بيتنا عشان يسمعوا شروطنا ، بدل ما احنا كدة بنرفض من عالباب والناس بيعيبوا علينا .
قاطعتها نعيمة تسألها:
- ناس مين يازينب اللي بيقولوا ويعيبوا علينا؟ هو احنا لما نرفض العرسان دي بقت عيبة كمان؟ انا اول مرة اسمع بحاجة زي دي!
التفتت اليها زينب ترد بكلمات يقطر منها المرار:
- دا في نظريتك انتي يامّا، لكن بقى الحقيقة، هي انهم بيقولوا نعيمة بترفض العرسان اللي متقدمة لبتها عشان جوزها وضرتها عقدوها من الجواز خالص، وهي بقى عايزة بتها تقعد من غير جواز وتعنس ولا تشوف المرار اللي شافته هي !
للمرة الثانية تُفحمها ابنتها بكلمات لا تجد ردًا عليها، لهذه الدرحة هي قصتها معروفة، والناس حولها تضيف لحكايتها بعض التفسيرات والتأويلات من رأسهم.. لقد ظنت بعقلها محدود الذكاء، ان الهمز واللمز حولها يتلخص في معيشتها هي وابنتها بمفردهم كامرأة مطلقة بابنتها، ونسيت انها بقرية صغيرة، واخبار البشر واحوالهم فيها، تتناقل كالعلكة في الافواه؛ اذًا هم يعلمون انها ظُلمت من زوجها وضرتها فلماذا يستكثرون عليها الدفاع بحمائية عن ابنتها ومستقبلها لعدم تكرار مأساتها؟
خرجت من شرودها لتسأل زينب :
- طب انتي ايه رأيك يازينب؟ شايفاني زيهم برضك عايزة اقعدك جمبي واخليكي تعنسي،
هزت زينب راسها تنفي بسرعة وقالت بصدق :
- لاطبعًا ياامّا، انا عارفة ومتأكدة انك بتحبيني ونفسك اتعلم وابقى زينة عشان اتجوز احسن واحد في الدنيا .
تنهدت نعيمة بارتياح بعد تعب وكأنها كانت في سباق للعدو فسالتها:
- طيب لما هو كدة يابتي، لزوموا ايه بقى اللت والعجن في الموضوع ده من اساسه؟ وانا بصراحة شايفة عامر على كد ما هو زين ويفرح اي عروسة لكن عندي احساس كبير، انك لو كملتي تعليمك هاتتجوزي اللي احسن منه مية مرة .
- احسن منه مية مرة!
قالتها زينب باستنكار قبل ان تكمل :
- يامّا انا خايفة لامحدش يبصلي اساسًا على ماخلصت، ولا انفع عامر ولا غيره؛ ما انتي شايفة بلدنا بنفسك عدد المتعلمين وواخدين كليات فيها قليل قوي وبرضك بيتجوزا بنتة صغيرة؛ انا خايفة اكبر يامّا وملاقيش المتعلم اللي يناسبنى ولا يرضي بيا اللى اقل مني.
بهتت نعيمة لعدة دقائق تنظر لزينب صامتة، صغيرتها كبرت ورأت الواقع افضل منها وهي التي كانت تظن انها تعلمت من خبرات الحياة وسنوات عمرها الطوال! خرجت ابتسامة سعيدة وجهها رغم صعوبة الموقف عليها فقالت :
- كبرتي يازينب يابت نعيمة، قال وانا اللي فاكراكي لسة عيلة صغيرة؟
انتقلت لزينب عدوة الإبتسامة قبل ان ترد على والدتها:
- ماانتي قولتي قبل كدة ان الزمن وقسوته بيعلموا يامّا، واظن يعني لو ما اتعلمتش انا بعد اللي شوفته دا كله ابقى غبية .
- بعد الشر عليكي من الغباوة ياقلب امك، دا انتي زينة البنات كلهم .
تبسمت زينب بانتشاء على كلمات الأطراء من والدتها وبعد ذلك سالتها:
- طب جوابك ايه بقى على الموضوع اللي اتكلمنا فيه دلوك؟
تنهدت نعيمة بصوت عالي وهي تكتف ذراعيها، مخفضة عيناها بتفكير لعدة لحظات قبل ان ترفعهم فجأة الى زينب المترقبة تسألها:
- يعني افهم من كلامك يازينب انك واخدة موضوع عامر على انه فرصة وبس، وخايفة لتضيع منك وماتتكرش ؟
أومأت برأسها وقالت :
- بصراحة ايوة يامّا، انا خايفة اصبر واتعب وفي الاَخر تيجي وقعتي في واحد عفش، ساعتها هاستفاد إيه انا بقى بتعليمي ولا وظيفتي ؟
بشبه ابتسامة ردت نعيمة :
- حقك طبعًا ياقلب امك تفكري في الزين، وانتي أكيد بتغيري لما تشوفي عرسان صحباتك اللي هما اقل منك في الحلاوة؛ بس ايه رأيك بقى يازينب لو مسكنا العصاية من النص ؟
- يعني إيه يامّا؟ وضحي أكتر .
مالت إلى الأمام نحوها تحدثها بجدية :
- يعني ياقلب امك انا هاقبل ادخلهم بيتي وارحب بيهم كمان واقول موافقة بس على شرط واحد ، لو رضيوا بيه يبقى الواض يستاهلك وان موافقوش يبقى بقى الأرزاق على الله، وكل شئ قسمة ونصيب ..
- شرط ايه دا يامّا ؟

... يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي