الثاني بعد العشرين

فى الصباح وقفت أمينة تودع زوجه عمها وولديها أمام البناية دون أن تعلق على إجهاد مهيب الواضح وقف بالقرب منها أبيها ملتزما بتوديعهم رغم ما يبدو عليه من شحوب تخشاه أمينة ويخشاه الجميع.
اقتربت مها التى عجزت عن التزام شقتها حتى مغادرة الجميع فهبطت بدعوى التأخر عن موعد العمل . تهلل قلب مهيب بمجرد رؤيتها قادمة وظهر تأثير وجودها على صفحة وجهه فوراً
_ أمينة هنتأخر على معاد المكتب، توصلوا بالسلامة يا طنط
أهملت أمينة الإجابة فهى لا تنظر نحوها من الأساس بل تتبدل نظراتها فى سرعة بين مهيب وأمه
_ تسلمى يا بنتى، خدى بالك من نفسك ومن أمينة
_ ماتقلقيش يا طنط
_ أمينة انت جاية البلد امته؟
تعلم أن سؤال مهيب ليس اهتماماً بوجودها بل اهتماماً بمن سترافقها لكنها لا ترى بأسا فى هذا
_ هشوف هلال هيبدأ شغل فى الشقة امته واحدد
_ اصل دى مش محسوبة مقابلة
ارتفع حاجبيها فى دهشة دون أن تستوعب ما يعنيه لكن عينيها تحركتا فورا صوب مها لتدرك أن حديثه موجها لها فتتغاضى عن ذلك أيضاً.
_ مين اللي هيسوق يا ولاد؟
_ انا يا عمى، مهيب مانمش كويس
ارتفعت عينا مها بعد جملة جمال تبحث عن علامات ارهاقه ولم يكن بحثها صعبا
_ طيب يا ابنى خد بالك من الطريق وربنا يكتب لكم السلامة اول ما توصلوا طمنونى
_ حاضر يا عمى

احتل مقعد السائق فورا لتجلس أمه بجواره فينظر مهيب مغتنما نظرة أخيرة قبل أن يستقر بالمقعد الخلفى وينطلق جمال من فوره مع تغاضى الجميع عن النظرات المتبادلة بين مهيب ومها التى اقتربت من أمينة تخفى الحرج الواضح عليها
_ يلا يا أمينة اتأخرنا
_ مها فاضل ساعة ونص على معاد المكتب
_ ما ممكن يبقى الطريق زحمة
_ امرى لله اتفضلى ياختى. سلام يا بابا
ابتسم جمال ملوحا لهما واتخذ طريقه إلى سيارته أيضا .

تقدم جمال وغادر أولا وهو يلوح للفتاتين مرة أخرى ثم يغيب فى الزحام بينما لم تتحرك سيارة مها وقد نظرت أمينة إلى نحوها بتشكك وهى تقص عليها بإيجاز وتوتر زيارة مهيب لها وحديثه معها
_ وانت بردو مش مصدقاه ؟
_ أشاحت مها وجهها خارج السيارة وهى تتنهد بألم فتتأكد أمينة أنها لم تتجاوز ما مر بحياتها رغم أنها ترى حب مهيب لها لكن لا يمكن لأى شخص أن يرغم قلب صديقتها على تقبل ابن عمها وشغفه بها.

انتبهتا مع فتح باب السيارة بفعل شخص ما سحب أمينة خارجا لتشهق بفزع وتتلاحق انفاس مها التى ترجلت عن السيارة وهى على استعداد لطلب النجدة
_ مروان! انت اتجننت؟ ازاى تشدنى كدة وازاى تلمسنى من اصله؟
_ انا ابن عمك
_ كونك ابن عمى مايديش ليك حق انك تلمسنى انت زيك زى اى راجل غريب .
_ غريب! انا غريب؟ وابن البحيرى طبعا هو اللى قريب؟

عقدت أمينة ساعديها وقد ظهر التحدى فوق ملامحها رغم هيئة مروان المخيفة
_ ايوه هلال أقرب لى منك واللى عاوز تعمله اعمله
_ ده بعدك ،لو طال نجمة فى السما اقرب له منك انت بنت عمى وانا أولى بيكى من اي حد
_ أولى بيا ولا بورثى ؟ شوف يا مروان علشان ننهى الموضوع ده خالص، لا انا جدتك ولا انت جدك، جدك عاش عمره يذل ويقهر جدتى علشان فاهم غلط أنها بتحب محمد البحيرى لكن أنا بحب هلال البحيرى فعلا ومش هتجوز غيره وعمرى ما هقبل بيك تحت اي ظرف حتى لو عشت من غير جواز عمرى كله عارف ليه؟ لانى مش هبقى صورة من جدتى هى كانت طيبة وحبها لجدك خلاها تسامحه لحد ما كرهته لكن أنا مش زيها ولا ليك ذرة حب في قلبى بالعكس انت صعبان عليا وعلشان كده هعدى لك الغلطة دى بس لو اتكررت هتشوف أمينة تانية .

استغلت فورا الصدمة التى سيطرت عليه لتعود للعربة مع حركة فورية من مها التى يقودها الخوف ورغم ذلك تجاهد للهرب من هذا المجنون الذى ترى كم هو مختل من أفعاله وأقواله .

_ أمينة لازم تقولى لعمى. ده مجنون ممكن يأذيكى أو يأذى هلال؟
_ بس يا مها انا مرعوبة كفاية
_ مرعوبة وكلمتيه كده؟ يبقى انا مت من الخوف
_ لو ماعملتش كده هيستغل خوفى منه، انت ماتعرفيش مروان
_ ومش عاوزة اعرفه، ده اخو مهيب ؟ مستحيل
زفرة متألمة عبرت شفتى أمينة قبل أن تغمض عينيها وتحاول الحصول على بعض الاسترخاء بعد لحظات الرعب التى عاشتها قرب ابن عمها ليبدأ عقلها بالمقارنة بعفوية وتلقائية بينه وبين هلال.
شعور متعاكس تماما تشعره قرب هلال رغم أنها لم تعرفه أو تلاقيه إلا قريبا . عجبا للأمان الذى يبثه الحب في النفوس !
أما مروان فهى منذ اللحظة الأولى شعرت بالاختناق بقربه وها هو يثبت لها مع مرور الأيام أن احساسها محق تماما وأنه شخص يجب الفرار بعيدا عنه.
_امينة لازم تقولى لحد يوقفه عند حده
فتحت عينيها وقد اعادتها مها من أفكارها
_ أي كلام هقوله دلوقتى هيزود المشاكل يا مها ومش بعيد يحاول يأذى بجد لو اتحديته علنى وفضحت نواياه . انا هسكت لو اتعرض لى تانى يبقى نشوف .
إلتقى حاجبيها في حدة نابعة من التخبط هى لا تريد أن تكون سببا في المزيد من الخلافات التى هى سببها بالفعل لكنها أيضا لا تريد أن تكون عرضة للتعدى من قبل مروان أو غيره.

.................................

دخل هلال لغرفة جدته حيث توقع أن يجد والديه وقد كانا بالفعل هناك لكنه لاحظ صمت مريب يخيم على الرؤوس، اقترب من جدته التى لم ترحب به كالعادة ليلتقط كفها ويقبله باحترام
_ صباح الخير يا ستى
_ صباح الخير يا هلال ، اللى حكاه ابوك ده صحيح؟
نظر فورا نحو أبيه بلوم لكنه يعلم أن أباه يعجز عن اخفاء أي أحداث عن جدته رغم أنها لا تبارح غرفتها لكنها أيضا تشاركهم كل تفاصيل حياتهم
_ ماحصلش حاجة يا ستى جت سليمة
_ النوبة جت سليمة والنوبة الجاية؟
_ نوبة إيه يا ستى ؟ إن شاء الله مفيش حاجة ماتخافيش
_هلال انت مش صغير وفاهم أن دى عمايل فرج وكل همه يفركش الجوازة
جثى هلال على ركبتيه أمام جدته وهو يحيط كفيها معا بكفيه ناظرا نحو وجهها وكأنها تراه
_ وانا وأمينة متمسكين ببعض ومحدش هيقدر يفرق بنا وهو فى الاخر هيرفع الراية البيضا .
نزعت كفها لتبدأ تحسس ملامحه التى رغم عدم رؤيتها لها نقشت بين اجفانها . هى لا تأمن غدر فرج وفى نفس الوقت لن تتحمل كسر قلب هلال فتشعر أنها بين جحيمين كلاهما يطالها ويعذبها وهى لا تملك سوى متابعة الطريق حتى نهايته.
رغم كل ما دار بين العائلتين فى الماضى وكانت أحداثه مؤلمة لجميع الأطراف يأتى هلال ليسطر المزيد من حكاوى بينهم ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بما ستحمله سطور الأيام .
................. .................

قاد مروان سيارته وعقله يلومه على كشف أوراقه لها، هى لا تستحق تلك الرعاية التى أراد أن يحيطها بها، بل تستحق أن تحيا جحيما حتى النهاية. لقد أخطأ فتلك الرعناء لن تقدر ما يقدمه لها.
ما كان عليها أن تسمح لقلبها الخائن بعشق الرجال خاصة ذلك الذى يكرهه بشدة . لقد أصبحت الكراهية بقلبه أشد وأسوأ وسوف يتجرع كليهما مرارتها مادامت قبلت بغيره فلتتحمل نتيجة اختيارها.
لكنه ايضا يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن الصورة حتى يظهر مع كلمة النهاية التى سيسدلها هو بشروطه الخاصة .
بحث عن هاتفه لكنه لم يجده فلم يمنعه ذلك وتوقف جانبا قرب أول استراحة ليبحث عن أي هاتف فهو يجب أن يصحح الخطأ الذي أوقع نفسه فيه رغم أنه شاكر له لكشف مكنون صدرها تجاهه.

طلب رقمها الذى يحفظه عن ظهر قلب وسرعان ما وصله تساؤل صوتها عن شخصية المتصل
_ انا مروان يا أمينة. انا آسف اللى عملته الصبح كان غصب عني بس مادام قلبك اختار يبقى مش هضايقك تانى ولا هقف في طريقك مرة تانية ولو احتجت حاجة انا بردو ابن عمك وضهرك محدش هيسندك غيرى .
وانهى المحادثة قبل أن يسمح بحوار يثير غضبه مرة أخرى ويستخرج منه ما سيطمره حتى يأتى الوقت المناسب لإعلانه.

.................................

سعدت مها بتراكم العمل الذى سيسحب عقلها وعقل صديقتها عن كل الأحداث المؤسفة التى حدثت مؤخرا وعن تخبطها الخاص الذى ترفض الاعتراف به.

مرت الساعات وقد انهمكتا تماما فى العمل لكنها انتبهت مع رنين هاتف أمينة التى أجابت ويبدو أن المتصل أنهى المحادثة سريعا بينما تطالع صديقتها الهاتف بصدمة واضحة .
أسرعت نحوها تتعجب رؤية هذه الصدمة
_ مالك يا أمينة؟ مين اللي كلمك؟
_ مروان بيعتذر وبيقول كلام غريب اوى
_ غريب ازاى؟ وهو لحق يندم ويعتذر؟ الواد ده عنده فصام يا بنتى ولا إيه؟
وضعت أمينة الهاتف أمامها وهى تهز رأسها هربا من تشتت ذهنها
_ خلاص مش مهم المهم أنه مش هيقف فى طريقى تانى
_ وانت مصدقاه؟
_ وهيكدب ليه؟ محدش أجبره يعتذر ويحاول يبرر موقفه . خلينا في الشغل اللى متأخر ده

وعادت تصب اهتمامها على العمل مرحبة بالهرب من كل ما يحاول عقلها أن يرغمها لتبصره.

..................................

دخل مروان لمنزل جده وقد اعتاد هدوءه ، ارتقى الدرج نحو غرفة جده مباشرة فهو بحاجة شديدة إلى دعم جده فهو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يفهمه ويشعر به.
طرق الباب ودخل مباشرة لتتسع عينيه فزعا ويهرول نحو جده الساقط أرضا
_ جدى! مالك حصل ايه؟ رد عليا
رفعه عن الأرضية الباردة وهو يضرب وجنتيه برفق لكن لا فائدة فهو لا يستجيب ولا يفتح عينيه.
صرخ مستدعيا الخدم وسرعان ما وقف أمامه عدة فتيات لينهرهن بجنون مع محاولة رفع جده التى لم تستغرق سوى دقائق فقط لشعوره بالتخبط.
وضعه بالفراش وعاد يصرخ
_ خلوا واحد من التنابلة اللى برة يجيب دكتور بسرعة . وقعتكم سودة اغيب ليلة واحدة الاقى جدى كده، انا هشرب من دمكم لو جدى جرى له حاجة مش هيكفينى رقابيكم كلكم. غوروا من وشى .

انتفضت الفتيات يركضن هربا من غضبه الذى سيطال الجميع .

استمر في محاولة إفاقته بلا جدوى لتمر الدقائق تمزقه حرفيا حتى طرق الباب ودخل شخص يتبعه أحد الخدم
_ الدكتور يا مروان بيه
_ كنتم فين لما جدى وقع؟
_ يا بيه هو قافل على روحه من ساعة ما حضرتك مشيت امبارح
_ مش وقته يا جماعة هدوء من فضلكم
ابتلع مروان جم غضبه الذى يصرخ بعينيه فقط بناء على رغبة الطبيب الذى بدأ فورا فحص فرج بما لديه من إمكانيات محدودة.
_ لازم ننقله المستشفى فوراً، الضغط عالى جدا والقلب مش طبيعى ابدا اكيد فى تجلط هنركب قسطرة ونحاول معاه. اللزقة دى علشان الجلطة على ما نوصل  بس بسرعة انقلوه من هنا .
_ اوعى حسك عينك حد يحس أن جدى تعبان ونبه على الكل
تعجب الطبيب هذا الأمر فى هذا التوقيت الحرج لكنه لن يتدخل في خصوصيات الأسرة بل التزم الصمت حتى اقترب مروان من جده ليحمله
_ اتفضل معايا يا دكتور هننقل جدى بعربيتى لأحسن مستشفى
تبعه الطبيب مضطرا فقط لصالح المريض الذى يحتاج لتدخل فورى .

وصل فرج للمشفى ليدخل فورا لغرفة الرعاية الفائقة ويلتف حوله الأطباء وقد أكدوا له إصابة جده بجلطة أدت لانسداد أحد شرايين القلب وهذا ما تسبب في سقوطه.

وقف يتابع محاولات الأطباء وعقله يضع أمامه صورة عمه جمال وهو يجلد جده بكلماته أمس، ما كان عليه ترك جده وحيداً في هذا الوقت . أمينة لا تستحق أن يترك جده لأجلها. خطأ آخر يضاف إلى قائمة أخطائه التى بدأت بهذه الفتاة وسيعمل على أن تنتهى بها.
يجب أن يدفع جمال وابنته ثمن وصول جده لهذا المكان، لقد كانت حياتهم مستقرة قبل عودة عمه وابنته التى فتحت الباب للماضى وسمحت له أن يتكرر بل وبلغت بها الحماقة أن وقفت أمامه تتبجح بعشقها لعدوه .
_ طيب يا أمينة، لما نتقابل تانى هتعرفى مين مروان وممكن يعمل إيه! انا هدفعك انت وابوكى التمن غالى اوى.
عادت عينيه نحو جده الراقد بلا حول ولا قوة
_ وغلاوتك يا جدى ما هسامح فى وقعتك دى ابدا بس انت لازم تقوم وتقف على رجليك انا ماليش غيرك.
تعلقت عينيه بالأجهزة مع متابعة مغادرة الأطباء ليقترب منهم فيقف أحدهم أمامه بملامح غير معبرة
_ الحمدلله هو مش مستقر اوى لحد دلوقتى و ممنوع الزيارة لأنه تحت الملاحظة أربعة وعشرين ساعة لحد ما الحالة تستقر تماماً، الدكتور لحقه والجلطة مش هتسيب أثر مؤذى ادفع مبلغ في الحسابات وتابع معانا .

عادت أنظاره إلى الفراش ليرى جده فيرفض عقله فورا هذه الصورة الضعيفة لقد عاش جده قوياً ولن يسمح لهم برؤية ضعفه . سيبقى للأبد الأول في حماية جده ولن يقبل بأقل من الإطاحة بالجميع
فقط مع التوقيت المناسب لذلك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي