الفصل الثاني
الفصل الثاني ...
توقف فجأة وهو ينظر إليها عندما مرت من خلف ظهره ..
لم تعرف وقتها معنى انتفاضته حين اقتربت منه لتتجاوزه ولكنه أخبرها لاحقا أنها رائحة عطرها المميزة هي من جعلته ينتفض هكذا ...
ابتسامة لاحت علي وجهها عندما نبأها أن رائحة عطرها هي رائحة زهرة انقرضت من العصر اليوناني القديم ،
ولكن من حسن حظه أن أحد العلماء أكتشف واحدة تختفي داخل الصخور منذ قرون مضت وللعجب انها ظلت تحتفظ برائحتها ...
وتوالت اللقاءات بينهما وأكتشف الإثنان أن كلاهما يحاربان على جبهة واحدة من أجل الحرية والعيش بكرامة ..."
خلا القسم في هذا الوقت إلا من بعض الطلبة التي بدأت بالتوافد لأنهاء أبحاثهم ..
وجدته سريعاً يجلس على مقعده المعتاد أمام إحدى الاجهزة الإليكترونية ،
يستند برأسه علي حافة الطاولة أمامه بإرهاق واضح ..
اقتربت منه تضع يدها على كتفه دون أن تتفوه بحرف ..
همومه تكالبت عليه وهو يرفع رأسه بصعوبة نحوها ،
أمسك بيدها قبل أن تُزيحها من علي كتفه ثم وقف قائلا بيأس وإصرار متناقضين :
- تزوجيني اليوم ساندرا ودعينا نضع والدك امام الأمر الواقع !
جحظت عيناها من خلف عويناتها وتسارعت نبضات قلبها برعب وهي تقول :
- مستحيل أن أفعل ذلك إلياس !!
علو صوتها في هذا الخواء جعل أحد المشرفين قرب القسم يطرق علي مكتبه بحدة قائلاً :
- المكتبة ليست للحوارات الخاصة من فضلكم تحدثوا بالخارج ...
نظر بعضهم لبعض فهزت ساندرا رأسها يميناً ويساراً برفض قاطع ونظراتها تحولت للرجاء....
ضرب إلياس المنضدة بغضب وهو يعنفُها بالقول :
- حسناً ساندرا هل تملُكين حلاً أخر ؟!
أنتفض مشرف القسم على صوته المرتفع الصارخ ووقف ينظر حوله يدقق في الحضور باحثاً عن مصدر الصوت و مصرً على إخراجهم ولم يكتفى بالتحذير مرة أخرى ..
قام من خلف مكتبه يلتف حول حاجر من الرفوف يفصل بينهم ..
سمع إلياس خطوات الرجل تقترب نحوهم فأمسك بكف ساندرا يجرها إليه وهو يشير إليها أن تُوقف تذمرها حتي لا يتبعهم الرجل ، عبر بعض الممرات بهدوء وهي تتبعه و مازال يسمع وقع أقدام المشرف خلفهم ...
وجد إلياس غرفة مغلقه عليها لافتة تزينها كلمات واضحة ..
" ممنوع الدخول لهذا القسم "
توقع أن يكون الباب مغلقاً بِمفتاح أو قفل أو ما شابه ولكنه حين أدار المقبض أنفتح الباب على مصرعيه ..
فجذبها خلفه سريعاً ثم وقف في إحدى زوايا الغرفة مغلقا بابها بهدوء وهو يحاول أن لا يصدر صريراً مزعج يلفت أنتباه المشرف لهم ...
صوت حذاء الرجل مازال يقترب إلى أن توقف أمام باب الغرفة ..
وضع إلياس يده على فم ساندرا وذم شفتيه مع تحذير من عينيه بألا تُصدر صوتاً ..
نظر المشرف للباب المغلق ووضع أذنه عليه فلم يجد دليلاً على وجدوهما بالداخل ،
فتح الباب ببطيء فانتفضت ساندرا فحاوطها إلياس بيده وهم يختبئون خلف الباب ..
عاد المشرف أدراجه حين لم يرى طيفهم في الغرفة ظناً منه أنهم خرجوا من إحدى الممرات الجانبية ..
زفر إلياس براحة وهو ينزع يده من علي فمها لتزفر هي بضيق :
- أنت مجنون بالفعل !! لماذا لم نخرج من هنا ونتحدث في أي مكان بالخارج !!
حاول خفض صوته وهو يخبرها :
- والدك يضع حراسة عليك ساندرا والحارس تبعك إلى هنا ! تجهم وجهها وزينته علامات الذهول فتغاضى عنها إلياس وأكمل :
- أنا رأيته من نافذة القسم وهو يمشى خلفك حتى أضاعك وسط الاقسام فعاد ينتظرك خارج المكتبة لو ابتعدنا عن هنا سنجده أمامنا ولو علم والدك بمقابلتي ستحبسين مرة اخرى ،
هزت رأسها بعدم تصديق وبنبرة قاتلة متحيرة تساءلت :
- لماذا يضع أبي حراسة علي ؟ هو لا يعرف أنني خرجت من المنزل ، هو مازال نائما!!
أجابها بابتسامة تهكم :
- والدك خرج من البيت في الساعة السادسة صباحا وعاد بعد نصف ساعة بهذا الرجل وأمره بالمكوث أمام منزلكم وكلفه بتتبعك إلى أي مكان ...
شعرت بالدوار الشديد فأمسكت يده بقوة فقربها إلياس منه يضمها بحنان وكأنه يرثي حالها مع هذا المتجبر ،
ارتفعت نبضات قلبه لقربهما لهذا الحد فأبعدها عنه قليلاً وهو يلتهم ملامح وجهها الحزين بنهم ثم نزع عنها نظارتها حتى يرتوى من بريق عينيها الذي يعشقه ..
هاله مظهر انتفاخ عينيها من البكاء وقد تلون حولها بالأسود القاتم ، وكأن الليلة الماضية شحذت وجهها النحيل بحزن دام لأعوام عديده ..
أدارت ساندرا رأسها للجانب الأخر بأسى فأعادها إلياس بسبابته لتواجهه وهو يشعر بالأسف أمام مظهرها التعيس هذا ..
ثم بدأ يتحسس ملامح وجهها بألم لتتساقط بضع قطرات من الدموع التي كانت حبيسة مقلتيها من بداية لقائهما ،
التقطها إلياس بإبهامه من على وجنتها وأقترب منها يقبلها برقة ...
أغمضت ساندرا عينيها وهي تتنهد ليزداد نشيجها ،
تنفست بعمق رائحته التي تجعلها دائماً تشعر ببهجة غير عادية ...
اقترب بشفتيه نحو شفتيها المنفرجتان وبقبلة رقيقة حاول بها بث الطمأنينة لقلبه وقلبُها بعد عذاب أضناه وقد مضجعه...
توقف الأثنان بفزع على صوت جاء من أخر الغرفة المحظورة !
قبضت ساندرا كفه بقوة تحاول أن تمنعه من التحرك نحو الصوت وهي تهز رأسها بخوف شديد ،
ولكنه أفلت يدها بهدوء وهو يضغط عليها بخفة تبعث في نفسها الهدوء ،
جعلها تتحرك خلف ظهره ليحميها من المجهول وهو يمشى بحذر وبخطوات بطيئة ..
وكلما أقترب من الصوت أزداد علوه بشكل مخيف يجعل التي خلفه تنتفض رعباً ،
وصل لمصدر الضجيج فوجده صندوقاً مغلقاً ملتفاً في قطعة قماش لونها أسود متفحم ، يعلوها طبقات من التراب الذي وإن دل على شيء فهو يدل على وجودها في هذه البقعة منذ سنوات طويلة ..
شهقت ساندرا برعب لرؤية الصندوق يهتز بشدة وبصوت قارب الصراخ قالت له :
- لا تقترب أكثر إلياس أرجوك دعنا نعود أدرجنا !
لم يستمع لتحذيرها وفضوله القاتل جعله يقترب أكثر دون أن يفلت يدها ..
أما هي فأمسكت يده بقوة أكبر ويدها الأخرى تتعلق بقميصه ..
بدأت ترتعد خوفاً من زلزلة الصندوق الذي من كثرة اهتزازه بدأ يتحرك بشكل مريب حتى أن قطعة القماش سقطت من عليه فظهر شكله المَهيب ،
صندوقٍ خشبي ذو اربعة قوائم أسود اللون قاتم منقوش حوله كلمات باللغة الإغريقية القديمة تظهر باللون الذهبي وتختفي من كثرة ارتجاجه ،
أستمرت في تحذيره من أن يقترب اكثر من ذلك ، حتى أنها حاولت أن تسحب يدها من كفه بالقوة وهي تترجاه أ ن يرحلا ولكنه كان مغيبٌ تماماً حتى أن صراخها المرتعب لم يعد يصله ...
وضع إلياس يده على القفل الذهبي الصغير الذي يحكم إغلاق الصندوق والذي وللعجب لم يكن مغلقاً ،
ضم حاجبيه باندهاش وهو يزيل القفل من الصندوق غير مبالياً بانتفاضة ساندرا والضجيج التي تحدثه من خلفه حتى أتى أحد الحراس حين سمع صوت الصخب والضجيج داخل الغرفة ،
أبلغ الحارس أحد المشرفين ما سمعه عبر الجهاز اللاسلكي وهو يذهب ناحية الغرفة ،
شكل الصندوق والكلمات الذهبية التي تظهر وتختفي أثار فضول إلياس بشدة طاغياً تماماً على شعور الخوف من المجهول وهو على يقين في هذه اللحظة أنه لا يوجد أسوء مما هو فيه ...
هالهُ شكل الصندوق العجيب الذي لم تسعفه ذاكرته أن يترجم الكلمات المدونة عليه ولم يعي مدى خطورة فتح هذه الأشياء وأنه بمجرد لمسها ستتغير حياته للأبد ،
حاول أن يتذكر أي شيء عنه في التاريخ ولكنه لم ينتظر كثيراً ...
تجاهل الأصوات التحذيرية بداخله كما تجاهل صراخ ساندرا من خلفه وردد الكلمات المدونة على الصندوق وهو يفتحه وآخر ما وقع عليه عينيه هي بلورة تضئ بشكل يخطف الأنظار جعلته يغلق عينيه كما فعلت ساندرا بالمثل ،
دخول الحارس راكضاً ومن خلفه المشرف وبعض الوافدين لم تُغيثهم ،
لقد ابتلعتهم البلورة بداخلها في لحظات قليله أمام الجمع الذي شاهد ما حدث ،
ثم بعدها أنغلق الصندوق مرة أخرى وتوقف تماما عن الضجيج وكأن شيئا لم يحدث ..!!
توقفت الكلمات عن الظهور والاختفاء فأقترب الجميع بذهول بقرب الصندوق يدققون النظر ، فحذرهم المشرف عن الاقتراب أكثر حتى يأتي أحد المحققين لينظروا فيما حدث ،
طلب الحارس من الجميع الانصراف من الغرفة فبدأوا بالتفرق إلا من المشرف الخاص بالقسم ،
قرر أن يتفحص الصندوق بعينيه قبل أن ينضم لهم لمح سريعاً بعض الكلمات التي ظهرت مرة أخرى ،
توقف ليدقق النظر بها ولم يطل الأمر فقد أسعفه ذكاءه أن يدونها قبل أن تختفي ، وكما توقع فقد اختفت في ثواني قليلة ،
ركض نحو قاموس الترجمة ووضع الورقة بجواره وبدأ في ترجمة الكلمات حتى أنتهى منها وهو جاحظ العينين ،
" هنا يَكمُن الصراع الأبدي بين الماضي والحاضر والمستقبل فإما أن تربح المعركة وتظل على قيد الحياة أو تخسر فتنتهي قصتك للأبد "
**************************
شعوره بارتطام رأسه على سطح صلب جعله ينتفض واقفاً بألم ،
ولكن اختلال جسده جعله يدور ليقع مرة أخرى مغمض العينين وصفير شديد منع عنه حاسة السمع ،
حاول أن يتذكر ماذا حدث فأتته ومضات من رؤية وجهها الفزع وبكاؤها الشديد وصراخات اطلقتها بإسمه ،
هز رأسه بقوة يميناً ويساراً وهو يفرك قشرة رأسه حتى عادت الرؤيا طبيعية ..
عاد يرهف بسمعه للأصوات فلم يسمع إلا حفيف الأشجار وهواء بارد جعله يقف بصعوبة يبحث عنها بعينيه ،
فزع إلياس حين وجدها ممددة خلفه شبه فاقدة للوعي .. التفت نحوها يصرخ بها :
- ساندرا أنتِ بخير !!
لم تجيبه فأمسك بكتفيها ليضع رأسها على قدميه ويصفعها بخفة على وجهها وهو يناديها !
شعرت بدوار شديد يجتاحها ..حاولت أن ترفع رأسها ولكن لا جدوى...
حتى محاولة فتح عينيها بائت بالفشل ، صُمت أُذنيها فلم تعد تسمع شيء من حولها ..
ظلت تتملل وهي تتحسس ملمس الأرض من تحتها ..حتى خف دوران رأسها شيء فشيء مع استمرار تأوهاتها كردة فعل على شعورها بالألم !!
صوته يناديها جاءها من بعيد وكأنها كانت خارج الغلاف الجوي وعادت بأقصى سرعه ! تحولت ملامح وجهها للألم وأنينُها جعله يهزها أكثر ويكرر أسمها بصوت أعلى ،
بدأ يبحث حوله عن ماء أو أية شيء يستطيع أن يوقظها به ..
فزعه ازداد وهو يرى الأشجار تغطيهم من كل مكان ...
ضم حاجبيه للحظة وهو يتذكر أنه لم يرى من قبل أشجارً بهذه الضخامة وهذا الطول الفارع ليردد إلياس برعب :
- يا الهي أين نحن ؟!
نظر نحو ساندرا التي تتململ على قدميه .. فهزها بشدة مرة أخرى ومازال يردد أسمها حتى فتحت عينها ببطيء وهي تعتدل وتنظر حولها بفزع ثم قالت بصوت واهن :
- ماذا فعلت !! اين نحن إلياس ؟؟
حاول طمأنتها ببعض كلمات لم يثق بها تماما ...ثم وقف يمد يده إليها قائلاً :
- دعينا نبحث عن مخرج من هذا المكان
ألتقطها بكفه ليرفعها عالياً كي تستقيم ولكنها كادت أن تسقط ثانية بعدما أختل توازونها وبدأت تترنح فأحكم يداه الأثنان حول خصرها قبل أن تسقط وهو يسألها :
- هل انتي بخير حبيبتي ؟! هل نجلس قليلاً بعد ! تمتمت وهي تنظر للون الاخضر الذي يحيطهم من كل مكان وهي ما زالت تتمايل :
- لا لست بخير إلياس ، ثم ادارت وجهها نحوه بدهشة وهي تضم حاجبيها :
- أين نحن ؟! وما هذا المكان العجيب ؟!
وفي لحظة أجفل كلاهما على صوت غريب لم يسمعوه من قبل وكأنها الطيور تتحدث فيما بينها !
نظر إلياس للأعلى فلم يرى شيء من كثافة الاشجار وطولها ..
صوت الطيور بدأ يقترب ففزعت ساندرا وتلقائيا ً التصقت به وهي ترتجف رعباً ..
أخذ بيدها يختبئان خلف أحدى الأشجار بعيد عن الصوت المُريب الذي يتردد فوقهم ..
ولكنهم كلما ابتعدوا كلما اقتربت الأصوات أكثر حتى بدأ إلياس بالركض سريعاً بهلع وهو يقبض على يد ساندرا بقوة شديدة ،
جارته في العدو وهي تبكي بشده من الخوف..
توقفوا حين انقطعت انفاسهم ، وبدأت ساندرا تلهث من التعب ،
انحنت تستند على ركبتيها لتلتقط بعضاً من أنفاسها اللاهثة ،
حثها إلياس أن يكملوا :
- هيا ساندرا صوتهم يقترب منا مرة اخرى !!
أجابته بأنفاس متقطعة :
- لن أستطيع الركض إلياس سيغشى علي من الإعياء فأنا لم أسترد اتزاني بعد !
ذُعر أصابه فجأة وجحظت عينيه حين رأى من خلفها ،
طائر ضخم يقف على إحدى فروع الاشجار ..
برأس أنثى وشعر أحمر غجري يتطاير حولها بجنون ، وزاد تعجبه عندما نزل بعيناه لجسده كامل الأنوثة بمفاتنه الظاهرة ،
بينما ينتهي نصفها السفلي بفخذين عريضين يمتلئان بالعضلات وبمخالب حادة ، يقف هذا الشيء محنياً حول غصن الشجرة يتمسك بها كفريسة ضعيفة خاضعة له ُ
، ينظر نحوهم بعيون حمراء تبعث الرعب في النفوس ، وجناحيه منفردين بوحشية يرفرف بهما في الهواء منتظراً اللحظة المناسبة لينقض عليهما ،
نظر الطائر نحو إلياس بشراسه بينما يبادله الأخير بنظرات تحدِ واضحة ..
ضمت ساندرا حاجبيها برعب وهي تنظر لوجه إلياس الشاحب يحبس أنفاسه وهو يأمرها بصوت خفيض و يشير للاتجاه المخالف
" لطائر الهاربيز "..
- لا تنظري خلفك وأركضي بأقصى سرعه !!
لم تطلب أستفسرً أكثر من ملامح وجهه الهلعة انطلقت كما أمرها وركض هو الأخر خلفها يصرخ بصوت مرتفع :
- اسررررعي ساندرااااا
بعد لحظات توقفت ساندرا تصرخ من فزعها عندما رأت أمامها إحدى هذه الطيور ...
ألتف إلياس حول نفسه ليجدهم اكثر من خمسة يحومون حولهم تارة ويطيرون فوق رؤوسهم تارة أخرى !
بدأت ساندرا في بكاء مرير وهي تلتصق بصدر إلياس ترتعد رعباً مما تراه وهي تصيحُ بعلو صوتها :
- يا إلهي أين نحن ! وما هذه المسوخ العجيبة ؟!
ثم انهارت كلياً وهي تلكمه في صدره عدة لكمات قائلة :
- اجبني إلياس ؟!
أمسك كفيها يحاول تهدئتها وعيناه تتعلق بإحدى الهاربيز وهي تقترب منهم من بعيد :
- أهدئ ساندرا أرجوكِ ..
ثم جهر بصوت فزع :
-أخفضي رأسك
جعلها تستلقي عنوه على بطنها قبل أن تمسك بها واحدة منهم على أخر لحظة !
********************************
توقف فجأة وهو ينظر إليها عندما مرت من خلف ظهره ..
لم تعرف وقتها معنى انتفاضته حين اقتربت منه لتتجاوزه ولكنه أخبرها لاحقا أنها رائحة عطرها المميزة هي من جعلته ينتفض هكذا ...
ابتسامة لاحت علي وجهها عندما نبأها أن رائحة عطرها هي رائحة زهرة انقرضت من العصر اليوناني القديم ،
ولكن من حسن حظه أن أحد العلماء أكتشف واحدة تختفي داخل الصخور منذ قرون مضت وللعجب انها ظلت تحتفظ برائحتها ...
وتوالت اللقاءات بينهما وأكتشف الإثنان أن كلاهما يحاربان على جبهة واحدة من أجل الحرية والعيش بكرامة ..."
خلا القسم في هذا الوقت إلا من بعض الطلبة التي بدأت بالتوافد لأنهاء أبحاثهم ..
وجدته سريعاً يجلس على مقعده المعتاد أمام إحدى الاجهزة الإليكترونية ،
يستند برأسه علي حافة الطاولة أمامه بإرهاق واضح ..
اقتربت منه تضع يدها على كتفه دون أن تتفوه بحرف ..
همومه تكالبت عليه وهو يرفع رأسه بصعوبة نحوها ،
أمسك بيدها قبل أن تُزيحها من علي كتفه ثم وقف قائلا بيأس وإصرار متناقضين :
- تزوجيني اليوم ساندرا ودعينا نضع والدك امام الأمر الواقع !
جحظت عيناها من خلف عويناتها وتسارعت نبضات قلبها برعب وهي تقول :
- مستحيل أن أفعل ذلك إلياس !!
علو صوتها في هذا الخواء جعل أحد المشرفين قرب القسم يطرق علي مكتبه بحدة قائلاً :
- المكتبة ليست للحوارات الخاصة من فضلكم تحدثوا بالخارج ...
نظر بعضهم لبعض فهزت ساندرا رأسها يميناً ويساراً برفض قاطع ونظراتها تحولت للرجاء....
ضرب إلياس المنضدة بغضب وهو يعنفُها بالقول :
- حسناً ساندرا هل تملُكين حلاً أخر ؟!
أنتفض مشرف القسم على صوته المرتفع الصارخ ووقف ينظر حوله يدقق في الحضور باحثاً عن مصدر الصوت و مصرً على إخراجهم ولم يكتفى بالتحذير مرة أخرى ..
قام من خلف مكتبه يلتف حول حاجر من الرفوف يفصل بينهم ..
سمع إلياس خطوات الرجل تقترب نحوهم فأمسك بكف ساندرا يجرها إليه وهو يشير إليها أن تُوقف تذمرها حتي لا يتبعهم الرجل ، عبر بعض الممرات بهدوء وهي تتبعه و مازال يسمع وقع أقدام المشرف خلفهم ...
وجد إلياس غرفة مغلقه عليها لافتة تزينها كلمات واضحة ..
" ممنوع الدخول لهذا القسم "
توقع أن يكون الباب مغلقاً بِمفتاح أو قفل أو ما شابه ولكنه حين أدار المقبض أنفتح الباب على مصرعيه ..
فجذبها خلفه سريعاً ثم وقف في إحدى زوايا الغرفة مغلقا بابها بهدوء وهو يحاول أن لا يصدر صريراً مزعج يلفت أنتباه المشرف لهم ...
صوت حذاء الرجل مازال يقترب إلى أن توقف أمام باب الغرفة ..
وضع إلياس يده على فم ساندرا وذم شفتيه مع تحذير من عينيه بألا تُصدر صوتاً ..
نظر المشرف للباب المغلق ووضع أذنه عليه فلم يجد دليلاً على وجدوهما بالداخل ،
فتح الباب ببطيء فانتفضت ساندرا فحاوطها إلياس بيده وهم يختبئون خلف الباب ..
عاد المشرف أدراجه حين لم يرى طيفهم في الغرفة ظناً منه أنهم خرجوا من إحدى الممرات الجانبية ..
زفر إلياس براحة وهو ينزع يده من علي فمها لتزفر هي بضيق :
- أنت مجنون بالفعل !! لماذا لم نخرج من هنا ونتحدث في أي مكان بالخارج !!
حاول خفض صوته وهو يخبرها :
- والدك يضع حراسة عليك ساندرا والحارس تبعك إلى هنا ! تجهم وجهها وزينته علامات الذهول فتغاضى عنها إلياس وأكمل :
- أنا رأيته من نافذة القسم وهو يمشى خلفك حتى أضاعك وسط الاقسام فعاد ينتظرك خارج المكتبة لو ابتعدنا عن هنا سنجده أمامنا ولو علم والدك بمقابلتي ستحبسين مرة اخرى ،
هزت رأسها بعدم تصديق وبنبرة قاتلة متحيرة تساءلت :
- لماذا يضع أبي حراسة علي ؟ هو لا يعرف أنني خرجت من المنزل ، هو مازال نائما!!
أجابها بابتسامة تهكم :
- والدك خرج من البيت في الساعة السادسة صباحا وعاد بعد نصف ساعة بهذا الرجل وأمره بالمكوث أمام منزلكم وكلفه بتتبعك إلى أي مكان ...
شعرت بالدوار الشديد فأمسكت يده بقوة فقربها إلياس منه يضمها بحنان وكأنه يرثي حالها مع هذا المتجبر ،
ارتفعت نبضات قلبه لقربهما لهذا الحد فأبعدها عنه قليلاً وهو يلتهم ملامح وجهها الحزين بنهم ثم نزع عنها نظارتها حتى يرتوى من بريق عينيها الذي يعشقه ..
هاله مظهر انتفاخ عينيها من البكاء وقد تلون حولها بالأسود القاتم ، وكأن الليلة الماضية شحذت وجهها النحيل بحزن دام لأعوام عديده ..
أدارت ساندرا رأسها للجانب الأخر بأسى فأعادها إلياس بسبابته لتواجهه وهو يشعر بالأسف أمام مظهرها التعيس هذا ..
ثم بدأ يتحسس ملامح وجهها بألم لتتساقط بضع قطرات من الدموع التي كانت حبيسة مقلتيها من بداية لقائهما ،
التقطها إلياس بإبهامه من على وجنتها وأقترب منها يقبلها برقة ...
أغمضت ساندرا عينيها وهي تتنهد ليزداد نشيجها ،
تنفست بعمق رائحته التي تجعلها دائماً تشعر ببهجة غير عادية ...
اقترب بشفتيه نحو شفتيها المنفرجتان وبقبلة رقيقة حاول بها بث الطمأنينة لقلبه وقلبُها بعد عذاب أضناه وقد مضجعه...
توقف الأثنان بفزع على صوت جاء من أخر الغرفة المحظورة !
قبضت ساندرا كفه بقوة تحاول أن تمنعه من التحرك نحو الصوت وهي تهز رأسها بخوف شديد ،
ولكنه أفلت يدها بهدوء وهو يضغط عليها بخفة تبعث في نفسها الهدوء ،
جعلها تتحرك خلف ظهره ليحميها من المجهول وهو يمشى بحذر وبخطوات بطيئة ..
وكلما أقترب من الصوت أزداد علوه بشكل مخيف يجعل التي خلفه تنتفض رعباً ،
وصل لمصدر الضجيج فوجده صندوقاً مغلقاً ملتفاً في قطعة قماش لونها أسود متفحم ، يعلوها طبقات من التراب الذي وإن دل على شيء فهو يدل على وجودها في هذه البقعة منذ سنوات طويلة ..
شهقت ساندرا برعب لرؤية الصندوق يهتز بشدة وبصوت قارب الصراخ قالت له :
- لا تقترب أكثر إلياس أرجوك دعنا نعود أدرجنا !
لم يستمع لتحذيرها وفضوله القاتل جعله يقترب أكثر دون أن يفلت يدها ..
أما هي فأمسكت يده بقوة أكبر ويدها الأخرى تتعلق بقميصه ..
بدأت ترتعد خوفاً من زلزلة الصندوق الذي من كثرة اهتزازه بدأ يتحرك بشكل مريب حتى أن قطعة القماش سقطت من عليه فظهر شكله المَهيب ،
صندوقٍ خشبي ذو اربعة قوائم أسود اللون قاتم منقوش حوله كلمات باللغة الإغريقية القديمة تظهر باللون الذهبي وتختفي من كثرة ارتجاجه ،
أستمرت في تحذيره من أن يقترب اكثر من ذلك ، حتى أنها حاولت أن تسحب يدها من كفه بالقوة وهي تترجاه أ ن يرحلا ولكنه كان مغيبٌ تماماً حتى أن صراخها المرتعب لم يعد يصله ...
وضع إلياس يده على القفل الذهبي الصغير الذي يحكم إغلاق الصندوق والذي وللعجب لم يكن مغلقاً ،
ضم حاجبيه باندهاش وهو يزيل القفل من الصندوق غير مبالياً بانتفاضة ساندرا والضجيج التي تحدثه من خلفه حتى أتى أحد الحراس حين سمع صوت الصخب والضجيج داخل الغرفة ،
أبلغ الحارس أحد المشرفين ما سمعه عبر الجهاز اللاسلكي وهو يذهب ناحية الغرفة ،
شكل الصندوق والكلمات الذهبية التي تظهر وتختفي أثار فضول إلياس بشدة طاغياً تماماً على شعور الخوف من المجهول وهو على يقين في هذه اللحظة أنه لا يوجد أسوء مما هو فيه ...
هالهُ شكل الصندوق العجيب الذي لم تسعفه ذاكرته أن يترجم الكلمات المدونة عليه ولم يعي مدى خطورة فتح هذه الأشياء وأنه بمجرد لمسها ستتغير حياته للأبد ،
حاول أن يتذكر أي شيء عنه في التاريخ ولكنه لم ينتظر كثيراً ...
تجاهل الأصوات التحذيرية بداخله كما تجاهل صراخ ساندرا من خلفه وردد الكلمات المدونة على الصندوق وهو يفتحه وآخر ما وقع عليه عينيه هي بلورة تضئ بشكل يخطف الأنظار جعلته يغلق عينيه كما فعلت ساندرا بالمثل ،
دخول الحارس راكضاً ومن خلفه المشرف وبعض الوافدين لم تُغيثهم ،
لقد ابتلعتهم البلورة بداخلها في لحظات قليله أمام الجمع الذي شاهد ما حدث ،
ثم بعدها أنغلق الصندوق مرة أخرى وتوقف تماما عن الضجيج وكأن شيئا لم يحدث ..!!
توقفت الكلمات عن الظهور والاختفاء فأقترب الجميع بذهول بقرب الصندوق يدققون النظر ، فحذرهم المشرف عن الاقتراب أكثر حتى يأتي أحد المحققين لينظروا فيما حدث ،
طلب الحارس من الجميع الانصراف من الغرفة فبدأوا بالتفرق إلا من المشرف الخاص بالقسم ،
قرر أن يتفحص الصندوق بعينيه قبل أن ينضم لهم لمح سريعاً بعض الكلمات التي ظهرت مرة أخرى ،
توقف ليدقق النظر بها ولم يطل الأمر فقد أسعفه ذكاءه أن يدونها قبل أن تختفي ، وكما توقع فقد اختفت في ثواني قليلة ،
ركض نحو قاموس الترجمة ووضع الورقة بجواره وبدأ في ترجمة الكلمات حتى أنتهى منها وهو جاحظ العينين ،
" هنا يَكمُن الصراع الأبدي بين الماضي والحاضر والمستقبل فإما أن تربح المعركة وتظل على قيد الحياة أو تخسر فتنتهي قصتك للأبد "
**************************
شعوره بارتطام رأسه على سطح صلب جعله ينتفض واقفاً بألم ،
ولكن اختلال جسده جعله يدور ليقع مرة أخرى مغمض العينين وصفير شديد منع عنه حاسة السمع ،
حاول أن يتذكر ماذا حدث فأتته ومضات من رؤية وجهها الفزع وبكاؤها الشديد وصراخات اطلقتها بإسمه ،
هز رأسه بقوة يميناً ويساراً وهو يفرك قشرة رأسه حتى عادت الرؤيا طبيعية ..
عاد يرهف بسمعه للأصوات فلم يسمع إلا حفيف الأشجار وهواء بارد جعله يقف بصعوبة يبحث عنها بعينيه ،
فزع إلياس حين وجدها ممددة خلفه شبه فاقدة للوعي .. التفت نحوها يصرخ بها :
- ساندرا أنتِ بخير !!
لم تجيبه فأمسك بكتفيها ليضع رأسها على قدميه ويصفعها بخفة على وجهها وهو يناديها !
شعرت بدوار شديد يجتاحها ..حاولت أن ترفع رأسها ولكن لا جدوى...
حتى محاولة فتح عينيها بائت بالفشل ، صُمت أُذنيها فلم تعد تسمع شيء من حولها ..
ظلت تتملل وهي تتحسس ملمس الأرض من تحتها ..حتى خف دوران رأسها شيء فشيء مع استمرار تأوهاتها كردة فعل على شعورها بالألم !!
صوته يناديها جاءها من بعيد وكأنها كانت خارج الغلاف الجوي وعادت بأقصى سرعه ! تحولت ملامح وجهها للألم وأنينُها جعله يهزها أكثر ويكرر أسمها بصوت أعلى ،
بدأ يبحث حوله عن ماء أو أية شيء يستطيع أن يوقظها به ..
فزعه ازداد وهو يرى الأشجار تغطيهم من كل مكان ...
ضم حاجبيه للحظة وهو يتذكر أنه لم يرى من قبل أشجارً بهذه الضخامة وهذا الطول الفارع ليردد إلياس برعب :
- يا الهي أين نحن ؟!
نظر نحو ساندرا التي تتململ على قدميه .. فهزها بشدة مرة أخرى ومازال يردد أسمها حتى فتحت عينها ببطيء وهي تعتدل وتنظر حولها بفزع ثم قالت بصوت واهن :
- ماذا فعلت !! اين نحن إلياس ؟؟
حاول طمأنتها ببعض كلمات لم يثق بها تماما ...ثم وقف يمد يده إليها قائلاً :
- دعينا نبحث عن مخرج من هذا المكان
ألتقطها بكفه ليرفعها عالياً كي تستقيم ولكنها كادت أن تسقط ثانية بعدما أختل توازونها وبدأت تترنح فأحكم يداه الأثنان حول خصرها قبل أن تسقط وهو يسألها :
- هل انتي بخير حبيبتي ؟! هل نجلس قليلاً بعد ! تمتمت وهي تنظر للون الاخضر الذي يحيطهم من كل مكان وهي ما زالت تتمايل :
- لا لست بخير إلياس ، ثم ادارت وجهها نحوه بدهشة وهي تضم حاجبيها :
- أين نحن ؟! وما هذا المكان العجيب ؟!
وفي لحظة أجفل كلاهما على صوت غريب لم يسمعوه من قبل وكأنها الطيور تتحدث فيما بينها !
نظر إلياس للأعلى فلم يرى شيء من كثافة الاشجار وطولها ..
صوت الطيور بدأ يقترب ففزعت ساندرا وتلقائيا ً التصقت به وهي ترتجف رعباً ..
أخذ بيدها يختبئان خلف أحدى الأشجار بعيد عن الصوت المُريب الذي يتردد فوقهم ..
ولكنهم كلما ابتعدوا كلما اقتربت الأصوات أكثر حتى بدأ إلياس بالركض سريعاً بهلع وهو يقبض على يد ساندرا بقوة شديدة ،
جارته في العدو وهي تبكي بشده من الخوف..
توقفوا حين انقطعت انفاسهم ، وبدأت ساندرا تلهث من التعب ،
انحنت تستند على ركبتيها لتلتقط بعضاً من أنفاسها اللاهثة ،
حثها إلياس أن يكملوا :
- هيا ساندرا صوتهم يقترب منا مرة اخرى !!
أجابته بأنفاس متقطعة :
- لن أستطيع الركض إلياس سيغشى علي من الإعياء فأنا لم أسترد اتزاني بعد !
ذُعر أصابه فجأة وجحظت عينيه حين رأى من خلفها ،
طائر ضخم يقف على إحدى فروع الاشجار ..
برأس أنثى وشعر أحمر غجري يتطاير حولها بجنون ، وزاد تعجبه عندما نزل بعيناه لجسده كامل الأنوثة بمفاتنه الظاهرة ،
بينما ينتهي نصفها السفلي بفخذين عريضين يمتلئان بالعضلات وبمخالب حادة ، يقف هذا الشيء محنياً حول غصن الشجرة يتمسك بها كفريسة ضعيفة خاضعة له ُ
، ينظر نحوهم بعيون حمراء تبعث الرعب في النفوس ، وجناحيه منفردين بوحشية يرفرف بهما في الهواء منتظراً اللحظة المناسبة لينقض عليهما ،
نظر الطائر نحو إلياس بشراسه بينما يبادله الأخير بنظرات تحدِ واضحة ..
ضمت ساندرا حاجبيها برعب وهي تنظر لوجه إلياس الشاحب يحبس أنفاسه وهو يأمرها بصوت خفيض و يشير للاتجاه المخالف
" لطائر الهاربيز "..
- لا تنظري خلفك وأركضي بأقصى سرعه !!
لم تطلب أستفسرً أكثر من ملامح وجهه الهلعة انطلقت كما أمرها وركض هو الأخر خلفها يصرخ بصوت مرتفع :
- اسررررعي ساندرااااا
بعد لحظات توقفت ساندرا تصرخ من فزعها عندما رأت أمامها إحدى هذه الطيور ...
ألتف إلياس حول نفسه ليجدهم اكثر من خمسة يحومون حولهم تارة ويطيرون فوق رؤوسهم تارة أخرى !
بدأت ساندرا في بكاء مرير وهي تلتصق بصدر إلياس ترتعد رعباً مما تراه وهي تصيحُ بعلو صوتها :
- يا إلهي أين نحن ! وما هذه المسوخ العجيبة ؟!
ثم انهارت كلياً وهي تلكمه في صدره عدة لكمات قائلة :
- اجبني إلياس ؟!
أمسك كفيها يحاول تهدئتها وعيناه تتعلق بإحدى الهاربيز وهي تقترب منهم من بعيد :
- أهدئ ساندرا أرجوكِ ..
ثم جهر بصوت فزع :
-أخفضي رأسك
جعلها تستلقي عنوه على بطنها قبل أن تمسك بها واحدة منهم على أخر لحظة !
********************************