14

" صالح "

إسمي صالح ابن الشيخ علي بركات آل زين . عمري ثمانية عشر عاماً ، انا اسمر البشرة و حاد الملامح ، اختلف كل الاختلاف عن اخي جاسم . في البداية كنت اكره كوني اختلف عنه بالشكل لكنني ادركت لاحقاً شبهي الكبير من ابي . حتى و ان كان جاسم الإبن المفضل له ، فشبهي لأبي في كل شيء يواسيني ، و تخليت عن الشعور بالغيرة و اصبحت اقلد ابي في كل شيء . حتى عندما كان يداعب شواربه ب اصابعه و يفتلهما ، كنت اقلده في صغري ، و الان انا في الثامنة عشر و لم احصل بعد على لحية او شوارب و كنت مستاءً جداً لكن اخبرتني امي ان ابي لم يحصل عليهم الا بعد ان بلغ ال30 و جعلني هذا ابتسم و ارضى .

اقرب الناس الي و اشدهم غلاوى على قلبي ، هو صديقي و ابن عمي و اسمه ضياء ابن الشيخ محمود حامد الزين  الذي يكون ابن عم ابي . نحن لا نستخدم اسماء اجدادنا حتى نبدوا ابناء عمومة حقيقيين ، اذ عائلتي تحذف اسم بركات و عائلة ضياء تحذف اسم ضياء و هكذا نكون كلنا احفاد آل زين و الذي يكون بالاصل جد والدينا .

محمود حامد آل زين : هو الشيخ و الزعيم على قريتنا ، اذ تم ترشيحه مع ابي الذي تنازل عن الزعامة له و رفض ان يمتلكها ، زوجته مريم تكون خالتي اخت امي و لديهما من الابناء ثلاثة : حور و ضياء و علاء .

و لدى عمي محمود إخوة كثر و منهم من يكونون من زوجة ثانية لأبيه .

كان ضياء يحدثني سراً عن مكر و كيد بعض اعمامه و عماته لأبيه و انا كنت خير حافظ للأسرار .

لم يحالفني الحظ مع ضياء بالمدرسة اذ كان اكبر مني بعام و يسبقني بمرحلة ، لكن اخوه علاء كان معي ، انا احب علاء لكنه يعطيني شعور مزعج كلما ابدينا اراءنا بشيء . هو دائماً يراني نداً له و يزاحمني في كل شيء ، رغم انه ابن عمي و يحبني لكني اظن  قربي من ضياء جعله يشعر بالغيرة .

في قريتنا ممنوع ان يكون فتى و فتاة في علاقة حب ، لكن الامر لا يخلا منهم ، و نادراً جداً ما يتم كشفهم ، اذ العشاق يبقون الامر سرياً و لا ينفردون ببعضهم حتى لا يتم تنكيلهم ، و يوصمون بالعار .

بعيداً عن الدين و الاسلام فهذه عادات اهل القرية منذ مئات السنين . و يؤمنون ان الرجل عليه ان يكون طاهراً كما هي الفتاة ، حتى عندما يتزوج يتعلق قلبه بزوجته التي لم يحب غيرها من قبل و يكون دون تجارب حتى لا تحزن زوجته لاحقاً .

العدل مابين الجنسين يعجبني في هذه القرية ، علمنا الاسلام اكرام المرأة اي الأم و الاخت و الابنة و الخالة و العمة و الجدة و الحفيدة ، و اوصانا الله و رسوله عليه افضل صلاة و سلام بهن خيراً . و رغم شدة ابي و عصبيته و ملامح وجهه القاسية الا انني لم اره يوماً يغضب على امي او يحزنها   ، بل كان يختلف معها تماماً بالمقارنة بمعاملته لنا و للناس في الخارج . اذ يُظهر لها كل الود و الاحترام و لا يهنئ بوجبة الا اذا جلست على يمينه ، و علمنا نحن ابناءه على طاعتها و برها ، ف بالنهاية نحن نتعلم منه و من امي كل شيء .

نتعلم منهم طريقة عيش الحياة ، و تخطي مصاعبها و السير فيها على المنهج الصحيح ، دروسهما و تعاليمهما تختلف كل الاختلاف عن تعاليم المدرسة ، ف امي و ابي مدرسة اخرى نغترف منها العلم على الدوام و نقتبس منها الاقوال و التصرفات .

عندما عاد جاسم الى الوطن كنت ب انتظاره مع ضياء و علاء في مطار العاصمة ، ف وقفت امامه و بالكاد تعرف عليّ ، " الحمد لله على سلامتك يا اخي " . قلت له ذلك و ابتسمت و عندها تفتحت عيناه بفرحة كبيرة ليفتح ذراعيه و نعانق بعضنا لأول مرة بعد غيابه لأكثر من 5  اعوام . فتحدث بعد ان فصلنا الحظن و وضع يديه على كتفاي " لقد وصلت لطولي ، لا اصدق كم كَبرت ايها المشاغب "

ابتسمت " سوف اصبح اطول منك ، انا مازلت في الثامنة عشر فقط " . فضحك جاسم ثم اقترب منه ضياء ليسلم عليه ثم علاء و كانت فرحة الجميع لا توصف عندما عدنا به من المطار انا و ضياء و علاء . و كانت هذه اول مرة نجتمع نحن الاربعة لوحدنا كالاخوة السعداء و اخر مرة .

كان ضياء طالب جامعة يدرس الحقوق و تخرج للسنة الثانية . بينما انا و علاء تخرجنا من الثانوية و لم ندخل للجامعة بعد  . افتقدت ضياء في سنتي الاخيرة من الثانوية لانه تخرج قبلي و كان يذهب الى الجامعة كل يوم في مع باقي الطلاب المتخرجين من دفعته . و كنت اتحرق شوقاً للتخرج و اللحاق به ، لكن الحقوق  لم يكن متاح لي في مفاضلتي  .

كنت احتج على عدم لحاقي به و لم اعلم ان علاقتنا ستنتهي للابد بعد عودة جاسم ، الذي جعلني اتمنى لو انه لم يعد ، فلو لم يفعل لما حدث ما حدث و لكان بقي بعيداً و سعيداً في مكانه ، و الان انا اتساءل ان كان يستطيع ان يحيى حياة هانئة بعد الذي فعله .

لِساني لا يطاوعني على شتمه ، لقد كان اخي الكبير الذي احبه و احترمه طوال حياتي ، حتى بعد ان تبرأ ابي منه انا اعلم ان ابي يشعر كما اشعر اتجاه جاسم تماماً و قلبه مكسور على فراقه  . . .  مثلي .

طعنني علاء بسكين و كانت طعنته تؤلم قلبي اكثر مما آلمت جسدي حتى و ان تم استئصال كليتي ، مازال الامر يؤلم قلبي اكثر . لكن ما حدث مع ضياء جعلني احزن كثيراً و اتمنى لو ان ماحدث له حدث لي بدلاً منه . لكن رغم تحيزي و حبي لضياء لم استطع ان اعاتب عبد الله  ابن عمتي اولا لأنني لم اره بعد الحادثة و ثانياً لأنه فعل ذلك ثأر لي . و مع ذلك انا لا استطيع شكره او مدحه لأنني اعلم كم يكره ضياء ، فهو كان منافسه الوحيد في المدرسة و افضل منه في كل شيء .

بعد شهر من الحادثة ، وصلتني اخبار كثيرة عن ضياء ، و احدها عدم مسامحة عبد الله و بحث الجميع عنه ، و اضاف بعض شبان القرية ضياء لم تعد لنا غلاوة في قلبه و انه كان اول المؤيدين  لقطع كل الصِلاة بيننا .

لقد حزنت على ماسمعت لكنني لم استطع لومه . بل كان هذا اقل ما توقعته . هذا غير  مشاريع الزواج التي كانت تربط عوائل بين العائلتين من ابناء عمومته و اقربائنا .

اما المتزوجين منذ اعوام طويلة ، كان عليهم ان يتنحوا جانباً و لا يشاركون ب اي خلاف في حال ارادو عدم تشتيت انفسهم مع أُسرِهم .

مرض عمي محمود بسبب حزنه على حور و ضياء و التزم كرسيه في صالة قصره و لم يستطع اي منا الذهاب اليه او زيارته . و بسبب مرضه تم التمرد دون علم منه من بعض الشباب من اخوته و ابناء اخوته و منهم  اخوه حسان و ابنه علاء و الذي ظهر عليه الكره الشديد لنا بعد ما حدث ، ناكراً لكل العِشرة القديمة و جاحداً للخبز و الملح ، مكشراً عن انيابه ليظهر وجهه الحقيقي في النهاية .

ثم مرت ستةً اشهر و كنا قد ذُقنا ذرعاً بتصرفات آل حامد الزين . الذين بدأ الطائشون منهم ب اذية كل من هو من آل بركات الزين . حرقوا المحاصيل  و ذبحوا المواشي
و اطلقوا الأحصنة لتشرد و تضيع . هذا غير ثقب الاطارات للدراجات النارية و السيارات . عطلوا الاعمال ، و قهروا الكثير من الناس . و من كان يقف بصفنا من باقِ العشائر كان يلاقي نصيبه من الاذية .

كان غضب ابي و ردعه لي ب استمرار يمنعني من مواجهة علاء و عمه حسان ، كنت احترق الف مرة في اليوم عندما اسمع و اشاهد ما يقومون بفعله .

حتى عمتي رقية الشديدة و التي تربى ابناءها على القوة و عدم الرضوخ لآحد لم تسمح لهم بالتدخل ، اذ كانوا يأتون لرؤيتي كل يوم. ، ينقلون لي الاخبار و يعبرون عن استيائهم لعجزهم عن فعل شيء ، مثلي تماماً .

صالح : على الاقل اهلكم لا يمنعونكم من الخروج ، اشعر كما لو كنت مسجوناً .

جراح ابن عمتي الكبير و الذي يكون من عمر ضياء و درس معه و مع عبد الله في الصف ذاته : انت مريض ، و لم يبقى لديهم ابن غيرك ، لا تحزن .

تحدث بدر و الذي يكون اصغر مني بعام : اجل كلنا خائفون عليك . ف اهدا يا ابن خالي ، فما عسر عنه الكبار لا يجب ان نقحم انفسنا به.

جراح : يقول ابي انهم سيملون مما يفعلونه عاجلاً ام اجلاً . و سمعت اخباراً كثيرة تقول ان الشيخ محمود لا يعرف شيء مما يحدث . و اباء بعض المعتدين لم يستطيعوا منعهم ، لان من بينهم محرضين .

صالح : اظن ان الهدف ليس اذيتنا فقط ، هناك من يسعى لتشويه سمعة للشيخ محمود لعزله من الزعامة .

بدر : ايها الداهية من اين جئت بهذا الاستنتاج ؟

جراح : معقول ؟

صالح : اجل صدقوني ، فلدي مصادر موثوقة .

بدر : و انت لا تستطيع اخبارنا عن هذه المصادر ؟

صالح : انها امانة من ضياء ، اريد ان احتفظ بما كنا عليه ب اخر ما تبقى بيننا ، اسراره .

جراح : دعه يا بدر ، عيب عليك ان تلح هكذا .

بدر : انا امزح فقط .

صالح : هل يتعرضون لكم ايضا ؟

جراح : لا بجرؤون على ذلك لان ابي من عشيرة اخرى .  لكن و الله تمنيت لو انهم يفعلون .

بدر : و انا كذلك ، لكنهم جبناء ، و خائفون من نهضة عشيرتنا ضدهم .

جراح : انهم خائفون من انقلاب مفاجئ ، حتى تخريبهم لا يكون علانية . يحدث فجأة بتخطيط مسبق .

نظر صالح للفراغ  و يتخيل صورة حسان و علاء امامه ، و يظن كل الظن انهما خلف كل ما يحدث .

صالح : حسبي الله و نعمه الوكيل .

#

سمعت صوت ابي يصرخ ف خرجت مع جراح و بدر  الى الصالة و رأيت صالحة تقف امام ابي و تمسك بخدها و تبكي ، فعلمت ان ابي قام بضربها .

الشيخ علي : اغربي عن وجهي و اذهبي الى غرفتك .

ركضت اختي صالحة على السلالم تنفذ ماقاله والدي و امي و عماتي يمسكن ب ابي و يهدئن من ورعه .

جلسنا نحن الثلاثة نستمع لنقاش عمتي رقية مع ابي ، بينما امي كانت تجلس بعيداً مخذولة و خائفة تلضم شفتبها و تبكي .  و رؤيتها هكذا حركت مشاعر الألم في قلبي . فقمت من جانب ابناء عمتي و جلست على يمينها ، اضع يدي على يدها الدافئة لتنظر في وجهي  ثم همست " اياك ان تؤذي اختك بعد ما فعلته هي " ، اومئت لها و صدقاً ما فعلته اختي اغضبني لكنه طمئن قلبي بطريقة ما .  و هذا لأنها ستكون لضياء و ليس علاء ، لأنها اذا تزوجت علاء لم اكن لأسمح لهذا ان يحدث و ان كان على جثتي ، فأنا اعلم مستوى الحقارة التي قد يصل لها .

ذهبت صالحة بعد ايام و شاهدتها للمرة الاخيرة و هي تنسحب من قربي و تدلف الى السيارة مع علاء . و مدني الله بصبر عجيب لاتحمل هذا المشهد ، و مراقبة السخرية التي ترقص في عيني علاء امامي .

و بعد اسبوع واحد هدأت نار قلبي عندما علمتُ ب ان علاء تم ترحيله ليعيش في المدينة مع اقرباءه حيث دراسته الجامعية . و تنفست الصعداء اخيراً ليطمئن قلبي على اختي من اختفاء احد الاشرار من طريقها . 

و بالنسبة لحسان ، الامر بيني و بينه لم ينتهي بعد لقد سبب الكثير من الآذى لنا و اعلم انه لم يكتفي  ، و اجلس مراقبا لكل ما يحدث ،  و التفكير فيه كل ليلة يجعلني اتقلب في مضجعي . . انتظر اي حركة عوجاء  قد يقوم بها ضد اسرتي ، او اختي . و اقسمت انني سأقتله في حال تعرض لها .

لم يسمح لي ابي ان اذهب الى الجامعة لأدرس عامي الاول ، و اصر على ان اعيد دراسة البكلوريا و التسجيل في جامعة  و مدينة مختلفة عن التي يدرس فيها علاء ، لكنني عارضت قراره بشدة و كانت هذه المرة الأولى لي اشاهد ابي ينظر الي بخوف و عجز ، استنتجت انه يخاف من اجباري  كما فعل مع جاسم ، لقد تعلم  والدي درساً قاسياً و رؤيته هكذا تقسم ظهري .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي