الفصل الثامن والعشرون

الفصل الثامن والعشرون ..
________________________

خطت نحو الفندق بسرعة كافية ، فقد كانت اجابته تنم على شعوره بأنها ما زالت ، لا تثق به ..
صعدت لغرفتها ، وأخذت حقيبة ملابسها وأشيائها الخاصة ،
ثم نزلت لغرفة مديرها المبتشر كي تخبره أنها سوف تظل في كافوس ، وستعمل في فندق هناك ، ويجب عليه أن يبعث لها مستحقاتها هناك ، لأنها سترحل الآن ..
ثم تركته خلفها ينظر نحوها بتعجب ، فكيف استطاعت هذه الفتاة الانجليزيه أن تجد عمل بهذه السرعة ، لقد كانت تائهة وحائرة منذ ساعة واحده مرت ؟!
لاحت ابتسامة انتصار على وجه لورين وهي تتخط الفندق بكبرياء لاق بها ..
وقفت لورين بجانب الحاجز على سطح المركب تراقب جزيرة كريت وهي ترتد الى الوراء عندما هدر المحركز، وقد انطلق نحو البحر الفسيح .
نظرة واحدة الى اريستيد رجل في اوائل
الستينات من عمره وابنه المراهق و قد تبددت
مخاوفها في لحظة ..

ربما لان الرجل الطاعن في السن اقل خطرا من الشاب ،
فقد فكرت في ذلك جديًا ..
ولكن اطمئنانها على الارجح ،
بسبب أن لان وجه اريستد صادق ومحب ،
وتعبيرات ملامحه تدل
عن حياة نظيفة ، وعمل شاق ،
و قد كان ولده شابا لطيفًا أيضًا ، و متحمسًا ، و وجهه برئ للغاية .
لقد رحبا بها الإثنان باحترام تام ،
وقدمها دريك اليهما كصديقة عزيزة ..
تصرفت معهما بتحفظ ،
مع أنها قد استعدت لان تعهد بنفسها اليهما للساعات المقبلة ،
حتى تتمكن من التخلص من حضور دريك الطاغي عليها .
-  مؤثر اليس كذلك ؟
كان الشاب خلفها مباشرة ،
اجابته بابتسامة لطيفة ولكن متعجبة :
-  بالطبع ...
لقد انضم دريك اليهما على الفور ،
حتى انها لم تشعر بوجوده ،
أو حتى تسمع خطواته على سطح المركب ..
ثم وجدته ، يبتسم نحو ولد ارتستيد وهو يقول له
لقد بدا صوته عميقا :
-  والدك ينتظرك في حجرة الدفة .
حياها الشاب قبل أن يرحل لتقابل تحيته بأخرى ودودة ،
قبل أن تجد دريك يقف في مواجهتها وجسده الطويل والنحيل مسترخ تماما وهو يقول لها :
-  لقد كنتِ بحاجة ماسة الى عمل وانا استطعت ان اؤمنه .
قالت وقلبها يخفق بسرعة مؤلمة على الرغم من تظاهرها بالشجاعة :
-  ولكن ليس في فندق !
اجاب بجراة اجفلتها :
-  لا .. في بيت والدي .
ثبت عينيه على وجهها بلطف ، وتاملها مليا وهو ينتظر ردها الناري .
بينما هي عجزت عن فتح فمها من الصدمة التي تلقتها للتو !
كيف استطاع خداعها بهذه الطريقة ، واستغلال حاجتها في هذا الوقت العصيب من حياتها ،
بهذه الطريقة الخسيسة !
بالفعل هذا رجل خطير لا يمكن قهره ،
ولكن ما الذي ستستطيع فعله الأن ؟!
والى اين ستهرب منه بعد ذلك ؟!
فكرت لورين ، وقد ارتجف جسدها بشدة ،
وازدادت حدة رعبها من المجهول أضعاف .
ولكنها لم تستطيع إلا أن تسأله بتوتر :
-  لماذا كذبت علي ؟
تلالات عيناه بوميض ساخر وهو يقول لها بصدق شعرت به على الفور :
-  لأنكِ كنت سترفضين دعوتي ،
لو انني اخبرتك الحقيقة
ومن مصلحتنا نحن الاثنان ان ترافقيني الى كافوس .
رفعت ذقنها بتحدِ بعد ان ثبت شكوكها :
-  ماذا .. تريد مني إذن ؟
ثم على صوتها ببحة حزن عميق ، وقد شعرتها بأن كرمتها انتُهكت بشكل مخزي :
-  أخبرني يا دريك ما هو نوع العمل الذي تعرضه علي إذن ؟
هل تحتاج زوجة والدك الى خادمة ؟
كانت نظرته باردة ورصينة ،
جعلتها ترتجف وهي تعيد الى ذهنها المشهد الحميم الذي دار بينهما في غرفتها الليلة السابقة .
تنهد بعمق واقترب منها ،
ثم تحدث إليها و قد بدا صوته ضعيفا وكانه يعارض فكرتها :
-  ليس على حد علمي ..
ربما يجب ان تفهمي ان قدمي لم تطا ارض كافوس منذ ست سنوات ......
ثم تلكأ قليلًا وهو يتابع :
-  وربما اكثر ،
ولولا وفاة عمي لكنت امتنعت عن زيارتها الى الابد .
توقفت مرة ثانية ورات الالم ظاهرا على وجهه وفي عينيه .
هزت راسها مشجعة عندما توقف عن الحديث وحاولت ان تسيطر على غضبها قليلًا بعد ان ادركت احاسيسه الدفينة ، فيبدوا أن ما اعتقدته كان خاطئ ..
لم تعلق على حديثه ، حتى يُكمل ..
فقال بنفور :
-  في الحقيقة لا يوجد اي مودة بيننا ،
كانت عيناه تائهتان وهو يقول :
-  أقصد .. والدي وانا ..
لقد اغلقت ابواب بلفادير في وجهي منذ اكثر من خمس سنوات ،
ولكنه ليس قاسيا لدرجة ان يمنعني من حضور تشييع جنازة اخيه .
توقف واضاف برقة :
-  وخصوصا ان المراة التي قبلت عرضي للزواج منها ترافقني .

عادت للخلف حتى التصقت بحواب المركب ،
عندما انطبعت هذه الكلمات في ذهنها ، لتردد بذهول :
-  ماذا ؟
اطبقت اصابع دريك على كتفيها ، حتى افقدها قربه منها توازنها و وجدت صعوبة في التنفس ..
لتجتاحها عواطف قوية حاولت بقدر ما استطاعت أن تسيطر عليها ..
تقلصت عضلات وجهه الاسمر وهو يامرها بالاستماع اليه وهو يقول :

-  اجمدي لقد ولدت في بلفادير ،
ومن المفروض ان يكون ملكي وملك اولادي ..
وما تزال امنية والدي كما كان امنية والدته من قبله ،
ان يكون هناك دوما إرنستو في بلفادير .
رددت بتيه قد سيطر عليها بشدة :
-  أنا لا أفهم .....
لاحظ دريك ترنحها ، فحاوط خصرها بذراعه دون أن يقربها منه ولكنه أراد أن يحافظ على ثباتها ..
ثم قال لها بهدوء غريب :
-  حقا ؟
حسنًا .. ساشرح لك ...
لقد انجبت كليوبي ولدا اخر ،
واخير لوكاس أخي هو اب لطفلتين ،
وزجته سيلا للاسف الشديد لن تستطيع
الانجاب مرة ثالثة ..
اذا مفتاح دخولي لبلفادير كفرد مرحب به في العائلة ،
هو التخلي عن عزوبيتي واصلاح نفسي ،
وهل هناك برهان افضل من ان احضر عروستي معي ؟
جمد الخوف لسانها بعد ان نطق بتلك الكلمة ، لتردد بنفاذ صبر :
-  لا !
هي بالفعل لا تريد ان تلعب اي دور في نزاعه
العائلي ،
ستعود الى كريت حالما تصل الى الجزيرة فلديها ما يكفي من المال وبعد ذلك ؟
اغمضت عينيها وهي تتخيل المستقبل المعتم الذي ينتظرها .
ليخرهما من الهوة السحيقة التي أدخلها بها ، وهو يقول لها :
-  ستتظاهرين لبضعة اسابيع فقط … أعدك يا لورين .. ستكون بضعة أسابيع فقط .
تحركت يدا دريك القويتين على كتفيها بتشنج ،
ثم شدها اليه بقوة عندما حرك ذراعه الأخر التي على خصرها ، ليحاوطها من كل الجهات بحميمية جعلتها و على الرغم من محاولتها المقاومة ، إلا إنها لم تستطيع التحرك من. امامه إنشًا واحدًا .
انجلى صوته الخافت ،
ليصبح اجش بشكل مؤثر للغاية وهو يخبرها :
-  عطلة تحت الشمس وساعوض عليك كل متاعبك كما اتفق ،
وحتى تنقضي هذه الاسابيع ،
سوف اجد لك عملا مناسبا في جزيرة اخرى ،
هل انت راضية الآن ؟!
واجهته بتوتر :
-  كما اتفق !
لقد خدعتني بسهولة باتصالك الهاتفي بالمديرة المزعومة ،
الم تفعل ذلك ؟
خصوصا ان المراة كانت مستعدة لان
تكذب بالنيابة عنك ،
لماذا لا تطلب منها هي ان تلعب دور عروستك ؟
قال بفتور :
-  لانها غير مناسبة لهذا الدور ..
ثم أتبع وهي يتأمل وجهها بهذا الشكل ،
الذي جعلها تبتلع ريقها بصعوبة من آثر نظراته وصوته معًا :
-  بينما انتِ يا لورين ..
ستقدرين على تليين قلب والدي بوجههك البريء هذا ،
وابتسامتك الساحرة .
سالت بحدة وهي تحاول ان تقاوم اغراءته :
-  وكيف ستفسر لهم رحيلي ،
عندما يحين الوقت لاستلام وظيفتي ؟
هز كتفيه ملغيا الفكرة لعدم اهميتها :
-  لدينا ما يكفي من الوقت ، حتى نفكر في ذلك ،
في الايام المقبلة .. أعدك أننا سنجد حلًا .
رفعت حاجبها بذهول من عدم اهتمامه وهي تردد :
-  وبعد ذلك ؟ ماذا لو وجدت الباب مغلقا
مرة ثانية ؟
عرفت ان عليها ان تتخلص من عناقه ولكن قوة عينيه منعتها ، وهو يقول لها :
-  اذا لم اتمكن من كسب احترام والدي ،
علي ان ارضخ للامر الواقع ،
وهو انه لن يكون لي مكان في بلفادير مرة ثانية .

قيد الالم صوته ، وترنحت افكار لورين بجنون ،
لقد خدعها ولكن كيف بامكانها ان تتغاضى عن حزن كهذا ؟
اجفلها وهو ينطق اسمها بهذه الطريقة :
-  لورين .
ثم تمتم وهو يرفع يده ليبعد بعض خصلات شعرها الذهبية عن جبينها قائلًا :
-  ولن تكون هذه اول مرة تكذبين فيها حتى تجنبيني الإهانة ،
أليس كذلك ؟!
احدثت لمسة اطراف اصابعه على بشرتها الناعمة خفقانا عنيفا في مكان ما في
داخلها ،
فرفعت يدها حتى تهدىء توتره .
ثم قالت بلهاث :
-  أنا واثقة أنني ساندم على هذا التصرف المتهور الذي فعلته ليلة أمس ،
حتى يوم مماتي .
ولم تعد تبالي باحتجاجه على براءتها
التامة ،
ومع ذلك ارعبها احتمال ان يكون كلامه صائبا ..
وان تعاطفها مع إدوارد لم يكن الا رغبة دفينة لصون كرامة دريك .
قاطعها قائلًا بصوت اجش :
-  لا يليق الندم بامراة جميلة مثلك ،
-  لماذا لا تكونين صادقة مع نفسك ؟
ربما تجدين تصرفي بغيضا ، ولكنك لا تنفرين مني ؟
ولا تشمئزين من عناقي ؟
لم يكن في وسعها التحرك ،
حتى لو ارادت ذلك لان دريك قبلها برقة .
رفعت يدها لتصده ولكنها ارتجفت عندما
ادركت ردة فعله العنيفة التي وترت عضلاته التي طوقتها بدفئ خاص .
ولكن عندما داعبت يداه شعرها ،
وجدت نفسها تقع ضحية قلبها الصاخب ،
غير قادرة على رفضه وحواسها الساكنة تتحرك تجاوبا معه بعجز جعلها تكره نفسها بين يديه لضعفها هكذا .
اعترفت انه لم يكن يتكلم سوى الحقيقة ،
مع انه جرح مشاعرها ، وربما كان عقلها سيرفضه هو وكل ما سيقوم به ،
لكنها احست بالضعف
لاول مرة في حياتها ولم يعد ذهنها قادرا على ان يسيطر على مشاعرها .
كان يتنفس بصعوبة عندما افلتها من بين شفتيه ..
كبلتها قوة عينيه الجميلتين ،
وهي تحاول ان تقاومه وتنهي استسلامها المخزي له .
مرر سبابته على وجنتها برقة وهو يقول لها :
-  كوني واقعية يا حبيبتي ،
أنا واثق أنكِ ستخسرين اذا رفضت عرضي ،
كما أنا واثق أنكِ ستكسبين كثيرا اذا لعبت الدور الذي طلبته منك .
سألته بفتور :
-  يبدو انه لا خيار لدي اليس كذلك ؟
وندمت لانها جعلته يدرك ورطتها واربكتها
موجة الدفء التي احست بها ،
والتي حاولت جاهدة ان تخمدها في جسدها كله .
ليعود السؤال الذي أرقها منذ ليلة أمس ..
لماذا لم تشعر بذلك ابدا عندما كان فرانسيسكو
يعانقها ؟
لقد احبته واستمتعت بعناقه لكنه لم يرهق اعصابها .
اخبرها صوت في مكان ما في داخلها ان
باستطاعتها ان تهرب من الفخ الذي نصبه دريك لها .
وأن بامكانها ان تشرح لوالده كل شيء ،
وتطلب منه المساعدة ،
و في هذه الظروف سيعيدها إرنستو الكبير الى كريت بأمان وربما مع عمل ؟
أو ماذا لو لعبت الدور لبضعة اسابيع ؟
واعطته الفرصة كي يستعيد مركزه السابق في
بلفادير ؟
ومالضير في ان تكون بلسم الجرح الموجود بين الاب ؟
ألم تكن من انصار القول الماثور :
" الغاية تبرر الوسيلة " طوال حياتها ؟
قالت اخيرا عندما بقي صامتا :
-  ولم لا ؟
سرته نبرة صوتها الناعمة لتعززها بضحكة صافية وهي تقول :
-  وهل هناك افضل من قضاء عطلة
مدفوعة الاجر من دون عمل ؟
صرخ بحماس :
-  هذا رائع .
ورافق بريق ساخر في عينيه المميزتين ثم تابع :
-  كنت متاكدا من أنكِ ستوافقين ،
والآن دعينا لنحتفل بخطوبتنا على الطريقة التقليدية ....
ضيقت عينيها بتساؤل ، فأجاب قبل أن تنطق :
-  أقصد .. طعام جيد وشراب .

رسا المركب في المياه العميقة بعيدا عن الجزيرة الصغيرة في الصباح التالي ،
وعلى مسافة من مرفا رائع ،
مفروشة خلفيته بمختلف النباتات ..
لاحظت لورين مجموعة من البيوت البيضاء المبنية على طراز قديم .

كانت ليلتها عصيبة رغم حماسها الذي اشتعل فجأة ، من فكرة مجنونة عرضها عليها شخصًا مجنون أكثر منها ..

اغتسلت في الحمام الصغير الخاص بالمركب ،
وارتدت فستانًا قطنيا بسرعة ،
ثم توجهت الى سطح المركب حتى تلقي تحية الصباح على اريستيد وابنه
الموجودين في قمرة القيادة يشربان القهوة التي ايقظت لورين برائحتها الشهية .
ناولها تيمون فنجانا وسالها :
-  هل ستسبحين انت ايضا قبل ان تتناولي فطورك .؟
لاحظت عندئذ وهي تهز راسها بالنفي ،
ان دريك كان في البحر يسبح باتجاه المركب حر وبطيء ،
وجعله ذلك يطفو على الماء من دون اي جهد .
تمسكت بالحاجز وراقبت قوة ذراعيه وهي تتشبث الى المركب .
تمسك بدعامة السلم الحبلي القصير وتسلقه ببطء ،
فناولته المنشفة التي كانت ملقاة باهمال على احد المقاعد المهجورة ..
عندها وقف على حافة المركب وبقع من الماء تتجمع تحت قدميه .
كان يجفف شعره ببطئ اهلكها .
القى بالمنشفة على المقعد المجاور له ،
ثم اقترب منها بصدره الرياضي العاري وهو يقول لها :
-  هل تعيدين التفكير في الموضوع لورين ؟
لا شك انها مجنونة لتشارك هذا الرجل في اية خدعة !
خصوصا ان هذه الخدعة تتطلب منها ان تتظاهر كفتاة على وشك الزواج .
اعاد سؤاله عليها بينما هي شردت وهي تنظر إليه :
-  هل تعيدين التفكير في الموضوع لورين ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي