الفصل الثاني

كان " عبد العزيز الراوي" أحد أكبر رجال الأعمال بالشرق الأوسط أجمع، استطاع في فترة وجيزة أن يحتل السوق ويتربع على عرشه بعد وفاة والده المفاجئ واستلامه للشركات من بعده، ليصبح ألمع وأبرز الأسماء بينهم؛ لكن وبالرغم من تلك الإمبراطورية الضخمة وقوة شخصيته التي لا يختلف اثنان عليها، إلا أنه لم يستطه قول كلمة (لا) لإبنته الوحيدة التي آتته كشعاع نور تسلل بهدوء إلى داخله ليٌنير ليله الحالك لتصبح كل شيء بعد تلقيه خبر وفاة زوجته العزيزة.
أصبحت "هدى" كل شيء بالمسبة له لم يستطع الزواج مرة أخرى والمخاطرة بدخول زوجة أب حياتها لتخربها، لذلك فضل أن يصبح وحيدًا على أن يخاطر بإبنته الوحيدة لتصبح هي أولًا وعمله ثانيًا.
"بونجور بابي"
التفت لها فور أن سمع صوتها يرسم ابتسامة على ثغره:
بونجور يا روح بابي.. ها، جاهزة؟
أجابته بحماس: وده سؤال بردوا يا بابي جاهزة طبعًا!
أومأ برأسه، لكنها عقدت حاجبيها وفي ثوانٍ كانت تمسك بذراعه قائلة بحماس: يلا يا بابي هنتأخر كده
نظر لها متسائلًا: طب مش هتفطري؟
- وهو ده وقته... يلا يا بابي بقى!
قال مجبرًا على أمره: يلا بينا!
*******************************************************************************************************************************
في حي من أحياء القاهرة كان يقبع منزله المكون طابقين، ذا باب خشبي قديم بزجاج عفا عليه الزمن.
كانت شقته تقبع بالدور الأول التي يسكنها مع والدته وشقيقته الصغرى "مريم" ليصبح هو رب العائلة والمعيل الوحيد لأسرته الصغيرة بعد وفاة والده.
شقة ذا نمط قديم نوعًا ما، صالة متوسطة، ثلاث غرف يمكنك دخولها من الصالة ملصق بهم ممر جانبي يقود إلى الحمام والمطبخ يتوسط تلك الصالة سفرة صغيرة للجلوس يعلوها مروحة سقف تصدر صوتًا رخيمًا
"يحيى.. يا يحيى، أنت يا بني اصحى بقى هنتأخر"
ايه في ايه!
كانت تلك أول كلماته فور أن استيقظ على صوتها المرتفع، قفز من مكانه بفزع؛ تعلم جيدًا أنه لا يحبذ الصوت المرتفع لذلك كانت تتعمد إيقاظه بتلك الطريقة فقط لتشاهد تعبيرات وجه المضحكة بالنسبة لها.
نظر إليها بعصبية مفرطة مادًا يده يلتقط إحدى الوسائد التي بجانبه يقذفها بها وهو يصيح: في حد يصحي حد بالطريقة دي!
تفادت الوسادة بحركة سريعة، وهي تضحك بملئ فاهها قائلة: أهو أنا بصيحك كل يوم بالطريقة دي وبردوا كل يوم بتصحى بنفس تعبيرات وشك دي، المفروض تكون اتعودت على كده بقى
قال بجدية تخلوا من أي مرح:
طب وليه الأذى ده؟
اجابته وهي تغمزه بمشاكسة: عشان أشوف التعبيرات اللي على وشك دي، ثم أكملت كلامها وهي تضحك: بتموتني ضحك
اجابها بتأفف: غوري يا مريم
انصرفت سريعًا عندما استشفت نبرة الغضب والخطر الذي يحوم حولها مخبرة إياه أن الفطار قد أسبح جاهزًا.
قام من فراشه، توضأ وصلى كعادته، ليجد والدتيه وشققيقته الصغرى التي تحاول أن تكتم صوت ضحكاتها قدر المستطاع في انتظاره أمام مائدة الطعام.
جلس بمكان والده يترأس الطاولة فمنذ وفاته والدته أصرت والدته كثيرًا على جلوسه بمكانه اعترافًا منها اعترافًا منها أصبح مُعيلها الوحيد بعد وفاة شريك دربها
"عارفة يا مريم إن مابطلتيش سخافتك دي هعمل فيكِ ايه؟
قالت بمشاكسة: ايه؟
هيبقى أخر يوم في عمرك
مش هتقدر
أجابها بجدية: والله!
اجابته: اه والله ثم أكملت بتساؤل: عارف ليه؟
أجابها بسخرية: ليه؟
اجابته بخفة ظل: عشان بتحبني، ثم أشارت سريعًا بسبابتها: أوعى تنكر تروح النار
تدخلت الأم في الحوار بعد أن تخلت عن صمتها: طبعًا يا حبيبتي بيحبك بس بطلي السخافة دي شوية بقة واعقلي كده، ثم أكملت بتهكم: والله أنا مش عارفة خالد مستحملك على ايه؟
اجابتها بفخر مصطنع: عشان أنا لا أعوض يا أمي!
أجابتها والدتها بحزم: اهدي بقى شوية
أجابتها مريم على مضض: حاضر
ابتسم ثم أمسك يد والدته وقبلها مغادرًا لعمله ومن خلفه أم تدعي له بصدق أن يوفقه الله ويحفظه لها من كل سوء.
***************************************************************************************************************************
كان المقر الرئيسي لشركة "الراوي" يشغل برجًا من الأسمنت والزجاج، يبلغ ارتفاعه أربع وعشرون طابق، يطل على النيل؛ وقف أمام الشركة ينظر لأعلى يفكر لمَ يريده صاحب تلك الإمبراطورية الضخمة تلك.
صعد إلى الطابق الواحد والعشرين وسار إلى مكتبه على بغتة محاولًا أن يهديء من ضربات قلبه التي تقرع كالطبول في ليلة العرس، سار في خطوات واثقة عكس ما كان يخالجه من شعور ثم وقف أمام مكتب السكرتيرة قائلًا: أنا كنت..
قاطعته نسرين فور رؤيتها له: باشمهندس يحيى، عبد العزيز بيه في انتظارك
أومأ برأسه ثم حث قدميه على السير خلفها، وقفت أمام الباب تطرق بضع طرقات خفيفة ثم ولجت إلى الداخل عندما سمع صوت آمرًا إياها بالدخول: عبد العزيز بيه.. باشمهندس يحيى
رفعت رأسها تنظر بإهتمام إلى ذلك الشخص المجهول الذي كان يمدحه والدها طوال وقت انتظارها مشيرًا إلى أخلاقه العالية وتفاينه في عمله منذ مجيئه إلى الشركة فيما يقارب الخمسة أعوام أو أكثر بقليل، لذلك أراد لها أن تتدرب تحت يده
"وسيم!"
قالتها بينها وبين نفسها وهي تدقق النظر إليه
طويل القامة يعلو وجهه نظارة طبية تخفي تحتها أعين باللون البني، لديه لحية خفيفة مهندمة.. بإختصار لديه كل مقومات الوسامة الكفيلة أن تلفت إنتباه أي فتاة، لكنها ليست بأي فتاة إنها "هدى الراوي" الإبنة الوحيدة "لعبد العزيز الراوي" صاحب أكبر إمبراطورية للعقارات بالشرق الأوسط أجمع.
"أهلًا باشمهندس يحيى"
رفع سبابته يعدل من وضع نظارته الطبية التي تعتلي وجهه بتوتر قائلًا: أهلًا بيك يا فندم حضرتك كنت طلبتني!
قام من مجلسه يلتف حول مكتبه مشيرًا إليه بالجلوس لكن الآخر هز رأسه بالنفي، يرفض بأدب لذلك استرسل الراوي في حديثه بعملية: أنت يا باشمهندس يحيى في خلال خمس سنين قدرت تثبت للكل وليا أنا شخصيًا أنك إنسن كفء سواء من طريقة شغلك أو أخلاقك اللي لا يختلف عليها اتنين
اجابه بتلقائية: شهادة أعتز بيها يا فندم
أكمل حديثه دون الإلتفات إلى لجلبة يحيى: عشان كده أنا قررت أند تدرب بنتي هدى، وهو يشير بيده إليها مكملًا: عشان تقدر تكتسب من خبراتك وبعدها تقدر تمسك شركاتي وتدير الإمبراطورية دي من بعدي.
**********************************************************************************************************************************
وبكدة أكون شرحت لحضرتك طريقة شغلنا بطريقة مختصرة
أومأت له بجدية، ثم أضافت بطريقة درامية: وأخيرًا
ابتسم قائلًا: دي لسة البداية
اجابته بفزع: بتهزر صح؟
أومأ برأسه بهدوء: لا، ده كان نظري بس لسة العملي بقى
لأ أنا هنسحب، ثم أكملت بتعب.. أنا ايه اللي خلاني أصر على التدريب دلوقتي
ابتسم على طفوليتها ينظر إلى ملامحها الرقيقة، جميلة هي بشعرها البني الناعم وعينيها الخضراوتين، نهر نفسه على تفكيره يذكرها بأنها ابنة رب عمله، وأنه ائتمنه عليها، وغير ذلك هما من عالمين مختلفين كل الإختلاف
استطاعت مع مرور الأيام أن تتعلم منه كل شيء بسبب طريقة شرحه المبسطة مرورًا إلى لطافته التي جذبتها إليه منذ الوهلة الأولى وأخلاقه التي لا يشوبها شيء، مختلف عن كل الذين عرفتهم طوال حياتها وذلك ما جذبها إليه أكثر بكثير، فضولية هي تريد أن تعلم عنه كل شيء وأن تتعرف عليه من قرب، لذلك حسمت أمرها قائلة بثقة: ايه رأيك نتغدى مع بعض النهاردة؟
نظر لها بتعجب: طب ما إحنا بنتغدى كل يوم هنا في المكتب!
أجابته: لا أقصد نتغدى بره
نظر لها وأجاب بتردد: بس يعني....
مفيش بس يلا بينا
لم تعطه أي فرصة للرفض أما عنه فكان سعيد عما بدر منها برغم ما يخبره عقله بأن يرفض ذلك العرض فورًا قبل أن يقع في مشاكل لا يستطيع الخروج منها
رشفت من العصير رشفة ونظرت إلى يحيى في مرح: كان هيفوتك نص عمرك لو مدوقتش الاستيك هنا..
ابتسم ثم بدأ في حساب ما قد تكلفه تلك الوجبة في عقله، استأذن منها على استيحاء متحججًا بدخوله إلى الحمام، أخرج ما في جيب بنطاله فور أن انفرد بنفسه يزفر بإريحية حامدًا الله أن البارحة قد تقاضى مرتبه الشهري ولم يسلمه لوالدته كعادته كل شهر، نظر إلى نفسه في المرآة محدثًا إياها بصوتًا عالٍ: شكل كده الشهر هنقضيها بيض وجبنة وده إذا كفى
ثم غسل يديه متجهًا إليها
أشارت إليه بالجلوس فور أن وقع نظرها عليه، تخبره بحماس: طلبتلك زيي، يارب الأكل يعجبك
قال لها بلهجة لم تميزها: ما لازم يعجبني، ثم أضاف بهمس: ياترى هيرضوا يخلوني أغسل الممواعين..
ثم ابتسم في سعادة: يلا ناكل

يتبع
#رحاب_قابيل
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي