الفصل الخامس عشر
غادرت وداد لتفقد الفتيات اللاتى يعملن بالمطبخ وتركت نعمة بصحبة جليلة التى اقتربت لتجلس بجوارها متسائلة: اعملك حاجة يا ست نعمة؟
التفتت نعمة لنفس الاتجاه: كلمينى عن أمينة يا جليلة، كانت عاملة إيه مع فرج؟ طول عمره شديد ومحدش بيقدره
نكست جليلة رأسها وهى تعترف أمام نفسها أنها كانت معولا بيد فرج يساعده على هدم إنسانية وكرامة أمينة، يعتصر الندم قلبها كما اعتادت منذ سنوات لتتعجب نعمة صمتها: ساكتة ليه يا جليلة؟
نظرت لها جليلة وهى تبحث عن كلمات تجيب بها دون أن تتمكن من الحصول عليها لتتنهد نعمة: كنت عارفة. قلبى كان حاسس أنها هى كمان متعذبة
.............
مرت وداد بمجلس زوجها وجمال ليستوقفها عرفة: وداد هاتى شبكة أمينة.
وقبل أن تتحرك اعترض جمال: لا يا ست وداد
ثم نظر نحو عرفة: خليها يومين يا عرفة . مش عاوز ذكريات أمينة عن الشبكة ترتبط اكتر من كده بالحزن. اسبوع كده ويجى هلال مصر يلبسها لها .
تحركت وداد نحو المطبخ مجددا فهى تراه محقا تماماً فى رغبته منح ابنته ذكريات جيدة عن بداية ارتباطها كما أن ابنها أيضا يستحق بعض الذكريات الجيدة فهى ترى أنه لم يحظ بما يستحق بعد.
.....
ظلت مها تسير فى الحديقة رغم أن مساحتها ليست كبيرة بشكل يمنح فرصة للتجول لوقت طويل لكنها تهرب من مهيب فهى لا تريد أن تواجهه بعد أن قررت رفض طلبه الذى قدمه بجنون راقها كثيرا.
اقتربت لترى أمينة برفقة هلال وهذه الفرسة المميزة، هى سعيدة لأجل صديقتها وتتمنى لها الخير، تتمنى أن تحصل على الحب الذى طالما انتظرت ظهوره بحياتها بعد عدة خيبات كادت أن تفقدها الثقة فى نفسها.
تتذكر مها جيدا أيام الدراسة بالجامعة حيث تعرضت أمينة لأكثر من مرة للرفض بسبب مرضها حتى اعتادت إخفاء أمره عن الجميع.
اكتفت بتلك الصورة وهذه الابتسامة التى تراها تكلل وجه أمينة لتسير فى الاتجاه المعاكس لمكان وجودهما ليس لتمنحهما الخصوصية فحسب بل لتمنح نفسها أيضا.
مر الوقت سريعا وكان عليهم المغادرة . اقتربت أمينة برفقة هلال الذى تساءل: أمينة ممكن تطمنينى عليك اول ما توصلى؟
اومأت بصمت لترى وداد يسير خلفها عدة فتيات ويتجهن جميعا نحو السيارة لتحث خطواتها: إيه ده يا طنط؟
أشارت وداد لما تحمله الفتاة: ده برام رز مدسوس يستاهل بؤك علشان تتغدوا بيه ما هو مش معقول هتروحوا تدوروا على غدا
تنهدت أمينة مستسلمة وهى تشير لما تحمله فتاة أخرى: طيب هنتغدا بالرز إيه لازمة الفطير ده كمان؟
شهقت وداد مستنكرة: تتعشوا بيه . ولا عاوزة تنامى من غير عشا ويجى لك هبوط؟
هزت أمينة رأسها: لا طبعا يجى لى هبوط ازاى! اتعشى فطير ويجى لى تخمة احسن
وكزتها وداد معترضة لتستنكر ما تحمله الفتاة الثالثة: وايه ده كمان؟ طنط إحنا مش هنشيل كل الاكل ده ؟ ده كتير اوى
عادت وداد تستنكر: امال هتاكلوا الرز بإيه؟ ده كل الحكاية صنية بطاطس مدسوسة على فراخ وبرام خضار باللحمة بس
ابتسمت أمينة ببلاهة: بس!!
دفعتها وداد : همى افتحى شنطة العربية واعملى حسابك صحتك مش عجبانى خالص اتغذى كويس خلى وشك ينور زى اول مرة شوفتك فيها
ابتسمت أمينة وسارت تتابع اعتراضها الذى لن يمنع وداد : ده كتير اوى الأكل ده ياطنط
بدأت وداد ترتيب الطعام: ليكى ولصاحبتك هدية من ستك نعمة .
أقبلت فتاة أخرى لتنظر لها أمينة بصدمة لكن وداد عاجلتها: حتتين جبنة وشوية عسل للفطار يووه ! باين عليكى هفتانة خالص.
لم تنتبه أمينة لمغادرة هلال إلا مع عودته يحمل فوق كتفه قفصا كبيراً أظهر حمله له قوة ذراعيه وعضلاته المصقولة لتبحر عينيها فى روعة هيئته حتى توقف أمامها ليهمس: انا عارف انى حلو مش لازم تقولى
أفاقت لتنهره متسائلة: وده إيه ده كمان؟
انزل القفص ليضعه بالسيارة : شوية رمان مادام بتحبيه.
اغلق حقيبة سيارة جمال لتتساءل: شوية؟ قفص رمان بقى شوية؟
أشارت له ليقترب برأسه منها فتتساءل: هتدبحونى امته بقا؟
لم يضحك لكنه ابتسم لهذا القرب وعينيه تحيط قسماتها التى عادت لها بعضا من المشاكسة: لو فضلتى قريبة كده انا اللى هندبح.
همسته دقت أبواب قلبها لتعلو دقاته تفاعلا مع لمحة الرضا التى تكسو ملامحها وهى عاجزة تماماً عن الابتعاد عنه أو دفعه للابتعاد لكن جاءت النجاة مع دفعة من وداد: انت بتبرق لها كده ليه ؟ هتطفش منك يا واد.
انطلقت ضحكاتهما معا هذه المرة وكل منهما ينظر نحو وداد التى تهربت عينيها ليفهم هلال أن أمه أحاطت تماما بكل انفعالاته وهذا اشعره بالحرج ليبتعد للخلف: هتوحشينى يا أمينة خدى بالك من نفسك.
ودعهم مهيب أمام باب البحيرى وغادر فوراً بوجه متجهم تعجب له جمال وأمينة التى فضلت صحبة صديقتها التى تحركت بالسيارة خلف سيارة جمال مباشرة.
.....
دخل مروان لمكتب جده الذى ينتظره بلهفة ليجلس أمامه منتشيا : كله تمام يا جدى . ابن البحيرى مش هيلحق يتجوز أمينة ولا يتجوز غيرها.
تشابهت قسمات وجهيهما التى تعبر عن حقد لا يصعب رؤيته ليتابع فرج: خد بالك يا مروان اوعى حد يحس أن لينا يد فى اللى هيحصل بالذات ابوك وامك مابقوش مضمونين.
أكد مروان بثقة: ماتشلش هم يا جدى ده حتى جمال اخويا مايعرفش حاجة لحد دلوقتي . انا مكتم على السيرة كلها.
علت نسمات الظفر وجه فرج الذى بداخله يتوعد لكل من يعصاه أو يتمرد عليه مجددا لن يسمح أن يحدث مثل ما حدث فى الماضى، فى الماضى كان لديه الوقت لتصليح الأخطاء والتحكم فى مجريات الأمور أما اليوم فهو بالكاد يتحكم فيما يحدث ولن يسمح بفقدان هذا القدر من التحكم أيضاً.
.......
وصل جمال إلى القاهرة تتبعه مها التى ما إن توقفت سيارتها تساءلت أمينة: مش عاوزة بردو تقولى لى حصل ايه؟
هزت مها كتفيها: يا بنتى قولت لك مفيش انا كويسة
تنهدت أمينة بضيق: طيب انزلى. خليكى معايا النهاردة
كانت مها تشعر بضيق شديد فى صدرها تسبب فيه نظرات مهيب الذى اكتفى بالبعد والرفض الذى صفعته به، لا تشعر أنها قادرة على صحبة اى شخص حالياً وخصوصاً أمينة التى سيمكنها ببساطة فك رموز ما تخفيه والاطلاع على خبايا صدرها.
هزتها أمينة برفق: مها روحتى فين؟
أفاقت من شرودها: ها !! مفيش انا كويسة اهو بقولك يا أمينة بلاش انا النهاردة حاسة نفسى مرهقة ومش فى المود . انا هروح
زادت دهشة أمينة وثقتها أن ثمة ما تخفيه مها عنها لتتعجب: تروحى فين يا مها؟ مها انت ساكنة معانا فى العمارة من خمس شهور! لاانت مش
Out of mood انت Out of life
انزلى يا مها احنا اصلا فى جراچ العمارة .
استسلمت مها فهى بالفعل تشعر بتخبط لا يمكنها تحمله وحدها لكنها أيضاً عاجزة عن طلب المساعدة.
.......
دخل هلال غرفته بعد نهاية أعباء اليوم التى قلصها ليحصل على وقت خاص ليعيد ترتيب أفكاره التى تدور جميعاً حول السعادة ، كم يتمنى أن تسرع الأيام وتيرتها فيحظى بما يتمنى.
تفقد الهاتف لابد أنها وصلت أو كادت ، هل يهاتفها أم ينتظر أن تفعل؟
لم يفكر لوقت طويل وفاز قلبه ليطلب رقمها ولم تتأخر فى الإجابة ليتردد صوتها فى جنبات صدره : ازيك يا هلال؟
وكيف له أن يجيب وهى تبدل حاله ببضعة أحرف؟
هلال يصبح بخير تماماً حال اى تواصل معها ، فهل يخبرها ذاك صراحة أم ينتظر أن يصل إليها إحساسه؟
طال صمته لتتساءل: هلال انت سامعنى؟
ابتسم وكأنها أمامه: سامعك بس واحشنى صوتك
لم يصله رد منها ليتساءل: وصلتم؟
تنهدت : وصلنا بس مش عارفة مها جرى لها إيه. تصدق أول مرة اقولها تعالى عندى النهاردة وماترضاش
أومأ هلال وهو يستوعب الصورة التى غفلت عنها أمينة لكنه لا يحيط علما بالتفاصيل لذا يرى بعض الغموض الذى يدفعه للتساؤل: هى مها عايشة مع مين يا أمينة؟
أجابت أمينة بنبرة حزينة: لوحدها.. باباها ومامتها انفصلوا من زمان وكل واحد كمل حياته مع حد تانى.
زادت دهشة هلال ليتابع تساؤله: وهى ؟؟
تابعت أمينة: كانت عايشة مع جدتها بس اتوفت وأحنا فى الجامعة وبعدها مها رفضت تعيش مع باباها أو مامتها. كانت عايشة فى بيت جدتها بس من كام شهر نقلت وجت سكنت معانا فى العمارة.
زاد وضوح الصورة التى يجمع هلال تفاصيلها بدقة لكنه نحاها جانباً فهو الأن بحاجة للتشبع من أمينة لذا تساءل: أمينة كنت هتكلمينى ولا انا لسه مش فارق؟
أجابت بلا مراوغة: كنت هكلمك طبعا بس لما ارتاح شوية تعرف يا هلال رغم أنى قابلت تيتة أمينة قريب بس زعلانة عليها جدا. حسيت نفس الاحساس اللى حسيته لما ماما اتوفت وبعدها جدتى. حسيت انى وحيدة.
نهرها برفق: لا يا أمينة انت مش وحيدة ولا هتكونى وحيدة تانى أبدا.. انا عمرى كله هيبقى معاكى
تنهدت أمينة ليتساءل : مالك يا امينة؟ انا حاسس جواكى حاجات مخبياها عنى.
بالفعل هى تخفى عنه الكثير من المخاوف التى تدور عن كيفية متابعة الحياة معه، ومدى قدرته على تحمل ظروفها المرضية التى لم يغامر قبلا اى شخص بمحاولة تصورها.
أبعد هلال الهاتف يتأكد أن الاتصال لم ينقطع وتساءل مجدداً: خايفة من إيه يا أمينة؟
أجابت بصوت ينم عن الشرود: من نفسى .. ومنك .. ومن الأيام.. هلال انت مش عارف الحياة مع شخص مريض ممكن تبقى ازاى. مش عارف حالتى ممكن تسبب لك إيه
استنكر هلال فوراً: أمينة انت فاكرانى جاهل؟ انا عارف كل حاجة عن حالتك وازاى نتعايش معاها قولت لك قبل كده الأمراض المزمنة كلها امراض تعايش انت بس تغير الفصول هيبقى صعب عليكى شوية وهتحتاجى رعاية زيادة يعنى مثلاً بالليل لازم تقفلى شبابيك البيت كله لانك لو قومتى وقابلك الهوا ممكن توصل لأزمة والصبح لازم تهوى قبل ما تخرجى لانك لو خرجتى وقابلك الهوا بردو ممكن تاخدى أزمة . الدخان والروايح ممنوع . يعنى مش هنعمل فراخ مشوية فى البيت زى بعضه ممكن اعيش من غير فراخ مشوية علشان خاطرك .
منذ بدأ يتحدث تزايدت ضربات قلبها بشكل رتيب وتصاعدت بانتظام لا تغفله أمينة، هو بالفعل يحرص على الإحاطة بكل ما ستحتاج إليه لكنها تتخوف رغم ذلك فهى لم تعتد التقبل بهذه البساطة، لطالما عانت من عدم تقبل الآخرين فكيف تغير الوضع بين يوم وليلة؟
بل كيف يكون هلال يختلف عن كل من مروا بحياتها؟
تابع هلال حديثه بنبرة هادئة تكاد تصل للهمس: وفى حاجات تانية ماينفعش نتكلم فيها دلوقتى بس ماتقلقيش أنا فاهم يا أمينة وهرعاكى عمرى كله. أمينة انت مش هتصدقى لو قولت لك بحبك لأننا نعرف بعض من وقت قريب جدا بس القلوب بإيد ربنا وانا كل يوم بيمر علينا بتأكد فيه انك بتكملينى . انت اللى كنت مستنى اقابلها يا أمينة ومن حسن حظي انك هتبقى ليا.
عاد الصمت يخيم عليهما، هى لا تستطيع مجابهة كل هذه المشاعر التى يضخها هلال لتحيطها بتفاصيل جديدة عليها ومشاعر مجهولة لها. دقات حماسية أو هى تظنها كذلك ايسر صدرها بعضا منها يتبعها للمتابعة وزيادة القرب من هلال والبعض الأخر يخشى أن تفعل.
.......
جلس سليمان وفاطمة التى أرهقت كليا فى تنظيف المنزل وترتيب متعلقات حماتها فى غرفة خاصة اغلقتها بعد ذلك، أعدت طعاماً بسيطا وجلس سليمان ليشاركها رغم فقدانه الشهية بشكل كامل . يعلم أنها حزينة لعدم تفقد ابنهما الأكبر لهما أو ابداء رغبته فى رفقتهما ولو كذبا.
قطعت الخبز وتناولت بعضا من الجبن وما إن دست الطعام بين شفتيها حتى عجزت عن ابتلاعه وشعرت برغبة فى لفظه مجدداً .
نظر لها سليمان بشفقة: مش قادرة تاكلى يا فاطنة؟
نظرت له ولم تتحدث ليتابع: الحنية مابتتشحتش يا بنت عمى وأحنا ربنا ابتلانا باللى قلوبهم قاسية.
اومأت بصمت ليتابع: واللى قلبه حنين انجرح يا ولداه .
تنهدت وقد فهمت أنه يشير إلى مهيب الذى لزم الغرفة منذ عاد ولا يصعب على اى منهما رؤية ألمه الذى يدعى عدم وجوده، ولا يظهر على ملامحه هذا الخير الذى يدعيه، كانت نظراته واضحة وعينيه تتحدث بإفاضة عما يكنه صدره مع سعادة تحلق فوق قسماته بترو رغم ما ألم بهم من أحداث مؤسفة ومع انكسار عينيه اليوم وذلك الوجوم الذى استعمر ملامحه لا يصعب على اى منهما توقع ما حدث ولا يتمكنا سوى من التألم بصمت كما يفعل هو تماماً.
التفتت نعمة لنفس الاتجاه: كلمينى عن أمينة يا جليلة، كانت عاملة إيه مع فرج؟ طول عمره شديد ومحدش بيقدره
نكست جليلة رأسها وهى تعترف أمام نفسها أنها كانت معولا بيد فرج يساعده على هدم إنسانية وكرامة أمينة، يعتصر الندم قلبها كما اعتادت منذ سنوات لتتعجب نعمة صمتها: ساكتة ليه يا جليلة؟
نظرت لها جليلة وهى تبحث عن كلمات تجيب بها دون أن تتمكن من الحصول عليها لتتنهد نعمة: كنت عارفة. قلبى كان حاسس أنها هى كمان متعذبة
.............
مرت وداد بمجلس زوجها وجمال ليستوقفها عرفة: وداد هاتى شبكة أمينة.
وقبل أن تتحرك اعترض جمال: لا يا ست وداد
ثم نظر نحو عرفة: خليها يومين يا عرفة . مش عاوز ذكريات أمينة عن الشبكة ترتبط اكتر من كده بالحزن. اسبوع كده ويجى هلال مصر يلبسها لها .
تحركت وداد نحو المطبخ مجددا فهى تراه محقا تماماً فى رغبته منح ابنته ذكريات جيدة عن بداية ارتباطها كما أن ابنها أيضا يستحق بعض الذكريات الجيدة فهى ترى أنه لم يحظ بما يستحق بعد.
.....
ظلت مها تسير فى الحديقة رغم أن مساحتها ليست كبيرة بشكل يمنح فرصة للتجول لوقت طويل لكنها تهرب من مهيب فهى لا تريد أن تواجهه بعد أن قررت رفض طلبه الذى قدمه بجنون راقها كثيرا.
اقتربت لترى أمينة برفقة هلال وهذه الفرسة المميزة، هى سعيدة لأجل صديقتها وتتمنى لها الخير، تتمنى أن تحصل على الحب الذى طالما انتظرت ظهوره بحياتها بعد عدة خيبات كادت أن تفقدها الثقة فى نفسها.
تتذكر مها جيدا أيام الدراسة بالجامعة حيث تعرضت أمينة لأكثر من مرة للرفض بسبب مرضها حتى اعتادت إخفاء أمره عن الجميع.
اكتفت بتلك الصورة وهذه الابتسامة التى تراها تكلل وجه أمينة لتسير فى الاتجاه المعاكس لمكان وجودهما ليس لتمنحهما الخصوصية فحسب بل لتمنح نفسها أيضا.
مر الوقت سريعا وكان عليهم المغادرة . اقتربت أمينة برفقة هلال الذى تساءل: أمينة ممكن تطمنينى عليك اول ما توصلى؟
اومأت بصمت لترى وداد يسير خلفها عدة فتيات ويتجهن جميعا نحو السيارة لتحث خطواتها: إيه ده يا طنط؟
أشارت وداد لما تحمله الفتاة: ده برام رز مدسوس يستاهل بؤك علشان تتغدوا بيه ما هو مش معقول هتروحوا تدوروا على غدا
تنهدت أمينة مستسلمة وهى تشير لما تحمله فتاة أخرى: طيب هنتغدا بالرز إيه لازمة الفطير ده كمان؟
شهقت وداد مستنكرة: تتعشوا بيه . ولا عاوزة تنامى من غير عشا ويجى لك هبوط؟
هزت أمينة رأسها: لا طبعا يجى لى هبوط ازاى! اتعشى فطير ويجى لى تخمة احسن
وكزتها وداد معترضة لتستنكر ما تحمله الفتاة الثالثة: وايه ده كمان؟ طنط إحنا مش هنشيل كل الاكل ده ؟ ده كتير اوى
عادت وداد تستنكر: امال هتاكلوا الرز بإيه؟ ده كل الحكاية صنية بطاطس مدسوسة على فراخ وبرام خضار باللحمة بس
ابتسمت أمينة ببلاهة: بس!!
دفعتها وداد : همى افتحى شنطة العربية واعملى حسابك صحتك مش عجبانى خالص اتغذى كويس خلى وشك ينور زى اول مرة شوفتك فيها
ابتسمت أمينة وسارت تتابع اعتراضها الذى لن يمنع وداد : ده كتير اوى الأكل ده ياطنط
بدأت وداد ترتيب الطعام: ليكى ولصاحبتك هدية من ستك نعمة .
أقبلت فتاة أخرى لتنظر لها أمينة بصدمة لكن وداد عاجلتها: حتتين جبنة وشوية عسل للفطار يووه ! باين عليكى هفتانة خالص.
لم تنتبه أمينة لمغادرة هلال إلا مع عودته يحمل فوق كتفه قفصا كبيراً أظهر حمله له قوة ذراعيه وعضلاته المصقولة لتبحر عينيها فى روعة هيئته حتى توقف أمامها ليهمس: انا عارف انى حلو مش لازم تقولى
أفاقت لتنهره متسائلة: وده إيه ده كمان؟
انزل القفص ليضعه بالسيارة : شوية رمان مادام بتحبيه.
اغلق حقيبة سيارة جمال لتتساءل: شوية؟ قفص رمان بقى شوية؟
أشارت له ليقترب برأسه منها فتتساءل: هتدبحونى امته بقا؟
لم يضحك لكنه ابتسم لهذا القرب وعينيه تحيط قسماتها التى عادت لها بعضا من المشاكسة: لو فضلتى قريبة كده انا اللى هندبح.
همسته دقت أبواب قلبها لتعلو دقاته تفاعلا مع لمحة الرضا التى تكسو ملامحها وهى عاجزة تماماً عن الابتعاد عنه أو دفعه للابتعاد لكن جاءت النجاة مع دفعة من وداد: انت بتبرق لها كده ليه ؟ هتطفش منك يا واد.
انطلقت ضحكاتهما معا هذه المرة وكل منهما ينظر نحو وداد التى تهربت عينيها ليفهم هلال أن أمه أحاطت تماما بكل انفعالاته وهذا اشعره بالحرج ليبتعد للخلف: هتوحشينى يا أمينة خدى بالك من نفسك.
ودعهم مهيب أمام باب البحيرى وغادر فوراً بوجه متجهم تعجب له جمال وأمينة التى فضلت صحبة صديقتها التى تحركت بالسيارة خلف سيارة جمال مباشرة.
.....
دخل مروان لمكتب جده الذى ينتظره بلهفة ليجلس أمامه منتشيا : كله تمام يا جدى . ابن البحيرى مش هيلحق يتجوز أمينة ولا يتجوز غيرها.
تشابهت قسمات وجهيهما التى تعبر عن حقد لا يصعب رؤيته ليتابع فرج: خد بالك يا مروان اوعى حد يحس أن لينا يد فى اللى هيحصل بالذات ابوك وامك مابقوش مضمونين.
أكد مروان بثقة: ماتشلش هم يا جدى ده حتى جمال اخويا مايعرفش حاجة لحد دلوقتي . انا مكتم على السيرة كلها.
علت نسمات الظفر وجه فرج الذى بداخله يتوعد لكل من يعصاه أو يتمرد عليه مجددا لن يسمح أن يحدث مثل ما حدث فى الماضى، فى الماضى كان لديه الوقت لتصليح الأخطاء والتحكم فى مجريات الأمور أما اليوم فهو بالكاد يتحكم فيما يحدث ولن يسمح بفقدان هذا القدر من التحكم أيضاً.
.......
وصل جمال إلى القاهرة تتبعه مها التى ما إن توقفت سيارتها تساءلت أمينة: مش عاوزة بردو تقولى لى حصل ايه؟
هزت مها كتفيها: يا بنتى قولت لك مفيش انا كويسة
تنهدت أمينة بضيق: طيب انزلى. خليكى معايا النهاردة
كانت مها تشعر بضيق شديد فى صدرها تسبب فيه نظرات مهيب الذى اكتفى بالبعد والرفض الذى صفعته به، لا تشعر أنها قادرة على صحبة اى شخص حالياً وخصوصاً أمينة التى سيمكنها ببساطة فك رموز ما تخفيه والاطلاع على خبايا صدرها.
هزتها أمينة برفق: مها روحتى فين؟
أفاقت من شرودها: ها !! مفيش انا كويسة اهو بقولك يا أمينة بلاش انا النهاردة حاسة نفسى مرهقة ومش فى المود . انا هروح
زادت دهشة أمينة وثقتها أن ثمة ما تخفيه مها عنها لتتعجب: تروحى فين يا مها؟ مها انت ساكنة معانا فى العمارة من خمس شهور! لاانت مش
Out of mood انت Out of life
انزلى يا مها احنا اصلا فى جراچ العمارة .
استسلمت مها فهى بالفعل تشعر بتخبط لا يمكنها تحمله وحدها لكنها أيضاً عاجزة عن طلب المساعدة.
.......
دخل هلال غرفته بعد نهاية أعباء اليوم التى قلصها ليحصل على وقت خاص ليعيد ترتيب أفكاره التى تدور جميعاً حول السعادة ، كم يتمنى أن تسرع الأيام وتيرتها فيحظى بما يتمنى.
تفقد الهاتف لابد أنها وصلت أو كادت ، هل يهاتفها أم ينتظر أن تفعل؟
لم يفكر لوقت طويل وفاز قلبه ليطلب رقمها ولم تتأخر فى الإجابة ليتردد صوتها فى جنبات صدره : ازيك يا هلال؟
وكيف له أن يجيب وهى تبدل حاله ببضعة أحرف؟
هلال يصبح بخير تماماً حال اى تواصل معها ، فهل يخبرها ذاك صراحة أم ينتظر أن يصل إليها إحساسه؟
طال صمته لتتساءل: هلال انت سامعنى؟
ابتسم وكأنها أمامه: سامعك بس واحشنى صوتك
لم يصله رد منها ليتساءل: وصلتم؟
تنهدت : وصلنا بس مش عارفة مها جرى لها إيه. تصدق أول مرة اقولها تعالى عندى النهاردة وماترضاش
أومأ هلال وهو يستوعب الصورة التى غفلت عنها أمينة لكنه لا يحيط علما بالتفاصيل لذا يرى بعض الغموض الذى يدفعه للتساؤل: هى مها عايشة مع مين يا أمينة؟
أجابت أمينة بنبرة حزينة: لوحدها.. باباها ومامتها انفصلوا من زمان وكل واحد كمل حياته مع حد تانى.
زادت دهشة هلال ليتابع تساؤله: وهى ؟؟
تابعت أمينة: كانت عايشة مع جدتها بس اتوفت وأحنا فى الجامعة وبعدها مها رفضت تعيش مع باباها أو مامتها. كانت عايشة فى بيت جدتها بس من كام شهر نقلت وجت سكنت معانا فى العمارة.
زاد وضوح الصورة التى يجمع هلال تفاصيلها بدقة لكنه نحاها جانباً فهو الأن بحاجة للتشبع من أمينة لذا تساءل: أمينة كنت هتكلمينى ولا انا لسه مش فارق؟
أجابت بلا مراوغة: كنت هكلمك طبعا بس لما ارتاح شوية تعرف يا هلال رغم أنى قابلت تيتة أمينة قريب بس زعلانة عليها جدا. حسيت نفس الاحساس اللى حسيته لما ماما اتوفت وبعدها جدتى. حسيت انى وحيدة.
نهرها برفق: لا يا أمينة انت مش وحيدة ولا هتكونى وحيدة تانى أبدا.. انا عمرى كله هيبقى معاكى
تنهدت أمينة ليتساءل : مالك يا امينة؟ انا حاسس جواكى حاجات مخبياها عنى.
بالفعل هى تخفى عنه الكثير من المخاوف التى تدور عن كيفية متابعة الحياة معه، ومدى قدرته على تحمل ظروفها المرضية التى لم يغامر قبلا اى شخص بمحاولة تصورها.
أبعد هلال الهاتف يتأكد أن الاتصال لم ينقطع وتساءل مجدداً: خايفة من إيه يا أمينة؟
أجابت بصوت ينم عن الشرود: من نفسى .. ومنك .. ومن الأيام.. هلال انت مش عارف الحياة مع شخص مريض ممكن تبقى ازاى. مش عارف حالتى ممكن تسبب لك إيه
استنكر هلال فوراً: أمينة انت فاكرانى جاهل؟ انا عارف كل حاجة عن حالتك وازاى نتعايش معاها قولت لك قبل كده الأمراض المزمنة كلها امراض تعايش انت بس تغير الفصول هيبقى صعب عليكى شوية وهتحتاجى رعاية زيادة يعنى مثلاً بالليل لازم تقفلى شبابيك البيت كله لانك لو قومتى وقابلك الهوا ممكن توصل لأزمة والصبح لازم تهوى قبل ما تخرجى لانك لو خرجتى وقابلك الهوا بردو ممكن تاخدى أزمة . الدخان والروايح ممنوع . يعنى مش هنعمل فراخ مشوية فى البيت زى بعضه ممكن اعيش من غير فراخ مشوية علشان خاطرك .
منذ بدأ يتحدث تزايدت ضربات قلبها بشكل رتيب وتصاعدت بانتظام لا تغفله أمينة، هو بالفعل يحرص على الإحاطة بكل ما ستحتاج إليه لكنها تتخوف رغم ذلك فهى لم تعتد التقبل بهذه البساطة، لطالما عانت من عدم تقبل الآخرين فكيف تغير الوضع بين يوم وليلة؟
بل كيف يكون هلال يختلف عن كل من مروا بحياتها؟
تابع هلال حديثه بنبرة هادئة تكاد تصل للهمس: وفى حاجات تانية ماينفعش نتكلم فيها دلوقتى بس ماتقلقيش أنا فاهم يا أمينة وهرعاكى عمرى كله. أمينة انت مش هتصدقى لو قولت لك بحبك لأننا نعرف بعض من وقت قريب جدا بس القلوب بإيد ربنا وانا كل يوم بيمر علينا بتأكد فيه انك بتكملينى . انت اللى كنت مستنى اقابلها يا أمينة ومن حسن حظي انك هتبقى ليا.
عاد الصمت يخيم عليهما، هى لا تستطيع مجابهة كل هذه المشاعر التى يضخها هلال لتحيطها بتفاصيل جديدة عليها ومشاعر مجهولة لها. دقات حماسية أو هى تظنها كذلك ايسر صدرها بعضا منها يتبعها للمتابعة وزيادة القرب من هلال والبعض الأخر يخشى أن تفعل.
.......
جلس سليمان وفاطمة التى أرهقت كليا فى تنظيف المنزل وترتيب متعلقات حماتها فى غرفة خاصة اغلقتها بعد ذلك، أعدت طعاماً بسيطا وجلس سليمان ليشاركها رغم فقدانه الشهية بشكل كامل . يعلم أنها حزينة لعدم تفقد ابنهما الأكبر لهما أو ابداء رغبته فى رفقتهما ولو كذبا.
قطعت الخبز وتناولت بعضا من الجبن وما إن دست الطعام بين شفتيها حتى عجزت عن ابتلاعه وشعرت برغبة فى لفظه مجدداً .
نظر لها سليمان بشفقة: مش قادرة تاكلى يا فاطنة؟
نظرت له ولم تتحدث ليتابع: الحنية مابتتشحتش يا بنت عمى وأحنا ربنا ابتلانا باللى قلوبهم قاسية.
اومأت بصمت ليتابع: واللى قلبه حنين انجرح يا ولداه .
تنهدت وقد فهمت أنه يشير إلى مهيب الذى لزم الغرفة منذ عاد ولا يصعب على اى منهما رؤية ألمه الذى يدعى عدم وجوده، ولا يظهر على ملامحه هذا الخير الذى يدعيه، كانت نظراته واضحة وعينيه تتحدث بإفاضة عما يكنه صدره مع سعادة تحلق فوق قسماته بترو رغم ما ألم بهم من أحداث مؤسفة ومع انكسار عينيه اليوم وذلك الوجوم الذى استعمر ملامحه لا يصعب على اى منهما توقع ما حدث ولا يتمكنا سوى من التألم بصمت كما يفعل هو تماماً.