الفصل الثالث
الفصل الثالث.
"مرات البواب هانم."
مر شهر ولم يعد ذلك البغيض المسمى بزوجها.. عابد.
رغم تلهفها لإنهاء هذا الزواج في أقرب وقت إلا إنها فرحت لأنها لم تره لمدة الشهر المنصرم، فهي تخشاه، تخشى نظراته الحادة التي تطالعها بغضب لا تعرف عنه شيئًا.
ولِمَ تخاف منه؟ هو مجرد رجل قبل المال على نفسه ليتزوج بها، كي يحللها لزوجها.
أي هو بين قبضتها وليست هي، هو يحتاج للمال ولذلك قبل بهذا.
لن تخاف.. لن تفعلها.
ناداها والدها فخرجت له بوجه ممتقع، قلبها يحمل حزنًا منه، فكانت تتوقع منه حلًا آخر غير هذا.
كانت تضع كل آمالها عليه.
_ أيوة يا بابا...
ألجم لسانها عندما وجدته جالسًا مع والدها بالصالون فالتعج قلبها واهتزت حدقتاها بشكل واضح وتلعثمت وهي تقول متجاهلة إياه رغم ما عاثه بنفسها من زوبعة ارتباك وخوف:
_ نعم يا بابا.
_ سلمي على جوزك يا بنتي.
تأففت بداخلها وكادت أن تخنق ذلك المدعو زوجها.
تصافح من؟ لا لن تصافحه..
حسنًا ستفعل لأجل والدها ومرضه الذي يمثل نقطة ضعفها:
_ أهلًا.
قالتها ومدت يدها له فنهض ممسكًا بيدها والتي حاولت نزعها سريعًا ولكنه أطبق عليها وتشدق بخشونة أثارت زوبعة من الخوف بداخلها:
_ وعليكم السلام ورحمة اللّٰه وبركاته.
احرجت قليلًا وأخيرًا انتزعت يدها التي كادت أن تنصهر من قبضته العنيفة.
به شيء غريب اليوم، كأنه غير ذلك الذي رأته يوم عقد القران، فهي لم تتعرف عليه إلا عندما سمعت والدها يدعوه باسمه.. عابد.
ذلك الاسم الذي يرتبط بالذعر والارتباك، له هيبته إن كان باسمه أو بجسده الفارع والضخم، أو بحضوره القوي المخيف.
انسحب والدها وتركهما معًا، ترك ابنته في عرين الوحش المفترس، بعد أن انسحب والدها أحست بالخوف أكثر وجالت المكان بنظرها، تستنجد بأي شيء منه.
_ حضري حالك صبيحة بكرة إن شاء اللّٰه هتاجي معايا بلدي.
برز صوته الجهور الخشن فصم أذنها الرقيقة، لم يكن صوته بالصارخ ولكنه غليظ بعض الشيء.
ولكن ما قال توًا؟
أي بلد يقصد، وهي معه؟
_ لحظة بس، أجي معاك فين إن شاء اللّٰه! شكلك بتحلم.
ها هي استجمعت قوتها لتقول بشراسة وسخرية، عادت لتكبرها المقيت.
لن تدعه يتحكم بحياتها مطلقًا.
_ كيف ما قلت يا ريتان، هتاجي معاي الصعيد عند أهلي وناسي.
اقترب منها بخطر وعيناه تبعث شرارًا من نيران متوهجة.
هذا الصامت لأول مرة تراه غاضبًا في حديثه، فكان هادئًا، فقط الغضب ينبثق من عينيه.
لحظة.. أدركت ما الغريب به اليوم عن تلك المرة، فهو قد خفف من لحيته وشاربه ووو...
قطع تأملها عندما صدر صوته الصارم:
_ عنديك النهاردة تحضري حاجتك وبكرة الصبح عنسافر.
ولاها ظهره وكاد أن يتحرك لولا قبضتها التي حلت على ظهره تضربه بقوة على ظهره فالتفت لها وأمسكها من معصميها يكبلهما فتوجعت رغم أنه لم يضغط عليهما.
وذلك لم يمنعها من هديرها به:
_ أنت بتقول أي؟ أنا أروح معاك بلدك، أنت اتجننت، ريتان هانم مستحيل تعيش فـ الفقر دا أبدًا.
يمقت غرورها وترفعها على من حولها، مستفزة وغبية تتصرف بتهور واستهتار.
_ أيوة اتجنيت عشان رايد أخد مرتي معاي بلدي...
جذت جملته بصراخها الصاخب وجنونها وهي تقاوم قبضته الممسكة بها:
_ أنا مش مراتك فوق لنفسك، أنت مجرد محلل وبس، محلل وبتاخد فلوس على الجواز دا، بتقبض كتير ودا إن دل على شيءٍ فبيدل على أنك واحد حقير..
تحكم بذاته جيدًا حتى لا يكسر عنقها بيده ويخلص من غرورها وتعجرفها المقيت هذا، فانتفخت أوداجه وكان في أوج غضبه وهو يخبرها بعصبية.
_ مفيش حاجة اسمها محلل، دا تيس مستعار، اللي يقبل إن يتجوز واحدة عشان يحللها لجوزها تيس مستعار، مش راجل، المحلل ملهوش مكان فـ الشرع يا ست ريتان.
حديثه متناقض، غريب لم تفهم أغلبه.
يخبرها بأن المحلل تيس مستعار، وهو ماذا فعل؟
ألم يتزوجها هو؟
فهم السؤال المخبئ بعينيها فقال بحدة:
_ أيوة كيف ما فهمتِ، أني مش هطلق وأنتِ مرتي شرعًا، وأنسي كلمة محلل دي وشيليها من دماغك يا بت الناس.
اهتاجت أعصابها وزاحم الغضب العاصف جسدها وهي تصرخ به في جنون وعدم تصديق:
_ أنت بتقول أي؟ يعني.. يعني أنا مش هرجع لتامر زي ما فهمتوني؟
كان قد فك قيد معصميها فدفعته بقوتها وصرخت به في تخبط.
تركها ولكنه قال ببرود:
_ أني مفهمتش حد حاجة، يعني مفيش طلاق غير لما أني أقرر دا.
تبخر كل شيء خططت له، استغلها والدها واستغفلها، ادعى بأنه يحل مشكلتها لتعود لتامر ولكنه كان يلعب بها.
كأنها كرة يشوطها كما يريد، وقعت بأسر عابد للأبد.
لا لن تفعل...
لن تدع عابد يتحكم بها وتنصاع له مجبرة، فهي ريتان التي لا تقهر.
تلك الفتاة التي لم يتحكم بها أحد من قبل، كانت دومًا قوية أبية لا تخضع.
__________________________________
تحايلت عليها زوجة عمها بأن تخرج معها لتستنشق بعض الهواء العليل وتترك فراشها الذي تلازمه بلا كلل أو ملل، عيناها انتفخت من كثرة البكاء ووجهها شحب كشحوب الأموات، ذبلت روحها وتملكها الألم.
رفضت متعللة بأنها مريضة ولكنها أذعنت من إقناع زوجة عمها.
_ تعالي معاي يا بتي، نغيروا جو هبابة وتونا راجعين، قومي يا بتي.
_ حاضر يا مرت عمي.
نهضت معها مجبرة وارتدت عبائتها السوداء وبرقعها الذي غطى وجهها بأكمله إلا من عينيها العسلية الكحيلة التي يحيطها الاحمرار من السهاد والبكاء حزنًا ولوعة.
وصلت الحقول التي ألوانها تتدرج باللون الأخضر المنعش للنفس ويبعث الطمأنينة في القلب ويلطف من وجع الروح.
استوقف زوجة عمها إحدى السيدات في الطريق وهي تهتف بشفقة على حال روضة التي تطلقت قبل أن تتم السنتين.
_ يا قلبي عليكِ يا بتي على اللي حوصل إمعاكِ، واللّٰه تستاهلي سيد سيده ولا يهمك يا بتي.. وربنا...
اختنقت أنفاسها وصرخ قلبها تألمًا، تلك السيدة لم تنفك عن سبه ونعته بأقذع الألفاظ.
لا تعرفه.. لا تعرف شيئًا عن حياتهما معًا، وأنهما لم ينفصلا لعيب فيهما.
حكمت عليه دون أن تعرف القصة، وسبته بلا حق، قد تسب هي أيضًا من أقاربه دون معرفة السبب.
السبب لم يكن بهما.. بل كان بعيدًا.
استأذنت بروح ممزقة ونفس تتألم بحرقة على زوجها وسوء فهم الناس.
_ هسبقك أني يا مرت عمي.
تنفست بحرية ما إن ابتعدت عن تلك السيدة التي تغرقها بشفقتها وعطفها المبالغ به.
طوقتها رائحة الزرع فتنفست بعمق وودت لو حلقت فوق أعناق الزهور، لهربت مثل الفراش الذي ينشر ألوانه في الأفق، ودت لو كانت فراشة بأجنحة ملونة مثلها غير السواد الذي ساد روحها منذ أن تزوجت.
أنفاسها التي كانت تحلق مثلها كبتتها بداخلها وتوقفت عن الدوران في الحقول، خفق قلبها بقوة عندما التقته.
وقفت ببلاهة، متسعة العنين ترمقه بدهشة.. توق.. ووجع وحرقة.
الشيء ونقيضه.. تعاني من تخبط قلبها وأنفاسها ثقلت.
تقدم منها بلهفة وابتسامته تنفرج على وجهه بهيام ولوعة.. يتقدم وهو يلتهمها بنظراته التواقة.
وقف أمامها مباشرة وبرز صوته الأجش الذي اشتاقته وهو يقول بهيام:
_ القلوب اشتاقت لعيونك الزينة يا بت عمي.
قالها بنبرة شارد تائه في بلاد عينيها المحددة بالكحل الكثيف، تلك العيون التي سرقت جمالها من تلك السنابل التي تحيط بهما، فأرد اللون على عينيها وطلاها بجماله.
أمسك بطرف برقعها يرفعه حتى يتجلى له حسن وجهها الوضاء بحمرته القانية من خجلها ولكنها منعته وهي تمسك بطرفه حتى لا يظهر وجهها الحسن أمامه وقالت بخفر خَجِلْ:
_ لاه.. ميصحش يا ولد عمي.
لم يترك برقعها متمسكًا به عل قلبها يرفق به ويسمح لعينيه بالتحلي بها وبملامحها الملفتة ولذلك رحمت رجال الأرض وغطتهم ببرقعها والذي لم يزدها إلا حسنًا وزينة.
_ فرشتي باردة من غيرك يا روضة قلبي وقلبي جمر في بُعادك بيتقاد.
تدور رأسها ويتخبط قلبها بين جنباته من غزله لها، متمكنًا من قلبها بكلامه المعسول وأفعاله الجريئة.
تذكرت لمحة بسيطة من حياتهما معًا، لحظات قليلة قبل أن يعم الخراب على كوخهما الصغير، فأغشت الدموع سنبلتيها الذهبية اللامعة.
تشتاقه، تشتاق لتلك اللحظات الجميلة المسروقة من بين أنياب الحياة.
ليت العالم يتوقف هنا، وهي تريده ولا تنفر منه، فأي مكان يجمعهما غير غرفة نومها آمنة، يتبخر خوفها وذعرها، ويحل الشوق والحنين.
_ كيفك يا بت عمي وكيف قلبك وحاله من بعدي؟
خراب.. قلبي ما به خراب يثقله.
وما حال قلبي في بُعد قلبك يا روحي!
أتسألني ما به قلبي؟
قلبي فارغًا من دونك يا حبيبي، يحتاج لك لتزمله وتضمد جروحه الغائرة في غيابك.
_ كحال قلبك يا واد عمي.
لم تكن إجابة صريحة، ولكنها كافية لتصف ما به وما يستعر بقلبه من وجع وظمأ لها، لحبيبة روحه.
