الفصل التاسع والعشرون
الفصل التاسع والعشرين ..
..................................
كانت ليلتها عصيبة رغم حماسها الذي اشتعل فجأة ، من فكرة مجنونة عرضها عليها شخصًا مجنون أكثر منها ..
اغتسلت في الحمام الصغير الخاص بالمركب ،
وارتدت فستانًا قطنيا بسرعة ،
ثم توجهت الى سطح المركب حتى تلقي تحية الصباح على اريستيد وابنه
الموجودين في قمرة القيادة يشربان القهوة التي ايقظت لورين برائحتها الشهية .
ناولها تيمون فنجانا وسالها :
- هل ستسبحين انت ايضا قبل ان تتناولي فطورك .؟
لاحظت عندئذ وهي تهز راسها بالنفي ،
ان دريك كان في البحر يسبح باتجاه المركب حر وبطيء ،
وجعله ذلك يطفو على الماء من دون اي جهد .
تمسكت بالحاجز وراقبت قوة ذراعيه وهي تتشبث الى المركب .
تمسك بدعامة السلم الحبلي القصير وتسلقه ببطء ،
فناولته المنشفة التي كانت ملقاة باهمال على احد المقاعد المهجورة ..
عندها وقف على حافة المركب وبقع من الماء تتجمع تحت قدميه .
كان يجفف شعره ببطئ اهلكها .
القى بالمنشفة على المقعد المجاور له ،
ثم اقترب منها بصدره الرياضي العاري وهو يقول لها :
- هل تعيدين التفكير في الموضوع لورين ؟
لا شك انها مجنونة لتشارك هذا الرجل في اية خدعة !
خصوصا ان هذه الخدعة تتطلب منها ان تتظاهر كفتاة على وشك الزواج .
اعاد سؤاله عليها بينما هي شردت وهي تنظر إليه :
- هل تعيدين التفكير في الموضوع لورين ؟
- توردت وجنتاها وتملكها الخجل ،
عندما لاحظت انه انتهى من تجفيف شعره وانه يراقبها بعينين باردتين ،
بينما المنشفة ليست بيده !
اخذت نفسًا عميقًا وهي تقول له بصدق :
- لست اكيدة من انني ساتمكن من الاستمرار بخداعهم .
ثم استجمعت قوتها حتى اصبح تحفظها عائقا لا يُقهر ، وهي تقول له :
- بغض النظر عن أي شيء اخر ،
أنا حقًا لا أعرف الكثير عنك حتى اتصرف بواقعية .
ثم مسدت باصابعها تنورتها القطنية البنفسجية اللون ،
وهي تطرح عليه بعض الأسئلة :
- ما هو عملك ؟ و لماذا هناك نزاع بينك وبين والدك ؟ اين التقينا ....؟
اضطرب صوتها حتى توقف تماما ثم هزت
كتفيها بياس ..
فقاطع جملها المترددة بعزم هادئ :
- لورين كنت انوي ان نتعرف الى بعضنا البعض اكثر ،
ونحن نتناول طعام الفطور .
كفت عن مقاومته وهي تشعر انها لم تعد
مسيطرة على قدرها ،
وسمحت له ان يقودها الى مكان المائدة المعدة على ظهر المركب ،
ولكنه لم يكسر الصمت الا بعد ان انتهيا من تناول الوجبة المؤلفة من البيض والحليب والزبدة المغموسة في مربى الفراوله ،
وبعض قطع من الحلوى المتنوعة .
استند بمرفقية أعلى المنضدة وهو يحدثها قائلًا :
- يمتلك ابي حصة كبيرة في شركة إرنست للبناء ،
لقد أسسها مع عمي فلاموس ،
ولكن باع فلاميوس حصته بعد حوالي عشرين سنة ،
ومول براسماله شركة صغيرة مختصة في بناء المراكب في جزيرة
كافوس .
وجعلها تناسب اذواق الطبقة
الارستقراطية التي كانت تريد ان تبدو مراكبها رائعة كمظهر اصحابها ،
و افترض ابي ان ابنه البكر سيصبح جزءا مهما في شركة
إرنست للبناء ،
فقد كان من المستحيل ان
اعمل لديه لانني بعد ان عدت من خدمتي العسكرية اردت ان اشارك فلاموس في عمله .
توقف وشجعته لورين بحركة من راسها ذو الشعر الذهبي وهي تقول :
- ماذا حدث ؟
اعترف لها قائلًا :
- غضب والدي بشدة لما فعلته ،
و كان اخي لوكاس حينها ما يزال في السادسة عشرة من عمره في ذلك الوقت
وكان يتلقى علومه في الخارج ،
ويحتاج الى كثير من الوقت حتى ينتهي من تعليمه وخدمته
العسكرية ويصبح قادرا على اضافة اسم إرنستو جديد في اللعبة التجارية .
سألته بتعجب :
- اهذا هو سبب النزاع ؟ الم يحاول احدكما التنازل بعد كل ذك الوقت ؟
و ما الذي ابعدكما عن بعضكما البعض .. الكبرياء ؟
أجابها بنزق :
- شيء من هذا القبيل ،
كما تتطلب المشاجرة شخصين كذلك القيام بترضية يحتاج الى اثنين والى جانب ذلك ..
توقف وبدا مستغرقا في تفكير عميق كانه يحدق في ماضيه ........
سالته بتهذيب :
_والى جانب ذلك ......؟
اولاها اهتمامه من جديد ولم تستطع ان تقرا تعبير عينيه المبهم وهو يردف :
- هناك احداث كثيرة اخرى ، لا يمكن تحديدها الأن ..
قررت ان لا تظهر تعاطفها معه وهي تقول :
- لا اعتقد بان العطلة المدفوعة ،
دافع مهم تستطيع اقناعي به كي استمر في هذه المهزلة ،
اذا كان والدك مرعبا لهذه الدرجة ،
فلا اعتقد بانه سوف يتعاطف مع دجالة .
ردد بثقة :
- لكنه سيضعف امام وردة انجليزية ،
مع انها لا تشبه والدتي كثيرا .
ثم تفحص ملامحها الناعمة بدقة وهو يقول :
- صدقيني يا لورين ..
ما كنت سأجد مرشحا افضل منك ..
اما بالنسبة للدفع .....
هز كتفيه وتابع بصوت هادىء :
ا سنتفاوض بعد ان يرحب بي أبي في بلفادير مرة
ثانية .
لاحظت ان فمه قاس وان لحيته السوداء
اعطته مظهر احد القراصنة الذين اختباوا في الجزيرة ،
التي ادعى انها موطنه ..
حاولت ان تبتعد بنظرها عنه و تستجمع افكارها وهي تقول :
- لابد انك بدات العمل مع عمك منذ عدة سنوات ؟
اجابها سريعًا :
- تحتاج شركة صغيرة مثلها الى مندوب مستعد للسفر في اي وقت .
ثم تمطى بكسل وتابع :
- لا يرغب رجال الاعمال في القيام برحلات طويلة ومملة كي يعثروا على حوض جاف في احد الجزر النائية .
حركت رأسها بتفهم وهي تقول :
- حسنًا .. لقد فهمت .
كم كانت غبية عندما افترضت ان مساهمته
في اعمال عمه كانت يدوية ،
في حين انه يمتلك حرفة مهمة وطموحا .
ولكنها كانت مخدوعة براحتي يديه القاسيتين ..
لم تدرك انها كانت تحدق الى يديه وفوجئت عندما نظر اليها ومد راحتي يديه ليلاحظ قساوتهما بابتسامة ساخرة وهو يقول :
- هل تثيران فضولك ؟
تتساءلين لم تبدوان كيدي عامل هذا سهل تفسيره ،
تخليت عن منصبي في شركة فلاميوس منذ سنتين حتى احقق امنية والدي الغالية ابيع نفسي قلبا وقالبا لشركة إرنستو للبناء احمل سلالهم استخدم معاولهم ،
واقود سياراتهم واسمي أيضاً محفور عليها .
تعجبت لذلك ، لتسأله :
- هل تعني انك بدات تحاول كسب ثقته ؟
ثم توقفت عندما قاطعها بضحكة عالية ..
و قال بسخرية :
- لم يعرف والدي أنني فعلت ذلك ..
ولن يبالي اذا عرف لقد بدات عملي هناك عندما شعرت بانني بحاجة لاستنشاق هواء
نقي ،
وللاحساس بفائدة الالم ..
الم جسدي يذكرني بانني على قيد الحياة ،
عندما اكسب معيشتي بعرق جبيني .
ثم ارجع كرسيه الى الوراء ،
و وقف وظهره مواجهة لها يحدق الى المرفا الصغير الذي ينتظرهم عندما ترفع المرساة .
بقيت صامتة تراقب تصلب جسده ،
وهي مدركة انه كان يحارب معركة شخصية ..
استدار بعد لحظات وبدا مسترخيا وهو يقول لها :
- كنت اشتغل في موقع ليس بعيدا عن ال غريكو ،
عندما اتصل بي لوكاس ليعلمني بوفاة فلاميوس ،
اريستيد موظف امين وصديقي منذ الطفولة ،
لم اجد اي مشكلة عندما طلبت منه ان يرافقني في كريت لحضور الماتم .
سألته بضعف وهي تحاول ان تقيم المحنة التي تنتظرها :
- لوكاس من بلفادير ايضا ؟
اجابها وهو ما زال يحدق بالمرفأ امامه :
- يمضى هو وعائلته عطلتهم الصيفية هناك .
اذن محنتها لا تتعلق بوالد دريك وزوجته فقط ،
لقد لاحظت بألم أنه ،
كلما زاد عدد الحضور كلما صعب دورها .
ذم دريك شفتيه عندما ادرك خوفها ليحاول طمأنتها قائلًا :
- ما بك .. هل من الصعب عليك ان تتظاهري
انك واقعة في حبي امام الجمهور .؟
اجابته وهي ترفع حاجبها بنزقٍ :
- من دون تمرين نعم .
ثم ارتدت الى الوراء ولاحظت بعد فوات الاوان
ابتسامته الساخرة ،
ونظرته العبثية وانه تعمد اساءة فهم توكيدها .
ليقول لها وهو يقترب منها :
- لو انني عرفت البارحة انك متحمسة لاداء الدور جيدا هكذا ،
لكنت دعوتك لمشاركتي مقصورتي ،
عندما انتهت مهتمتي في قمر القيادة .
قالت بفتور بعدما اغضبتها نبرة صوته الساخرة وتمنت لو انها لم تقل جملتها تلك :
- انت تعرف ماذا اعني تحديدًا يا دريك ،
فلا تحول حديثك إلى هذه النقطة حتى لا أغضب عليك ..
أنا قصدتُ أن على عائلتك معرفة بعض التفاصيل الشخصية بيننا ...
اين التقينا مثلا ؟
أجابها وهو يبتسم ،
فقد كان يريد أن يتمادى في مزاحه الساخر ولكنها لم تمنحه الفرصة :
- في كريت بالطبع هل هناك افضل من قول
الحقيقة .
ارادت ان تصفع وجهه الساخر هذا ولكنها تمالكت نفسها قائلة :
- بامكانك ان تُجيب ذلك ؟
ثم اقتربت منه وهي تشعر انها على حافة الانهيار وهي تقول :
- مؤكد لن تفرح عائلتك عندما تعرف انك عثرت علي في حانة .
سخر من غضبها ، قائلًا :
- تصحيح !
انت من عثر علي ..
وقبل أن ترفع يدها كي تصفعه رفع هو كلتا كفيه امامها قائلًا :
- على كل حال بامكاننا ان نعدل الحقيقة ..
سنقول لهم اننا التقينا في ال غريكو ووقعنا في الحب من اول نظرة .
ردد بغيظ وهي تصك اسنانها :
ا في غضون يوم واحد ؟
ابتسم بعبث ونظره مثبت على عينيها البنيتين من دون رحمة قائلًا :
- ولم لا ؟
هذا ما احتاجه آرنستو عندما وقع في حب والدتي ..
صدقيني سيعزز هذا الاعتراف مكانتك عنده .
قالت بازدراء :
- تعني مكانتنا ..
الى اي مدى انت مستعد لان تخدع حتى تمتلك بلفادير اني اتساءل ؟
ضيق عينيه قائلًا بجدية ارهبتها :
- على الرجل ان يلعب اوراقه في هذه الحياة جيدًا ..
واذا لم تكن كافية ليحصل على مبتغاه ..
فإن حينها عليه ان يراوغ بذكاء ..
اخترقتها عيناه وعكستا التوتر الذي زادته حدة صوته وهي تقول له :
- والان ...
الوقت يمر بسرعة علي ان ارتدي ثيابا تناسب الاحتفال المحزن الذي ينتظرني .
احنى راسه قبل ان يبتعد باتجاه مقصورته تاركا اياها حزينة ويائسة .
تمنت وقتها لو انها تستطيع ان تتخلى عن دريك إرنستو ولعبته
المحتالة ،
وعرفت ان هذا يخالف طبيعتها الضعيفة على الإطلاق ، فهي أبدًا لم تسعى لخداع أحد بل كانت صادقة نقية في كل حياتها .
يبدوا أن دريك قد جاء ليحولها لشخص آخر لا تعرفه على الاطلاق ،
سيكون من الجيد لو أنها عادت بشخصيتها القديمة ولم تفقد في هذه الرحلة الكثير منها ....
رفع اريستيد المرساة في الوقت الذي ظهر فيه دريك ،
ثم قاد المركب باتجاه الشاطيءو.
تفحصته لورين عندما عاد وبدا انيقا جدا بشكل خطف انفاسها ..
شعره مسرح بعناية ،
يرتدي بذلة سوداء تحتها قميصا ابيض ابرز لون بشرته الداكن ،
حبست انفاسها لان بدلته تليق بالفعل بوجه قرصان .
رفع يده ليحك ذقنه وهو يقول لها :
- هل تجدين مظهري مثيرا للاستياء ؟
لا تقلقي فإنها احدى عادات جزيرتنا عندما يطوي الموت احدهم ،
يجب على اصدقائه ان يبرهنوا عن حزنهم .. بعدم الاهتمام بمظهرهم الخارجي .
اعترفت له :
_اعرف ذلك ، لقد اثارت بدلتك اهتمامي للحظة و .......
تلعثمت وتساءلت كيف تفسر ذلك .
فقاطعها بوقاحة :
- هل كنت تتخيلين صورة زوجك الملتحي وهو يعانقك بحماسة اقل ؟
نفت بغيظ :
- بالطبع لا .
ابتسم قائلًا بلطف :
- إذًا فانا مسرور لان مظهري الخارجي لا يؤثر عليك .
اعترضت بتوتر :
- لم اعن ذلك .
خجلت من أن توضح له ، أن ما شعرت به على العكس تماماً كما يعتقد ، فهي بالفعل مبهورة بمظهره الخاطف ..
عادت من شوردها وهو يقول لها بابتسامة :
- حقًا ؟
ثم لم تدم ابتسامته اكثر من ثانية ولم تؤثر على عينيه وهو يقول :
- لكن الموت مثل الحياة ،
مقبول ومندمج تماما مع المجتمع اليس كذلك ؟
مهما عنيت ...
تاكدي ان حزني سينتهي غدا ،
وخطتي التي تهدف الى استعادة مركزي في بلفادير ستنجح .
ثم قال وهو يساعدها على النزول من المركب على الرصيف الصغير :
- بامكاننا ان نترك الامتعة هنا ،
سيحضرها اريستيد بنفسه الى بلفادير ،
فإن النقليات محدودة هنا واخشى الا اجد من يقلنا الى هناك ..
فإن الدراجة و الحمار والمركب هي وسائل النقل
المعتادة هنا ،
بصرف النظر عن سيارة والدي اتمنى الا تجديها همجية ..
رفضت ان تثبط سخريته من عزيمتها وهي تقول له :
- ممتاز .. بخلاف ذلك اجدها جميلة جدا .
ردد بحماس :
- أنا مسرور لحديثك هذا ..
ثم اردف :
- امامنا خمس عشرة دقيقة حتى نصل الى بلفادير على الاقدام .
ثم نظر الى حذائها الرياضي وهو يقول بانبهار :
- يبدو انك تعلمت شيئا من خلال اقامتك على التربة اليونانية .
لم تعترض واجابته ببساطة :
- انني احب السير كثيرا .
كانت تتجول بنظرها حولها ، عندما رات المتاجر التي تبيع الخزف موزعة هنا وهناك والحانات ايضًا كذلك ..
لاحظت لورين انها مخصصة لسكان الجزيرة ..
متاجر عامة مظلمة ، تعرض على رفوفها البضائع المختلفة .
بينما بائعوا الخضر والفاكهة يتنافسون على بيع
الدراق والبندورة ،
مرت على فرن ببابه الازرق ،
وقد انبعثت من داخله رائحة الخبز الشهية ،
اما عن متجر الحلوى بنوافذه المظلمة ،
فهو يعرض انواعا مختلفة من المعجنات .
لاحظت ان الاعين تلاحقها كلما خطت ..
رفع الرجال
قبعاتهم عندما مرت وتوقفت النساء اللواتي يرتدين ثيابا سوداء وهن في حداد مستمر ،
عن قطف الاعشاب ،
وقد وادارت الامهات اللواتي يتسوقن مع اولادهن رؤوسهن ولم يحاولن اخفاء دهشتهن من رؤيتها .
بدات تشعر بالتوتر فابطا دريك خطواته بعد ان لاحظ تورد وجنيها قائلًا :
- المكان ليس بعيدا كثيرا ، ربما كان لي ان احذرك من الطريق .
اجابت بسخرية وهي مدركة بحزن ان جملته ستكون بمثابة نذير شؤم في الايام المقبلة :
- ربما كان عليك ان تحذرني من ان عودة الابن الضال ،
ستثير هذا الاهتمام بين سكان البلدة .
تظاهر بالاندهاش قائلًا :
- انا ؟
لقد اعتقدت ان جمالك هو الذي ادار رؤوسهم .
ضيقت عينيها وهي تقول له :
- لا تعبث معي ارجوك ،
ف شخص كان سيظن انك مشهور هنا ..
ولكنني لم اكن اعرف ان النزاع الذي بينك وبين والدك معروف لهذه الدرجة .
لم يكن الغرور احدى صفاتها ابدا ..
لتتفاجأ بقوله لها :
- كافوس مكان صغير ولذلك يصبح كل سكان
الجزيرة قضاة وهيئة محلفين ،
اذا اخطا احد ابنائها .
علمت حين أنهى جملته أنها دخلت بكلتا قدميها ، لجحر من الثعابين السامة ،
فهل ستخرج من هناك كما دخلت اليوم ؟!
أم ماذا ستخسر وهي خارجة من هذه البلد !..
_________________________________
..................................
كانت ليلتها عصيبة رغم حماسها الذي اشتعل فجأة ، من فكرة مجنونة عرضها عليها شخصًا مجنون أكثر منها ..
اغتسلت في الحمام الصغير الخاص بالمركب ،
وارتدت فستانًا قطنيا بسرعة ،
ثم توجهت الى سطح المركب حتى تلقي تحية الصباح على اريستيد وابنه
الموجودين في قمرة القيادة يشربان القهوة التي ايقظت لورين برائحتها الشهية .
ناولها تيمون فنجانا وسالها :
- هل ستسبحين انت ايضا قبل ان تتناولي فطورك .؟
لاحظت عندئذ وهي تهز راسها بالنفي ،
ان دريك كان في البحر يسبح باتجاه المركب حر وبطيء ،
وجعله ذلك يطفو على الماء من دون اي جهد .
تمسكت بالحاجز وراقبت قوة ذراعيه وهي تتشبث الى المركب .
تمسك بدعامة السلم الحبلي القصير وتسلقه ببطء ،
فناولته المنشفة التي كانت ملقاة باهمال على احد المقاعد المهجورة ..
عندها وقف على حافة المركب وبقع من الماء تتجمع تحت قدميه .
كان يجفف شعره ببطئ اهلكها .
القى بالمنشفة على المقعد المجاور له ،
ثم اقترب منها بصدره الرياضي العاري وهو يقول لها :
- هل تعيدين التفكير في الموضوع لورين ؟
لا شك انها مجنونة لتشارك هذا الرجل في اية خدعة !
خصوصا ان هذه الخدعة تتطلب منها ان تتظاهر كفتاة على وشك الزواج .
اعاد سؤاله عليها بينما هي شردت وهي تنظر إليه :
- هل تعيدين التفكير في الموضوع لورين ؟
- توردت وجنتاها وتملكها الخجل ،
عندما لاحظت انه انتهى من تجفيف شعره وانه يراقبها بعينين باردتين ،
بينما المنشفة ليست بيده !
اخذت نفسًا عميقًا وهي تقول له بصدق :
- لست اكيدة من انني ساتمكن من الاستمرار بخداعهم .
ثم استجمعت قوتها حتى اصبح تحفظها عائقا لا يُقهر ، وهي تقول له :
- بغض النظر عن أي شيء اخر ،
أنا حقًا لا أعرف الكثير عنك حتى اتصرف بواقعية .
ثم مسدت باصابعها تنورتها القطنية البنفسجية اللون ،
وهي تطرح عليه بعض الأسئلة :
- ما هو عملك ؟ و لماذا هناك نزاع بينك وبين والدك ؟ اين التقينا ....؟
اضطرب صوتها حتى توقف تماما ثم هزت
كتفيها بياس ..
فقاطع جملها المترددة بعزم هادئ :
- لورين كنت انوي ان نتعرف الى بعضنا البعض اكثر ،
ونحن نتناول طعام الفطور .
كفت عن مقاومته وهي تشعر انها لم تعد
مسيطرة على قدرها ،
وسمحت له ان يقودها الى مكان المائدة المعدة على ظهر المركب ،
ولكنه لم يكسر الصمت الا بعد ان انتهيا من تناول الوجبة المؤلفة من البيض والحليب والزبدة المغموسة في مربى الفراوله ،
وبعض قطع من الحلوى المتنوعة .
استند بمرفقية أعلى المنضدة وهو يحدثها قائلًا :
- يمتلك ابي حصة كبيرة في شركة إرنست للبناء ،
لقد أسسها مع عمي فلاموس ،
ولكن باع فلاميوس حصته بعد حوالي عشرين سنة ،
ومول براسماله شركة صغيرة مختصة في بناء المراكب في جزيرة
كافوس .
وجعلها تناسب اذواق الطبقة
الارستقراطية التي كانت تريد ان تبدو مراكبها رائعة كمظهر اصحابها ،
و افترض ابي ان ابنه البكر سيصبح جزءا مهما في شركة
إرنست للبناء ،
فقد كان من المستحيل ان
اعمل لديه لانني بعد ان عدت من خدمتي العسكرية اردت ان اشارك فلاموس في عمله .
توقف وشجعته لورين بحركة من راسها ذو الشعر الذهبي وهي تقول :
- ماذا حدث ؟
اعترف لها قائلًا :
- غضب والدي بشدة لما فعلته ،
و كان اخي لوكاس حينها ما يزال في السادسة عشرة من عمره في ذلك الوقت
وكان يتلقى علومه في الخارج ،
ويحتاج الى كثير من الوقت حتى ينتهي من تعليمه وخدمته
العسكرية ويصبح قادرا على اضافة اسم إرنستو جديد في اللعبة التجارية .
سألته بتعجب :
- اهذا هو سبب النزاع ؟ الم يحاول احدكما التنازل بعد كل ذك الوقت ؟
و ما الذي ابعدكما عن بعضكما البعض .. الكبرياء ؟
أجابها بنزق :
- شيء من هذا القبيل ،
كما تتطلب المشاجرة شخصين كذلك القيام بترضية يحتاج الى اثنين والى جانب ذلك ..
توقف وبدا مستغرقا في تفكير عميق كانه يحدق في ماضيه ........
سالته بتهذيب :
_والى جانب ذلك ......؟
اولاها اهتمامه من جديد ولم تستطع ان تقرا تعبير عينيه المبهم وهو يردف :
- هناك احداث كثيرة اخرى ، لا يمكن تحديدها الأن ..
قررت ان لا تظهر تعاطفها معه وهي تقول :
- لا اعتقد بان العطلة المدفوعة ،
دافع مهم تستطيع اقناعي به كي استمر في هذه المهزلة ،
اذا كان والدك مرعبا لهذه الدرجة ،
فلا اعتقد بانه سوف يتعاطف مع دجالة .
ردد بثقة :
- لكنه سيضعف امام وردة انجليزية ،
مع انها لا تشبه والدتي كثيرا .
ثم تفحص ملامحها الناعمة بدقة وهو يقول :
- صدقيني يا لورين ..
ما كنت سأجد مرشحا افضل منك ..
اما بالنسبة للدفع .....
هز كتفيه وتابع بصوت هادىء :
ا سنتفاوض بعد ان يرحب بي أبي في بلفادير مرة
ثانية .
لاحظت ان فمه قاس وان لحيته السوداء
اعطته مظهر احد القراصنة الذين اختباوا في الجزيرة ،
التي ادعى انها موطنه ..
حاولت ان تبتعد بنظرها عنه و تستجمع افكارها وهي تقول :
- لابد انك بدات العمل مع عمك منذ عدة سنوات ؟
اجابها سريعًا :
- تحتاج شركة صغيرة مثلها الى مندوب مستعد للسفر في اي وقت .
ثم تمطى بكسل وتابع :
- لا يرغب رجال الاعمال في القيام برحلات طويلة ومملة كي يعثروا على حوض جاف في احد الجزر النائية .
حركت رأسها بتفهم وهي تقول :
- حسنًا .. لقد فهمت .
كم كانت غبية عندما افترضت ان مساهمته
في اعمال عمه كانت يدوية ،
في حين انه يمتلك حرفة مهمة وطموحا .
ولكنها كانت مخدوعة براحتي يديه القاسيتين ..
لم تدرك انها كانت تحدق الى يديه وفوجئت عندما نظر اليها ومد راحتي يديه ليلاحظ قساوتهما بابتسامة ساخرة وهو يقول :
- هل تثيران فضولك ؟
تتساءلين لم تبدوان كيدي عامل هذا سهل تفسيره ،
تخليت عن منصبي في شركة فلاميوس منذ سنتين حتى احقق امنية والدي الغالية ابيع نفسي قلبا وقالبا لشركة إرنستو للبناء احمل سلالهم استخدم معاولهم ،
واقود سياراتهم واسمي أيضاً محفور عليها .
تعجبت لذلك ، لتسأله :
- هل تعني انك بدات تحاول كسب ثقته ؟
ثم توقفت عندما قاطعها بضحكة عالية ..
و قال بسخرية :
- لم يعرف والدي أنني فعلت ذلك ..
ولن يبالي اذا عرف لقد بدات عملي هناك عندما شعرت بانني بحاجة لاستنشاق هواء
نقي ،
وللاحساس بفائدة الالم ..
الم جسدي يذكرني بانني على قيد الحياة ،
عندما اكسب معيشتي بعرق جبيني .
ثم ارجع كرسيه الى الوراء ،
و وقف وظهره مواجهة لها يحدق الى المرفا الصغير الذي ينتظرهم عندما ترفع المرساة .
بقيت صامتة تراقب تصلب جسده ،
وهي مدركة انه كان يحارب معركة شخصية ..
استدار بعد لحظات وبدا مسترخيا وهو يقول لها :
- كنت اشتغل في موقع ليس بعيدا عن ال غريكو ،
عندما اتصل بي لوكاس ليعلمني بوفاة فلاميوس ،
اريستيد موظف امين وصديقي منذ الطفولة ،
لم اجد اي مشكلة عندما طلبت منه ان يرافقني في كريت لحضور الماتم .
سألته بضعف وهي تحاول ان تقيم المحنة التي تنتظرها :
- لوكاس من بلفادير ايضا ؟
اجابها وهو ما زال يحدق بالمرفأ امامه :
- يمضى هو وعائلته عطلتهم الصيفية هناك .
اذن محنتها لا تتعلق بوالد دريك وزوجته فقط ،
لقد لاحظت بألم أنه ،
كلما زاد عدد الحضور كلما صعب دورها .
ذم دريك شفتيه عندما ادرك خوفها ليحاول طمأنتها قائلًا :
- ما بك .. هل من الصعب عليك ان تتظاهري
انك واقعة في حبي امام الجمهور .؟
اجابته وهي ترفع حاجبها بنزقٍ :
- من دون تمرين نعم .
ثم ارتدت الى الوراء ولاحظت بعد فوات الاوان
ابتسامته الساخرة ،
ونظرته العبثية وانه تعمد اساءة فهم توكيدها .
ليقول لها وهو يقترب منها :
- لو انني عرفت البارحة انك متحمسة لاداء الدور جيدا هكذا ،
لكنت دعوتك لمشاركتي مقصورتي ،
عندما انتهت مهتمتي في قمر القيادة .
قالت بفتور بعدما اغضبتها نبرة صوته الساخرة وتمنت لو انها لم تقل جملتها تلك :
- انت تعرف ماذا اعني تحديدًا يا دريك ،
فلا تحول حديثك إلى هذه النقطة حتى لا أغضب عليك ..
أنا قصدتُ أن على عائلتك معرفة بعض التفاصيل الشخصية بيننا ...
اين التقينا مثلا ؟
أجابها وهو يبتسم ،
فقد كان يريد أن يتمادى في مزاحه الساخر ولكنها لم تمنحه الفرصة :
- في كريت بالطبع هل هناك افضل من قول
الحقيقة .
ارادت ان تصفع وجهه الساخر هذا ولكنها تمالكت نفسها قائلة :
- بامكانك ان تُجيب ذلك ؟
ثم اقتربت منه وهي تشعر انها على حافة الانهيار وهي تقول :
- مؤكد لن تفرح عائلتك عندما تعرف انك عثرت علي في حانة .
سخر من غضبها ، قائلًا :
- تصحيح !
انت من عثر علي ..
وقبل أن ترفع يدها كي تصفعه رفع هو كلتا كفيه امامها قائلًا :
- على كل حال بامكاننا ان نعدل الحقيقة ..
سنقول لهم اننا التقينا في ال غريكو ووقعنا في الحب من اول نظرة .
ردد بغيظ وهي تصك اسنانها :
ا في غضون يوم واحد ؟
ابتسم بعبث ونظره مثبت على عينيها البنيتين من دون رحمة قائلًا :
- ولم لا ؟
هذا ما احتاجه آرنستو عندما وقع في حب والدتي ..
صدقيني سيعزز هذا الاعتراف مكانتك عنده .
قالت بازدراء :
- تعني مكانتنا ..
الى اي مدى انت مستعد لان تخدع حتى تمتلك بلفادير اني اتساءل ؟
ضيق عينيه قائلًا بجدية ارهبتها :
- على الرجل ان يلعب اوراقه في هذه الحياة جيدًا ..
واذا لم تكن كافية ليحصل على مبتغاه ..
فإن حينها عليه ان يراوغ بذكاء ..
اخترقتها عيناه وعكستا التوتر الذي زادته حدة صوته وهي تقول له :
- والان ...
الوقت يمر بسرعة علي ان ارتدي ثيابا تناسب الاحتفال المحزن الذي ينتظرني .
احنى راسه قبل ان يبتعد باتجاه مقصورته تاركا اياها حزينة ويائسة .
تمنت وقتها لو انها تستطيع ان تتخلى عن دريك إرنستو ولعبته
المحتالة ،
وعرفت ان هذا يخالف طبيعتها الضعيفة على الإطلاق ، فهي أبدًا لم تسعى لخداع أحد بل كانت صادقة نقية في كل حياتها .
يبدوا أن دريك قد جاء ليحولها لشخص آخر لا تعرفه على الاطلاق ،
سيكون من الجيد لو أنها عادت بشخصيتها القديمة ولم تفقد في هذه الرحلة الكثير منها ....
رفع اريستيد المرساة في الوقت الذي ظهر فيه دريك ،
ثم قاد المركب باتجاه الشاطيءو.
تفحصته لورين عندما عاد وبدا انيقا جدا بشكل خطف انفاسها ..
شعره مسرح بعناية ،
يرتدي بذلة سوداء تحتها قميصا ابيض ابرز لون بشرته الداكن ،
حبست انفاسها لان بدلته تليق بالفعل بوجه قرصان .
رفع يده ليحك ذقنه وهو يقول لها :
- هل تجدين مظهري مثيرا للاستياء ؟
لا تقلقي فإنها احدى عادات جزيرتنا عندما يطوي الموت احدهم ،
يجب على اصدقائه ان يبرهنوا عن حزنهم .. بعدم الاهتمام بمظهرهم الخارجي .
اعترفت له :
_اعرف ذلك ، لقد اثارت بدلتك اهتمامي للحظة و .......
تلعثمت وتساءلت كيف تفسر ذلك .
فقاطعها بوقاحة :
- هل كنت تتخيلين صورة زوجك الملتحي وهو يعانقك بحماسة اقل ؟
نفت بغيظ :
- بالطبع لا .
ابتسم قائلًا بلطف :
- إذًا فانا مسرور لان مظهري الخارجي لا يؤثر عليك .
اعترضت بتوتر :
- لم اعن ذلك .
خجلت من أن توضح له ، أن ما شعرت به على العكس تماماً كما يعتقد ، فهي بالفعل مبهورة بمظهره الخاطف ..
عادت من شوردها وهو يقول لها بابتسامة :
- حقًا ؟
ثم لم تدم ابتسامته اكثر من ثانية ولم تؤثر على عينيه وهو يقول :
- لكن الموت مثل الحياة ،
مقبول ومندمج تماما مع المجتمع اليس كذلك ؟
مهما عنيت ...
تاكدي ان حزني سينتهي غدا ،
وخطتي التي تهدف الى استعادة مركزي في بلفادير ستنجح .
ثم قال وهو يساعدها على النزول من المركب على الرصيف الصغير :
- بامكاننا ان نترك الامتعة هنا ،
سيحضرها اريستيد بنفسه الى بلفادير ،
فإن النقليات محدودة هنا واخشى الا اجد من يقلنا الى هناك ..
فإن الدراجة و الحمار والمركب هي وسائل النقل
المعتادة هنا ،
بصرف النظر عن سيارة والدي اتمنى الا تجديها همجية ..
رفضت ان تثبط سخريته من عزيمتها وهي تقول له :
- ممتاز .. بخلاف ذلك اجدها جميلة جدا .
ردد بحماس :
- أنا مسرور لحديثك هذا ..
ثم اردف :
- امامنا خمس عشرة دقيقة حتى نصل الى بلفادير على الاقدام .
ثم نظر الى حذائها الرياضي وهو يقول بانبهار :
- يبدو انك تعلمت شيئا من خلال اقامتك على التربة اليونانية .
لم تعترض واجابته ببساطة :
- انني احب السير كثيرا .
كانت تتجول بنظرها حولها ، عندما رات المتاجر التي تبيع الخزف موزعة هنا وهناك والحانات ايضًا كذلك ..
لاحظت لورين انها مخصصة لسكان الجزيرة ..
متاجر عامة مظلمة ، تعرض على رفوفها البضائع المختلفة .
بينما بائعوا الخضر والفاكهة يتنافسون على بيع
الدراق والبندورة ،
مرت على فرن ببابه الازرق ،
وقد انبعثت من داخله رائحة الخبز الشهية ،
اما عن متجر الحلوى بنوافذه المظلمة ،
فهو يعرض انواعا مختلفة من المعجنات .
لاحظت ان الاعين تلاحقها كلما خطت ..
رفع الرجال
قبعاتهم عندما مرت وتوقفت النساء اللواتي يرتدين ثيابا سوداء وهن في حداد مستمر ،
عن قطف الاعشاب ،
وقد وادارت الامهات اللواتي يتسوقن مع اولادهن رؤوسهن ولم يحاولن اخفاء دهشتهن من رؤيتها .
بدات تشعر بالتوتر فابطا دريك خطواته بعد ان لاحظ تورد وجنيها قائلًا :
- المكان ليس بعيدا كثيرا ، ربما كان لي ان احذرك من الطريق .
اجابت بسخرية وهي مدركة بحزن ان جملته ستكون بمثابة نذير شؤم في الايام المقبلة :
- ربما كان عليك ان تحذرني من ان عودة الابن الضال ،
ستثير هذا الاهتمام بين سكان البلدة .
تظاهر بالاندهاش قائلًا :
- انا ؟
لقد اعتقدت ان جمالك هو الذي ادار رؤوسهم .
ضيقت عينيها وهي تقول له :
- لا تعبث معي ارجوك ،
ف شخص كان سيظن انك مشهور هنا ..
ولكنني لم اكن اعرف ان النزاع الذي بينك وبين والدك معروف لهذه الدرجة .
لم يكن الغرور احدى صفاتها ابدا ..
لتتفاجأ بقوله لها :
- كافوس مكان صغير ولذلك يصبح كل سكان
الجزيرة قضاة وهيئة محلفين ،
اذا اخطا احد ابنائها .
علمت حين أنهى جملته أنها دخلت بكلتا قدميها ، لجحر من الثعابين السامة ،
فهل ستخرج من هناك كما دخلت اليوم ؟!
أم ماذا ستخسر وهي خارجة من هذه البلد !..
_________________________________