الفصل الثالث

على ضوء الثريّة المعلّقة في بهو البناية، نهب ”وائل“ الدرجات المتبقية من السُلّم بعد أن غادر المصعد، ثم حفظ عينيه أسفل نظّارة شمسية ذات عدسات قاتمة قُبيل أن يدلف إلى خارج البناية؛ فحانت منه نظرة جانبية لصدرٍ أنثوي رجراج يجاهد في الاحتفاظ بمساحته داخل الفستان.. كانت أنثى قادرة على إثارة قبيلة من تنابلة السلطان، تصعد الدرج قاصدةً المصعد؛ فالتفت ”وائل“ بنصفه العلوي إلى الوراء بعد أن تخطّته بدرجتين لا أكثر، ثم فحص ردفيها الممتلئين قبل أن يزيح النظارة عن عينيه قليلاً.. وكمن وهبها الله مقلتين إضافيتين في قفاها، استدارت المرأة بوجهها بعد أن استشعرت نظراته تخترق فخذيها، ثم أجابت بابتسامة خفيفة متبوعة بضحكة لا تكاد تُسمع تردّداتها؛ فقطع حارس العقار حبل التواصل بينهما بعد أن بزغ من العدم فجأةً.. وبصوتٍ ذابل لا يخلو من لهجة صعيدية، أخرج الحارس ظرفاً ورقياً خارج جيبه، ثم جهر عالياً بعد أن سكنت المرأة داخل المصعد:
- صباح الفلّ يا ”وائل“ بيه.. في راجل عجوز ساب الظرف ده لسعادتك ليلة امبارح، ومرضيش يقول على إسمه.
- ومقالش عايز إيه!!.
نطقها ”وائل“ بعد أن التقط الظرف في توجّس من الحارس، ثم أخذ يتفحّص فيه لثوانٍ بنظراتٍ يشوبها الارتياب؛ فأجابه الأخير بنبرة تغطيها الحشرجة بعد أن دعك عمامته مستدعياً ذاكرته:
- لا، يابيه.. هو كان عايز يطلع فوق عشان يقابل سعادتك، بس أنا منعته زي ما حضرتك نبّهت عليّا قبل سابق.
- كويس إنك عملت كده، أنا هبقى أشوف موضوع الظرف ده بعدين.. المهم.. هي مين اللي كانت طالعة فوق من شوية دي!!.
- دي مدام ”حورية“ اللي سكنت من شهرين في الشقة اللي قدّام شقة سعادتك طوّالي.
- وراجعة منين الساعة عشرة الصبح كده!!.
- والله يا بيه هي على الحال ده من يوم ما خدت الشقة من شهرين، ألاقيها نازلة في أنصاص الليالي وماترجعش إلا وشّ الصبح.
مستاءً من الوضع الذي آلت إليه البناية بعد أن سكنتها تلك المرأة، قالها الحارس في حسرة ضارباً كفّاً بكفّ؛ فاستقبلتها أذنا ”وائل“ بفرحة عارمة، تماماً كفقيرٍ أسعفه الحظّ في العثور على حقيبة مليئة بالنقود وسط قارعة الطريق.. وطمعاً في التأكد من عدم وجود صاحب لتلك الحقيبة، أنشأ سائلاً بصوتٍ خفيض:
- وماتعرفش إذا كانت متجوزة، ولا لأ!!.
- هي بتقول إنها متجوزة وجوزها شغّال في الكويت، بس أنا ما شوفتش في إيدها اليمين لا دبلة ولا حاجة.. وحياة النبي يا ”وائل“ بيه تكلّم صاحب العمارة يمشّيها من الشقة، حاكم السكّان هنا مش بيعجبهم الحال المايل اللي هي بتعمله ده.. حُرمة إيه دي اللي تخرج وحدها كده في انصاص الليالي!!.
لفظها الحارس من بين شفتيه في رجاءٍ مصحوب بتهويدة على صدر جلبابه، ثم عاد إلى مهجعه فوق الدكة بعد أن لاحظ إيماءة رأس من ”وائل“ تفيد بأن الوضع قد أصبح تحت سيطرته.. ولم يهنأ عقرب الثوان باجتياز خمس خطوات إلا وتحرك صاحب الحقيبة صوب سيارته؛ التي تحتل الرقعة الموجودة أمام واجهة العقار، ثم دلف إليها محكماً كلتا يديه حول مقودها.. وتزامناً مع إيلاج المفتاح داخل التابلوه، تمتم بشفتيه مناجياً ذاته قبل أن يتعالى هدير محركها:
- عايزني أكلّم صاحب العمارة عشان يطرد النعمة يا كافر!!.. هي الناس اتجنّنت ولا إيه!!.. إيش حال النبي وصّانا على سابع جار!!.
بعدها، ظل ينهب الطرقات متجنّباً أغطية البالوعات تارّة، ومتحاشياً التعثّر في حُفَرٍ لا حصر لها تارّتين، والعديد كان ينحرف بالمقود مخافة أن يصطدم بأحد المارّة أثناء عبورهم الطريق من مكانٍ غير معَدّ للمشاة.. وهكذا دارت العجلة إلى أن طنّ هاتفه برنينٍ مزعج، تصحبه اهتزازة رتيبة قبل أن تفطن يمينه إلى مكانه:
- ألو.. أيوة يا ”شيرين“.. يعني إيه لِسّة رافض!!.. ضاعفتي له المبلغ زي ما قولتلك!!.
في حنقٍ بالغ، نطقها من بين براثن ثغرٍ منهمك في الجزّ على أسنانه، ثم تلاها بإيماءة روتينية من رأسه مصحوبة بابتسامة لزجة؛ كتحية شديدة الحرارة لأحد قائدي المركبات.. وخلال لحظتين أو ربما ثلاث، أحكم يمينه حول الهاتف، ثم سمح ليسراه بالضغط على أحد الأزرار الماثلة أمامه؛ فارتفع الزجاج المعتم لسيارته حاجباً الرؤية عن العامة.. ولم تنتهِ نصف اللحظة حتى شهر بصوته عالياً في جهير:
- لو دفعنا المبلغ ده لـ«Hollywood» كانوا هيبعتولنا «ميل جيبسون» و«مونيكا بيلوتشي» نعمل معاهم حوار.. ”شيرين“.. خلّيكي فاكرة إن مستقبلك معانا في القناة مرهون بموافقته على الظهور النهارده في الحلقة.. انتِ بتسأليني أنا!!.. لا، معرفش تعملي إيه.. كلّمي الانتاج يزوّدله المبلغ، ترقصيله، تساوميه، أنا معرفش.. اتصرفي.
مغتاظاً أخرجها من بين شفتيه، ثم أتبعها بطرقة عنيفة من يسراه على المقود قبل أن يضغط براحته في إلحاح على آلة التنبيه.. وكنمرٍ أغلق عليه الحارس بغتةً قفصاً حديدياً، انتبه إلى الضوء الأحمر لإشارة المرور؛ فطفق يهرس آلة التنبيه أسفل راحة يسراه قبل أن يردف في عصبية:
- مفيش حاجة اسمها الحكاية مش حكاية فلوس.. اضغطي عليه تاني لغاية ما يوافق، وقوليله إننا مستعدين ندفعله المبلغ اللي هو يقول عليه.. هو أنا لازم أعمل كل حاجة بنفسي!!.
لم يمهلها فرصة للدفاع عن موقفها حيث أغلق الاتصال في وجهها، ثم أعاد الهاتف إلى مكانه الأصلي داخل جيبه.. وكما لو أن الإشارة قد استجابت لدعائه، بزغ نجم المصباح الأخضر أخيراً ليعلن تدفّق حركة السير، ثم أطلق العنان بعدها لإطارات السيارة.. وعقب فوات دقيقة أو ربما اثنتين، دهمه الهاتف برنينٍ أمسى مزعجاً وأصبح غير محتملٍ؛ فأطلق سراحه خارج الجيب الجانبي للبذلة قبل أن يمتعض وجهه إثر رؤية هويّة المتصل:
- أيوة يا ”غادة“.. معلش، كنت مضطر أسهر في المحطّة مع فريق الإعداد عشان كنّا بنجهّز لحلقة النهارده.. طب أعملِك إيه يعني، ما إنتِ عارفة ظروف شغلي في البرنامج!!.. واحدة تانية إيه بس اللي هتجوزها عليكِ، هو اللي يتجوز مرة معقول يتجنن ويكرّرها تاني!!.. لا، أقصد اللي يتجوز ملاك يستحيل يفكّر إنه يتجوز عليها.. أقسم بالله، مفيش لا واحدة تانية ولا تالتة.. والله العظيم كنت بايت في القناة طول الليل، ونمت على الكنبة في المكتب غصب عني.. لا، ما تدّيهاش التليفون عشان مش هينفع أكلّمها دلوقتي، سلّميلي عليها وبوسيهالي لغاية ما أرجع البيت.
هكذا تلوّت عضلات لسانه كما الأفاعي لتسرد عشرات الأكاذيب في احترافية لم تُكتب يوماً لـ«مسيلمة» الكذاب.. لم يكن يُعمِل عقله ولو للحظة قبل أن يستطرد في تلفيق القصص؛ فلسانه قد أضحى مكتسباً لمهارات روائي عالمي من فرط تزييفه الدائم للحقائق.. وضاغطاً على مكابح سيارته فجأةً عقب أن وقعت نظراته على أمين شرطة يقطع الطريق عليه، أخفض الزجاج الجانبي في بطء محاولاً انهاء الاتصال بزوجته:
- طيب سلام دلوقتي يا ”غادة“ عشان رئيس المحطة عايزني.. ياستي، نبقى نكمّل كلامنا بعدين، باااي.
- الرخص والبطاقة!!.
نطقها الأمين في برودٍ واضح قبل أن يعترض واجهة الزجاج الجانبي للسيارة؛ فامتثل ”وائل“ إلى أوامره متأفّفاً حيث تجلّت علامات الزهق فوق قسمات وجهه.. وراسماً ابتسامة لزجة، دفع الأوراق إلى الأمين بيمينه، ثم أشاح بوجهه صوب الجهة الأمامية للسيارة ريثما يطالعها الأمين.. وفي نصف اللحظة، أخرج الأمين الدفتر من جيبه مقبلاً على تدوين بيانات ”وائل“ في إحدى أوراقها؛ فأوقفه الأخير متسائلاً في رهبة غير حقيقية:
- خير يا سيادة الأمين!.
- عندك غرامة ٥٠٠ جنية عشان كلامك في التليفون.
- معلش بس، دي أول مرة تحصل والله، وأوعدك إنها تبقى أخر مرة.. الحكاية كلها إن بنتي الوحيدة عملت حادثة وحجزوها في المستشفى؛ فكنت بكلّم المدام عشان أطمّنها لغاية ما أوصل.
جاعلاً من حاجبيه قوساً محدّباً فتحته إلى أسفل ليبدو كمظلومٍ يواجه حكماً جائراً عليه بالإدانة، نطقها ”وائل“ في توسّل قبل أن ينبش بيمينه داخل جيوبه.. وفي لمح البصر وربما أسرع، أخرج ورقة نقدية من فئة الخمسين جنية، ثم أهداها إلى الأمين قائلاً في سخاء:
- كل سنة وانت طيب.
- مفيش داعي والله يا باشا، وربنا يطمّنك على الهانم الصغيرة.. في رعاية الله.
صرّح بها الأمين بعدما بادل الأوراق التي كانت في حوزته بورقة الخمسين جنية المتراقصة بين أنامل ”وائل“.. وعلى سبيل الحفاوة الزائدة، رفع يمينه محيّياً قبل أن ينطلق الأخير بسيارته.. وظلّت الإطارات تبتلع الأسفلت تحتها إلى أن ركنت بمحازاة صرحٍ ضخم، معلقة على واجهته الخارجية يافطة معدنية هائلة الحجم.. جريدة «نبض الشعب»، كانت هي فحوى تلك اليافطة التي أوقف ”وائل“ سيارته أمامها.. وقبل أن تلمس أصابعه مقبض الباب، هرول ناحيته عاملٌ يرتدي زيّاً يغلب عليه اللون الأزرق، ثم نطق معظّماً بيمينه:
- ”وائل“ باشا ”نوّار“ منوّرنا النهارده في الجريدة!!.. عاش مين شاف معاليك يا باشا!!.
- أهلاً يا ”محمد“.. إزيك، عامل إيه!!.
- ”حامد“ يا باشا.. الحمد لله في نعمة.. والله يا أستاذ ”وائل“ مش بفوّت حلقة لحضرتك سواء كنت في البيت أو عندي وردية هنا في الجرنال.
في ودٍّ غير ذي صدق، نطقها الحارس بعد أن تلقّف منه مفاتيح السيارة، ثم سار جواره منحنياً قاصداً معه بوابة الجريدة.. ومستمعاً لطنينه الممل بنصف أذن، ترجّل ”وائل“ ناحية المصعد مرحّباً بالزملاء القدامى؛ فكان يرفع يمينه تارّة إلى أعلى، ويبتسم بإحدى زاويتي فمه تارّتين، والعديد كان يكتفي بإيماءة مارقة من رأسه تعبيراً عن مشاعره لهم.. وقبل أن يصل إلى المصعد، رجاه ”حامد“ في ذلّ خانق:
- أنا كان ليا طلب عند سعادتك، يا ريت تساعدني فيه يا أستاذ ”وائل“ والنبي.
- أوي، أوي، عايز فلوس!!.
- خيرك سابق يا باشا، أنا بس زي ما حضرتك عارف، متعيّن هنا حارس أمن على الدرجة السابعة.. الحمد لله، أنا أخدت بكالريوس تجارة من سنتين، وكنت عايز سعادتك تخدمني وتكلّم حد من الإدارة عشان أعادل الوظيفة واشتغل في الحسابات.. والله يا أستاذنا الحياة بقت صعبة، واللي جاي بقى أقل من اللي رايح، وأنا يوماتي أقدم طلب ويترفض عشان حالة العمل لا تسمح.. ومش فاهم لا تسمح إزاي، يعني هي جات عليا أنا يا باشا!!.
متظاهراً بالتذلّل وقلّة الحيلة، نطقها موظف الأمن بعد أن فرض الدمع قسراً على عينيه، ثم رفع يمناه إلى وجهه ماسحاً عبرتين لم يولدا بعد؛ فطبطب ”وائل“ على ظهره بعد أن مدّ يسراه ساحباً باب المصعد.. ورغبةً في مواساته حتى يتخلّص من تطفّله الثقيل:
- بس كده!!.. لا، ماتشيلش هَمّ، اكتب انت بس الطلب وأنا هكلّملك حبايبي في الشئون القانونية عشان يعادلوا شهادتك وتتنقل في الحسابات.. اطمن يا ”محمد“ الدنيا لسة بخير، بس إياك تنسى زمايلك هنا في الأمن بعد ما تتعيّن، وإلا هتبقى قليل الأصل.
- ربنا يخلّيلنا سعادتك، ربنا يكرمك وتبقى وزير الإعلام.. إلهي يعلّي مراتبك كمان وكمان.
رغم حداثة عهده بالعمل في الجريدة، عِوضاً عن صغر سِنّه إلا إنه استطاع الالتحاق بإحدى الجامعات الحكومية مكملاً تعليمه.. كان يتحدى الصِعاب آملاً أن يتبدّل مستقبله يوماً ما؛ فباءت كل محاولاته بالفشل ولم يجد أمامه سوى ”وائل“ ليعلّق عليه أمله الأخير.. ولكن ”وائل“ كان محترفاً في استخدام المصعد دائماً ليصل إلى هدفه، ولم يسعَ أبداً لبذل أيّة جهدٍ في صعود الدرج وحده من بدايته.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي