الفصل الثاني

ذات صبيحة غائمة لأحد أيام شهر شباط؛ التي جاهد القرص الأرجواني فيها لتوصيل نبضه الدافئ إلى فراشٍ متموضع قرب نافذة غير موصدة بإحكام، استوى ”وائل“ جالساً على مؤخرته العارية، ثم أسند رأسه فوق القائم الأمامي لسريره بعد أن قَضّ رنين الهاتف مضجعه.. وشاعراً بالدوار يهدم خلايا عقله، التقط الهاتف من فوق الكومود الراقد جواره مستكشفاً هويّة المتصل، ثم أجاب الاتصال سريعاً بعد أن رمق الساعة في المنبّه الذي يعتلي سطح الكومود:
- ألو.. معاكِ.. لا، صاحي.. يعني إيه لِسّة رافض!!.
نطقها عابساً بصوتٍ مكتوم بعد أن اختلس نظرة مارقة صوب زوجته؛ التي بدت على وجهها علامات الانزعاج.. وفي عسرٍ أخرج يسراه من أسفل الأغطية، ثم أمسك ساعة يده مطالعاً عقاربها قبل أن يردف:
- طيب اتصلي بالانتاج، وخلّيهم يضاعفوا له المبلغ.. كلّميه دلوقتي وقوليله إننا مستعدين ندفعله المبلغ اللي هيقول عليه.. اتصرفي يا ”شيرين“ إن شالله حتى تكتبي له شيك على بياض.. أنا عايزه يظهر معايا النهارده في البرنامج بأي طريقة، الحلقة مش هتبيع إلا لو قدرنا نستضيفه.. اسمعي، اعتبري نفسك مفصولة من شغلك في القناة لو ماعرفتيش تقنعيه بإنه يطلع يتكلم النهارده في الحلقة.
ألقاها من بين شفتيه في حنق، ثم أنهى الاتصال بعد ذلك كما لو كان چنرالاً يفرض أوامره على بعضٍ من جنوده دون حول لهم ولا قوة.. بعدها، نحّى الغطاء بعيداً عن جسده ناهضاً من فوره في عصبية، ثم استلّ رُوباً قطنياً من فوق القائم الخلفي للفراش؛ فانكشفت بعضاً من التضاريس الأنثوية لزوجته؛ التي يبدو أن سلطان النوم عفا عن جفنيها إلى حدٍّ كبير.. وفي نمطية يُحسَد عليها، دلف إلى الحمّام الملحق بالغرفة، ثم نفض النعاس عن عينيه بعد أن طفق يترنّح لنصف دقيقة أسفل سطلٍ من الماء البارد.. وكعهده، غادر الكابينة عارياً بعد أن جفّف نفسه داخلها في عجالة، ثم انتقى بذلة ثقيلة من القماش الأرماني ثمنها يتخطى حاجز الثلاثة أصفار، واندسّ بجسده بين طيّاتها في سرعة جاوز بها محرك طائرة نفّاثة.. ومنتصباً أمام سطحٍ متلألئ ذي أطرٍ من خشب الأبانوس، انعكست أغلب معالمه قُبيل إغلاقه للزرّ العلوي لقميصه.. شخصٌ في أواسط الأربعينات، كثيف الشعر أسوده، ونامي اللحية أنعمها، وممشوق القَدّ كفهدٍ ذي أصولٍ بنغاليّة؛ كانت هي معالمه الأولى على الضوء المنبعث في شُحٍّ من نافذة غرفته قبل أن تدهمه زوجته بصوتٍ محفوف بغنجٍ مصطنع:
- صباح الخير يا بيبي، نازل على فين بدري كده؟!.. دي الساعة لِسّة عشرة!!.
- صباح الورد على عيونك.. هعدّي على الجرنال عشان رئيس مجلس الإدارة كان بيقول إنه عايزني في موضوع مهم.. وبعدين هطلع على القناة عشان أراجع مع الإعداد موضوع حلقة النهارده.. هتكون قنبلة من العيار التقيل، وهتخلّيني ساعتها أقدر أعلّي قيمة العقد بتاعي في القناة لو إيقاعها مشي زي ما أنا مخطّط له.
- إنت كل حلقاتك بتكون قنابل دايماً يا حبيبي.. أومال أنا اتجوزتك ليه يا روحي!!.
هكذا نطقت ”تاليا" بعد أن تمطّعت في كسلٍ واضح أسفل الغطاء؛ فتكشّفت الأجزاء العلوية من نهديها البضّين.. امرأة في نهايات العقد الرابع من قطار عمرها، وذات شعرٍ مسحور يجمع بين الأسود الداكن والأصفر الغامق، ولوجهها بياضٌ تنافس به فراء دبٍّ سيبيريّ، عِوضاً عن مرونة مفرطة في جميع عضلاتها كممحاة أصيلة أرهقتها أيادي البلداء.. وكمن جُبِل على الأناقة دوماً، أحكم ”وائل“ الأزرار الذهبية حول معصميه قبل أن يساءلها في حيرة وهمية:
- ليه!!.
- عشان «genius» في شغلك دايماً.. والأهم من ده هو إنك عرفت تخلّيني أحبك رغم إني كنت رافضة فكرة الارتباط بالطريقة دي تماماً.. بس تعالى هنا قوللي الأول، إنت كنت فظيع إزاي كده إمبارح!!.. كنت واخد إيه مخلّيك عامل زي الحصان طول الليل.
- طبيعي وحياتك.. عارفة لو وقتي يسمح، كنت هحسّسك إنك قاعدة في اسطبل خيل يا روحي.
رافعاً حاجبه الأيسر كدلالة على الدفاع عن فحولته الربّانية، نطقها ”وائل“ بعد أن ترجّل نحو الفراش، ثم امتطى الحافة بمؤخرته ريثما يرتدي ساعة يده؛ فتحلّقت زوجته حول عنقه بذراعيها الرقيقتين قبل أن تنعم على خدّه الأيمن بقبلة ماجنة، أتبعتها بتساؤلٍ رتيب تزجيةً للوقت:
- أكيد يا قطتي بس قوللي الأول، إيه بقى حكاية القنبلة دي!!.. هي الحلقة هتكون سياسية ولا إيه!!.
- بصّي يا قلبي، حاجتين لازم تحطّيهم حلقة في ودانك لو عايزة تاكلي عيش معانا.. ممنوع الكلام في السياسة، أو التخبيط في اللهم احفظنا.. غير كده بقى، اعملي ما بدالك وانتِ وشطارتك.
في سخرية مشوبة بابتسامة شديدة الاصفرار، قالها ”وائل“ بعد أن أخذته انحناءة سريعة إلى أسفل ملتقطاً نعليه من جوار الكومود.. ولم تنقضٍ الثانية حتى احتضنته زوجته من الخلف، ثم أفصحت عمّا يكمن من حيرة داخل ثنايا عقلها بعد أن ساورتها الشكوك:
- أومال موضوع الحلقة هيكون عن إيه!!.
- المثلية الجنسية.. هتكون حلقة نارية عن الشذوذ الجنسي في العالم العربي بصفة عامة، وفي مصر بصفة خاصة.. عارفة!!.. الحلقة دي لو مشيت زي ما أنا عايز، جوزك هيعلى نجمه في سماء الإعلام والقنوات كلها مش هيكون ليها سيرة غيري.. وساعتها بقى أقدر أفرض شروطي على صاحب المحطة زي ما أنا عايز، ده غير إني هجيبلك كل اللي نفسك فيه.
- قولت كدة من أسبوعين، ساعة ما عملت حلقة مع الملحدين.. ومن شهر برضو قولت إنك هتكسّر الدنيا لما الحلقة كانت عن الجن والعفاريت.. إشمعنى الحلقة دي بالذات اللي إنت متأكد إنها هتنجح وهتبقى قنبلة!!.
هكذا استطردت ”تاليا“ في اندهاش بعد أن قبضت بأسنانها المنمّقة على شفته السفلى في مجون؛ فأهداها الزوج قبلة هجينة تجمع بين حميمية الفرنسية وبرود الإنجليزية، ثم طرق براحتيه على فخذيه في إشارة منه على وجوب انصرافه حالاً قبل أن يقف معتدلاً بهامته.. وملتهباً في حماسة أنشأ قائلاً بعد أن تجلّت ابتسامة غامضة فوق محيّاه:
- عشان مش هيكون فيها ضيف عادي.. هستضيف الشاب الشاذ اللي عامل فرقة «everfasting» وقالب الدنيا على السوشيال ميديا بمنشوراته عن الحرية الجنسية.
- أولاً، اسمها «everlasting».. ثانياً، الشاب ده اسمه ”طه“ وهو اللي بيعمل أغاني الـ«Waltz» اللي أسطواناتها في كل حتة، ده انت عندك له سديهات تحت في العربية.. معقول مش عارف اسم الضيف اللي هتجيبه في برنامجك!!.
- يا ستّي أنا مالي بإسمه، هو أنا هناسبه!!.. أنا عايز أعمل به حلقة تكون «تريند» على السوشيال ميديا لفترة وخلاص.. وبالنسبة للسديهات بتاعته اللي في العربية ابقي فكّريني أولّع فيها يا روحي عشان محدش يفتكرني «لا مؤاخذة».
- وانت رأيك هيكون إيه في موضوع الشذوذ ده بقى!!.. يعني شايفه حرية شخصية، ولا!!.
في لؤمٍ مستتر، نطقت بها ”تاليا“ بعد أن نهضت من فورها عارية تماماً كجنينٍ لفظته أمّه توّاً، ثم سحبت روبها الفضفاض من فوق المقعد الساكن جوار خزانة الثياب.. وعلى سبيل التمعّن في كلماتها، ضيّق الزوج عينيه لثانيتين قبل أن يردّ في صراحة نادراً ما يظهرها:
- والله أنا مع اللي الناس عايزاه، ومستنيين يسمعوه منّي.. الناس شايفة إنها حرية شخصية ومحدش له إنه يتدخل، يبقى ساعتها هو حر.. الناس شايفاه مريض ومش عايزينه يكون ما بينهم، يبقى دوري إني أثبتلهم إن كلامهم صح حتى لو حَكَمِت إني أطلّعه شيطان بقرنين.
- والله!!.. ولما اتجوزتني عرفي كنت مع اللي الناس عايزاه!!.. طيب ما الناس كلّها ضد الجواز العرفي، اتجوزتني ليه!!.. ولا عشان الشذوذ هنا كان على هواك!!.
- فيه حاجات الناس مش هتستوعبها بسبب جهلهم وغبائهم وسيطرة العادات والتقاليد على عقولهم.. وبعدين انتِ بتقارني إيه بإيه!!.. دي علاقة بين اتنين طبيعيين، إزاي تشبّهيها بعلاقة بين اتنين شواذ، أنا مش فاهم!!.. وبعدين ده موضوع تفتحيه معايا على الصبح!!.
كلمات لها خصائص المطّاط، ألقاها ”وائل“ بلسانه سريعاً قبل أن يخطو مهرولاً خارج الغرفة؛ فتبعته زوجته وهي تحكم حزام خصرها حتى لا تتسللّ لسعات الهواء البارد إلى أردافها.. وفي زمن قدره لا يجاوز البرهة، تخطّته قبل أن يصل إلى باب الشقة، فقاطعها ”وائل“ قبل أن تسترسل:
- ”تاليا“ أنا مش فايق للكلام دلوقتي في موضوع جوازنا اللي بقيتِ بتكلّميني فيه كل ما بشوفك.. الحملة الدعائية اللي القناة عاملاها على حلقة النهارده مصروف عليها مبلغ خرافي، ولو الحلقة دي باظت فاحتمال كبير العقد بتاعي يتوقف.. فاضية بالليل نكمّل كلامنا، ولا هتسهري مع صحباتك!!.
- مش عارفة.. هشوف ظروفي كده، وهبقى أتصل بيك نتقابل لو قدرت.. ومش كل مرة تسيبني وتمشي كدة، أنا عايزة أتكلم معاك في موضوعنا.. ”وائل“.. ”وااااائل“.
على طريقة ناقر ونقير، انتهى اللقاء بينهما بعد أن بدأ في أول الليل كعاشقين يتقابلان سِرّاً بعد فراق سنين.. كلّما التقيا لا ينفكّ أحدهما عن التغزّل في الأخر إلى أن يصلا معاً إلى نهاية اللقاء؛ فتشرع ”تاليا“ بشتّى الطرق كعادتها في ليّ الحديث، للخوض في تحويل العلاقة بينهما من عرفية إلى رسمية؛ ثم يتنصّل ”وائل“ كعهده من التطرّق إلى تلك المنطقة الحسّاسة في النقاش متحجّجاً بعمله تارّة، ومسؤولياته تجاه أمّ أولاده تارّتين، والعديد كان يثغو متعلّلاً بضيق ذات اليد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي