٢

صمت الجميع حتى الفتاة لكن بعد فترة ليست بكبيرة وقفت الفتاة وإلتفتت نحو الرجل وراحت تضربه بالكتاب الذي بيدها وهي تصرخ به
"حيوان، تستحق القتل لكن العيب ليس عليك"
ثم صرخت بالسائق أن يتوقف وترجلت وأكملت طريقها سيراً على الأقدام، ولم تبتعد الحافلة كثيراً حتى ترجل هذا الرجل من وراح جميع الركاب يحاولون مراقبة ماسيفعله
"من المؤكد أنه لن يتركها بحالها ربنا يستر عليها" علق أحدهم
"هي من مدت يدها عليه" قال أخر
فردت سيدة مسنة
"وماذا كان عليها أن تفعل هل كانت تبقى صامتة؟" فرد أخر
"على مايبدو أن الأمر كله مسرحية علينا"......
(موقف غريب...أليس كذلك، ضحكت بتهكم لكني لم أعلق ونظرت عبر النافذة وأنا أشعر بدهشة من التعليقات التي سمعتها ، أحدهما دعى لها بالستر، والأخر لامها على دفاعها عن نفسها، والأخرى شجعتها بصمت والأخير يرى الأمر مسرحية، يا إلهي ولا واحد منهم، لا رجل ولاسيدة قاموا بخطوة إيجابية، ولا واحد منهم طالب بالذهاب لتقديم محضر، ولا واحد ترجل منهم ليوصلها، ولا واحد حتى السائق لم يقم بخطوة ولو غير ظاهرة وأجبره على النزول بعيداً عنه.
أتريدون الحقيقة قد لمتهم جميعاً، لكني أيضاً لمت نفسي كيف إنجذبت لشخص مثله متحرش، وحتى إن كان رجل عادي أنا مخطوبة وحقاً أعشق خطيبي وشهر على الأكثر سنتزوج، كيف أفعل هذا..
"حسناً تستحقين ماحدث"
همست لنفسها قبل أن تقول لقائد السيارة أن يتوقف لوصولها لوجهتها....
**************
أخيراً قفزت سارة من الحافلة أمام مقر عملها وراحت ترتب شعرها وملابسها قبل أن تستعد للصعود إليه. المبنى ضخم نصف دائري عريض، يتكون من أكثر من عشر طوابق متراصة، صعدت السلالم مؤدية لبابه الزجاجي، ثم توجهت نحو موظف الإستقبال الذي إبتسم لها وأشار لها لوجهتها حيث ستقابل السيد مصطفى سلام الذي كلمه يوسف والرئيس العام لها بالعمل....
كانت الهيئة أحد أكبر الهيئات الثقافية بمصر، تهتم بالأدب ومكتبة عامة كبيرة تحوي ملايين الكتب والخرائط وما أرادوه من سارة هي أن تقوم بترجمة اللغة الإنجليزية والفرنسية للعربية...
"سيدي الآنسة سارة أمين من طرف دكتور يوسف"
قالت السكرتيرة للسيد مصطفى تستأذنه لدخول سارة وهي تضع أمامه الملف الذي أعطتها سارة، أمسك مصطفى بالملف الذي أمامه وألقى نظرة عليه ثم قال لها
"دعيها تدخل"
دخلت سارة وأغلقت السكرتيرة الباب.
"أهلاً أهلاً أهلاً أنسة سارة، دكتور يوسف أخ عزيز علينا وقد أخبرني أنك خطيبته"
قال مصطفى بإبتسامة وهو يمد يده يصافحها، فإبتسمت وأجابت
"شكراً على ترحيبك سيد مصطفى، ونعم يوسف خطيبي لكن أتمنى ألا تكون المعاملة على هذا الأساس أرجوك عاملني بناء على عملي فقط"
هز مصطفى رأسه بالإيجاب وهو معجب بكلامها وشخصيتها ثم قال
"حسناً أنسة سارة لك هذا"
ثم تناول الملف وراح يتصفحة وهو يهز رأسه بإعجاب ويقرأ السيرة الذاتية لها ...عملت أثناء دراستها الجامعية بعدد من المكتبات الكبرى ببريطانيا، حصلت من كلا منهم على شهادة تقدير، كذلك لديها عدة شهادات لإجادتها العديد من البرامج الهامة في مجال تنظيم المكتبات والكتب والخرائط والمخطوطات، بالإضافة لدراستها وتحدثها بعدة لغات منها ماهو موجود كالإنجليزية والفرنسية واللغات القديمة كاليونانية والهيروغليفية...
"السيرة الذاتية الخاصة بك رائعة أنسة سارة"
قال مصطفى وهو ينظر للأوراق فإتسعت إبتسامة سارة وأجابت
"يسعدني أنها نالت إعجابك"
أومأ برأسه بالإيجاب وأغلق الملف ثم ضغط على أزرار هاتفه الأرضي الموضوع أمامه وقال
"أنسة فاطمة تعالي دقيقة"
قرعت السكرتيرة على الباب ودخلت لهم فقال لها
"نادي أستاذ محمد رئيس قسم المخطوطات من فضلك"
أومأت فاطمة له برأسها بالإيجاب وخرجت من المكتب...
دقائق وقرع أستاذ محمد الباب، رجلاً في أواخر الأربعينات يرتدي بذة بيج متوسطة القيمة وقد زحف الشيب على جانبي شعره
"نعم سيدي تحت أمرك"
قال محمد بعد أن أغلق زرار جاكته فأجاب مصطفى وهو يشير لسارة
"أنسة سارة الذي أخبرتك عنها أمس"
نظر نحوها وإبتسم وقال وهو يمد يده يصافحها
"أهلاً، أهلاً تشرفنا أنسة سارة"
وقفت سارة وإبتسمت له ومدت يدها تصافحه، وهنا جاء صوت مصطفى يكمل حديثه لمحمد وهو يعطيه ملفها
"أنسة سارة لديها مؤهلات قيمة للغاية أربع لغات وكورسات وخبرة كل شىء أتمنى أن تستفيد جيداً منها"
رد محمد بإماءة برأسه وأجاب بسرعة
"بالطبع بالطبع" ثم قال لسارة "تفضلي معي أنسة سارة"
شكرت سارة مصطفى وخرجت معه من المكتب..
************
"أنسة سارة ، قد أتيتي لتوك من بريطانيا؟"
سأل محمد وهما يسيران معاً في الرواق المؤدي إلى قسم المخطوطات فردت سارة بإبتسامة واثقة
"نعم منذ يومين فقط"
فقال لها بدهشة
"منذ يومين ، يبدو أنك عملية جداً أنسة سارة"
"هكذا تعودت منذ صغري"
إبتسم لها وفتح أحد الأبواب الموجودة بنهاية الرواق...
دخلت سارة إلى مكتب كبير يحتوي على العديد من الأرفف الدائرية، كذلك أربع مكاتب كل اثنان متقابلان يجلس على إثنان منهم إثنان من الموظفين، سيدة تبدو في الثلاثينيات من عمرها وشاب في مثل عمر سارة والمكتب الثالث بجواره خزنة كبيرة ومن الوهلة الأولى تعرف أنه لرئيس القسم ....
"أنسة سارة، أحب أن أعرفك، أستاذة سحر نائبة رئيس القسم، وأستاذ أمير زميلك بالعمل نفسه"
ثم نظر لهم وهو يشير لها
"أنسة سارة الموظفة الجديدة"
"تشرفت بمعرفتكم"
أجابا كلاهما "الشرف لنا"...
جلست سارة بسعادة على مكتبها الرابع، وأتى لها أمير بكوب القهوة الساخنة الأول لها، أخذته منه وشكرته ولم يمر أكثر من ساعة حتى خرج محمد من الغرفة....
فتحت سحر بعض الدفاتر وراحت تنظر هنا وهناك وتكتب فيها، أما أمير فقد كانت هناك أكوام من الأوراق على مكتبه يقوم بترقيمها وطيها ووضعها بالترتيب خلفه تمهيداً لترجمتها...
