الفصل العاشر

توقف حسان عن الذهاب ودنى برأسه إليها يسألها باستفهام :
- كلمتين ايه بالظبط اللى عايزني تاني فيهم ؟
تنهدت نعيمة واطرقت بعيناها قليلًا قبل ان ترفعهم لاخيها قائلة:
- عايزاك تقف معايا ياحسان في الايام اللي جاية وانا بخلص نفسي من سليمان بالطلاق .
ارتفعت يداه الاثنان في الهواء قبل ان يضرب بهم على جانبي جسده قائلًا بنزق:
- طلاق ايه الله يخرب بيت سنينك ؟ هو انتي خلاص قررتي وحكمتي؟ مش تستني تشوفي الظروف ايه في الايام الجاية ولا يمكن يبقى فيه رجعة ليكي من تاني؟
بشبه ابتسامة ردت:
- مافيش ظروف ولا كلام تاني ياحسان ، الموضوع مابيني وبين سليمان خلصان من زمان، انا اللي كان مصبرني بس البت، لكن بقى لحد كدة وكفاية ، وهو خيرني وقالي على فكرة، انه مش هايصرف عليا وعلى بته قرش واحد لو طلعت ونفذت اللي في مخي، وانا مش عايزه منه غير عفش ابويا .
هز برأسه قائلًا باعتراض :
- الكلام دا ماينفعش ياجزينة ، عايز يطلقك يبقى يدفع مستحقاتك ويدفع نفقة لبته عشان تعليمها على الاقل، ولا انتي فاكرة اللي هاتاخديه من ورثك هايكديها مصاريف جامعة ولا جهاز لما تيجي تتجوز ولا تكوني ناوية تسبيها كدة من غير جواز؟
القت نعيمة نظرة نحو ابنتها الملتصقة بالحائط تنظر اليهم باضطراب وقالت :
- يغور في داهية القرش اللي يجي من خلقته، وانا بتي اهم حاجة دلوك عندي هي تعليمها، وعلى ما ياجي ميعاد جوازها بقى يعدلها ربنا .
التوت شفتيه فرد حانقًا:
- يعني انتي مستغنية عن حقوقك كلها لصفا وعيالها بعد الطلاق زي ما كنتي متنازلة عن حقك في جوزك حلالك لضرتك في الجواز .
جرحتها كلماته ولكنها لم تظهر له في ردها :
- مالهوش لزوم الكلام ده دلوك ياحسان، انت بس حاول تجيبلي عفشي منه ولو مرديش بقى مش مهم ، انا كفاية عليا بنتي بالدنيا، وهابقى اصرف عليها من ورثى من ملك ابويا وامي واعيش على عفشهم القديم كمان .
قال بحرج:
- طب كدة بقى، يبقى مالوش لازمة قعدتك هنا انتي وبتك لوحديكم، هاتي هدومكم وحاجتكم، بيت اخوكي مفتوح.
ردت نعيمة قاطعة :
- الله يرضى عنك ياحسان وافقني وما تعترضش على كلامي، انا هاقعد هنا في بيت ابويا، انا وبتي مش هانتحرك لحتة تانية، دا هايبقى سكني عشان متاقلش على حد ولا نجيب مصيخة مع بعض، خلينا حبايب كدة واحنا بعاد احسن .
زفر متأففًا يتحرك للذهاب وهو يردد :
- اللي تشوفيه يانعيمة، ما انا عارف راسك انشف من الحجر، وعلى العموم هابقى اشوف صرفة في الكلام مع سليمان في موضوع العفش مدام انتي متنازلة عن حقوقك وان كان على الورث، ادعي بالتساهيل عشان مانعوقش فيه،
بعدما خرج من امامهم وصفق الباب القديم بقوة، جذبت نعيمة ابنتها من جوار الحائط لإحضانها تقبل رأسها وكأنها تأخذ منها الدعم ، فقالت زينب وهى تنظر فى اثر خالها الذي خرج :
- تفتكري خالي هاديكى حقك كامل ؟
ردت نعيمة :
- حتي لو كان هايكل نص حقى؛ برضك هايفضل معانا اللي يسترنا الكام يوم الجاين دول، وانا برضوا هامشي في اجراءات الحكومة على معاش المطلقات، نعيش بيه ان شاء الله في الاكل والشرب ، وبقية الورث هاحطها فى البنك ومن فوايده ان شاء اصرف على تعليمك .
خرجت زينب من احضانها تنظر اليها بفخر :
- انتى كنتى مخبيه فين شطارتك دى ياما ؟!.
ردت نعيمه بابتسامة باهتة :
- معلش يابتى انا طول عمرى كنت غلبانه لكن الزمن بقى هو اللي علمنى وتعليم الزمان واعر جوى .
.....................................

كما توقعت نعيمة رفض سليمان تسليمها ولو قشة من اثاثها وقال لإخيها بالحرف :
- هي تحمد ربنا وتبوس يدها وش وضهر اني سايبلها بتها تربيها .
عرض اخيها ان تفضحه وتأتي بحقها وحق ابنتها عن طريق المحاكم ، ولكنها رفضت ولم تهتم، و تركت حقها عند الله، فالأهم عندها هو تعليم ابنتها وكما قالت سابقًا بجملة الخسائر ، حينما استلمت نصيبها من الورث والذي تم بالتراضي مع اخيها رغم انتقاصه، عرض عليها اخيها مرة بإلحاح السكن معه وزوجته واولاده، لتحسين صورته امام الناس التي لاومته لتركها وحدها هي وابنتها، ولكن نعيمة رفضت وفضلت الاستقلال مع ابنتها في بيت قديم، خير لها من السكن مع اخيها وفرض نفسها وابنتها على زوجته واولاده ، ولكن الحياة لم تكن وردية على الإطلاق، رغم ابتعادها عن وجه صفا وتحكمات زوجها الظالم وتحقيق امنيتها في اللتحاق ابنتها بالجامعة بدأت المشاكل والصعوبات تظهر أمامهم تلو الأخرى .

زينب والتي بدأت تتأقلم مع عيشها في بيت قديم وقد حرمت من مزايا الترفه في بيت اباها من منزل نظيف ومريح التعامل بالأجهزة الحديثة ، عكس هذا البيت الطيني المفتقر لكل مزايا السكن الأدمي بالنسبة لفتاة بعمرها، وسع مساحة البيت وانكشاف بعض المناطق منه وذلك لبناءه على النظام القديم، كان لا يحمي من حرارة الشمس التي كانت تتسلل اليها هي ووالدتها بوسط جلستهم بالصالة أو هبات الهواء المزعجة ، او برودة الشتاء ، ولا مياه الأمطار التى كادت ان تصيبها في إحدى المرات بنوبة قلبيه حينما ازدادت فاثارت شفقة الجيران وخوفهم، فعرضوا عليهم الاحتماء معهم في منزلهم، حنى لا يغرق البيت الطيني القديم ويسقط فوق رؤسهم ، ولكنهم رفضوا وقضوا ليلة مرعبة داخل احدي الحجرات محتمين ببعضهن واصوات البرق تضرب فوق رؤسهم دون رحمة، ومياة الأمطار من كثرتها اغرقت نصف الصالة ، تعددت الليالي وتعددت لحظات الرعب.
حتى اتى هذا اليوم حينما تغيبت زينب عن محاضراتها في الجامعة، فهاتفت إحدى صديقاتها تخبرها عن سبب تغيبها؛ هو حمى شديدة اصابتها فاضطرتها لملازمة الفراش، وكانت المفاجأ حينما اتت الفتيات اليها للإطمئنان عليها
.
استيقظت من غفوة قصيرة على صوت والدتها التي كانت توقظوها بصوتٍ حنون :
- بت يازينب قومي يابتي اصحابك جاين يزروكي .
فتحت عيناها بعدم تصديق وهي ترى الاثنتان مروة وحنان فتيات المدينة صديقاتها في الكلية بصحبة هاجر ابنة بلدتها وزميلة الدراسة معها بنفس الكلية، واقفاتٍ أمامها على مدخل الغرفة، بملابسهم الزاهية والمبهرة والتي لاتليق مع المكان بأية صفة؛ رفرفت برموشها قليلًا تستوعب ماتراه، ان كان حقيقي ام خيال؛ ولكنها أجفلت على صوت والدتها وهي تحدثها :
- اعدلي نفسك شوية يابنتى عشان تسلمي على البنات ، وانتوا ياحبايبي واقفين ليه على الباب اتفضلوا ادخلوا وشوفوها؛ دا البيت بيتكم .
قالت الاخيرة وهي تخاطبهم، اعتدلت زينب قليلًا بجذعها تستقبل تحيتهم وهن يتقدمن اليها يصافحنها بالترتيب ويقبلنها على و جنتيها بغموض، ثم جلسن بجوارها على الفراش لعدم وجود مقاعد في الغرفة .
قالت حنان وعيناها تجوب الغرفة الغير مرتبة :
- الف سلامة عليكي يا زينب، دي الدفعة كلها قلقت عليكي بما انك اشطر واحدة فينا .
إكملت على قولها مروة :
دا الدكتور عيسى كانت عينه رايحة جاية على مكانك وسطنا، اللي احتلته واحدة زميلتنا وكان هاين يقولها قومي دا مش مكانك .
ردت بابتسامة باهتة وعيناها لا تترك هاجر بلوم على مفاجأتها بزيارة الفتيات والاخرى تتهرب منها بعيناها:.
- فيكم الخير يابنات انكم جيتوا وسألتوا، بس تعبتوا نفسكم ودي حاجة مش مستاهلة .
قالت حنان :
- اذاي بس مش مستاهل، احنا كان نفسنا نطمن عليكي ياحبيبتي، لكن معلش في دي السؤال، هي دي اؤضتك ولا اؤضة والدتك .
ردت بحرج :
- دي اؤضتي انا ووالدتي ياحنان، احنا الاتنين ما بنسيبش بعض.
أومأت برأسها حنان تدعي التفهم ثم قالت بمغزى :
- بس دا ما ينفعش على فكرة مدام انتي تعبانة يا زينب ، لازم تبعد امك لاتتعب هي كمان .
اومأت زينب برأسها وقد جرحتها ملاحظة حنان ونظراتها المزدرئة نحو الاثاث القديم المتهالك، ردت هاجر :
- على فكرة بقى، زينب في بيت ابوها كان ليها اؤضة كبيرة قوي بعفش زين ودلاب مليان هدوم وتلفزيون ولاب توب ليها لوحديها، قبل ما يحصل اللي حصل.
احتدت نظرات زينب نحوها وهي تجد حديثها ينساق لناحية غير محمودة بالنسبة لها، حاولت مروة تلطيف الجو وقد شعرت بذبذبات الغضب تنتشر في الأجواء:
- بس انتي شكلك ما شاء الله عليكي يازينب، باين عليكي اتحسنتي عن وقت ما كلمناكي الصبح، دا انتي ماكنتيش قادرة تردي .
حولت نظرتها نحو مروة تقول لترد :
- لا ما انا الحمد لله يا مروة، امي جابتلي الدكتور كشف عليا وادني حقنة رفعت السخانة عني شوية .
قالت مروة :
- الف سلامة عليكي ياحبيبتي، يارب مانشوفك راقدة عيانة تاني أبدًا .

تتحدث مروة بحيادية غير مظهرة ما بداخلها ان كان ذ
شفقةً او غير ذلك من مشاعر ، عكس حنان التي تنطق بعيناها الاف الجمل الجارحة لها ولظروف معيشتها القهرية، بسبب ظلم ابيها، اما هاجر ابنة بلدتها فغير مفهوم تصرفها هذا على الاطلاق، هل هي تقصد اذلالها بإتيانها بصديقاتها من فتايات المدينة ذات المستوى المرتفع في المعيشة مما تظهره ملابسهم أو ما ينفقنه من نقود امامهم، لمنزل بيت جدها المتواضع ذا البنية الطينية القديمة والأثاث المهترئ ؛ ام تراها كانت تتصرف بحسن نية ، قلبها لا يخبرها بذلك نهائيًا ، فتاريخها معها من شجارات والمشاحنات ليس في صالح حسن النية ابدًا،

مرت الجلسة الثقيلة على قلبها بصعوبة شديدة وهي حتى غير قادرة على التململ واظهار عدم الأرتياح امامهم .ولكن ما ان ذهبن ثلاثتهم من أمامها حتى أطلقت لدماعتها العنان وهي تدفس رأسها بالوسادة، وتكتم صوتها خوفًا من سماع والدتها لبكاءها ومعرفة السبب فتتسبب بجرحها او ادخال بقلبها الحزن وهي اللتي فعلت ومازالت تفعل الكثير من أجلها وضحت ومازالت تضحي.

ولكن حدث ماتخشاه ودلفت نعيمة اليها بداخل الغرفة، لم تعلم بوجودها زينب سوى بعد ان شعرت بنفسها تُرفع من الوسادة لتدخل بأحضانها دون كلام، وزينب لم تعترض بل ازدادت شقهاتها في البكاء بصوت عالي، حتى افرغت كل ما بداخلها ووالدتها صامتة، تمسح بيداها على شعر رأسها وظهرها بحنان ، حتى اذا هدأت زينب قليلًا قالت نعيمة بصوتٍ دافئ:
- زعلانة يازينب من نظرة البنتة لبيت جدك الني القديم ولا حاسة نفسك اقل منهم؟
تحرجت زينب من الرد فصمتت ..وأكلمت نعيمة:
- الفقر مش عيب باحبيبتي، وان كان على نظرة الناس فدا شئ عادي ياحبيبتي، وياما هاتشوفيه في حياتك، انا عارفة ان الوضع صعب عليكي عشان العز اللي اتربيتي عليه في بيت ابوكي، لكن ياحبيبتي افترضي بقى؛ مكانش ابوكي غني وكانت دي عيشتك من الاول كنتي هاتعترضي؟
سمعت صوتًا يهمس :
- لا يا أمي مكانتش هاعترض عشان دا امر ربنا، لكن انا اللي تاعبني انه ابويا عايش على ضهر الدنيا وعايش في عز وهنا هو وعياله وصفا مرته، وسايبنا احنا في المرار والشقا، هو انا اول واحدة تكمل تعليمها في الجامعة عشان ابويا يمرر عيشتي كدة ويحرمني من عزه وفلوسه؟
ردت نعيمة ببعض الصرامة :
- زينب يابت نعيمة، فوقي لنفسك ولمستقبلك، ماتفكريش في ظروف ابوكي وظروفنا ، افتكري بس حالتك لما تاخدي شهادتك وتبقى حاجة زينة، الناس كلها هاتبصك بعين تانية، حتى ابوكي ذات نفسه.
خرجت من حضنها زينب تسألها :
- صح يامّا، معقولة يجي اليوم ده ؟
ربتت على ذراعها نعيمة نرد عليها :
- شدي حيلك انتي ياعين امك في دراستك وهو يحصل .


.... يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي