وحوش وصالحين ٢

ليست «الوحوش» كائنات تعيش بالغابات أو تظهر في الكوابيس أو في ظلام الليل فحسب، ولكنها أيضاً تتوغل في عمق النفس البشرية
تعيش في كيانه.وعلى الجانب الآخر ( الصالحين)هم من عاشوا لنشر السعادة والإبتسامة بين البشر بكل ماأوتوا من علم وعمل أملهم الوحيد هو الرخاء والنماء للإنسانية جمعاء دون تمييز
ومن عمق الألم يولد دائما الإبداع
ف‏النهار ليست نهارا إلا بالضوء
والورد ليس وردا إلا بعبيره
والبحر ليس بحرا الا بموجه
و كذلك الأنسان ... ليس إنسانا إلا بعقله وفكره والجانب المتسامى منه ... الجانب الذى يفيض بالعطاء و الإحسان ....والخلق والتدين
هذه هي الخلق النبيلة للدكتور مسعد بطل قصتنا
الذي ذاق مرارة اليتم.
.وذل القهر والظلم.وعاش مرارة الوحدة.
وقسوة التشرد واعتصار الجوع

عمق ألمه زاد بعد فقد امه وموت جده والتعذيب والحرمان والذل والهوان الذي لاقاه طيلة طفولته وصباه وتخلي اباه عنه ولم يجد احد يقف معه ويسانده الا حبيبته رغم أنها ضريرة ولكنها كانت السند والعون له
وفي أحدى الليالي خرج من القرية الظالمة اهلها ومعه حبيبته التي تزوجها وذهبا إلى القاهرة هربا من التشرد والجوع والتنمر والكراهيه والاشاعات ومخططات متكررة لقتله والتخلص منه ليعود بعد عشرين عاما من الغربة وهو اشهر طبيب بجراحة المخ بالعالم
ليجد قريته تبدل أحوالها لتصبح قرية يحتزى بها في التطور والرخاء وتماسك أهلها فالحب هو السائد بينهم والكل يعمل ويتعلم من أجل مستقبل أفضل
ويختار ابنه الوحيد فتاة جميلة لخطبتها من أهل القرية وبعد عام يكتشف الأطباء أنه مصاب بورم خبيث بالمخ ليجري له العملية أباه بنفسه فهو احن انسان عليه من اي طبيب ولكنه يموت بين يديه ويعود مرة أخرى إلى إنجلترا ويكثف دراسته على أسباب توقف القلب بعد أن رأى اعز الناس له يموتون بها
ويكتشف الانزيم المسبب انخفاضه بالدم للسكتة القلبية ويتم تصنيع كبسولات تحتوي على هذا الانزيم يأخذها المريض المعرض للإصابة للحماية
وينال لقب سير من الملكة اليزابيث الثانية
ويعود مرة أخرى لقريته ولكن هذه المرة يستقبلوه هو وزوجته بالورود وعزف وأغاني بالدف والمزمار والزغاريت من نساء القرية
وهناك سجادة مشغولة بالحرير والسيرما معلقة على اكبر مبنى بالقرية مطرزة بصورته هو وزوجته وبينهما ابنهما على شكل طائر ابيض كالملاك
فهو فخر مصر بعلمه وابحاثه وتعبه ومجهوده
وتبدأ قصة كفاح دكتور مسعد في منتصف ثمانينات
القرن الماضي

بقرية كفر الصالحين وهي قرية بجنوب الصعيد تطل
على نهر النيل بها عشرات المقامات والأضرحة لأولياء الله الصالحين وهم في حقيقتهم
لا أولياء ولا صالحين، ومعظمهم من نسج خيال أهلها أو كما يطلقون عليهم أصحاب الكرامات بل إن هناك أولياء لازالوا على قيد الحياة يقدسونهم وحكوا عنهم العديد من القصص فهذا من تراب المقام يعالج العقم وهذا من قطرة القنديل لتصحيح البصر وتلك تعالج الشلل وهذا للزواج وهذا لعلاج الغضروف وذلك بلمسة يده يعالج كل الأمراض المستعصية وكلما زادّت القصص زادّ ثراء القرية بسبب الموالد والزوار وأعمال السحر والشعوذة ويأتوها الناس من كل المحافظات من أول الإسكندرية حتى أسوان
فالقرية بها فنادق وشقق مفروشة ومطاعم بكل المستويات وكافيهات وقهاوي والتجارة بها رائجة لكل ما هو مشروع وغير مشروع من مخدرات و
تجارة الآثار والبحث عنها وبلطجة حتى الدعارة لها بيوت مخصصة لها ذات الرايات الحمراء يذهب إليها كل من يبحث عن المتعة المحرمة
وتنقسم القرية إلى ثلاثة عزب فهذه عزبة الأمراء يقطنها أثرياء القرية من تجار الآثار والمخدرات والبلطجية والمشعوذين وابنيتها أبراج وفللّ بل قصور أيضًا وفنادق ومطاعم على أعلى مستوى
والعزبة تأخذ شكل دائري كأنها الجزيرة تحيطها أشجار الموالح والمانجو والعنب وعليها نقاط حراسة وكلاب مدربة تمنع دخول غرباء إلا بعد التفتيش الذاتي

أما المنطقة الثانية فهي عزبة الموظفين فبيوتها من دورين أو ثلاثة من الطوب الأحمر وسكانها مهندسين وموظفين ومعلمين وطلابها أناس طيبين وفي حالهم ومتوسطي الحال
و المنطقة الثالثة فهي عزبة العمال بيوتهم وأثاثها متواضع وينتشر فيها الفقر والجهل والمرض ومعظمهم يعملون عند الأثرياء كعمال أو خدم أو مزارعين بالأجر.
القرية يسير في شوارعها أحدث السيارات وأيضًا عربات الكارو المتهالكة
بها أبراج عشر وعشرين دور وأسانسيرات وشقق كل غرفة بها مكيف وشاشة تلفزيون وأيضًا هناك بيوت مبنية من طين يبيت فيها البشر مع المواشي والطيور في مكان واحد
قرية الصالحين كلّ شيء وضده فيها الجمال وفيها القبح فيها الخير وفيها الشر فيها الخلوق وفيها البلطجي فيها التديّن وفيها الشرك
فيها الثراء وفيها التسول
ووسط هذا الكم من الغنى يوجد بعض سكانها متمسكين بالطين والزراعة والأخلاق والدين ومنهم الشيخ مسعود مقرئ القرية والقرى المجاورة أيضًا ومحفظ للقرآن بالكتاب لأطفال القرية مُنْذُ سنين وأمام المسجد يخطب لهم ويصلي بهم، تعدى السبعين من عمره و حفيده هو مسعد بن ابنته تظهر عليه
علامات النبوغ منذ نعومة أظافره حفظ القرآن كاملًا وهو في الخامسة والأحاديث النبوية وهو في الثامنة من عمره ووالدته كانت دائمة التشجيع له وتحفزه فهي أيضًا حافظة للقرآن وسيدة محسنة لأبعد الحدود رغم فقرها
وفي يوم جمعة وبعد الصلاة وكعادتها مع ابنها جلست ام مسعد تشرح له سورة الكهف وتتحدث معه عن العبد الصالح الخضر وإن قدر الله نافذ لامحالة ولله حكمة لا نعلمها بأقداره سبحانه وتعالى

و من قصة موسى مع الخضر بدأت تقول له
أنه لم يكن موسى متعالي على الناس مع أنّه نبي وممّا يدل على ذلك لقاءه الخضر، وتحمّله الكثير من التعب
من أجل الوصول إليه وأهمية البحث في طلب العلم فقد رحل الأنبياء في طلب العلم مع الاعتراف بأنّ الله -تعالى- الأكثر علمًا ويجب اجلال أهل العلم وخدمتهم
وكذلك الحثّ على قبول عذر الناسي وبيان أنّ ذلك من خصال الصالحين.و ينبغي على المعلّم أن يصبر على
تلميذه صبر الخضر على موسى ولاتنسى يابني أبدا قول: «إن شاء الله» لمن أراد القيام بفعلٍ معينٍ بدليل قوله تعالى
«وَلا تَقولَنَّ لِشَيءٍ إِنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا إِلّا أَن يَشاء اللَهُ وَاذكُر رَبَّكَ إِذا نَسيتَ وَقُل عَسى أَن يَهدِيَنِ رَبّي لِأَقرَبَ مِن هـذا رَشَدًا».
وأن قدر الله واقع لامحالة ولايعلم حكمته الا الله
وفجأة تميل راس أم مسعد للخلف ينظر إليها مسعد وظن أنها نامت حاول أن يوقظها لكي تذهب إلى فرشتها
ولكنَّها لم ترد عليه بدأ يبكي وهو لا يعي ماحدث
وبدأ صوته يعلو ويصرخ وينادي عليها سمعته جارة لهم والتي رأت أم مسعد على هذه الحالة هرولت إلى طبيب الوحدة وأحضرته للكشف على أم مسعد وبعد الكشف قال لهم بصوت منخفض وكله حزن البقاء لله إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون
سأله الشيخ مسعود بعد أن تمالك نفسه قليلًا أن يكتب شهادة الوفاة الطبيب كتب فيها أن سبب الوفاة هبوط بالدورة الدموية وسكتة قلبية
حينها لم يفهم معناها مسعد كيف يسكت القلب فجأة اِحتضن أمه بشدة وأخذ يحدثها ويحدث قلبها لعل قلبها يتحدث بعد سكوته هكذا تخيل وظل يحضنها ويناديها
حتى بعد تغسيلها وتكفينها حضن مسعد الكفن ولازال عنده أمل أن قلبها الساكت هذا سيتحدث وتعود للحياة
وتشبث بالكفن وأخذ يصرخ اِدفنوني معها لن أترك قلبها يسكت
أخذه جده في حضنه وقال له يا بني أنه قدر الله وسنتقابل جميعًا بالجنة وهي الآن بالسماء وما عليك إلا أن تكون ابن صالح يدعو لها وتحقق لها حلمها أن تكون داعية مثل الشيخ الشعراوي أو شخص نافع للإنسانية
كان يعاتب أمه كثيرًا مع سكون الليل لتركها له وحيدًا، وعند نزول المطر يتخيّل أن هذا الماء دموع أمه تبكيه وتريده لكنها لا تعرف الطريق وينادي عليها ويقول أنا هنا يا أمي
تسمعه خالته وتأخذه لبيتها بعيد عن المطر ويتناول الطعام مع صلاح ابن خالته وينام بجواره

كيد واِنتقام
وتزوج سالم بعد وفاة زوجته بثلاثة شهور من فتاة صغيرة اسمها راوية في الخامسة عشر من عمرها
وكان سالم يعيش على ورث والده وهو قيراطين أرض يزرعهم ببعض الخضرة والبرسيم يذهب بهم كل فجر للسوق لبيعهم ويأتي بما يكفي وجبتي الغداء والعشاء أما الفطور فيكفيهم كسرات من الخبز مع كوب من الشاي
ضاقت راوية من هذه العيشة وطلبت من زوجها أن يترك مسعد لجده وجدته ليتكفلوا به ولكنه في بادئ
الأمر رفض هذه الفكرة فدبرت راوية مكيدة لمسعد وبعدها فتنت به وبجماله وقوة صباه
دخلت عليه غرفته وكان يغير ملابسه وأمسكت به وحضنته بعنف وهو لا يدري لماذا تفعل ذلك وفجأة وهو يحاول الإفلات منها نزعت ملابسها والتصق جسدها العاري بجسده وعندما رفض وهم بالهروب من نارها مزقت قميصه وأحدثت له بعض الجروح بأظافرها بظهره وصرخت لتَسْتنجِد
بالجيران وهي على هذا الحال ليتجمع عليها الناس وتحكي لهم أن مسعد كان يحاول أن يلمسها من أماكن حساسة وحضر أبيه من الحقل على صوت تجمهر الناس وضرب إبنه في كل مكان بجسده النحيل قبل حتى أن يسمع دفاعه وطرده من البيت ليذهب إلى منزل جده وأثناء سيره كان بعض الناس تسبه بالخائن وتقذفه
بالحجارة وهو يبكي ويبكي
وجلس تحت شجرة كانت أمه دائما تجلس معه وتشرح له الحياة وأخذ يبكي ويشتكي لها مرارة الحياة
رتب على كتفه الشيخ مسعود جده
وقال له إنه متأكد من براءته وأنها مكيدة منها والدليل على ذلك أن هذه الحادثة حدثت بغرفتك وليست في غرفتها وكذلك علامات وسحجات أصابعها وأظافرها على ظهرك أي أنه كان يحاول الإفلات منها وليس مهاجمتها كما اِدعت
هذه الدلائل قالها الجد لسالم بل لكل من حضر الواقعة وظهرت براءة مسعد أمام الجميع
طردها وطلقها سالم ولكن ظل مسعد عند جده يرعاه ويربيه وتحنو عليه جدته وتنام بجواره وتحكي له بعض قصص القرآن وحكايات الأنبياء والرسل وأهل بيت النبي والصحابة الصالحين
وتذكره بوالدته وكيف كانت إنسانة صالحة صوامة قوامة كريمة رغم ضيق ذات اليد وأمنيتها أن تراه ذو شأن عظيم أو يخدم المجتمع بعلمه وعمله.
قال لها مسعد : أُعاهد الله وأُعاهدك أن أعمل كل ما في وسعي لأن أحقق أمنيتها وأمنيتي أيضًا دعواتك ياجدتي.
ولكن كان بقلبه جرح لايلتأم وهو إحساسه بالظلم من أقاربه وأهل قريته حين قذفوه بالحجارة وسبوه بأبشع
الألفاظ وأحط جريمة قبل أن يسمعوا منه الرواية الحقيقية


بداية الطريق

أتمَّ مسعد حفظ تفسير معاني القرآن وهو في العاشرة من عمره وتربى على تعاليم الإسلام وأخلاق جده وجدته وتفوق بالدراسة بشكل أبهر كلّ المعلمين بالمعهد الأزهري.
طلاب القرية بالمعهد كانوا يسيرون على أقدامهم حوالي خمسة كيلومترات يوميًا للذهاب لمدرستهم معظمهم من عزبة الموظفين
والقليل جدًا من عزبة العمال ولا أحد من عزبة الأمراء

وفي يوم من أيام الشتاء شديد المطر والبرق والرعد تَخلّف أطفال القرية للذهاب إلى المدرسة خوفًا من السيول والبرد ماعدا مسعد وطفلة اسمها فايزة ضريرة منذ ولادتها، تسكن بمنزل متواضع قريب من منزل مُسْعَد وهي أصغر منه ببضع شهور وأيضًا معه في المعهد
الأزهري
وذهبا معًا وفي الطريق سقطت فايزة بحفرة مليئة بماء المطر ولم تستطع النهوض لأن كاحلها الأيمن حدث به اِلتواء شديد سندت على كتف مسعد وهي تتأوه وتصرخ من الألم وفجأة هجم عليهما كلب مَسعور تعلقت فايزة برقبة مسعد رافعة ساقيها ونهش الكلب ساق مُسعد عدة مرات وظل يحملها رغم شدة الألم
قال لها :اطمئني أنا بخير المهم أنتِ
وعاد وذهب إلى الوحدة الصحية وبدأ الطبيب الكشف عليها وجرى مسعد لبيت فايزة لإبلاغ أهلها ونسيّ تمامًا جروحه من عقر الكلب المسعور
وجلس باستراحة الوحدة الصحية وكلما يسمع صرخات فايزة يبكي وينهار وفجأة يسكت صراخها خاف أن تكون ماتت مثل أمه وقلبها سكت
جرى إلى غرفة الكشف وفتحه بقوة ليجدها تبتسم وتتحدث مع الطبيب اِبتسم هو الآخر وأطمئن وذهب،
وفي نفس اليوم أخذ تطعيم ضد عضة الكلب بعد تطهير الجروح
ومع الأيام يتعلق قلب وعقل وكيان مسعد بفايزة
وهو لا يعلم ما هو الحب لصغر سنه ولكنه يحس بشوق ولهفة لها باستمرار وهي أيضًا تحس أنه سندها ومعينها

كانَّ يذهب لها يوميًا لمدة ساعتين أو ثلاثة ليشرح لها الدروس الفائتة أثناء غيابها من المدرسة ويقترب أكثر ويتعلق بها وتلاحظ أُمها ذلك فتخاف عليها من كسرة الخاطر في يوم من الأيام عندما يكبر مسعد ويختار فتاة مبصرة غير ابنتها
فتحاول أن تقطع هذه العلاقة من أولها قبل أن تتطور وتشكر مسعد على خدماته ومساعدته لفايزة طيلة مدة إصابتها وهي ستعود للمدرسة باكر
كان يذهب مبكرًا جدًا ليكون أول طالب من طلاب المعهد ليأخذ بيد فايزة من والدتها والجميع يذهبون معًا إلى المعهد
وتمرُّ الأيام ويتفوق مسعد بدراسته أكثر وأكثر وفايزة أيضًا تلفت نظر العديد من المعلمات بذكائها وصوتها الرائع بقراءة القرآن
وفجأة يتوفى الشيخ مسعود وهو صائم و ساجد في صلاة الفجر
بالمسجد ويقول الطبيب لهم أنها سكتة قلبية
ويا لها من خاتمة أعمال يُبعث عليها يوم القيامة


الأفعى اللولبية

و قبل وفاة جد مُسعد بشهور قليلة كتب له فدان أرض زراعية بمدينة أسيوط وهي تقع بوسط المدينة ومنتفعة بها بالإيجار وتزرعها مدرسة الزراعة التابعة للدولة بمبلغ سنوي ضئيل
وتتوفى الجدة بعده بشهور لينتقل إلى منزل والده والذي لم يسأل عنه ولو لمرة ليجده متزوج من خمس أعوام وله ابن اسمه عمر عمره أربع أعوام وأهمل الزراعة وعمل في قهوة بعزبة الأمراء يشرب روادها
الأرجولة والمخدرات ويسهرون مع الراقصات والساقطات
وجرّب سالم المخدرات وأدمنها
زوجة أبيه (سكينة ) كانت حادة مثل اسمها ولكن في الطباع، وضعت لمسعد بطانية فوق الفرن البلدي أعلى المنزل مع الطيور لينام عليه دون غطاء يحميه من البرد
كانت ترسل له بعض الطعام مع ابنها عمر رغيف من الخبز وقطعة جبن ليأكل منه طيلة اليوم وفي أيام كانت تنسى أو تتناسى
ومن شدة الجوع
لجأ مسعد لتناول الطعام أحيانًا مع الطيور بعشتهم من «العليقة»
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي