الفصل الخامس

أهي مجنونة.. أم مختلة
ولمَ هو موجود في تلك الغرفة الغريبة
يمدد على فراشٍ مريح دافئ يخالف فراشه القاسي
ولمَ تلك المرأة تنظر له بهذا الشكل الغريب
زلت أفكاره تعصف به وهو يعتدل في جلسته يحاول التغلب على ألم رأسه والدوار الذي صاحبه وسلب أنفاسه

أما طيف كانت في عالم أخر.. كانت تحدق في عيناه الزرقاوتان بشرودٍ غريب يسحبها.. وكأنهما بحيرة صافية!
لا تعلم لمَ تذكرت قول درويش الذي كانت تسمعه في أحد الليالي الصيفية مع جدها حينما نظرت لعيناه
شعرت وكأن تلك القصيدة كتبت خصيصًا له..
لمَ تبدو عيناه جميلة إلى هذا الحد.. ومنطفئة هذا الانطفاء.. لمَ ترى انعكاسها في تلك العينان مكسور!
لمَ عيناه تائهتان!

صدح صوت درويش في عقلها وهي تتأمل وجهه وعيناه اللتان تنظران لها بلا معنى.. وبلا شعور
بلا هوية.. بلا وطن!

"عينان تائهتان في الألوان
خضروان قبل العشب.. زرقاوان قبل الفجر
تقتبسان لون الماء ثم تصوبان إلى البحرية
نظرةً عسلية فيصير لون الماء أخضر

لا تقولان الحقيقة
تكذبان على المصابر والمشاعر
تنظران إلى الرمادي الحزين وتخفيان صفاته"

شهقت منتبهة حينما رأته يقف بلا اتزان يجذب سترته التي كانت تمسكها مذهولة منذ دقائق فقط
يبدو يستعد للاختفاء.. يختفي بهذه السهولة!
تلك الكلمة جعلتها تقفز عن الفراش وتقف خلفه تمسك رسغة مندفعة تقول...
-انتظر.. انت لست على مايرام لازلت تترنح و..

قاطعها انتفاضته وهو يسحب رسغه منها بقوة
وقد اغشيت عيناه الصافية بنظرة غاضبة حادة تخفي الحذر بين طياته.. حدقت به مندهشة
لمَ يبدو حذر منها.. في موقفٍ كهذا المفترض أن تكون هي الخائفة وليس هو!

قبل أن تعاود الحديث أو الاقتراب رأته يتجه خارج الغرفة بغير اتزان.. وعرجة واضحة تبدو على سيره
يبدو أنه مصاب في قدمه ايضًا
وبذات الاندفاع الذي رافقها منذ أن رأته تبعته تقول محتجة وهي تسد عليه طريقه فاردة ذراعاها تقول بتصميم أذهلها قبله....
-اسمعني ياهذا.. ماحدث لك كان بسببي
انتظر اصحبك إلى المشفى ثم أوصلك إلى منزلك لأضمن أنني سددت ديني وكفيت..

بدى لا يستوعب حديثها.. بدى لا يستوعبها من الأساس.. فكان يلتفت حوله يتأمل المكان حوله وسؤاله الصامت وضح لها.. "أين أنا!"

كادت تتأوه وهي تضع يدها على صدرها
لمَ تشعر وكأن قلبها يغوص في صدرها كلما نظرت إليه.. لمَ تشعر وكأن هذا الرجل يخصها.. تشعر وكأنها تعرفه منذ سنوات رغم أن ملامحه غير مألوفة
ملامح تمتزج بين غربيةً وشرقية لتكون بالأخير لوحة جميلة من صنع الخالق
فتحدثت بتردد وهي تقترب منه بحذر...
-أأنت عربي الجنسية.. اقصد اتفهم حديثي!

حينها نظر لها وبدى لا بفهم حديثها ونظرة محتارة غزت عيناه.. فقطبت جبينها للحظات وأعادت سؤاله من جديد مشددة على حروفها...
-أنت من هذا البلد أم خارجها.. وجهك غير عربي
ملامحك غربية و..

توسعت عيناها بلا استيعاب حينما رأته يرفع يده إلى اذنه ويشير بعلامة نافية.. وتبعها باشارة إلى فمه وأشار ايضًا بعلامة نافية!
حركت رأسها تقول هامسة....
-أنا لا افهمك.. أنت تقصد انك لا تسمعني ولا تتحدث معي.. أقصد أنت لا تسمع ولا تتحدث!

تنهد بقلة صبر وهو يغمض عيناه ويمسد على ضماد رأسه بألم.. ظهر على وجهه أنه يود التخلص منها ويخرج من شقتها سريعًا قبل أن يسقط ارضًا
ولكنها سحبت كفه فجأة تسير نحو أقرب مقعد قائلة بقلق...
-تبدو شاحبًا اجلس و..

مره أخرى سحب كفه منها سريعًا وحدجها بذات النظرة القوية الحادة.. فتنهدت بحنق وهي ترفع كفاها بعلامة استسلام وقالت...
-تشعرني أنني مصابة بمرض جلدي.. اجلس لأفهم منك بشكل أوضح قبل أن تسقط ارضًا

ظنت أنه سيرفض ويتجه نحو الباب يفتحه ويخرج
ولكنه تقدم نحو أحد المقاعد وجلس مرتميًا بثقله عليه.. فتأوه متألمًا وقد صدح الألم في رأسه
وفي المقعد المقابل جلست اخيرًا وقد تنهدت بارتياح
وهي تساوي خصلاتها السوداء القصيرة.. وهي تفكر بحنق في نفسها
لابد وأن شكلها مريع في هذه اللحظة
فهي تستيقظ منتفخة الوجه مشعثة الشعر
بلا زينة وبلا اي شيء يظهرها جميلة أمام هذا الرجل الذي احتكر الجمال لنفسه على مايبدو!

ولكن نظراته نافذة الصبر التي تركزت عليها
جعلتها تبعد يدها عن شعرها وقد تنحنحت بخفوت قبل أن تقول بحيرة وهي تشير لاذنها وفمها بالنفي...
-أنت لا تسمع كالصم والبكم.. أو انك..

قاطعها بهزة سريعة من رأسه تأكد لها أنه لم يحظى بكل شيء.. فهو قد أخذ قدر كبير من الجمال
ولكنه لا يسمع ولا يتحدث كباقي الناس
فتجعد وجهها بخيبة حزينة وهي تهمس...
-يالخسارتك.. لوهلة ظننتك كامل الاوصاف!

لم تهتز نظرته رغم أن وجهه تجعد بتهكم احرجها
فسارعت تقول تبرر موقفها وهي تشير يداها بعشوائية..
-أنا لا اقصد التقليل من شأنك.. لا تعبس بهذا الشكل
ظننت فقط انك طبيعي بشكلٍ كامل.. وعدم اجابتك عليّ
مع ملامحك الغربية جعلتني أظن انك من خارج البلاد ولا تفهم لغتي..

قطبت جبينها بحيرة وهي تعاود القول...
-ولكن أليس الصم والبكم متلازمان كيف تسمعني الآن
أنا لا افهم حالتك..

تجعد وجهه بجمود وظهر الرفض في عيناه
يرفض أن يوضح لها حالته.. يرفض أن يظهر أوراقه المحروقة، لقد اعتاد الوضع حتى بات يصدقه
يصدق أنه أصم وأبكم ومجنون لا مأوى له، لقد حذره ذاك الرجل في الماضي.. لا لم ينصحه بل هدده بكل قسوة
وهو يشير لأذنه وفمه ورأسه مرددً بتهديد واضخ...
"أنت لا تعقل لا تسمع لا تتكلم.. لا تضطرني أقول ولا ترى
انت في نظر العالم ميت.. وفي نظر نفسك مجرد مجنون منبوذ، حافظ على حياة اقربائك وعائلتك بنبذك..تذكر جيدًا أنت لا تسمع لا تتكلم لا تعقل"

ومنذ ذاك الحين.. من ثلاث سنوات وهو يكرر لنفسه كل ليلة.. "أنا لا أسمع لا أتكلم لا أعقل"
إلى أن صدق ماقيل له وما قاله لنفسه

ووجود تلك المرأة أمامه بتساؤلها اللحوح ونظرة عيناها تلك تجعلان يقينه يتذبذب.. يجعلانه يود لو...

قاطعت تفكيره وهي تنتفض سريعًا صارخة بفزع...
-يااللهي لقد تأخرت على البث.. يجب أن أرحل فورًا
انتظرني فقط لساعتين لا أكثر وأكون هنا.. ثم اخذك إلى المشفى كي يفحصوك.. اقسم أنني لن اتأخر عن الساعتين

دلفت الى تلك الغرفة الذي كان نائمًا فيها منذ دقائق
وأغلقت الباب خلفها بقوة وهي تتحدث إلى نفسها كالمجانين!
كان يحدق في أثرها بذهول.. وهو يجزم أنها ليست طبيعية ابدًا.. كيف لها أن تبقى عليه في منزلها بهذه الاريحية وكأنه أمرًا عاديًا للغاية
والآن تطلب منه أن ينتظرها في منزلها إلى أن تأتي من الخارج وكأنها تطلب البقاء من زوجها او أخاها
هل هي طبيعية!

تجاهل التفكير بها وبحث بعيناه عن حذائه
إلى أن رأه أسفل الأريكة مُلقى بإهمال
اتجه حيث هو وانخفض يجلبه ببطئ كي لا يداهمه رأسه بألمٍ آخر.. وارتداه سريعًا وهو يتحرك بعدم اتزان يقصد باب المنزل.. ولكنه تسمر للحظات وهو ينظر للوحة الأرقام الموضوعة في الباب.. لا وجود لمفتاح او مقبض للفتح وكأنه خزنة سرية وليس باب شقة عاديًا!
ويبدو أن تلك الأرقام تحوي رقم سري يسمح للباب أن يُفتح!

ظل يعبث بالأزرار على أمل أن يفتح الباب ويخرج من تلك الشقة الغريبة ولكن لا فائدة.. الباب لا يُفتح
لتكنولوجيا تغزوا عالمهم على مايبدو!
التفت للخلف كي يأتي بها وتفتح ذاك الباب اللعين
فتفاجئ بتلك التي خرجت من غرفة نومها توًا غير التي استيقظ صباحًا جوارها

كانت أنيقة مرتبة.. تعقد شعرها خلف رأسها بتزمت
ووجهها الناعس تبدل وصار رائق نضر يعكس جمالاً هادئًا دون تكلف أو مبالغة
وملابسها الرسمية المكونة من قميص أبيض يعلوه سترة سوداء وتنورة تشبهها تصل لبعد ركباتها في رسمية أنوثية منطفئة ايضًا تدل على أنها ذاهبة لعملٍ هام

اقتربت منه وهي ترتب هندامها وترتدي حذائها الأسود ذو الكعب العال وقالت بعجالة..
-عندي نشرة صباحية الآن.. لن اتأخر عليك
ولكن لي رجاء عندك.. هل تدخل وتجلب لي هاتفي من على الفراش فأنا متعجلة للغاية!

كان يقف محله ينظر لها تلك النظرات الحادة من جديد.. فتقابله هي بنظرة متوسلة وهي تشير للغرفة!
تنهد بحنق وهو يسير إلى تلك الغرفة كي يجلب لها هاتفها كي تفتح الباب له وينتهي من ذاك الموقف العبثي

ولكنه لم يجد الهاتف.. وسمع صوت اغلاق الباب
تسمر لثوان قبل أن يخرج من الغرفة سريعًا يتجه للصالة الخارجية حيث الباب
فوجدها خرجت.. خرجت بعد أن استخدمت تلك اللفتة الطفولية السخيفة!

جز على أسنانه بقوة حينما سمعها تقول من الخارج
خلف الباب...
-أنا اسفة ولكنها الطريقة الوحيدة لايقافك
لن اتأخر وسآتي سريعًا.. خذ حمامًا دافئًا
وتناول الطعام الموضوع في الثلاجة إلى أن آتي، لا تغضب مني ياوسيم.. ولكن صدقًا اود الاطمئنان عليك أولاً قبل أن ادعك تغادر... الى لقاء لن اتأخر

ثم انقطع صوتها دلالة على ذهابها
تلك المجنونة غريبة الأطوار!

                              ***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي