الفصل الرابع
من داخل غرفة نوم واسعة ذات طلاءٍ شديد القتامة، اضطجع ”طه“ فوق مقعده الهزّاز مستغرقاً في شروده لدقائق.. ثلاثينيٌ يحظى ببشرة بيضاء في صفاء الحليب، ولشعر رأسه سوادٌ ينافس به قلب «أبي لهب» وزوجته، بالإضافة إلى تمتّعه بأحبال صوتية لا تعرف الحشرجة إليها سبيلاً، عِوضاً عن وجنتين أضحتا بارزتين من فرط عزوفه المتكرر عن تناول الطعام.. كان يجلس كدأبه منكّساً رأسه إلى أسفل، ثم دفع بنصفه العلوي إلى الأمام في محاولة لأرجحة جسده قليلاً.. ولطالما عشِق الجلوس في هذا المكان تحديداً كلّما داهم الريب روحه؛ فكان يغمض عينيه الحزينتين اللتين أضنتهما كثرة النحيب، ثم يُسلِم روحه إلى عشرات الأفكار الانتحارية وسط الظلام الدامس؛ الذي يهيمن على أرجاء الحجرة.. تارّة ينوي ابتلاع حفنة من الأقراص المهدئة، وتارّتين يفطن إلى قَصّ شريانه بشفرة حلاقة حادّة، والعديد كان يختلس النظرات إلى نافذة الغرفة بعدما تراوده فكرة السقوط من عَلٍ.. وكمن أصابه مسّاً من الشيطان، انتفض فجأةً بعد أن لفت سمعه صوت رنين هاتفه المحمول؛ فأخرجه من جيبه في طمأنينة راسخة، ثم أجاب نداء المتصل بصدرٍ مشروح وقلبٍ مفتوح دون أن يفتح عينيه:
- كل ده نوم!!.. دي الساعة داخلة على اتناشر يا بنتي!!.
- أنا مانمتش من امبارح يا ”طاهر“ على فكرة.. صباح الخير الأول.
هكذا استهلّت ”أروى“ حديثها التليفوني، ثم نشجت بمنخاريها للحظة في محاولة منها للسيطرة على أنفها.. كانت تتحدث بلسانٍ مضطرب يغلب عليه اللعثمة، ثم أغمضت عينيها لتمنع روحها من البكاء؛ فبادرها ”طه“ بصوتٍ واثق:
- ومين سمعك!!.. أنا كمان معرفتش أنام بعد ما قفلت معاكِ الفجر مع إني مش قادر أفتح عيني والله.
- هُمّ اتصلوا بيك تاني!!.
- تاني!!.. قولي عاشر، مية، ألف.. دي مُعدّة البرنامج بقت تتصل بيا أكتر ما بتتصل بجوزها.. فاكرة المبلغ اللي قولتلك امبارح إنهم مستعدين يدفعوه عشان أطلع في الحلقة!!.
عبثاً نهض ”طه“ من فوق مقعده الهزّاز، ثم خطى بقدميه الحافيتين في الظلام إلى أن استقرّ أمام النافذة.. كان سطحها مغطى بستائر ثقيلة من طراز «black out»، بالإضافة إلى ستار بلاستيكي ثقيل مما يتم استخدامه في المكاتب؛ فأزاح ”طه“ طرفاً جانبياً من الستار القماشي، ثم حصلت حدقتاه على بصيصٍ من النور بعدما داعب الخَصاص بأنامله.. كان أشبه وقتها بمصّاص دماء إثر تعرّضه للضوء؛ فأغلق الستائر سريعاً ثم ترجّل في اضطراب صوب حافة فراشه:
- أه طبعاً.
- اتصلت بيا النهارده حوالي عشر مرات، وضاعفت المبلغ مقابل إني أوافق على استضافتهم ليا في البرنامج.
- مبلغ مغري الصراحة، بس انت ناوي على إيه!!.. هتوافق!!.
تفوّهت بها ”أروى“ بصوتٍ مكتوم؛ كأن حنجرتها تعمل إلى الداخل، ثم داعبت خصلة من شعرها بيمينٍ مرتعشة في محاولة منها لكبح هواجسها.. وكما لو أن الاضطراب قد تنوقل بينهما عبر الأثير، ابتلع ”طه“ ريقه بصعوبة بالغة قبل أن يستطرد مجيباً عليها:
- الصراحة لِسّة مش عارف.. أنا مش فارق معايا الفلوس، بس مستغرب من إلحاح البنت دي.. أصلك ما شوفتيش هي بتكلّمني إزّاي، دي كانت ناقص تقوللي «زوّجتك نفسي» بس أحبّ على إيدك توافق.
- تلاقيها شافت المدوّنة اللي انت عاملها على الفيس بوك، ومعجبة بأفكارك وبالمنشورات بتاعتك، وعايزاك تطلع تقول الكلام ده في البرنامج عشان تنتشر بشكل أوسع والناس كلها تشوفها!!.
- ماعتقدش، محدّش بقى يهمّه غير مصلحته هو وبس.. أنا حاسس إنها هتتضرّ بسببي لو موافقتش، بس مش عارف إيه وجه الضرر اللي هيحصلها بسببي، ولا عارف أساعدها إزاي من غير ما أفهم الأول.
مشيحاً بيسراه في الهواء كمحاضر يلقي الحِصّة أمام تلاميذٍ غير مرئيين، نطقها ”طه“ في حيرة قاتلة.. وفي يسرٍ لا تشوبه أيّة عثرات، تحرّكت أنامله لا إرادياً تجاه سطح الكومود، ثم التقط من عليه علبة السجائر والقدّاحة؛ فحشر الهاتف بين كتفه ورأسه مشعلاً واحدة قبل أن تنبري ”أروى“ قائلة في ثقة:
- تبقى أكيد عايزة تقدّمك كبش فداء عشان الحلقة تكسّر الدنيا.. وبعدين انت ناسي لما طلعت من سنة مع المذيعة دي اللي اسمها ”ريهام وحيد“ وأقسمولك بالله ساعتها إنهم عايزين يوصلوا للحقيقة، وأول ما بدأت تتكلّم بحرّية سلختك بكلامها المستفزّ.. ولما حاولت تهدّدها بإنك مش هتكمّل الحوار، قالتلك اتفضل مع السلامة كإنها جايباك عشان تطلّع فيك عُقَد النَقص اللي عندها.
- عايزة تقولي إيه يا ”أروى“، حاسس إن في حاجة خانقاكِ وكلام كتير عايزة تقوليه ومش قادرة.
- صدّقني يا ”طاهر“ مفيش فايدة، انت بتنفخ في قربة مخرومة، والناس عمرها ما هتتقبّل أفكارك دي، ولا هتتقبّل وجودك بينهم طول ما انت كده.. الحكاية كلها مجرد «Show» مش أكتر، والشاطر هو اللي يعرف يستفيد من العرض اللي بيقدمه ده.
بتلك الكلمات أفصحت ”أروى“ عمّا يعتمر داخل عقلها من حقائق أصبحت مؤكدة.. كانت تشعر بالاختناق، ولا تكاد تقدر على الاسترسال أكثر من هذا؛ تماماً كأنها سبّاحة تطلب حقّها في استنشاق ذرّتين أكسچين قبل أن تكمل سباق المانش؛ فاستجاب لها الحظّ على هيئة رنينٍ داوٍ.. وفي بحبوحة زمنية لا تتجاوز الثانيتين، أنشأ ”طه“ قائلاً بعدما التقط الهاتف من فوق الكومود:
- جِبنا في سيرة القطّ، ثواني أردّ عليها وأشوف عايزة إيه المرّادي.. استنّي ما تقفليش عشان اثبتلك إن في حاجة مش مفهومة من إصرارها الغريب ده.
نطقها ”طه“ بصوتٍ مختنق قبل أن يضغط بإبهامه على شاشة الهاتف مخرِساً رنينه، ثم نحّى الهاتف الأخر بعيداً عن صوان أذنه بعدما جاءته من ”أروى“ ما يفيد الموافقة على طلبه.. وفي خلال ثانية إلا نصف، استجمع رباطة جأشه قدر المستطاع، ثم أجاب الاتصال الجاري على الهاتف الأخر بعدما دعك جبينه بيمينه؛ فاندفعت ”شيرين“ لتنطق في توسّل محفوف بالإشفاق على حالها:
- أنا أسفة والله يا أستاذ ”طه“ على الإزعاج اللي عاملاه لحضرتك، بس أنا مش طالبة غير دقيقة من وقتك.. دقيقة بس تسمعني فيها عشان خاطري.
- هو انتِ ما بتفهميش!!.. قولتلك مليون مرة، أنا مش معترض على الظهور في برنامجكم انتم تحديداً، أنا رافض فكرة إني أطلع في التلفزيون عموماً لإني مش حابب أتكلم في الموضوع ده على أي قناة سواء عربية أو أجنبية.
- طب أقدر أعرف ليه!!.. القناة مستعدّة تدفعلك المبلغ اللي حضرتك هتطلبه.
في أسى على ما وصلت إليه من إذلالٍ، نطقتها ”شيرين“ بنبراتٍ مضطربة لتدافع عن وظيفتها.. وعلى سبيل العدوى، بدأ الأثير في الارتعاش قليلاً قبل أن تصل كلماتها إلى أذن محدّثها على الطرف الأخر.. وبعد أن استقرّت أخر كلماتها فوق طبلة أذنه، بادر بالدفاع عن وجهة نظره بعدما سحب نفساً خفيفاً من سيجارته:
- يا أستاذة ”شيرين“ الحكاية صدقيني مش حكاية فلوس، أنا رافض أطلع على الشاشات عشان أتكلم في الموضوع ده حتى لو هتكتبوا المحطة باسمي.
- طب حضرتك قوللي ليه، يمكن نقدر نوصل لحل وسط.
- كده، أنا رافض الموضوع ده تماماً، ومش فاهم ليه حضرتك متمسّكة بيا أوي كدة!!.. ما شاء الله، القناة بتاعتكم بيشوفها العالم العربي كله، وبرنامجكم هو الأعلى مشاهدة على السوشيال ميديا، وحلقاتكم كلها بتبقى هي التريند رقم واحد دايماً.
مفصحاً عمّا يدور داخل غياهب عقله من شكوكٍ، أردف بها ”طه“ قبل أن يبدّد دخان سيجارته في الظلام.. وكعهده كلّما ترقّب إجابة على تساؤلاته، حدّثها مستنفراً جميع خلايا عقله في تركيزٍ ساحق؛ فباغتته هي بسؤالٍ يصحبه مزيداً من التوسلات:
- طب أرجوك قوللي السبب، أرجوك.. أنا مستعدة أعمل لحضرتك أي حاجة في سبيل إنك تطلع معانا النهارده في البرنامج.. أي حاجة والله يا أستاذ ”طه“ بس أرجوك حضرتك توافق.
- صدقيني مفيش فايدة من ظهوري في برنامجكم، ولا في أي برنامج تاني.. لا أنا هقدر أقنعكم بإن الـ«Homosexuality» حرية شخصية، ولا أنتوا هتعرفوا تقنعوني بعكس اللي أنا شايفه.. صدقيني، بعد الحلقة هتفضل الناس شايفاني انسان «abnormal» بيدعوهم للانحراف وبيهدد بقاء البشرية؛ فيبقى إيه لازمة إني أطلع معاكم في البرنامج!!.
مستشعراً عدم الجدوى من الدفاع عن رغبته، أجهش بها ”طه“ بعدما ارتفعت نبراته تلقائياً؛ فتحرّك في تؤدة ناحية الكومود، ثم كمد سيجارته في المِطفأة.. بعدها، طفق يدعك كلتا عينيه منصتاً لحديثها المتقطّع عبر الأثير؛ فبدت كما لو أنها سكتت دهراً ونطقت كفراً:
- أرجوك، يا أستاذ ”طه“ تسمعني للأخر، واديني فرصة أحاول أوضحلك وجهة نظري.. دلوقتي، مش حضرتك عامل «Blog» على الإنترنت عشان توضح من خلالها رأيك في موضوع المثلية الجنسية، إيه المانع من إن حضرتك تطلع معانا وتقول رأيك ده بصورة أوسع من خلال البرنامج!!.
- أولاً، الصفحة اللي عاملها على الفيس بوك مش معمولة عشان أقول رأيي في فكرة المثلية الجنسية، دي حاجة كده زي «backup » للناس اللي ظروفها شبه ظروفي.. أنا بحاول أقدم الدعم من خلالها عشان ما اسمعش في يوم عن واحد انتحر بسبب إن اللي حواليه مش شايفينه انسان طبيعي.. إحنا بنحاول ندعم بعض من خلال الصفحة دي عشان مفيش حد بيدعمنا، وعشان أغلبنا خايف يواجه المجتمع بحالته كإننا عار عليكم مثلاً.
في عصبية بلغت حد التراقي، نطقها ”طه“ بعد أن انتفخت أوداجه؛ فبدا كغريقٍ وافته المنية منذ لحظات.. وخلال ثوانٍ ضنينة، بدأ في التلفّت حوله كأنه جوادٌ جريح إثر إصابته في المعركة، ثم توغّل بأنامله بين خصلات شعره الكثيف قبل أن تفقد ”شيرين“ أخر بصيصٍ من كرامتها أمامه:
- أرجوك، أرجوك يا أستاذ ”طه“ توافق على الظهور معانا في البرنامج النهارده.. أرجوك، اعتبرني محتاجة لدعم حضرتك، وأرجوك تساعدني.. القناة مستعدة تدفع لحضرتك شيك على بياض، وتكتب فيه المبلغ اللي تقول عليه.. أنا عارفة إن حضرتك مش بتفكّر في الفلوس، بس اعتبرها مساعدة مننا للحالات اللي بتحاول تدعمها من خلال الصفحة.
- أنا مش قادر أفهم إيه سر إلحاحك الرهيب ده!!.. أرجوكِ إنتِ اللي تقوليلي، هو إيه الموضوع بالظبط.. قوليلي يمكن أقدر أساعدك بطريقة تانية.
لم يكن ما قيل حالاً مما يمكن تفسيره؛ فآثرت ”شيرين“ السكوت لبرهتين أو ربما ثلاث.. ولَعمرُها، إنها كانت سريعة التنازل عن كرامتها مقابل الاحتفاظ بمكتسباتٍ وهمية؛ فما قويت على شرح موقفها إلا بغمغماتٍ مبهمة، ثم أتبعت بجهادٍ صريح في السيطرة على مقلتيها:
- مفيش حاجة صدقني يا أستاذ ”طه“.. أنا بسّ.. أنا.. محتاجة حضرتك تظهر ضروري النهارده في البرنامج.
- طيب خلاص، إديني ساعة كدة وأرد عليكِ.
- أنا متشكرة جداً لحضرتك.. أنا مش عارفة أشكر حضرتك إزّاي والله... أنا بجد مش عارفة أقولك إيه.
وانتهى الحديث بينهما على أمل أن تأتيها موافقته بعد ساعة؛ فدب النبض مجدّداً في قلبها بعد أن اطمأنت من بقائها في الوظيفة لدقائق.. ولولا تواجدها داخل بقعة أشبه بالسيرك الروسي، لرأيت الدمع يتأجّج على مشارف مقلتيها بعد أن رفعت يديها إلى أعلى شاكرة الله على نعمة الستر لساعة إضافية.
- كل ده نوم!!.. دي الساعة داخلة على اتناشر يا بنتي!!.
- أنا مانمتش من امبارح يا ”طاهر“ على فكرة.. صباح الخير الأول.
هكذا استهلّت ”أروى“ حديثها التليفوني، ثم نشجت بمنخاريها للحظة في محاولة منها للسيطرة على أنفها.. كانت تتحدث بلسانٍ مضطرب يغلب عليه اللعثمة، ثم أغمضت عينيها لتمنع روحها من البكاء؛ فبادرها ”طه“ بصوتٍ واثق:
- ومين سمعك!!.. أنا كمان معرفتش أنام بعد ما قفلت معاكِ الفجر مع إني مش قادر أفتح عيني والله.
- هُمّ اتصلوا بيك تاني!!.
- تاني!!.. قولي عاشر، مية، ألف.. دي مُعدّة البرنامج بقت تتصل بيا أكتر ما بتتصل بجوزها.. فاكرة المبلغ اللي قولتلك امبارح إنهم مستعدين يدفعوه عشان أطلع في الحلقة!!.
عبثاً نهض ”طه“ من فوق مقعده الهزّاز، ثم خطى بقدميه الحافيتين في الظلام إلى أن استقرّ أمام النافذة.. كان سطحها مغطى بستائر ثقيلة من طراز «black out»، بالإضافة إلى ستار بلاستيكي ثقيل مما يتم استخدامه في المكاتب؛ فأزاح ”طه“ طرفاً جانبياً من الستار القماشي، ثم حصلت حدقتاه على بصيصٍ من النور بعدما داعب الخَصاص بأنامله.. كان أشبه وقتها بمصّاص دماء إثر تعرّضه للضوء؛ فأغلق الستائر سريعاً ثم ترجّل في اضطراب صوب حافة فراشه:
- أه طبعاً.
- اتصلت بيا النهارده حوالي عشر مرات، وضاعفت المبلغ مقابل إني أوافق على استضافتهم ليا في البرنامج.
- مبلغ مغري الصراحة، بس انت ناوي على إيه!!.. هتوافق!!.
تفوّهت بها ”أروى“ بصوتٍ مكتوم؛ كأن حنجرتها تعمل إلى الداخل، ثم داعبت خصلة من شعرها بيمينٍ مرتعشة في محاولة منها لكبح هواجسها.. وكما لو أن الاضطراب قد تنوقل بينهما عبر الأثير، ابتلع ”طه“ ريقه بصعوبة بالغة قبل أن يستطرد مجيباً عليها:
- الصراحة لِسّة مش عارف.. أنا مش فارق معايا الفلوس، بس مستغرب من إلحاح البنت دي.. أصلك ما شوفتيش هي بتكلّمني إزّاي، دي كانت ناقص تقوللي «زوّجتك نفسي» بس أحبّ على إيدك توافق.
- تلاقيها شافت المدوّنة اللي انت عاملها على الفيس بوك، ومعجبة بأفكارك وبالمنشورات بتاعتك، وعايزاك تطلع تقول الكلام ده في البرنامج عشان تنتشر بشكل أوسع والناس كلها تشوفها!!.
- ماعتقدش، محدّش بقى يهمّه غير مصلحته هو وبس.. أنا حاسس إنها هتتضرّ بسببي لو موافقتش، بس مش عارف إيه وجه الضرر اللي هيحصلها بسببي، ولا عارف أساعدها إزاي من غير ما أفهم الأول.
مشيحاً بيسراه في الهواء كمحاضر يلقي الحِصّة أمام تلاميذٍ غير مرئيين، نطقها ”طه“ في حيرة قاتلة.. وفي يسرٍ لا تشوبه أيّة عثرات، تحرّكت أنامله لا إرادياً تجاه سطح الكومود، ثم التقط من عليه علبة السجائر والقدّاحة؛ فحشر الهاتف بين كتفه ورأسه مشعلاً واحدة قبل أن تنبري ”أروى“ قائلة في ثقة:
- تبقى أكيد عايزة تقدّمك كبش فداء عشان الحلقة تكسّر الدنيا.. وبعدين انت ناسي لما طلعت من سنة مع المذيعة دي اللي اسمها ”ريهام وحيد“ وأقسمولك بالله ساعتها إنهم عايزين يوصلوا للحقيقة، وأول ما بدأت تتكلّم بحرّية سلختك بكلامها المستفزّ.. ولما حاولت تهدّدها بإنك مش هتكمّل الحوار، قالتلك اتفضل مع السلامة كإنها جايباك عشان تطلّع فيك عُقَد النَقص اللي عندها.
- عايزة تقولي إيه يا ”أروى“، حاسس إن في حاجة خانقاكِ وكلام كتير عايزة تقوليه ومش قادرة.
- صدّقني يا ”طاهر“ مفيش فايدة، انت بتنفخ في قربة مخرومة، والناس عمرها ما هتتقبّل أفكارك دي، ولا هتتقبّل وجودك بينهم طول ما انت كده.. الحكاية كلها مجرد «Show» مش أكتر، والشاطر هو اللي يعرف يستفيد من العرض اللي بيقدمه ده.
بتلك الكلمات أفصحت ”أروى“ عمّا يعتمر داخل عقلها من حقائق أصبحت مؤكدة.. كانت تشعر بالاختناق، ولا تكاد تقدر على الاسترسال أكثر من هذا؛ تماماً كأنها سبّاحة تطلب حقّها في استنشاق ذرّتين أكسچين قبل أن تكمل سباق المانش؛ فاستجاب لها الحظّ على هيئة رنينٍ داوٍ.. وفي بحبوحة زمنية لا تتجاوز الثانيتين، أنشأ ”طه“ قائلاً بعدما التقط الهاتف من فوق الكومود:
- جِبنا في سيرة القطّ، ثواني أردّ عليها وأشوف عايزة إيه المرّادي.. استنّي ما تقفليش عشان اثبتلك إن في حاجة مش مفهومة من إصرارها الغريب ده.
نطقها ”طه“ بصوتٍ مختنق قبل أن يضغط بإبهامه على شاشة الهاتف مخرِساً رنينه، ثم نحّى الهاتف الأخر بعيداً عن صوان أذنه بعدما جاءته من ”أروى“ ما يفيد الموافقة على طلبه.. وفي خلال ثانية إلا نصف، استجمع رباطة جأشه قدر المستطاع، ثم أجاب الاتصال الجاري على الهاتف الأخر بعدما دعك جبينه بيمينه؛ فاندفعت ”شيرين“ لتنطق في توسّل محفوف بالإشفاق على حالها:
- أنا أسفة والله يا أستاذ ”طه“ على الإزعاج اللي عاملاه لحضرتك، بس أنا مش طالبة غير دقيقة من وقتك.. دقيقة بس تسمعني فيها عشان خاطري.
- هو انتِ ما بتفهميش!!.. قولتلك مليون مرة، أنا مش معترض على الظهور في برنامجكم انتم تحديداً، أنا رافض فكرة إني أطلع في التلفزيون عموماً لإني مش حابب أتكلم في الموضوع ده على أي قناة سواء عربية أو أجنبية.
- طب أقدر أعرف ليه!!.. القناة مستعدّة تدفعلك المبلغ اللي حضرتك هتطلبه.
في أسى على ما وصلت إليه من إذلالٍ، نطقتها ”شيرين“ بنبراتٍ مضطربة لتدافع عن وظيفتها.. وعلى سبيل العدوى، بدأ الأثير في الارتعاش قليلاً قبل أن تصل كلماتها إلى أذن محدّثها على الطرف الأخر.. وبعد أن استقرّت أخر كلماتها فوق طبلة أذنه، بادر بالدفاع عن وجهة نظره بعدما سحب نفساً خفيفاً من سيجارته:
- يا أستاذة ”شيرين“ الحكاية صدقيني مش حكاية فلوس، أنا رافض أطلع على الشاشات عشان أتكلم في الموضوع ده حتى لو هتكتبوا المحطة باسمي.
- طب حضرتك قوللي ليه، يمكن نقدر نوصل لحل وسط.
- كده، أنا رافض الموضوع ده تماماً، ومش فاهم ليه حضرتك متمسّكة بيا أوي كدة!!.. ما شاء الله، القناة بتاعتكم بيشوفها العالم العربي كله، وبرنامجكم هو الأعلى مشاهدة على السوشيال ميديا، وحلقاتكم كلها بتبقى هي التريند رقم واحد دايماً.
مفصحاً عمّا يدور داخل غياهب عقله من شكوكٍ، أردف بها ”طه“ قبل أن يبدّد دخان سيجارته في الظلام.. وكعهده كلّما ترقّب إجابة على تساؤلاته، حدّثها مستنفراً جميع خلايا عقله في تركيزٍ ساحق؛ فباغتته هي بسؤالٍ يصحبه مزيداً من التوسلات:
- طب أرجوك قوللي السبب، أرجوك.. أنا مستعدة أعمل لحضرتك أي حاجة في سبيل إنك تطلع معانا النهارده في البرنامج.. أي حاجة والله يا أستاذ ”طه“ بس أرجوك حضرتك توافق.
- صدقيني مفيش فايدة من ظهوري في برنامجكم، ولا في أي برنامج تاني.. لا أنا هقدر أقنعكم بإن الـ«Homosexuality» حرية شخصية، ولا أنتوا هتعرفوا تقنعوني بعكس اللي أنا شايفه.. صدقيني، بعد الحلقة هتفضل الناس شايفاني انسان «abnormal» بيدعوهم للانحراف وبيهدد بقاء البشرية؛ فيبقى إيه لازمة إني أطلع معاكم في البرنامج!!.
مستشعراً عدم الجدوى من الدفاع عن رغبته، أجهش بها ”طه“ بعدما ارتفعت نبراته تلقائياً؛ فتحرّك في تؤدة ناحية الكومود، ثم كمد سيجارته في المِطفأة.. بعدها، طفق يدعك كلتا عينيه منصتاً لحديثها المتقطّع عبر الأثير؛ فبدت كما لو أنها سكتت دهراً ونطقت كفراً:
- أرجوك، يا أستاذ ”طه“ تسمعني للأخر، واديني فرصة أحاول أوضحلك وجهة نظري.. دلوقتي، مش حضرتك عامل «Blog» على الإنترنت عشان توضح من خلالها رأيك في موضوع المثلية الجنسية، إيه المانع من إن حضرتك تطلع معانا وتقول رأيك ده بصورة أوسع من خلال البرنامج!!.
- أولاً، الصفحة اللي عاملها على الفيس بوك مش معمولة عشان أقول رأيي في فكرة المثلية الجنسية، دي حاجة كده زي «backup » للناس اللي ظروفها شبه ظروفي.. أنا بحاول أقدم الدعم من خلالها عشان ما اسمعش في يوم عن واحد انتحر بسبب إن اللي حواليه مش شايفينه انسان طبيعي.. إحنا بنحاول ندعم بعض من خلال الصفحة دي عشان مفيش حد بيدعمنا، وعشان أغلبنا خايف يواجه المجتمع بحالته كإننا عار عليكم مثلاً.
في عصبية بلغت حد التراقي، نطقها ”طه“ بعد أن انتفخت أوداجه؛ فبدا كغريقٍ وافته المنية منذ لحظات.. وخلال ثوانٍ ضنينة، بدأ في التلفّت حوله كأنه جوادٌ جريح إثر إصابته في المعركة، ثم توغّل بأنامله بين خصلات شعره الكثيف قبل أن تفقد ”شيرين“ أخر بصيصٍ من كرامتها أمامه:
- أرجوك، أرجوك يا أستاذ ”طه“ توافق على الظهور معانا في البرنامج النهارده.. أرجوك، اعتبرني محتاجة لدعم حضرتك، وأرجوك تساعدني.. القناة مستعدة تدفع لحضرتك شيك على بياض، وتكتب فيه المبلغ اللي تقول عليه.. أنا عارفة إن حضرتك مش بتفكّر في الفلوس، بس اعتبرها مساعدة مننا للحالات اللي بتحاول تدعمها من خلال الصفحة.
- أنا مش قادر أفهم إيه سر إلحاحك الرهيب ده!!.. أرجوكِ إنتِ اللي تقوليلي، هو إيه الموضوع بالظبط.. قوليلي يمكن أقدر أساعدك بطريقة تانية.
لم يكن ما قيل حالاً مما يمكن تفسيره؛ فآثرت ”شيرين“ السكوت لبرهتين أو ربما ثلاث.. ولَعمرُها، إنها كانت سريعة التنازل عن كرامتها مقابل الاحتفاظ بمكتسباتٍ وهمية؛ فما قويت على شرح موقفها إلا بغمغماتٍ مبهمة، ثم أتبعت بجهادٍ صريح في السيطرة على مقلتيها:
- مفيش حاجة صدقني يا أستاذ ”طه“.. أنا بسّ.. أنا.. محتاجة حضرتك تظهر ضروري النهارده في البرنامج.
- طيب خلاص، إديني ساعة كدة وأرد عليكِ.
- أنا متشكرة جداً لحضرتك.. أنا مش عارفة أشكر حضرتك إزّاي والله... أنا بجد مش عارفة أقولك إيه.
وانتهى الحديث بينهما على أمل أن تأتيها موافقته بعد ساعة؛ فدب النبض مجدّداً في قلبها بعد أن اطمأنت من بقائها في الوظيفة لدقائق.. ولولا تواجدها داخل بقعة أشبه بالسيرك الروسي، لرأيت الدمع يتأجّج على مشارف مقلتيها بعد أن رفعت يديها إلى أعلى شاكرة الله على نعمة الستر لساعة إضافية.