الفصل التاسع
دفعت بيدها الباب الخشبي والثقيل بصعوبة وعزم بعد ما فتحته بمفتاحه الصدئ، حتى اصدر صريرًا عاليًا ، لتدلف داخل المنزل القديم ومعها ابنتها التي توسعت عيناها بشدة وهي تحدق في أرجاءه، المنزل الطيني كان واسعًا للغاية كما هو المعتاد في بناء المنازل في هذه البلدة قديمًا ، تركه مهجورًا من أصحابه لسنوات طوال قد ترك اثره الواضح على البيت، خيوط العنكبوت انتشرت بكثرة على الحوائط، غبار الأتربة غطى على الارائك الخشبة التي اصطفت على الجانبين من الصالة، فأخفى لونها البني، كما بهت لون القماش الذي غطى التلفاز القديم والموضوع على المنضدة في الوسط، زمت زينب شفتيها حانقة وقد أصابها البؤس والإحباط وهي تنقل انظارها نحو والدتها التي وقفت في منتصف الصالة، تترقرق بعيناه الدموع ، وهي تتأمل كل زواية بحنين واشتياق مؤلم، تتذكر ايام طفولتها ومراهقتها السعيدة مع اسرتها حينما كانت ترى الحياة بالون الوردي؛ قبل أن يأخدها غراب البين سليمان ويتزوجها، فتستفيق من احلامها على واقع ظلمه الذي سرق البهجة من حياتها ووضع بحلقها المرار .
- هانعمل إيه دلوك يامّا ؟
- ها.. انتي بتقولي حاجة يازينب؟
قالتها وهي تستفيق من شرودها على صوت ابنتها التي عادت تكرر:
- بقولك يامّا هانعمل إيه في الحزن ده؟
ردت نعيمة مستنكرة:
- حزن أيه يابت كف الله الشر؟ عشان يعني البيت مترب شوية ؟
فغرت زينب فاهاها ترد بدهشة :
- بس مترب يامّا، دا يعتبر خرابة ؟ ومافيهموش حتة تنفع نقعد فيها حتى، يبقى هنام فين دلوك بقى والدنيا ليلت علينا ؟
حدقت عليها نعيمة بنظرة لائمة قبل ان تتحرك بحقيبتها تأمرها :
- عشان ما تعشميش؛ مافيش مرواح عند حد يازينب، تعالي معايا دلوك ندخل نعدل ونرتب اوضة واحدة بس في البيت ننام فيها وبكرة يحلها الحلال بإذن الله .
تحركت زينب بقدميها تتبع نعيمة بسخط، حانقة من معارضة والدتها للذهاب الى شقيقها الاَن حتى يبيتوا الليلة فقط في منزله النظيف.
تأففت تغمغم مع نفسها بالكلمات وهي تتبع والدتها التي دلفت قبلها داخل إحدى الغرف .
..........................
في اليوم التالي استيقظت نعيمة من غفوتها الطويلة على الضوء الحارق من شمس النهار التي تسللت من إحدى النوافذ الصغيرة في قلب الحائط أعلى المنزل ، والتى صنعها الأجداد مع بناء المنازل لإدخال الهواء والشمس ، فتحت اجفانها ترفرف برموشها حتى تستوعب اين هي؟ وشعور بالإرتياح استيقظ معها مع هذا الدفء، أو الحرية، أو اَمان الإستقلال وهي بمنزل والديها ذو الذكريات السعيدة، رغم نومها على الأرض، بعيدًا عن محيط سليمان وصفا؛ وداخل أحضانها توجد ابنتها حبيبتها التي ضحت ومازالت مستعدة للتصحبة أكثر في سبيل سعادتها .
نظرت اليها بحنان وهي في ثبات نومها متشبثة بها تحت الغطاء داخل احضانها بعد قضائهم ساعات من التعب ليلًا في ترتيب الغرفة الممتلئة بالغبار والأتربة بالإضافة لمحاولاتهم المستميتة في إصلاح التخت المكسورة إحدى اقدامه حتى يأسوا وأهلكهم التعب فافترشت نعيمة إحدى ملاءات السرير واستلقت الاثنتان على الارض وباتوا ما تبقى من ليلتهم عليها .
هزتها برفق توقظها:
- زينب، يازينب،جومي اصحي ياعين امك، زنوبة، قومي يابت .
زامت تشد عليها الغطاء :
- سيبيني يامّا عايزة انام، بتصحيني ليه؟
- يابت جومي احنا بقينا الضهر، إيه ياعين امك هاتقضي يومك كله في النوم؟
فتحت اجفانها واشرقت شمس عيناها البنية نحو وجه والدتها فقالت بعبوس :
- صباح الخير يامّا .
ردت بمرح وهي تقبلها على وجنتها:
- صباح الفل ياعين امك، في حد يصبح بوش مكشر كدة؟ جومي يابت وبطلي دلع .
قالت الاَخيرة وهي تنزع عنها الغطاء وتنهض من جوارها، فاستقامت زينب بجذعها تفرك بيدها على عيناها، حتى استفاقت وخرجت لوالدتها بعدها بلحظات، وجدتها عند باب الخروج، تتحدث،مع احد الاطفال ، انتظرتها قليلًا على الاَريكة الخشب مستندة عليها برأسها التي مازالت ثقيلة من اثر النوم، حتى انتهت من حديثها مع الطفل ودلفت تغلق الباب .
- ايه ياعين امك ؟ هو انتي لسة مغسلتيش وشك ؟
تجاهلت الرد زينب وسألتها:
- واض مين دا اللي،كنتي بتتكلمي معاه دلوك ياما؟
لوحت نعيمة تجيبها وهي تتحرك نحو المطبخ :
- دا واض سعيد بسطاوي، ساكن قريب من هنا، بعته يجيبلنا فول وطعمية من العربية الراكنة في الشارع اللي ورانا؟ عشان نشق ريقنا نفطر بيهم، على ما انا رتبت الدنيا هنا في المطبخ وبعدها ان شاء الله هطلع اجيب خضار وفاكهة وتومين للخزين.
نهضت زينب تتبع والدتها التي دخلت المطبخ فوقفت على مدخله تراقب حركتها الغير مفهمومة داخل المطبخ.
- بتعملي ايه يامّا ؟
اجابتها نعيمة بتشتت وعيناها تبحث يمينًا ويسارًا :
- والله ما انا عارفة يابتي اقولك ايه؟ انا كنت داخلة ادورلي على طبقين وكوبايتين شاي يأدوا الغرض نفطر بيهم، لكني اتخلبطت وكاني نسيت الصحون والكبابي محطوطة فين ؟
ردت زينب وهي تمشط بعيناها حجم المطبخ الواسع نسبيًا ولكنه مزدحم بالاواني الكثيرة والكبيرة :
- ايه دا يامّا ؟ دا المطبخ مكركب بالمواعين ؟
ابتسمت نعيمة وهي تدنو على الارض نحو خزانة خشبية صغيرة وتفتح بابها المغلق :
- دي مواعين ستك الله يرحمها ياعين امك.. اصلها كانت منظمة ومرتبة ياحبيبتي وتحافظ قوي على حاجتها؛ انا طلعت دلوك صحنين وكام كوباية هاقوم اغسلهم بسرعة لفطارنا وبعدها بقى نرتب وننضف براحتنا .
القت زينب نظرة شاملة على ما ينتظرها من عمل شاق وقالت :
- ننضف براحتنا فين بس يامّا ؟ دي محتاجة سنتين الكركبة دي كلها عشان تتعدل .
ربتت نعيمة على ظهرها بابتسامة مشرقة :
- سنتين ولا تلاتة حتى، احنا مستعجلين على ايه يعني؟ احنا هناخدها بالترتيب، واللي ماتعملش النهاردة يتعمل بكرة ، روحي دلوك اغسلي وشك وصحصحي نفسك انت الاول .
استدارت زينب لتخرج من امامها تغمغم بكلمات غير مفهومة بامتعاض قابلته نعيمة بهز رأسها يأسًا منها.
............................
بعد قليل وقد انتهوا من وجبة افطارهم على طاولة صغيرة على الارض ( الطبيلة) نهضت زينب تنفض كفيها وتتمتم :
- الحمد لله يامّا شبعت، الطعمية كانت سخنة وحلوة قوي .
نعيمة وهي ترفع الاطباق وتنهض هي الاخرى :
- بالهنا والشفا ياقلب امك . تعالي انتي بقى ارفعي الطبيلة واسنديها على الحيطة.
ردت زينب بمرح :
- حلوة قوي حكاية الطبلية دي يامّا، دا انا مرة اكل فيها وانا قاعدة على الارض!
زمت نعيمة شفتيها بحزم مصطنع:
- طبعًا هو انتوا شوفتوا فين بس الحاجات دي ياجيل الايام دي؟ بنتة مجلعة.
قهقهت زينب بدلع :
- احنا برضوا اللي مدلعين ولا انتوا اللي كنتوا ليكم عادات غريبة ؟
- غريبة في عينك يامقصوفة الرقبة .. دي كانت من جهاز جدتك يابت !
ازدادت ضحكات زينب فاأصبحت تضع كفها على فمها ، وهي تجاهد للتوقف ولا تستطيع، ونعيمة تراقبها بسعادة حتى قطع لحظتهم طرقة عنيفة فجأة على باب المنزل، اجفلت الاثنتان وقبل ان تتجه واحدة فيهم لفتحه فوجئن بمن دفع الباب ودلف اليهم بوجه مكفهر وغاضب:
- السلام عليكم .
ردت نعيمة التحية وهي تقترب من اخيها تصافحه بارتياب :
- وعليكم السلام، شرفت وانست ياخوي .
لامست كفه كفها دون حماس، حتى تلقى ترحيب زينب التي هرولت اليه مرحبة بطفولية كعادتها:
- اهلًا يا خالي ، عامل ايه ؟
- اهلًا مرحبًا .
قالها من تحت أسنانه وكانه بصقها بصقًا ، جعل زينب تتوقف محلها بصدمة، تخطاها بعدم اكتراث ليجلس على اقرب اَريكة أمامه في صالة البيت الكبير، ونعيمة تراقبه بتوجس، القى نظرة شاملة على المنزل قبل ان يسأل :
- على كدة انتوا نمتوا كيف امبارح والدنيا لسة مكركبة في البيت زي ما انا شايف قدامي اها.
تقدمت نعيمة لتجلس امامه في الاَريكة المقابلة له وقالت:
- احنا جينا عشية امبارح وملحجناش نرتب غير اؤضة واحدة بس؛ هي اللي نمنا فيها، وبقية البيت ان شاء ملحوقة نرتبه براحتنا! هو انت عرفت منين اننا جينا هنا ؟
هي كانت تخمن الإجابة وتأكدت من صدق توقعها من ملامح وجه اخيها الذي جز على أسنانه قبل ان يرد :
- تفتكري عرفت منين يانعيمة؟ من جوزك اللي قليتي قيمته قدام الناس الغريبة ولا أهل العريس نفسه؛ اللي فضحتي نفسك وبتك قدامهم .
استندت زينب بكتفها على الحائط واجمة، تراقب رد فعل والدتها من كلمات خالها الجارحة، والتي هبت منتفضة تردد مستنكرة:
- فضحت نفسي وبتي قدامهم ! ليه بقى ان شاء الله؟ كنت عملت ايه انا بقي قدامهم عشان اجيب الفضايح؟
قال حسان بعنف :
- هو انتي لما تطلبي من الناس الغريبة اللي جاية تطلب بتك لجواز ولدهم، يعلموها شرط للجواز ، دي ماتبقاش فضايح؟
- مدام ابوها مُصر يجوزها ومستخسر فيها قرش للتعليم، يبقى يتحمل بقى جوزها تعليمها.
ضرب حسان بعصاه على الأرض غاضبًا من رد نعيمة المفاجئ بتحدي:
- كانك اتجنيتي يانعيمة ومعدتيش تفرقي بين الصح والغلط ؟ راجل وعايز يجوز بته، يبقى دي جزاته؟
ردت بعدم سيطرة على غضبها :
- انا برضك اللي اتجنيت ياحسان؟ عشان بدافع عن حق بتي في عيشة زينة ابقى اتجنيت؟ جاي لاختك بشرارك ونارك بعد ما حماك سليمان بكلمتين منه، اشحال ان ماكنت انت اكتر واحد شاهد على بلاويه؟
اشاح بعيناه عنها صامتًا وتابعت هي :
- اسمع يا حسان وافهم كلامي دا كويس، انت عارف ومتأكد اني اتظلمت فى جوازتى من سليمان، وعشان كده بجولك اها، انا لا يمكن هاخلى اللى حصل معايا يتكرر مع بتى؛ وهاعلمها ولو على جطع راسى
ارتد اليها برأسهِ صائحًا :
- غصبن عن ابوها يانعيمة؛ اللى عايز يجوزها ويسترها .
ردت نعيمة بمرارة :
- مش كل الجواز بيبجى سترة ياواض ابوي، تعليمها هو اللى هايسترها، ووظيفتها هي اللي هاتقوي قلبها وتعملها شخصية.
قال حسان :
- يعنى انتى دلوك مستريحة يانعيمة؛ بعد ماخربتى بيتك ووجفتى حال بتك ؟!.
ردت بثقة :
- مستريحه جوى ياحسان ، وكويس قوي انك جيتلي بسرعة قبل ما انا اجيلك بنفسي .
ضيق عينيه ناظرًا اليها باستفهام.. فتابعت هي :
- انا دلوك والحمد لله بعد ما مشاني سليمان لقيت بيت ابوي يبقى سكني انا وبتي، فاضل بقى اني الاقي الطريقة اللي تغنيني عن سؤاله .
صمتت قليلًا وهو صامتًا بترقب وقالت هي اخيرًا.
- انا عايزه ورثى ياسليمان عشان اكمل الطريج اللى مشيت فيه .
زم شفتيه يشيح بنظره عنها مرة اخرى وهو يضرب بكفه على كفهِ ألأخرى والمستندة على رأس عصاه بحنق.. فسألته :
- اضايقت ليه ياحسان؟ يكونش عايز تحرمني من ورث ابوي يا واض ابوي .
التفت اليها قائلًا بغيظ :
- لاه يابت ابوي، مش انا اللي اكل حق ولا ورث حد من خواتي البنتة، بس انا معترض انك تضيعي ورثك في كلام تافه ومالوش لازمة، هاتعلميها وتصرفي عليها وفي الاَخر يتجوزها وياخدها عالجاهز وياخد هو خيرها .
اصابت الكلمات الازعة زينب بالحزن، ولكنه تبدد فور ان تكلمت والدتها بثقة وابتسامة خارجة من القلب :
- وماله ياواض ابوي، حتى لو كان كدة زي ما بتقول؛ المهم عندي انها تبقى رافعة راسها قدام جوزها ويعملها الف حساب قبل ما يهينها ولا يكسر بخاطرها .
رقت نظرات حسان نحو شقيقته وهو يعلم تمام العلم انها تلمح بمرارة عن تجربة زواجها القاسية مع سليمان، وقال:
- انا هابقى اتصرفلك في قرشين يمشوا الدنيا معاكي .
ردت بعزة :
- انا عايزه حقي فى الورث ياحسان كامل، انا بتى هاعلمها يعنى عايزه فلوس كتير .
نهض عن مقعده يرد بسخط :
- إتصبريلك يومين على ما احصر املاكك في الارض و اجمعلك التمن اللى هاشترى بيه نصيبك، هو مش سلق بيض وان كان على البيت فدا أساسًا مش هنتصرف فيه عشان دا بيت العيلة اللي هايفضل مفتوح طول العمر، يعني انتي تقعدي فيه براحتك انتي وبتك على الاقل تعمروه..
تمتمت نعيمة بامتنان .. فاأكمل هو :
- يالا بقى بالإذن انا ماشي .
هم ليتحرك ولكنها اوقفته قائلة :
- طب استنى انا عايزاك في كلمتين تاني .
سألها :
- كلمتين ايه بالظبط ؟
.... يتبع
- هانعمل إيه دلوك يامّا ؟
- ها.. انتي بتقولي حاجة يازينب؟
قالتها وهي تستفيق من شرودها على صوت ابنتها التي عادت تكرر:
- بقولك يامّا هانعمل إيه في الحزن ده؟
ردت نعيمة مستنكرة:
- حزن أيه يابت كف الله الشر؟ عشان يعني البيت مترب شوية ؟
فغرت زينب فاهاها ترد بدهشة :
- بس مترب يامّا، دا يعتبر خرابة ؟ ومافيهموش حتة تنفع نقعد فيها حتى، يبقى هنام فين دلوك بقى والدنيا ليلت علينا ؟
حدقت عليها نعيمة بنظرة لائمة قبل ان تتحرك بحقيبتها تأمرها :
- عشان ما تعشميش؛ مافيش مرواح عند حد يازينب، تعالي معايا دلوك ندخل نعدل ونرتب اوضة واحدة بس في البيت ننام فيها وبكرة يحلها الحلال بإذن الله .
تحركت زينب بقدميها تتبع نعيمة بسخط، حانقة من معارضة والدتها للذهاب الى شقيقها الاَن حتى يبيتوا الليلة فقط في منزله النظيف.
تأففت تغمغم مع نفسها بالكلمات وهي تتبع والدتها التي دلفت قبلها داخل إحدى الغرف .
..........................
في اليوم التالي استيقظت نعيمة من غفوتها الطويلة على الضوء الحارق من شمس النهار التي تسللت من إحدى النوافذ الصغيرة في قلب الحائط أعلى المنزل ، والتى صنعها الأجداد مع بناء المنازل لإدخال الهواء والشمس ، فتحت اجفانها ترفرف برموشها حتى تستوعب اين هي؟ وشعور بالإرتياح استيقظ معها مع هذا الدفء، أو الحرية، أو اَمان الإستقلال وهي بمنزل والديها ذو الذكريات السعيدة، رغم نومها على الأرض، بعيدًا عن محيط سليمان وصفا؛ وداخل أحضانها توجد ابنتها حبيبتها التي ضحت ومازالت مستعدة للتصحبة أكثر في سبيل سعادتها .
نظرت اليها بحنان وهي في ثبات نومها متشبثة بها تحت الغطاء داخل احضانها بعد قضائهم ساعات من التعب ليلًا في ترتيب الغرفة الممتلئة بالغبار والأتربة بالإضافة لمحاولاتهم المستميتة في إصلاح التخت المكسورة إحدى اقدامه حتى يأسوا وأهلكهم التعب فافترشت نعيمة إحدى ملاءات السرير واستلقت الاثنتان على الارض وباتوا ما تبقى من ليلتهم عليها .
هزتها برفق توقظها:
- زينب، يازينب،جومي اصحي ياعين امك، زنوبة، قومي يابت .
زامت تشد عليها الغطاء :
- سيبيني يامّا عايزة انام، بتصحيني ليه؟
- يابت جومي احنا بقينا الضهر، إيه ياعين امك هاتقضي يومك كله في النوم؟
فتحت اجفانها واشرقت شمس عيناها البنية نحو وجه والدتها فقالت بعبوس :
- صباح الخير يامّا .
ردت بمرح وهي تقبلها على وجنتها:
- صباح الفل ياعين امك، في حد يصبح بوش مكشر كدة؟ جومي يابت وبطلي دلع .
قالت الاَخيرة وهي تنزع عنها الغطاء وتنهض من جوارها، فاستقامت زينب بجذعها تفرك بيدها على عيناها، حتى استفاقت وخرجت لوالدتها بعدها بلحظات، وجدتها عند باب الخروج، تتحدث،مع احد الاطفال ، انتظرتها قليلًا على الاَريكة الخشب مستندة عليها برأسها التي مازالت ثقيلة من اثر النوم، حتى انتهت من حديثها مع الطفل ودلفت تغلق الباب .
- ايه ياعين امك ؟ هو انتي لسة مغسلتيش وشك ؟
تجاهلت الرد زينب وسألتها:
- واض مين دا اللي،كنتي بتتكلمي معاه دلوك ياما؟
لوحت نعيمة تجيبها وهي تتحرك نحو المطبخ :
- دا واض سعيد بسطاوي، ساكن قريب من هنا، بعته يجيبلنا فول وطعمية من العربية الراكنة في الشارع اللي ورانا؟ عشان نشق ريقنا نفطر بيهم، على ما انا رتبت الدنيا هنا في المطبخ وبعدها ان شاء الله هطلع اجيب خضار وفاكهة وتومين للخزين.
نهضت زينب تتبع والدتها التي دخلت المطبخ فوقفت على مدخله تراقب حركتها الغير مفهمومة داخل المطبخ.
- بتعملي ايه يامّا ؟
اجابتها نعيمة بتشتت وعيناها تبحث يمينًا ويسارًا :
- والله ما انا عارفة يابتي اقولك ايه؟ انا كنت داخلة ادورلي على طبقين وكوبايتين شاي يأدوا الغرض نفطر بيهم، لكني اتخلبطت وكاني نسيت الصحون والكبابي محطوطة فين ؟
ردت زينب وهي تمشط بعيناها حجم المطبخ الواسع نسبيًا ولكنه مزدحم بالاواني الكثيرة والكبيرة :
- ايه دا يامّا ؟ دا المطبخ مكركب بالمواعين ؟
ابتسمت نعيمة وهي تدنو على الارض نحو خزانة خشبية صغيرة وتفتح بابها المغلق :
- دي مواعين ستك الله يرحمها ياعين امك.. اصلها كانت منظمة ومرتبة ياحبيبتي وتحافظ قوي على حاجتها؛ انا طلعت دلوك صحنين وكام كوباية هاقوم اغسلهم بسرعة لفطارنا وبعدها بقى نرتب وننضف براحتنا .
القت زينب نظرة شاملة على ما ينتظرها من عمل شاق وقالت :
- ننضف براحتنا فين بس يامّا ؟ دي محتاجة سنتين الكركبة دي كلها عشان تتعدل .
ربتت نعيمة على ظهرها بابتسامة مشرقة :
- سنتين ولا تلاتة حتى، احنا مستعجلين على ايه يعني؟ احنا هناخدها بالترتيب، واللي ماتعملش النهاردة يتعمل بكرة ، روحي دلوك اغسلي وشك وصحصحي نفسك انت الاول .
استدارت زينب لتخرج من امامها تغمغم بكلمات غير مفهومة بامتعاض قابلته نعيمة بهز رأسها يأسًا منها.
............................
بعد قليل وقد انتهوا من وجبة افطارهم على طاولة صغيرة على الارض ( الطبيلة) نهضت زينب تنفض كفيها وتتمتم :
- الحمد لله يامّا شبعت، الطعمية كانت سخنة وحلوة قوي .
نعيمة وهي ترفع الاطباق وتنهض هي الاخرى :
- بالهنا والشفا ياقلب امك . تعالي انتي بقى ارفعي الطبيلة واسنديها على الحيطة.
ردت زينب بمرح :
- حلوة قوي حكاية الطبلية دي يامّا، دا انا مرة اكل فيها وانا قاعدة على الارض!
زمت نعيمة شفتيها بحزم مصطنع:
- طبعًا هو انتوا شوفتوا فين بس الحاجات دي ياجيل الايام دي؟ بنتة مجلعة.
قهقهت زينب بدلع :
- احنا برضوا اللي مدلعين ولا انتوا اللي كنتوا ليكم عادات غريبة ؟
- غريبة في عينك يامقصوفة الرقبة .. دي كانت من جهاز جدتك يابت !
ازدادت ضحكات زينب فاأصبحت تضع كفها على فمها ، وهي تجاهد للتوقف ولا تستطيع، ونعيمة تراقبها بسعادة حتى قطع لحظتهم طرقة عنيفة فجأة على باب المنزل، اجفلت الاثنتان وقبل ان تتجه واحدة فيهم لفتحه فوجئن بمن دفع الباب ودلف اليهم بوجه مكفهر وغاضب:
- السلام عليكم .
ردت نعيمة التحية وهي تقترب من اخيها تصافحه بارتياب :
- وعليكم السلام، شرفت وانست ياخوي .
لامست كفه كفها دون حماس، حتى تلقى ترحيب زينب التي هرولت اليه مرحبة بطفولية كعادتها:
- اهلًا يا خالي ، عامل ايه ؟
- اهلًا مرحبًا .
قالها من تحت أسنانه وكانه بصقها بصقًا ، جعل زينب تتوقف محلها بصدمة، تخطاها بعدم اكتراث ليجلس على اقرب اَريكة أمامه في صالة البيت الكبير، ونعيمة تراقبه بتوجس، القى نظرة شاملة على المنزل قبل ان يسأل :
- على كدة انتوا نمتوا كيف امبارح والدنيا لسة مكركبة في البيت زي ما انا شايف قدامي اها.
تقدمت نعيمة لتجلس امامه في الاَريكة المقابلة له وقالت:
- احنا جينا عشية امبارح وملحجناش نرتب غير اؤضة واحدة بس؛ هي اللي نمنا فيها، وبقية البيت ان شاء ملحوقة نرتبه براحتنا! هو انت عرفت منين اننا جينا هنا ؟
هي كانت تخمن الإجابة وتأكدت من صدق توقعها من ملامح وجه اخيها الذي جز على أسنانه قبل ان يرد :
- تفتكري عرفت منين يانعيمة؟ من جوزك اللي قليتي قيمته قدام الناس الغريبة ولا أهل العريس نفسه؛ اللي فضحتي نفسك وبتك قدامهم .
استندت زينب بكتفها على الحائط واجمة، تراقب رد فعل والدتها من كلمات خالها الجارحة، والتي هبت منتفضة تردد مستنكرة:
- فضحت نفسي وبتي قدامهم ! ليه بقى ان شاء الله؟ كنت عملت ايه انا بقي قدامهم عشان اجيب الفضايح؟
قال حسان بعنف :
- هو انتي لما تطلبي من الناس الغريبة اللي جاية تطلب بتك لجواز ولدهم، يعلموها شرط للجواز ، دي ماتبقاش فضايح؟
- مدام ابوها مُصر يجوزها ومستخسر فيها قرش للتعليم، يبقى يتحمل بقى جوزها تعليمها.
ضرب حسان بعصاه على الأرض غاضبًا من رد نعيمة المفاجئ بتحدي:
- كانك اتجنيتي يانعيمة ومعدتيش تفرقي بين الصح والغلط ؟ راجل وعايز يجوز بته، يبقى دي جزاته؟
ردت بعدم سيطرة على غضبها :
- انا برضك اللي اتجنيت ياحسان؟ عشان بدافع عن حق بتي في عيشة زينة ابقى اتجنيت؟ جاي لاختك بشرارك ونارك بعد ما حماك سليمان بكلمتين منه، اشحال ان ماكنت انت اكتر واحد شاهد على بلاويه؟
اشاح بعيناه عنها صامتًا وتابعت هي :
- اسمع يا حسان وافهم كلامي دا كويس، انت عارف ومتأكد اني اتظلمت فى جوازتى من سليمان، وعشان كده بجولك اها، انا لا يمكن هاخلى اللى حصل معايا يتكرر مع بتى؛ وهاعلمها ولو على جطع راسى
ارتد اليها برأسهِ صائحًا :
- غصبن عن ابوها يانعيمة؛ اللى عايز يجوزها ويسترها .
ردت نعيمة بمرارة :
- مش كل الجواز بيبجى سترة ياواض ابوي، تعليمها هو اللى هايسترها، ووظيفتها هي اللي هاتقوي قلبها وتعملها شخصية.
قال حسان :
- يعنى انتى دلوك مستريحة يانعيمة؛ بعد ماخربتى بيتك ووجفتى حال بتك ؟!.
ردت بثقة :
- مستريحه جوى ياحسان ، وكويس قوي انك جيتلي بسرعة قبل ما انا اجيلك بنفسي .
ضيق عينيه ناظرًا اليها باستفهام.. فتابعت هي :
- انا دلوك والحمد لله بعد ما مشاني سليمان لقيت بيت ابوي يبقى سكني انا وبتي، فاضل بقى اني الاقي الطريقة اللي تغنيني عن سؤاله .
صمتت قليلًا وهو صامتًا بترقب وقالت هي اخيرًا.
- انا عايزه ورثى ياسليمان عشان اكمل الطريج اللى مشيت فيه .
زم شفتيه يشيح بنظره عنها مرة اخرى وهو يضرب بكفه على كفهِ ألأخرى والمستندة على رأس عصاه بحنق.. فسألته :
- اضايقت ليه ياحسان؟ يكونش عايز تحرمني من ورث ابوي يا واض ابوي .
التفت اليها قائلًا بغيظ :
- لاه يابت ابوي، مش انا اللي اكل حق ولا ورث حد من خواتي البنتة، بس انا معترض انك تضيعي ورثك في كلام تافه ومالوش لازمة، هاتعلميها وتصرفي عليها وفي الاَخر يتجوزها وياخدها عالجاهز وياخد هو خيرها .
اصابت الكلمات الازعة زينب بالحزن، ولكنه تبدد فور ان تكلمت والدتها بثقة وابتسامة خارجة من القلب :
- وماله ياواض ابوي، حتى لو كان كدة زي ما بتقول؛ المهم عندي انها تبقى رافعة راسها قدام جوزها ويعملها الف حساب قبل ما يهينها ولا يكسر بخاطرها .
رقت نظرات حسان نحو شقيقته وهو يعلم تمام العلم انها تلمح بمرارة عن تجربة زواجها القاسية مع سليمان، وقال:
- انا هابقى اتصرفلك في قرشين يمشوا الدنيا معاكي .
ردت بعزة :
- انا عايزه حقي فى الورث ياحسان كامل، انا بتى هاعلمها يعنى عايزه فلوس كتير .
نهض عن مقعده يرد بسخط :
- إتصبريلك يومين على ما احصر املاكك في الارض و اجمعلك التمن اللى هاشترى بيه نصيبك، هو مش سلق بيض وان كان على البيت فدا أساسًا مش هنتصرف فيه عشان دا بيت العيلة اللي هايفضل مفتوح طول العمر، يعني انتي تقعدي فيه براحتك انتي وبتك على الاقل تعمروه..
تمتمت نعيمة بامتنان .. فاأكمل هو :
- يالا بقى بالإذن انا ماشي .
هم ليتحرك ولكنها اوقفته قائلة :
- طب استنى انا عايزاك في كلمتين تاني .
سألها :
- كلمتين ايه بالظبط ؟
.... يتبع