ود لو يرفع عنها برقعها ليتجلى حسن وجهها البارق وأشعته اللامعة، ليسمح لعينيه بأن تعانق حسن وجهها وتقبل شفتيها المشتاقة.
برزت بسمة متألمة حزينة كحال قلبه على وجيعتهما فتشربت هي وجعه ليثقل قلبها.
قطعت لحظتهما الموجعة هذه أقرب منها توق وحنين عندما أتت زوجة عمها نجاة التي رمقتهما بألم واضح، وتنحنحت لتقول مرحبة بزيد:
_ كيفك يا زيد يا ولدي؟ مليح يا ولدي.
هز رأسه ونزع بصره عن روضته الساكنة رغم ضجيج روحها وألم قلبها الغامر.
_ زين يا مرت عمي، وكيفه الشيخ سالم؟
_ نحمدوا ربنا يا ولدي.
نقلت نظرها لروضة الساكنة والغارقة به بشفقة على حال قلبها.
لو كان عليها لتركتهما واقفين لآخر العالم ولكن لا يصح وقفتهما.
فأجلت حلقها وتنحنحت بتململ واضح في وقفتها ففهم زيد وارتد خطوتين للخلف، كأنهما خطوتين للجحيم بعينه، خطوتين فصلتا بين لحظة لقاء غامرة بشتى المشاعر المهلكة والموجعة.
لحظة عرت ما يكمن من ألم بداخل كليهما.
_ عن أذنك يا مرت عمي رايح أشوف شغلي.
اومأت له بإستحسان ولكنه لم ينتبه لها، فقد سلط بصره على روضة التي مازالت في عالم آخر، حيث لقاءهما منذ لحظات.
هز رأسه متألمًا ونزع عينيه مرة أخرى وغادر بعاصفة عتت على قلبها ولفحت نفسها الوامقة لهذا الرجل.
جرتها زوجة عمها في الحقول خلفها فانصاعت بقدمين ترتجفين بقوة، قدمين رخوة لا تقدر على الثبات، فهذا اللقاء أقحم قلبيهما في معركة أخرى.. الحنين.
__________________________________
لم تجد بدًا من التوسل.. التوسل له، ولكنها ستفعلها حقًا!
تتوسل ذلك البواب ليطلق سراحها منه.
ستفعل.. لأجل زوجها ستفعل، لأجل حبها ستفعل.
كان يمكث بمكتب والدها وقد تركه والدها لأنه لديه بعض الأعمال وعليه إنجازها.
دخلت بتردد ووقفت أمامه، رغم أنها جاءت ترجوه وتتوسل إلا إنها كانت قوية متكبرة وخطرة وهي تقف أمامه، ترفع ذقنها بإباء وعجرفة.. عجرفة فارغة كما نعتها أبوها من قبل.
_ لو سمحت كنت عايزة أتكلم معاك.
سطع صوتها ببرود رغم حدته فرفع بصره من على هاتفه وسلط نظره عليها لثوان، يتفحصها بجرأة نشبت النيران بها.. نيران الغيظ والحقد.
ولكنها لم تعلق واقتربت أكثر غير مبالية بشيء وقالت بجدية حادة لم تسيطر عليها:
_ أنا مستعدة أدفع كل اللي تطلبه مني، بس تطلقني وبسرعة لأني مستحيل أفضل على ذمتك أكتر من كدا.
نظر لها بنصف عين بملامح غير مفسرة بالمرة فاهتز داخلها وتلجلجت فيما تقوله، خشته، وهذه مرتها الأولى في أن تخاف أحدهم.
رغم أنه لم يظهر تعبيرًا واضحًا على وجهه للغضب ولكن نظرته ألقت سهام مشتعلة أحرقتها.
_ تدفعي كام مثلًا؟
ارتفع حاجباها في دهشة، اعتقدت بأنه سيماطل معها ويحاول عدلها عن قرارها، ليس إلا لإغاظتها، حقًا صدمت من صراحته.
رغم دهشتها سارعت بالقول الثابت:
_ اللي أنت عايزه، شوف عايز قد أي وأنا موافقة فورًا.
# مُنى_عيد.
# مرات_البواب_هانم.
يتبع..
"مرات البواب هانم."
مر شهر ولم يعد ذلك البغيض المسمى بزوجها.. عابد.
رغم تلهفها لإنهاء هذا الزواج في أقرب وقت إلا إنها فرحت لأنها لم تره لمدة الشهر المنصرم، فهي تخشاه، تخشى نظراته الحادة التي تطالعها بغضب لا تعرف عنه شيئًا.
ولِمَ تخاف منه؟ هو مجرد رجل قبل المال على نفسه ليتزوج بها، كي يحللها لزوجها.
أي هو بين قبضتها وليست هي، هو يحتاج للمال ولذلك قبل بهذا.
لن تخاف.. لن تفعلها.
ناداها والدها فخرجت له بوجه ممتقع، قلبها يحمل حزنًا منه، فكانت تتوقع منه حلًا آخر غير هذا.
كانت تضع كل آمالها عليه.
_ أيوة يا بابا...
ألجم لسانها عندما وجدته جالسًا مع والدها بالصالون فالتعج قلبها واهتزت حدقتاها بشكل واضح وتلعثمت وهي تقول متجاهلة إياه رغم ما عاثه بنفسها من زوبعة ارتباك وخوف:
_ نعم يا بابا.
_ سلمي على جوزك يا بنتي.
تأففت بداخلها وكادت أن تخنق ذلك المدعو زوجها.
تصافح من؟ لا لن تصافحه..
حسنًا ستفعل لأجل والدها ومرضه الذي يمثل نقطة ضعفها:
_ أهلًا.
قالتها ومدت يدها له فنهض ممسكًا بيدها والتي حاولت نزعها سريعًا ولكنه أطبق عليها وتشدق بخشونة أثارت زوبعة من الخوف بداخلها:
_ وعليكم السلام ورحمة اللّٰه وبركاته.
احرجت قليلًا وأخيرًا انتزعت يدها التي كادت أن تنصهر من قبضته العنيفة.
به شيء غريب اليوم، كأنه غير ذلك الذي رأته يوم عقد القران، فهي لم تتعرف عليه إلا عندما سمعت والدها يدعوه باسمه.. عابد.
ذلك الاسم الذي يرتبط بالذعر والارتباك، له هيبته إن كان باسمه أو بجسده الفارع والضخم، أو بحضوره القوي المخيف.
انسحب والدها وتركهما معًا، ترك ابنته في عرين الوحش المفترس، بعد أن انسحب والدها أحست بالخوف أكثر وجالت المكان بنظرها، تستنجد بأي شيء منه.
_ حضري حالك صبيحة بكرة إن شاء اللّٰه هتاجي معايا بلدي.
برز صوته الجهور الخشن فصم أذنها الرقيقة، لم يكن صوته بالصارخ ولكنه غليظ بعض الشيء.
ولكن ما قال توًا؟
أي بلد يقصد، وهي معه؟
_ لحظة بس، أجي معاك فين إن شاء اللّٰه! شكلك بتحلم.
ها هي استجمعت قوتها لتقول بشراسة وسخرية، عادت لتكبرها المقيت.
لن تدعه يتحكم بحياتها مطلقًا.
_ كيف ما قلت يا ريتان، هتاجي معاي الصعيد عند أهلي وناسي.
اقترب منها بخطر وعيناه تبعث شرارًا من نيران متوهجة.
هذا الصامت لأول مرة تراه غاضبًا في حديثه، فكان هادئًا، فقط الغضب ينبثق من عينيه.
لحظة.. أدركت ما الغريب به اليوم عن تلك المرة، فهو قد خفف من لحيته وشاربه ووو...
قطع تأملها عندما صدر صوته الصارم:
_ عنديك النهاردة تحضري حاجتك وبكرة الصبح عنسافر.
ولاها ظهره وكاد أن يتحرك لولا قبضتها التي حلت على ظهره تضربه بقوة على ظهره فالتفت لها وأمسكها من معصميها يكبلهما فتوجعت رغم أنه لم يضغط عليهما.
وذلك لم يمنعها من هديرها به:
_ أنت بتقول أي؟ أنا أروح معاك بلدك، أنت اتجننت، ريتان هانم مستحيل تعيش فـ الفقر دا أبدًا.
يمقت غرورها وترفعها على من حولها، مستفزة وغبية تتصرف بتهور واستهتار.
_ أيوة اتجنيت عشان رايد أخد مرتي معاي بلدي...
جذت جملته بصراخها الصاخب وجنونها وهي تقاوم قبضته الممسكة بها:
_ أنا مش مراتك فوق لنفسك، أنت مجرد محلل وبس، محلل وبتاخد فلوس على الجواز دا، بتقبض كتير ودا إن دل على شيءٍ فبيدل على أنك واحد حقير..
تحكم بذاته جيدًا حتى لا يكسر عنقها بيده ويخلص من غرورها وتعجرفها المقيت هذا، فانتفخت أوداجه وكان في أوج غضبه وهو يخبرها بعصبية.
_ مفيش حاجة اسمها محلل، دا تيس مستعار، اللي يقبل إن يتجوز واحدة عشان يحللها لجوزها تيس مستعار، مش راجل، المحلل ملهوش مكان فـ الشرع يا ست ريتان.
حديثه متناقض، غريب لم تفهم أغلبه.
يخبرها بأن المحلل تيس مستعار، وهو ماذا فعل؟
ألم يتزوجها هو؟
فهم السؤال المخبئ بعينيها فقال بحدة:
_ أيوة كيف ما فهمتِ، أني مش هطلق وأنتِ مرتي شرعًا، وأنسي كلمة محلل دي وشيليها من دماغك يا بت الناس.
اهتاجت أعصابها وزاحم الغضب العاصف جسدها وهي تصرخ به في جنون وعدم تصديق:
_ أنت بتقول أي؟ يعني.. يعني أنا مش هرجع لتامر زي ما فهمتوني؟
كان قد فك قيد معصميها فدفعته بقوتها وصرخت به في تخبط.
تركها ولكنه قال ببرود:
_ أني مفهمتش حد حاجة، يعني مفيش طلاق غير لما أني أقرر دا.
تبخر كل شيء خططت له، استغلها والدها واستغفلها، ادعى بأنه يحل مشكلتها لتعود لتامر ولكنه كان يلعب بها.
كأنها كرة يشوطها كما يريد، وقعت بأسر عابد للأبد.
لا لن تفعل...
لن تدع عابد يتحكم بها وتنصاع له مجبرة، فهي ريتان التي لا تقهر.
تلك الفتاة التي لم يتحكم بها أحد من قبل، كانت دومًا قوية أبية لا تخضع.
__________________________________
تحايلت عليها زوجة عمها بأن تخرج معها لتستنشق بعض الهواء العليل وتترك فراشها الذي تلازمه بلا كلل أو ملل، عيناها انتفخت من كثرة البكاء ووجهها شحب كشحوب الأموات، ذبلت روحها وتملكها الألم.
رفضت متعللة بأنها مريضة ولكنها أذعنت من إقناع زوجة عمها.
_ تعالي معاي يا بتي، نغيروا جو هبابة وتونا راجعين، قومي يا بتي.
_ حاضر يا مرت عمي.
نهضت معها مجبرة وارتدت عبائتها السوداء وبرقعها الذي غطى وجهها بأكمله إلا من عينيها العسلية الكحيلة التي يحيطها الاحمرار من السهاد والبكاء حزنًا ولوعة.
وصلت الحقول التي ألوانها تتدرج باللون الأخضر المنعش للنفس ويبعث الطمأنينة في القلب ويلطف من وجع الروح.
استوقف زوجة عمها إحدى السيدات في الطريق وهي تهتف بشفقة على حال روضة التي تطلقت قبل أن تتم السنتين.
_ يا قلبي عليكِ يا بتي على اللي حوصل إمعاكِ، واللّٰه تستاهلي سيد سيده ولا يهمك يا بتي.. وربنا...
اختنقت أنفاسها وصرخ قلبها تألمًا، تلك السيدة لم تنفك عن سبه ونعته بأقذع الألفاظ.
لا تعرفه.. لا تعرف شيئًا عن حياتهما معًا، وأنهما لم ينفصلا لعيب فيهما.
حكمت عليه دون أن تعرف القصة، وسبته بلا حق، قد تسب هي أيضًا من أقاربه دون معرفة السبب.
السبب لم يكن بهما.. بل كان بعيدًا.
استأذنت بروح ممزقة ونفس تتألم بحرقة على زوجها وسوء فهم الناس.
_ هسبقك أني يا مرت عمي.
تنفست بحرية ما إن ابتعدت عن تلك السيدة التي تغرقها بشفقتها وعطفها المبالغ به.
طوقتها رائحة الزرع فتنفست بعمق وودت لو حلقت فوق أعناق الزهور، لهربت مثل الفراش الذي ينشر ألوانه في الأفق، ودت لو كانت فراشة بأجنحة ملونة مثلها غير السواد الذي ساد روحها منذ أن تزوجت.
أنفاسها التي كانت تحلق مثلها كبتتها بداخلها وتوقفت عن الدوران في الحقول، خفق قلبها بقوة عندما التقته.
وقفت ببلاهة، متسعة العنين ترمقه بدهشة.. توق.. ووجع وحرقة.
الشيء ونقيضه.. تعاني من تخبط قلبها وأنفاسها ثقلت.
تقدم منها بلهفة وابتسامته تنفرج على وجهه بهيام ولوعة.. يتقدم وهو يلتهمها بنظراته التواقة.
وقف أمامها مباشرة وبرز صوته الأجش الذي اشتاقته وهو يقول بهيام:
_ القلوب اشتاقت لعيونك الزينة يا بت عمي.
قالها بنبرة شارد تائه في بلاد عينيها المحددة بالكحل الكثيف، تلك العيون التي سرقت جمالها من تلك السنابل التي تحيط بهما، فأرد اللون على عينيها وطلاها بجماله.
أمسك بطرف برقعها يرفعه حتى يتجلى له حسن وجهها الوضاء بحمرته القانية من خجلها ولكنها منعته وهي تمسك بطرفه حتى لا يظهر وجهها الحسن أمامه وقالت بخفر خَجِلْ:
_ لاه.. ميصحش يا ولد عمي.
لم يترك برقعها متمسكًا به عل قلبها يرفق به ويسمح لعينيه بالتحلي بها وبملامحها الملفتة ولذلك رحمت رجال الأرض وغطتهم ببرقعها والذي لم يزدها إلا حسنًا وزينة.
_ فرشتي باردة من غيرك يا روضة قلبي وقلبي جمر في بُعادك بيتقاد.
تدور رأسها ويتخبط قلبها بين جنباته من غزله لها، متمكنًا من قلبها بكلامه المعسول وأفعاله الجريئة.
تذكرت لمحة بسيطة من حياتهما معًا، لحظات قليلة قبل أن يعم الخراب على كوخهما الصغير، فأغشت الدموع سنبلتيها الذهبية اللامعة.
تشتاقه، تشتاق لتلك اللحظات الجميلة المسروقة من بين أنياب الحياة.
ليت العالم يتوقف هنا، وهي تريده ولا تنفر منه، فأي مكان يجمعهما غير غرفة نومها آمنة، يتبخر خوفها وذعرها، ويحل الشوق والحنين.
_ كيفك يا بت عمي وكيف قلبك وحاله من بعدي؟
خراب.. قلبي ما به خراب يثقله.
وما حال قلبي في بُعد قلبك يا روحي!
أتسألني ما به قلبي؟
قلبي فارغًا من دونك يا حبيبي، يحتاج لك لتزمله وتضمد جروحه الغائرة في غيابك.
_ كحال قلبك يا واد عمي.
لم تكن إجابة صريحة، ولكنها كافية لتصف ما به وما يستعر بقلبه من وجع وظمأ لها، لحبيبة روحه.
ود لو يرفع عنها برقعها ليتجلى حسن وجهها البارق وأشعته اللامعة، ليسمح لعينيه بأن تعانق حسن وجهها وتقبل شفتيها المشتاقة.
برزت بسمة متألمة حزينة كحال قلبه على وجيعتهما فتشربت هي وجعه ليثقل قلبها.
قطعت لحظتهما الموجعة هذه أقرب منها توق وحنين عندما أتت زوجة عمها نجاة التي رمقتهما بألم واضح، وتنحنحت لتقول مرحبة بزيد:
_ كيفك يا زيد يا ولدي؟ مليح يا ولدي.
هز رأسه ونزع بصره عن روضته الساكنة رغم ضجيج روحها وألم قلبها الغامر.
_ زين يا مرت عمي، وكيفه الشيخ سالم؟
_ نحمدوا ربنا يا ولدي.
نقلت نظرها لروضة الساكنة والغارقة به بشفقة على حال قلبها.
لو كان عليها لتركتهما واقفين لآخر العالم ولكن لا يصح وقفتهما.
فأجلت حلقها وتنحنحت بتململ واضح في وقفتها ففهم زيد وارتد خطوتين للخلف، كأنهما خطوتين للجحيم بعينه، خطوتين فصلتا بين لحظة لقاء غامرة بشتى المشاعر المهلكة والموجعة.
لحظة عرت ما يكمن من ألم بداخل كليهما.
_ عن أذنك يا مرت عمي رايح أشوف شغلي.
اومأت له بإستحسان ولكنه لم ينتبه لها، فقد سلط بصره على روضة التي مازالت في عالم آخر، حيث لقاءهما منذ لحظات.
هز رأسه متألمًا ونزع عينيه مرة أخرى وغادر بعاصفة عتت على قلبها ولفحت نفسها الوامقة لهذا الرجل.
جرتها زوجة عمها في الحقول خلفها فانصاعت بقدمين ترتجفين بقوة، قدمين رخوة لا تقدر على الثبات، فهذا اللقاء أقحم قلبيهما في معركة أخرى.. الحنين.
__________________________________
لم تجد بدًا من التوسل.. التوسل له، ولكنها ستفعلها حقًا!
تتوسل ذلك البواب ليطلق سراحها منه.
ستفعل.. لأجل زوجها ستفعل، لأجل حبها ستفعل.
كان يمكث بمكتب والدها وقد تركه والدها لأنه لديه بعض الأعمال وعليه إنجازها.
دخلت بتردد ووقفت أمامه، رغم أنها جاءت ترجوه وتتوسل إلا إنها كانت قوية متكبرة وخطرة وهي تقف أمامه، ترفع ذقنها بإباء وعجرفة.. عجرفة فارغة كما نعتها أبوها من قبل.
_ لو سمحت كنت عايزة أتكلم معاك.
سطع صوتها ببرود رغم حدته فرفع بصره من على هاتفه وسلط نظره عليها لثوان، يتفحصها بجرأة نشبت النيران بها.. نيران الغيظ والحقد.
ولكنها لم تعلق واقتربت أكثر غير مبالية بشيء وقالت بجدية حادة لم تسيطر عليها:
_ أنا مستعدة أدفع كل اللي تطلبه مني، بس تطلقني وبسرعة لأني مستحيل أفضل على ذمتك أكتر من كدا.
نظر لها بنصف عين بملامح غير مفسرة بالمرة فاهتز داخلها وتلجلجت فيما تقوله، خشته، وهذه مرتها الأولى في أن تخاف أحدهم.
رغم أنه لم يظهر تعبيرًا واضحًا على وجهه للغضب ولكن نظرته ألقت سهام مشتعلة أحرقتها.
_ تدفعي كام مثلًا؟
ارتفع حاجباها في دهشة، اعتقدت بأنه سيماطل معها ويحاول عدلها عن قرارها، ليس إلا لإغاظتها، حقًا صدمت من صراحته.
رغم دهشتها سارعت بالقول الثابت:
_ اللي أنت عايزه، شوف عايز قد أي وأنا موافقة فورًا.
# مُنى_عيد.
# مرات_البواب_هانم.
يتبع..