نظرت سارة نحو أمير والأكوام المتراصة إلى جواره ويبدو أنه لم يبدأ بترجمتها بعد، فقط يقوم بجدولتها ولاحقاً سيبدأ بالترجمة وبما أنهما زميلي عمل فقد قررت أن تعرض عليه مساعدتها
"دعني أساعدك"
قالت وهي تمسك ببعض المخطوطات من على مكتبه فأسرع وقال وهو يأخذها منها
"لا لا أنسة سارة شكراً جزيلاً، هذه مسئولية وعهدة أنتي تعلمين"
"أعلم لكن أنت كنت وحدك لذا كانت كل المسئولية عليك أما الآن فأنا هنا ونتشارك في نفس العمل فدعني أساعدك"
"عفواً أنسة ربما في باقي العمل الآتي لكن هذه المخطوطات مسئوليتي أنا أرجوكي لا تسيئي فهمي" أجاب وهو يشعر بالإحراج .
بدأت تترك المخطوطات من يدها وهي بالفعل تشعر بالإنزعاج والضيق فأسرع وقال لها
"العمل كثير وسيأتي غيرها عن قريب أنا أعرف"
تركتها كلها ونظرت له ونفخت بعض الهواء وقالت
"حسناً كما تشاء".....
"الغربال الجديد ليه شدة"
إلتفتت سارة نحو سحر عندما قالت هذه الجملة وهي لا تفهم قصدها، فأجابتها "يعني الإنسان عندما يعمل حديثاً يكون ملىء بالحماس، إجلسي ياإبنتي العمل قادم قادم"
ضحكت سارة فهي لا تعرفها لكنها وأومأت برأسها بالإيجاب وعادت لمكانها. لكن بعد قليل دخل عم حسين الساعي محمل بعدد من المخطوطات ووضعها أمام أمير قائلا له "
:أستاذ محمد يرسل لك هذا وعليك التوقيع هنا"
وأشار له بورقه معه فأخذ أمير المخطوطات وقبل أن يوقع تدخلت سارة...
إنتظر يا أمير" وجاءت إليهم "عم حسين، قد إلتقينا صباحاً أتذكر " فأجاب
"بالطبع أنسة سارة"
"أعتقد أن أستاذ محمد كان يقصدني أنا وليس أمير، فأمير لديه الكثير من العمل من الأساس، وأنا آتيت لتوي لذا أعتقد أنه نسى أمري"
هز عم حسين رأسه بالنفي وقال
"لا أنسة لم ينس حتى أنه طلب مني سؤالك إن كنتي تريدين أن أجلب لك شىء من الخارج"
قطبت سارة حاجباها ثم قالت له
"حقاً!، إذن خذني له من فضلك"
عقد حسين حاجباه لكنه قال
"حسناً"
وعاد ليطلب من أمير التوقيع إلا أنها أوقفته وأمسكت بالمخطوطات وسارت أمامه فلحق بها...
"أستاذ محمد"
قالت سارة وهي تتجه نحو محمد والمخطوطات بيدها فإلتفت لها وقال وهو يبتسم
"أنسة سارة"
"نعم أستاذ محمد"
و نظر نحو المخطوطات التي بيدها ثم رفع نظره نحو عم حسين وعاد ونظر لها فقالت "
أستاذ محمد أظن أنك قد نسيت أني قد بدأت العمل اليوم لذا أوكلت العمل لأستاذ أمير؟"
أخذ نفس عميق وزفره ليضع الكلام القاسي الذي سيقوله في قالب من الذوق
"آه أظن أنه لا أنسة سارة" ثم إبتسم وهو يقول "هذا هو أول يوم عمل لك فلما أثقل عليك؟"
إبتسمت سارة إبتسامة فقط لتخفي غضبها وردت
"بالعكس أستاذ محمد لأن اليوم أول يوم فهو سبب أدعى لأريك قدراتي، المهم إن كان هذا هو سبب عدم إعطائي مهام هذه المخطوطات إذن سأخذها"
وهمّت لتذهب لكنه قال وهو يمد يده ويأخذ المخطوطات منها بالفعل فإتسعت عينيها وسألت بدهشة
"أستاذ محمد" لكنه قاطعها
"أنسة سارة في الحقيقة هذه المخطوطات هامة جداً، ولايمكنني أن أعطيها لإمرأة مهما كانت
فقطبت سارة حاجباها وقالت بصدمة
"إمرأة!"
"نعم أنت فتاة سواء كنت خريجة كامبريدج أو معهد سنجر في كل الأحوال أنت مخطوبة وقريباً ستتزوجين وستحتاجين كثير من الوقت المستقطع لأجل الجهاز وثم الجواز وشهر العسل والحمل والولادة والتربية، أي تأخير وأجازات غير محددة التوقيت وأنا أحتاج لمن معه هذه المخطوطات ال24 ساعة أتفهمين" فأجابته
"هذه ظروف سيد محمد ورجل أو إمرأة قد يتعرض للأمر" فرد عليها
"أعلم لكني أثق بالرجل أكثر"
إتسعت عيناها بذهول وصاحت
"هذه عنصرية سيد محمد"
قطب حاجباه وظهر غضبه بدلاً من التظاهر بالسعادة لوجودها "
عنصرية أم لا هذا هو قراري" قالها وهو يشيح بيديه ثم أكمل "إن لم يعجبك فغادري، بالمناسبة أستاذ مصطفى يعلم بقراري ويعرف طريقة عملي منذ خمسة عشر عاماً حتى أستاذة سحر لا نوكل لها سوى بعض الأعمال المكتبية المملة وتمضي عليها عوضاً عني"...
إتسعت عيني سارة في ذهول أكثر مما يحدث وأرادت بكل قوتها أن تصيح به وتخرج كل مبادىء حقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل، لكنها فكرت في الإحراج الذي سيتعرض له يوسف خاصة وأنه ومصطفى صديقان فأعطته باقي المخطوطات بجدية وعادت للمكتب وأخذت حقيبتها وإنصرفت...
(عدت إلى المنزل بنفس الطريقة التي ذهبت بها إلى العمل، استقليت حافلة تعود بنفس الطريق لكن حمداً لله لم أرى هذا الشاب وعندما عدت تصرفت بطريقة عادية ولم أخبر أحداً، لا والدي ولا أخوتي ولا حتى خطيبي بما مررت به اليوم، وقررت أن أقبل التحدي معه وأن أثبت له أن المرأة تستطيع أن تكون أفضل من الرجل أه وبالطبع لم أخبرهم عن ذاك الشاب
في الصباح إستيقظت وكلي نشاط وحيوية، وحماس لمواجهة يوم جديد من العمل لكن هذه المرة وأنا أعرف جيداَ ماذا سأفعل وكيف سأثبت لرئيسي خطئه فيما قاله عن المرأة
"صباح الخير"
قالت لوالديها وأخوتها وهم يجلسون حول طاولة الطعام في إنتظارها، ردوا عليها التحية أما هي فراحت تطبع قبلة على خد كل واحد منهم مما أثار أخوها التوأم هادي وقال
"ماهذا لم نعتاد على مثل هذه القبلات هنا"
ضحكت سارة وردت عليه وهي تأخذ مكانها على الطاولة
"إشتقت لكم ماذا عليا أن أفعل"
فضحك الجميع عليها وأطال والدها النظر إليها وهي تتحدث مع أخوتها وكم إشتاق لها حتى أيقظته هي وهي تناديه....
"أبي، أبي"
نادت وهي في وسط ضحكات الجميع معها فإنتبه أمين وقال
"إلى أين ذهبت وأمي إلى جوارك"
ضحك أمين وكذلك والدتها على كلامها
"ماذا تريدين ياشقية" فردت عليه وهي تنكر وصفه إياها
"لا شىء أنا أحذر الفتاة المسكينة بجوارك من هذا الشرود لزوجها"
قهقه الجميع على مذحها وتلميحاتها ثم قال أمين بعد أن هدأت عاصفة ضحكه
"أفكر فيكي ياشقية"
ثم نهض وامسك بحقيبته الجلدية الصغيرة وقال
"كنت افكر في كم اصبحت شابة ناضجة يعتمد عليها وبمائة رجل "
"كل هذا لاني ذهبت إلى العمل بمفردي بالأمس؟ "
فأجاب بالطبع فهذه كانت المرة الأولى لك وانت لازلت غريبة هنا" ثم وقف وإلتفت لها وأكمل وهو يبتسم وقال "لكنك أثبت أنه لا يوجد داع للخوف عليكي"
إبتسمت سارة وربت والدها على كتفها ثم حيا الجميع وانصرف....
**********
"الو حبيبي"
قالت سارة وهي تجيب على هاتفها فأتاها صوت يوسف
"صباح الخير حبيبتي، هل نمت جيد؟ "
أجابت وهي تمسك الهاتف بيد وبالأخرى بفرشاة الشعر
"نعم حبيبي جيد جداً"
ثم تركت الفرشاة ونهضت من على كرسيها وجلست على سريرها لتعطي كل انتباهها للمكالمة وسألته
"يوسف ألازلت قلق علي؟"
"تريدين الحقيقة، ....بالطبع قلق عليك وللغاية" فضحكت وقالت
"منذ لحظات كان ابي مبهور بي ويقول اني بمائة رجل وانت لازلت قلق؟"!
"حبيبتي أنا أعرف كل هذا لكن قلقي عليك يختلف عن عمي فأنتي حبيبتي وأخاف عليك حتى من نظرات الناس " فضحكت سارة وقالت له
"الناس" فرد يوسف
"حسناً حسناً الرجال، نعم أغار عليكي ماذا فيها!" إبتسمت سارة وقالت
"حبيبي لا داعي للغيرة فليفعلوا مايريدون قد أصبحت لك للأبد "
إبتسم يوسف وقال بصدق "
أحبك"
شعرت بالخجل وتمتمت بصوت منخفض
" وأنا أيضاً" ثم أسرعت وقاطعته قبل أن يقول شىء أخر يعطلها أكثر "هيا هيا عليا الذهاب سأتأخر على العمل " وأنهت المكالمة....
(خرجت والسعادة تغمرني تشجيع أبي وحب أخوتي وخطيبي أعطوني قوة إيجابية لا توصف جعلتني على إستعداد أن أتحدى العالم وليس مديري فقط ،....يإلهي شعور إفتقدته كثيراً بعد وفاة عمي وزوجته ....
سرت بنفس طريق الأمس لأستقل الحافلة، وإرتديت بدلة باللون النبيتي الغامق وتحتها قميص بمبي فاتح وحذاء من نفس لون البدلة ذو كعب عريض وعالي، وهذه المرة إستطعت الجلوس بالأريكة الوسطى بالحافلة ، بالطبع كان الأمر أكثر راحة لي..الأمر حقاً بدأ يتحسن...بل وأصبح جيد جداً....جيد جداً ليبقى....
"الأجرة لو سمحت"
قال الرجل الجالس إلى جواري فإبتسمت وأخرجت النقود، لكن ما أن إلتفت لأعطيه حتى زالت إبتسامتي، وتسمرت عيناي على عيونه التي تنظر لي، بتحد وإبتسامة ساحرة جعلت قلبي يقفز من مكانه دون أن أعرف السبب هل ما أشعر به فرحة أم أنه......رعب
ترك الشاب الفتاة التي ترجل من الحافلة لمضايقتها، أو في الحقيقة هرب من نظرات سارة له بالحافلة، تلك النظرات التي أربكته وجعلته يصرف نظر على ما اعتاد فعله لسنوات، ليفكر فيها هي
قد أراد أن يضايق هذه الفتاة ، وتوقع أن أحد لن ينتبه له كما إعتاد، حتى الفتاة نفسها ستشعر بالخجل أو الضيق على أقصى حد، لكنها ستستحي أن تتحدث ، لكن مافعلته سارة كان مفاجأة له بكل الصور، ووجه عيون الجميع له بل وأعطى الشجاعة للفتاة أيضاً
ظلت صورة عيون سارة وهي تشير له عالقة برأسه تشعل نيران بصدره ، نيران غضب وثورة، نيران إستحقار عميق لها بداخله، أيقظت وحش كان قد هدأ وإكتفى بمضايقة الفتيات والنساء، لكن هذه الفتاة بالذات بعيونها تلك ونظراتها التي يعرفها جيداً جعلته يصرف نظر عن الفتاة والإندفاع بكل طاقته نحو الإنتقام منها هي....
"ألو، صباح الخير يانادر"
أجاب الشاب على هاتفه وهو يسير متجهاً نحو ورشته بحي السبتية فسأله بإنزعاج
"هشام أين أنت، لما تأخرت؟"
"ها أنا، في طريقي للورشة" فقال نادر
"أي ورشة ، أنا أقف أمامها الآن"
"بالطبع مغلقة لما أنت مبكر هكذا، عامةً أنا في طريقي إليك، أعطني خمس دقائق فقط"...
هشام شاب بالسابعة والعشرون من عمره وسيم مفتول العضلات، يعمل ميكانيكي سيارات وله ورشة يملكها بحي السبتية ، نابغة في مجاله ولا تستعصي عليه أي مشكلة مهما كانت.
"صباح الخير"
حيى هشام صديقه والضيق بادياً على وجهه، ثم إنحنى ليضع مفتاح الورشة بقفل الباب، وما ان فتحه حتى وقف ورفعه بسهولة على الرغم من وزنه الثقيل، فقد كان هشام طويل وعريض قوي مفتول العضلات بشكل ملحوظ وهو يعرف هذا جيداً ويتباهى به ، لذا تجده دائماً يرتدي إما تي شيرت ضيق على ذراعيه أو قميص مفتوحة معظم أزراره
"ما الأمر ياهشام مابك؟"

"*******
بشرفة بالدور الثاني وقفت إمتثال زوجة مرسي الجزار بالمنزل الذي يقطنه هشام، تستند بدلال على سورها تطحنا العلكة التي بفمها، تضع كافة مساحيق التجميل على وجهها وشعرها الأسود ينسدل على ظهر جلببها الحريري المكسم على جسدها، ورائحة أطيب العطور تفوح منها ، و
راحت تتأمل السائرين بالشارع، حقاً جميلة وجمالها يلفت نظر الجميع خاصة مع لفتات الدلال التي تقوم بها ، وظلت هكذا حتى رأت سيارة هشام فإنتفضت واقفة بإستقامة وقد احتلت السعادة عيونها والإبتسامة وجهها، وبإرتباك أسرعت وتركت الشرفة لتنظر بالمرآة تتأكد من هندامها وأنها بأجمل صورة، ثم هرعت بعدها لتفتح باب الشقة....
"هشام"
نادت بصوت يملأه الحب وهي تقف على باب شقتهاـ أوقفه صوتها عن وضع المفتاح بباب شقته المقابلة لها بنفس الدور، وأغمض عيناه لها لبرهة ثم أخذ نفس عميق زفره بضيق وأجاب بنبرة صارمة دون أن يلتفت
"نعم"
"ألن تلتفت حتى لتراني" أخذ نفس عميق مرة أخرى بغيظ  وقال
"في الحقيقة لا أريد ولا حاجة لي، شىء أخر؟ " !
تقدمت هي نحوه ولمست بأصبعها كتفه وهي تقول
"هشام مابك، لما تعاملني هكذا على هذا النحو القاس "
إنتفض ما أن لامسته يدها، لكنها لم تهتم وأكملت وهي تمسح براحتيها على ظهره وتهم لتطوقه بذراعيها لتضمه إليها
"أنسيت أنك من كنت تسعى خلفي، في السوق ، في الحافلة و" 
فقاطعها وهو يمسك بيدها ويبعدها عنه
"كنت وإعتذرت عن الأمر، أنتي إمرأة متزوجة ولا يحق لي فعل هذا، عن إذنك "
ثم فتح بابه بسرعة ودخل وأغلقه خلفه....
ظل هشام متجمداً بمكانه وهو يستند على الباب، إحتاج الأمر لدقيقة حتى إستطاع أن يلتقظ أنفاسه وتمتم
"الخيانة في دمائهم، يستحقون القتل لاأن أضايقهم فقط"
نفخ بعض الهواء وألقى بمفاتيحه على طاولة الطعام،  ودخل ليأخذ حمامه
خرج هشام من الحمام يمسح رأسه وشعره بالمنشفة على صوت إمتثال الآتي عبر مسقط المنزل وهي تغني بدلال، فضحك بتهكم وراح يهز رأسه يمين ويسار وهو متعجب، ثم فتح ثلاجته وأخرج منها زجاجة جعة ورشف منها ولايزال صوت امتثال مسموعاً له فتمتم  "اجساد جميلة لثعابين سامة، كم أمقتكم " بعدها مد يده وأخذ أربعة زجاجات أخرى ووضعها على الطاولة الصغيرة أمامه،  ,فتح التلفاز وإستلقى أمامه....
ويلا سوء الحظ راح يشاهد فيلم عن زوجة خائنة ، غاب زوجها عنها فاسرعت لأحضان عشيقها ، وحول القناة ليجد برنامج أخر عن رجل قتل زوجته وإبنتيه لإكتشافه خيانة زوجته وأن الأطفال ليسوا له، وبالأخير زوجة تصرخ أن يغيثوها فزوجها فقد عقله ويتهمها أنها تحب جارهم  الساكن بالشقة المجاورة فقط لأنها ألقت عليه التحية وهي في أبهى حلتها، وهنا قهقه هشام بصوت عالي ثم تحولت ضحكاته لنظرة غاضبة يملأوها الآلم ورغم أنه ينظر للتلفاز، لكن عيونه تحدق بعيداً جداً نحو شىء أخر 
"تستحقون ماهو أشد ، ولا يكفي مضايقتكم فقط" 
قال وألقى قنينة الجعة بقوة حتى تهشمت تماماً، وهنا تذكر الموقف الذي حدث له في الصباح، وهذه الفتاة التي قامت بتوبيخه علانية أمام الجميع ، كم كان الأمر محرجاً له، أراد أن يقوم بصفعها، أراد أن يصيح بها أن الفتاة تستحق هذا فقد رأها عدة مرات وفي كل مرة مع شخص مختلف، خائنة صغيرة تستعد لتصبح ثعبان كبير كإمتثال وغيرها، تتلوى على الجميع وقبل أن يكمل تذكر تلك العيون التي فوجىء بها أمامه، ظهرت أمامه دون سابق إنذار عادت من الماضي لتشعل النيران بصدره، عادت لتتحداه وتتوعده وتقوم بتقوية الجميع للإشارة بأصابع الإتهام نحوه .....يا إلهي مرة أخرى... هذه العيون تقتله للمرة الثانية، وهو لايقوى على الرد عليها، ثم صمت فجأة قاطباً جبينه بقوة، وبوجه متجهم ونظرات تطلق الشرر راح يتذكر هذه العيون وذكرياته معها، وإذ بغضبه يزداد وشعور الإنتقام يتملكه أكثر فأكثر، وعيون الماضي تظهر أمامه مع عيونها في الحاضر إلى أن إتحدتا كلاهما في عينيه وعقله، وراح يرشف من زجاجات الجعة واحدة تلو الأخرى وهو ينظر إلى لاشىء وحركته تزداد عنف إلى أن أنهاها كلها ثم أمسك بقنينة خمر، وراح يكمل وكأنه يشاهد فيلم سينمائي حزين وقاس..... بطله هو...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي