الفصل الثالث

يوم طويل ملئ بالمحاضرات، رمت نفسها على سريرها وهي تتنهد بتعب، لكنها اعتدلت فور أن تذكرت أنها لم تهاتفه بعد، التقطت حقيبتها تخرج هاتفها ثم أخرجت اسمه سريعًا وهي تضغط على زر الإتصال.. تهادى صوته إليها كنسمة هواء عليلة في يوم صيفي حار ليتخلل بين ثنايا قلبها جاعلًا إياها تسبح في سماء عشقه، تعشق تفاصيله، تتذكر اليوم الأول لهم لتعارفهم وسوء التفاهم الذي حدث بينهم ليصبح أفضل الأيام بالنسبة لها منذ يومها.
وصلتي؟
آه يا حبيبي
وحشتيني
ابتسمت بخجل: وأنتَ كمان
"طب هروح أكمل شغل بقى وجهزي نفسك لبكرة"
صمتت قليلًا تفكر، هل يوجد شيء مميز غدًا يستحق عليه أن يكون هناك مفاجأة غير عطلة نهاية الأسبوع
ليه يعني في ايه بكرة؟
صاح بإستهجان: لا مش معقول الزهايمر ده!
ضحكت قائلة: قول بس..
أجابها: فكري شوية وبالليل هقولك.. سلام
كانت على وشك إغلاق الكالمة إلا أن صوته أوقفها عندما ناداها بإسمها: مريم
عيونها
انفرجت أساريره من تلك الكلمة البسيطة التي تدغدغ كيانه، تابع بهيام: بحبك
اجابته: وأنا بموت فيك يا خالد
*************************************************************************************************************************
قالت له بقلق ملحوظ: تفتكر هنجح؟
اعتدل متبهًا إليها أكثر ثم قال: في ايه بالظبط؟
ذاد ارتباكها قائلة: إني هقدر أثبت لبابي إني قد المسئولية اللي عايز يحملهالي ليا
نظر لها في إندهاش قائلًا: ليه بتسألي السؤال ده؟
عشان خايفة مكنش قدها
نظر لها مبتسمًا واضعًا يده قوق ذراعها بحركة لا إرادية منه: طبعًا تقدري، ولازم تثقي في نفسك الأول لأن لو ثقتك في نفسك زادت هتجبري اللي قدامك يثق فيكِ وبكده هتكوني قدها
دق قلبها للمسته، شعور بالسكون والطمئنينة اجتاحها من مجرد لمسته لها، ألتقت عيناهما تخبر الآخر عما يدور به الآن ثم انتقلت عيناها لموضع يده، ابتعد سريعًا عنها وهو يعتذر معللًا أنه دائمًا يفعل ذلك مع شقيقته حين تكون متوترة فقاطعته قائلة: مفيش داعي للإعتذار ده كله، ومش يلا بينا بقى عشان البريك خلص
رد عليها مبتسمًا: يلا بينا
أشارت للنادل ليحضر الشيك، وإذا بها تخرج نقودها ليهتف بتعجب: بتعملي ايه؟
ردت عليه بتلقائية: بحاسب
ضيق عينيه يهتف مستنكرًا: لما يكون معاكي راجل مينفعش تعملي الحركة دي
بس...
مفيش بس
ثم ألتقط الشيك من أمامها واضعًا النقود، وهو ينض من مكانه قائلًا بهدوء: يلا بينا
*************************************************************************************************************************
دخل إلى شقته ملقيًا مفاتيحها على السفرة التي تشغل منتصف الصالة، أخرج سلاحه من مكانه المخصص له ثم خلع سترته راميًا إياها بإهمال على الأريكة، ثم ألقى بجسده عليها بعد يوم عمل منهك، دائمًا ما كان يختار القضايا الصعبة مغامرًا بحياته هربًا من أفكاره التي ستؤدي بحياته يومًا ما، ينهك نفسه بالعمل يوميًا أملًا عند عودته منه أن ينعم بنوم هانئ في إحدى المرات بعد ليلة طويلى من العمل لكن جميع محاولته باءت بالفشل لذلك استعان بالخطة البديلة عندما ذهب إلى أقرب صيدلية بعدما وصف له صديقه المقرب "عمر" الطبيب النفسي له ذلك الدواء ناصحًا إياه أن يحاول الإقلاع عن تلك العادة، حاول مرارًا وتكرارًا لكن لم يستطع، مده يده يلتقط تلك العلبة من جيب سترته الأيسر بين يديه يفكر متى عليه الإبتعاد عنها، أصبحت مثل زوجة ملتصقة بزوجها.
شبح الذكريات يطارده بإستمرار ليصبح كابوسه، ماضٍ ظن أنه سيدفن أو يحترق عن طريق الإبتعاد عنه لكنه أخطأ
طفل وحيد منزوري عن الجميع ظن أن البعد هو الحل لكابوسه الذي لا ينتهي لكنه أخطئ، لن يتخطى تلك الحادثة يومًا ما.
ظلام يعبث الرعب والرهبة في القلوب، رآه أمامه يصرخ بغضب هادر ثم خطى بخطوات أشبه إلى الهرولة ماسحًا دموعه بكف يده بعنف شديد، عندما وقف أمامه مانعًا إياه من الخروج ثم قال بصوت طفولي عابس ودموع عينيه تتساقط على وجنتيه: بابا متسبنيش وتمشي تاني بقى
ركع على ساقه أمامه مادًا يداه إلى وجهه الطفولي يمسح دموعه ثم أخذه بين أحضانه بعدها ابتعد عنه بلطف ينظر إليه بشبح إبتسامة ماسحًا على شعره بحنان بالغ: لازم يا حبيبي أمشي، بس أوعدك هرجع تاني عشان أخدك أنت وأخواتك
أجابه بتلقائية: هتيجي تاخدني بكرة
أومأ برأسه بيأس يخفي ما بداخله: هاجي على طول
ثم قبل جبهته وقام من مكانه سريعًا قبل أن يضعف أمامه لكنه استدار إليه مناديًا بإسمه: زين!
انتبه إليه الأخير ليسترسل والده في الحديث: خلي بالك من اخواتك ومن نفسك لحد ما أرجع وأخدكم معايا
ثم استدار على عقبيه خارجًا من ذلك القصر لاعنًا حظه الذي أوقعه في عشقها من الوهلة الأولى
منع نفسه كثيرًا حاول دائمًا أن يكبح زمام أمره يذكر نفسه أنها لا تتناسب مع عالمه، لمن ذلك القلب اللعين أبى الخضوع جاعلًا إياه ينجرف وراءه كالمجنون، وها هي نتيجة إنجرافه يحصدها؛ عندما اشترط عليه "عبد العزيز الراوي" التنازل عن أولاده مقابل منع محاميه بعدم تقديم الشيك الذي وقع عليه بصافي نية وقت زفافه من ابنته لإثبات حقيقة مشاعره، وقع وقتهابطيب خاطر مطمئنًا نفسه أنها ستكون معه إلى الأبد، واعدة إياه أن حياتهم لن يشوبها شائبة، لكن اتضح أن تلك الوعود واهية كحبها المزعوم له، أخبرته أنها ستظل معه للأبد لكن كان ذلك الأبد الذي تحدثت عنه كانوا مجرد ثمانِ سنوات فقط بعدها ذاب كقطعة من الجليد في صباح يوم مشمس يتبخر بالهواء كأنه لم يكن من الأساس.
كانت تلك الأفكار تتأجج بداخله كالبركان الثائر الذي على وشك الإنفجار، وبسبب تلك الأفكار لم يعي لتلك السيارة الآتية من بعيد التي سرعان ما اصطدمت به ثم فرت هاربة تاركة إياه غارقًا بدمائه، لكنه قوقبل أن يغلق عيناه شاهد ابنه ذا السبع سنوات يُحدق في جسده الملقى بجانب الطريق وبجانبه حارسه الشخصي بعدما لمحه وهو يعدو ليعدو خلفه في محاولة منه
لإيقافه، نطق بصوت واهن: زين!
انتفض فجأة من مضجعه وجسده يكسوه العرق كملاكم في جولته الأخيرة، وخيال جسد والده الملقى بإهمال على حافة الطريق يغرقه الدماء يُداعب خياله، حاول أن يلتقط أنفاسه ثم تحرك قسرًا إلى المطبخ يخرج من البراد زجاجة ماء ليتجرع منها بتوتر، ثم رفعها إلى رأسه يغرق نفسه بباقي ما تبقى منها عليه، أثر ذلك الكابوس الذي لا نهاية له أشاح بنظره إلى الفراغ متسائلًا بصوت أنهكه التعب: وأخرتها يا زين.. وأخرتها؟
**************************************************************************************************************************************
"بونجور مامي"
هتفت بها "أمل" وهي تقترب من والدتها طابعة قبلة على وجنتها بحب: أمال فين بابي؟
تهجم وجهها بعدما ذكرته أمامها لكنها سرعان ما بدلت ذلك الوجوم بإبتسامة عذبة ترسمها على ثغرها: بابي راح الشركة
قالت بلهفة: ليه يا مامي هو حضرتك لسة تعبانة؟
أجابتها بإبتسامة هادئة: لا يا حبيبتي أن بس عايزة أرتاح اليومين دول عشان عندي صفقة مهمة داخلة عليها ولازم أكون متفرغة لها تمامًا
نطقت جملتها الأخيرة بنبرة حادة وملامح الإنتقام تعتلي قسمات وجهها.
نظرت لها مريم بتعجب شديد: صفقة ايه دي؟
مش مهم الصفقة ايه المهم أكسبها
ابتسم أمل تردد بثقة: طبعًا هتكسبيها ومن امتى هدى الراوي بتخسر؟
تبدلت ملامح وجهها قائلة بإبتسامة هادئة: عندك حق يلا اقعدي بقى وافطري بسرعة عشان تلحقي محاضراتك، ثم أكملت بتساؤل: يوسف فين؟
أجابتها أمل بتهكم: نايم زي عادته طبعًا
هتفت بحدة على وضع ابنها: الولد ده مش هيبطل استهتار شوية ويفوق لنفسه بقى ولا ايه؟
جلست على المقعد المجاور لوالدتها قائلة بعدم إهتمام: معتقدش
ثم شرعت في تناول الطعام بصمت وهدوء.

يتبع
#رحاب-قابيل
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي