الخامس بعد العشرين

وقف مهيب بنفس المكان الذي انتظر فيه وصولها الأسبوع الماضي وتغيبت عمدا، لا يظنها ستغيب اليوم أو يتمنى ألا تفعل فهما بحاجة لمزيد من التقارب وهو لن يتراجع بعد أن قطع هذا الشوط فى طريقه إليها، لقد لمس جمالها ورقتها وفتن قلبه بما تخفيه عن الجميع من أنوثة يتوق لها قلبه الذى لم يعرف هذا الخفقان المثير سوى لرؤيتها.

اقتربت سيارة عمه ليهلل قلبه وهو يرى سيارتها تتبعه فيظهر إشراق وجهه سعادة لهذا.

..................................

استيقظ هلال باكرا على صوت رسالة مميز خص به رقمها ليلتقط الهاتف فهى ستزور منزله اليوم ، اعتدل جالسا وفتح الرسالة ليجد مقطعاً مصورا لشخصيات كرتونية
وأغنية مرحب يا هلال ، هز رأسه بعدم فهم وهو يدقق النظر للشاشة ويعيد تشغيل المقطع القصير ( قد غبت وإليك اشتقنا وانتهى بعدك صار وصال)

انفرجت ملامحه الحادة مع تبدد أثر النوم وما لبثت ضحكاته أن رفرفت معلنة عن سعادته

لم يتعجب!

إنها أمينة التى تدثر حياتها بالضحكات وهذا ما تفعله تماماً، إنها تخبره أنها اشتاقته بنفس طريقتها التى يحفظ

أعاد تشغيل المقطع وقد انتابته نوبة من الحماس فقد بدأت تعلن عن مشاعرها وهو لا يعارض طريقتها في ذلك المهم أنها اشتاقته وأخبرته بذلك وليته يتمكن من أخبارها باشواقه أيضاً .

كم يتمنى أن يصير الوصال واقعا يحياه كل لحظة من حياته المقبلة، لقد استعان بضعف عدد العمال لإنهاء كل ما طلبته ولن يتوانى عن العمل الذى أصبح أهم أولوياته فى الوقت الحالي حتى ينهى هذا البعد الإجباري ويحتفظ بها بين جنبات روحه ما بقى له من عمر.

.................................

توقفت سيارة جمال ليتجه نحوه مهيب مرحبا
_ حمدالله على السلامة يا عمى نورتوا البلد كلها
_ الله يسلمك يا مهيب، انت بردو واقف برة ؟
_ مستنيكم يا عمى

رحب بابنة عمه باختصار ثم أولاها اهتمامه الذى يتمنى أن تصدقه
_ نورتى طنطا يا بشمهندسة
_ شكراً، هنروح نشوف شقتك بعد ما أمينة تخلص شغلها هنا
_ براحتكم خالص، انا معاكم النهاردة لآخر اليوم

نظرت له بنفس الارتباك فهى لا تريد تلك الصحبة رغم أنها ممتعة .
تقدم جمال وتبعه الجميع للداخل لتمر نفس الفترة الترحيبية المعتادة .

كان هلال في انتظارها هذه المرة لتحاول تفادى نظراته المخجلة التى لا يتراجع عنها وتلوم نفسها على إرسال ذلك المقطع فيبدو أنه أصبح يفهمها جيدا فلم يمر الأمر كمزحة كما أرادت أن يحدث

_ بعد اذنك يا عمى هنبدأ نشوف العفش النهاردة انا خلصت كل اللى أمينة طلبته والشقة يومين وتبقى جاهزة
_ وماله يا هلال وشوفوا كمان الأجهزة ما أنا مش هشترى من القاهرة كله يبقى من هنا
_ يبقى نودى الحاجة عندك في البيت يا عمى ولا عندنا
_ وليه يا مهيب ما تيجى على الشقة وخلاص؟
_ مهيب معاه حق يا جمال لازم نعمل زفة لشوار أمينة
_خلاص يا عرفة اللى يريحكم، نوديها عندنا ونسيب المفتاح لسليمان وفاطمة.
_ وسمرة هترقص فى العزال، أول مرة تطلع فى زفة عزال

كانت أمينة ومها تتابعان بصمت ما يقال ولا تحيطان بأغلب المقصود لكن مها بالطبع تؤثر عليها حيرتها أما أمينة فلا يمكنها تفويت الأمر دون أن تسأل عنه
_ لا حد يفهمني
_ تعالى يا مرات ابنى وانا افهمك . وتعالى يا حلوة انت كمان

جذبت وداد الفتاتين بعيدا لتتذمر الملامح
_ يا أما عاوزين نطلع نشوف الشقة ورانا حاجات كتير النهاردة
_ اسكت انت بعد الفطار نتكلم فى الحاجات بتاعتك

غادرت وداد تحت أنظاره الكارهة لمغادرة أمينة فقلبه لم يهدأ بعد من ثورته لقربها ولم يتشبع من لذة هذا القرب ليضطر هو ومهيب على حد سواء أن يتابعا حديث جمال وعرفة مع مشاركة اضطرارية فقط.

اتجهت وداد بصحبة الفتاتين خارج المنزل حيث تعد الفتيات بعض المخبوزات وبدأت تشرح لهما العادات المتبعة في نقل مقتنيات العروس إلى بيت زوجها وكان الأمر مشوقا جدآ لدرجة انست أمينة أنها لا يجب أن تتعرض لاستنشاق هذا الدخان الناتج عن الخبز في الفرن الفلاحي، تبعت أمينة شغفها فى التعرف على التفاصيل لتفيق على اختناق تعرفه جيدا.
بدأت تشعر أنها تختنق لتنظر حولها وتنتبه للدخان المتصاعد فتنهض فوراً مبتعدة بحدة اجفلت وداد
_ مالك يا أمينة؟

انتفضت مها أيضا
_ يا خبر إحنا ازاى قعدنا جمب الدخان ده؟

ركضت تلحق أمينة التى تحاول أن تتوارى عن أنظار الفتيات الفضولية وهى تشهق بقوة وتتبعهما وداد بقلق شديد
_ أمينة فين بخاختك؟
_ انا كويسة يا مها

رغم شهقاتها الحادة تصر أنها بخير وترفض استعمال البخاخ لتظهر حدة مها مع مخاوف وداد
_ جرى ايه مالها أمينة؟
_ أمينة فين البخاخة؟ يا طنط عندها أزمة ربو بتتخنق

اتسعت عينا وداد بفزع والتقطت حقيبة أمينة بحدة والتى بدأت تعجز عن المتابعة
_ هى دى؟
أخرجت وداد البخاخ لتلتقطه مها
_ ايوه هى

وضعتها بفم أمينة رغم الرفض الظاهر عليها، تعلم أن صديقتها تحزن لرؤية وداد لها بهذه الحالة وعلى الملأ أيضا لكنها لا تبالي سوى بتمرير أزمتها، وداد عليها أن ترى ذلك عاجلاً أو آجلا وعلى الجميع هنا تعلم كيفية التعامل مع أزمة أمينة لأنها أحيانا قد تحتاج للمساعدة .

دقائق وبدأت أنفاسها تنتظم لتقترب وداد معلنة تفهمها لكل ما تمر به فتاة بهذا العمر تعانى هذا المرض لتضمها بحنان

_ حقك عليا يا بنتى والله مااعرف أن الدخان يتعبك كده، خلاص بلاش الفرن ده خالص هنشغل فرن الغاز

نظرت أمينة نحو مها التى تتابع ما يحدث وعينيها ممتلئة بالدموع لمرورها بهذا الموقف لترى مها أن الدعم وإن كان مؤلما لكنه يزيد التقارب بين القلوب مادامت تلك القلوب لم تتعكر بضباب الأنانية.

تجاوزت وداد فيض المشاعر الذى يغلف الجميع تأثراً بالموقف وهى تبعد أمينة لتربت فوق صدرها
_ تعالى ندخل جوه نشرب ليسون هيريح صدرك
_ قصدك ينسون!
_ ايوه ليسون عندى ليسون نجمى عمك بيجيبه مخصوص هيعجبك أوى.

ضحكت أمينة واستسلمت لوداد التى تجذبها مرة أخرى للداخل دون أن تغفل أن تشمل صديقتها بودها الممتع .

مرت عدة ساعات تفقدت فيها أمينة ما تم إنجازه من عمل واثنت عليه ليعيد مهيب طلبه بتفقد شقته أيضا فتقرر أمينة المرور بها أولا قبل التوجه لانتقاء بعض اثاث شقتها.

استغل هلال فرصة انشغال الجميع بالحوار قبل التحرك فصديقتها تصر على استخدام سيارتها وحدها بينما يحاول مهيب أن يحظى ببعض القرب فى حالة استخدام سيارة عمه.
اتجهت أمينة إلى سيارة هلال وحاولت أن تنهى هذا الأمر وهى تشير لها
_ تعالى معانا يا مها ومهيب يجى مع بابا
كانت فرصة ذهبية لها رغم أنها تخجل من التطفل على أمينة وهلال لكن الوضع سيكون أفضل من كونها معه .
وجدت هلال قد جلس بمقعده
_ انت كمان وحشتينى اوى
_ جرى ايه يا عم انت بتتلكك؟ هو انا اتكلمت
_ مش لازم تتكلمى انا عارف انى وحشتك
_ مغرور
_ قديمة وانا مش هضايق من مها علفكرة ولا بتكسف

زفرت تخفى ابتسامتها عنه وهى تنظر نحو صديقتها التى تقترب شاكرة لها وهى بالواقع التى عليها شكرها .

..................................

تسارعت خطوات سليمان يقوده غضبه متجها إلى منزل أبيه الذى تجاوز كل حدود العقل ويحاول اقصاءه من حياة ابنه الأكبر بشكل مبالغ فيه.
لقد ظن حين أخبرته زوجته عن زيارة مروان أن ابنه يسعى لرضاه وأن تلك الزيارة هى البداية لمد جسر من التواصل بينهما ولم يرفض أمر زواجه رغم تحفظ فاطمة على الفكرة فربما كان الزواج هو بداية صلاح مروان وتقويمه.

لكنه فوجئ اليوم بأحد معارفه يهاتفه ويسأله عن أحوال صحته راجياً له التحسن قبل نهاية الأسبوع المقبل ليفهم منه أن والده صحب ابنه لخطبة ابنة أخيه التى يكفلها بعد وفاته وحين تساءل عن تغيبه أدعيا مرضه وملازمة زوجته له.

كيف يجرؤ؟
سواء أبيه أو ولده على ذلك.

وصل ليقتحم المنزل بلا استئذان متجها لمكتب والده ليقتحمه أيضا وكما توقع كانا هناك
_ انت خلاص عدمت ابوك وامك؟ رايح تخطب من غير شورتى وكمان بتكدب على الناس من أولها؟
_ جرى ايه يا سليمان هو ابنك راح من روحه؟ انى كنت معاه
_ وهو ده يشفع له ولا يشفع لك يا أبا؟ انت هتضيع الواد ده منى
_ ابنك راجل واحسن شاب فى الجيهة كلها، كونك خرجت من طوعى بمزاجك انت حر لكن مروان راجل ومحدش يحكم عليه
_ راجل!! بأمارة إيه؟ هو ده يقدر يفتح بيت ولا فى واحدة تتحمل طبعه العفش
_ أبا!!
_ إيه هتخوفنى انا كمان؟ اسمع بقا قدام جدك وحط كلامى حلقة فى ودنك، بنات الناس مش لعبة وانا قولت للراجل انى مااعرفش حاجة عن الجوازة دى ولا اضمنك من أصله تصون بنتهم، إذا كنت رميت امك و ابوك هتصون الغريبة؟
_ انت ازاى تعمل كده من غير ما ترجع لى؟
_ زى ما انت لاغتنى وجودى من حياة ابنى

واتجه للخارج بنفس الحدة التى دخل بها لتتهكم ملامح مروان فقد كان يثق أن هذا سيكون رد فعل أبيه وفى هذه الحالة سيرفض الرجل زواجه من الفتاة ويتحمل أبيه أمام جده وزر ذلك ويظهر هو أمام جده بشخصيته البارة كما يريد تماماً.
استعاد ملامحه المصدومة وهو ينظر نحو جده
_ وبعدين يا جدى؟
_ ولا يهمك لو رفض ألف بنت تتمناك

حافظ على ملامحه الحزينة رغم سعادته لتقدم خطته بنفس النمط الذى خطط له .

عاد سليمان لمنزله يهزمه قهره ويحنى كاهله لتستقبله فاطمة بدهشة لهذا التبدل البادى عليه
_ مالك يا سليمان؟

اتجه نحو اقرب مقعد ليلقى بدنه الذى لا يحتمل كل الضغوط التى يعانيها

_ مفيش يا فاطنة مخنوق شوية

رفع رأسه يلتقط أنفاسه بعمق لتقترب منه فهى تحفظ سليمان أكثر من روحه وما يعانيه لا يخفى عليها لكنها أيضاً ترى أنه لن يتحمل الضغط عليه، مدت كفها تدلك صدره الذى يضمه كفه وقد ظهر الألم فوق ملامحه

_ أهدى يا سليمان انت زعلان اوى من ايه؟، خد نفسك بالراحة وانا هعملك لمون. جمال.. يا جمااال

فتح جمال باب الغرفة وقبل أن يجيب رأى وضع أبيه ليهرول بفزع
_ جرى ايه ماله أبويا؟
_ تعالى دلك له صدره وانا هعمله لمون
_ لا تعالوا نروح المستشفى
_ مفيش داعى انا كويس

نبرته الواهنة تنفى ما يتلفظ به لسانه ليسرع جمال متخذا قراره لأول مرة بحياته وهو ينحنى ليرفعه
_ البسى هدومك يا أما بسرعة انا هطلع ابويا العربية وافتحى دولابى وهاتى بطاقتى والفيزا وكل الفلوس اللي فيه.

أحاط سليمان رقبة ابنه مستسلما فهو نفسه يعلم أنه ليس بخير وأنه بحاجة لرعاية طبية مع تزايد وتيرة الألم بصدره وصعوبة التقاط أنفاسه.

وضعه ابنه بالمقعد الأمامى مترفقا
_ عمك جمال هنا اطلبه يا ابنى انا عاوز اشوفه

تحسس جيوبه ليكتشف أنه لا يحمل هاتفه لكنه ايضا لن يترك أبيه في هذه الحالة لذا مد يده لجيب أبيه وأخرج هاتفه مع وصول فاطمة ليشير لها لتستقل المقعد الخلفي وهو يدس متعلقاته بجيوبه قبل أن يستقر بالمقعد ويتحرك فوراً أثناء مهاتفة عمه.

...............................

ساد صمت بين جمال ومهيب منذ انطلقت السيارة لكن جمال يحيط بما يحدث مع ابن أخيه ويقدره فقد مر بهذه المشاعر مسبقا ويعلم جيدا سطوة العشق وما يعانيه القلب من تلاعب الأشواق به
_ انا عارف انك بتحبها

نظر مهيب نحو عمه مبتسما يعلم أن مشاعره واضحة وهو لا يخجل منها
_ ربنا يهديها يا عمى
_ طول بالك يا مهيب البنت معذورة
_ عارف يا عمى والله ومقدر بس هى مش مديانى فرصة خالص اقرب منها وأثبت حسن نيتى
_ تعرف يا مهيب على قد ما مهم تعبر عن مشاعرك بالتصرفات مهم بردو تعبر عنها بالكلام، الستات قلوبهم رقيقة والكلمة الحلوة بتسعدهم اوى
_ بس انا مش من حقى غير التلميح يا عمى طول ما هى رافضة
_ والستات بيفهموا التلميح كويس جدا بالعكس إحنا اللي ماينفهمش زيهم

التقط هاتفه مبتسما
_ ده ابوك. ايوه يا سليمان .

صمت قليلا وتبدلت ملامحه ليتوتر مهيب
_ طيب يا جمال انت رايح فين؟ ماشى جاى وراك
_ فى إيه يا عمى؟
_ نروح مركز طنطا الدولى للصدر والقلب ازاى؟
_ فى إيه يا عمى مين تعبان؟
_ ابووك قولى امشى ازاى

لم يسمح مهيب للصدمة أن تؤثر على إدراكه بل بدأ يوجه جمال للطريق رغم أنهم سيضطرون للتراجع للوصول للمشفى وهذا سيحتاج وقت أطول.

...........................

فى سيارة هلال الذى لم يتخل عن المرح لحظة منذ بداية الطريق وبدأت مها تندمج مع حواره الودى الذى تخطى توترها وساعدته أمينة فى ذلك .

تبع سيارة جمال لكنه تلفت حوله فى حيرة
_ هو مهيب قاعد مع عمى تايه ولا إيه؟ إحنا راجعين الكورنيش نعمل إيه؟
_ يمكن عمى عاوز حاجة من هنا !!

توقفت سيارة جمال أمام المشفى ليترجل عنها ركضا للداخل يتبعه مهيب تحت أنظارهم المندهشة
_ لا دى الحكاية كبيرة

صف السيارة وترجل الجميع وقد ظهر القلق على وجه أمينة
_ مش دى عربية عمى سليمان؟
_ ايوه هى تعالوا نشوف مين تعبان

تسابقت الخطوات للداخل ولم يكن من الصعب معرفة ما يحدث ليتجه الجميع نحو غرفة العناية التى يرقد فيها سليمان
توقفت خطوات مها وهى ترى هذا الكم من المشاعر التي لم تحياها مطلقاً.

مهيب يضم أمه التى تبكى ، جمال يستند لباب الغرفة فى انتظار رحمة الله بقلبه وبأبيه ، وهلال اتجه فورا نحو جمال الذى ألقى بدنه فوق اقرب مقعد يحاول التماسك دون أن يتخلى عن كف أمينة بل زادها قربا منه داعما لها .

دارت عينيها تحصى الوجوه وتحيط بهذا الكم من المحبة ثم تتجه بصمت إلى مقعد قريب وتجلس تراقب ما يحدث وهى برغم الحزن المسيطر على الأجواء تشعر بإرتياح فقط لكونها جزء من مشهد مماثل .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي