الفصل الحادى عشر
كانت ليلة طويلة عاقر فيها أهل البيت أحزانهم حتى كادت أن تنتصف ليتفرق الجمع الذى جاء مؤازا .
لم يبق سوى أهل البيت وصديقات أمينة اللائى عدن للعزاء ليفضل جمال العودة لمنزله وصحبتهن فهو لا قبل له بتحمل هذا البيت الذى خلا من أنفاس أمه.
تحرك فرج الذى أظهر ثباتاً يحسد عليه ليخترق تجمع أسرته فيقف سليمان منتفضا: أبا
وقف فرج دون أن يلتفت ليتابع سليمان: يا أنى وولادى فى الدار دى يا جليلة . أخرى تالت يوم عزا وهخرج من الدار.
وقف مروان معترضا: انا مش هسيب دار جدى ابدا
رفع فرج رأسه منتشيا بدعم حفيده المفضل بينما نظر سليمان لابنه: وانى مش هعمل زى جدك واقولك اللى يعصانى مش منى .. بس هقولك كل واحد متعلق من عرقوبه وانت حر لما تلف بيك الدنيا هتلاقى دار ابوك مفتوح.
ثم نظر إلى زوجته التى تحركت بتثاقل ليمد لها ذراعه فتتكأ عليه ويتوجهان للدرج بصمت راقبه الجميع دون أن تحاول فاطمة التساؤل عما يحدث فهى تشعر بجرحه وعليها تضميده لا فتحه .. نظرت أمينة نحو أبيها ليشير لها برأسه فتنظر هى لمها التى قالت : يلا يا بنات
ولم يخترق صمت اللحظات التالية سوى صوت الخطوات المغادرة التى يبدو أنها لن تكون النهاية .
مرت ليلة عصيبة أخرى لازمت فيها أمينة فراشها رغم أنها عانت من الاختناق عدة مرات .. مرضها يشعرها بالضعف وهى تكره كونها ضعيفة .. تصالحت مع طبيعتها منذ سنوات لم تعد مناقشة حالتها الصحية تزعجها لكنها رغم ذلك تفضل عدم الأفصاح عنه للجميع .
مع بداية يوم جديد بدلت ملابسها فهى بحاجة لممارسة الرياضة.. كل من يهمها أمره أصبح يعلم بأمر مرضها وممارسة الرياضة جزء أساسى من تعايشها مع مرضها لتتقى تتابع الأزمات .
غادرت المنزل لتتحرك نحو الطريق الممهد الممتد قرب الحقول حيث الهواء النظيف الأكثر إفادة لها .
كانت لا تزال تحت وطأة الحزن الذى يقلل من عزيمتها وحماسها لكنها تسير بأسرع ما تتحمله رئتيها .
أشعة الشمس التى بالكاد تلامس الأرض زادت من روعة المشهد الذى منحها طاقة إضافية دفعتها للمتابعة .. كان بعض الفلاحين يمرون بالقرب منها وجميعهم يلقى التحية ويتابع طريقه وهى تتابع سيرها .
بدأت أنفاسها تتعالى لتتوقف جانبا مستندة بكفها لشجرة كبيرة .. سمعت صوت هرولة خلفها لتستعد لرفض العرض بالمساعدة لكنها دهشت حين سمعت صوته متسائلا بنبرة محملة بالقلق: مالك يا أمينة؟؟ بتعملى إيه هنا؟؟
التفتت نحوه متسائلة: انت اللى بتعمل ايه هنا؟
هز كتفيه مجيبا:بروى ارضى ..معادى النهاردة..انت تعبانة؟؟ مالك؟؟
زاد قربا لتنظر هى نحو الأرض بفضول : لا انا كويسة بس بتمشى شوية .. المشى جزء من يومى المفروض تعرف بيساعدنى اقلل الأزمات واتنفس احسن .
أومأ بتفهم لتتابع : فكرت ولا لسه؟!
إلتقى حاجبيه بدهشة: فكرت فى إيه؟؟
تقدمت تتخطاه نحو الأرض متابعة: إن الحياة مع واحدة مريضة هتبقى متعبة
تبعها بهدوء: الأمراض المزمنة امراض تعايش طول ما انت محافظة على النظام اللى الدكتور حدده الدنيا تمام ولو حصل والموضوع خرج عن السيطرة انا هكون جمبك .
رفعت رأسها تنظر له بتشكك.. تعلم ما أخبرها به للتو لكنها لا تعلم هل سيفى بدعمه ام سيمل من رعايتها ؟
عادت تنظر نحو الأرض ثم تقول : انا هكمل مشى واروح
لحق بها: استنى جاى معاكى
تساءلت: مش هتروى ارضك؟؟
بدأ ينفض الغبار عن ملابسه فهذا ما يمكنه أن يحصل عليه من تأنق فى الوقت الحالى: الرجالة هيكملوا انا رايح جنينة الفاكهة تيجى معايا؟
فرصة جيدة لها فرغم أنها لا تشعر برغبة فى الصحبة لكنها تريد صحبته علها تفك بعضا من طلاسم شخصيته.
سار بجوارها ليقول: انا عارف أن صعب تتكلمى وانت ماشية بس انا كنت هاجى النهاردة ازورك محتاج اوضح لك حاجة ..نوصل الجنينة ونتكلم .
اومأت بصمت استمر حتى وصلا للحديقة التى تضم أشجار الرمان لتتقدم وتجلس قرب أول شجرة وهى تقطف إحدى الثمرات متسائلة: افصفص لك واحدة؟
رآها تخرج مدية صغيرة وتقطع الثمرة ببراعة لكنه تساءل: تعملى إيه؟؟ وايه ده ماشية بمطوة فى جيبك؟
نظرت للمدية بدهشة: مطوة إيه يا عم انت هتلبسنى قضية ؟ وبعدين بعمل ايه يعنى ده انا بفصفص رمانة ابل ريقى ..انت شكلك بخيل وهتتعبنى
جلس بجوارها وهو يقطف ثمرة أيضا: يا أما اتكلمى زى الناس مفيش حاجة اسمها افصفص اسمها افصص والرمان بيتفرط مش بيتفصفص.
نظرت للحبات الكهرمانية بكفها لترفعها لفمها مباشرة فهى لا تهتم بالمسمى الذى يصل بهذه الحبات اللذيذة إليها المهم انها تتذوقها بتلذذ .. رفعت عينيها إليه فهى لم يفتها خطأه فى النطق لكنها ليست فى حالة جيدة لتتبعه لذا قالت: قول يا هلال عاوز توضح لى إيه!!
أمسك حطبة جافة يخطط فوق الأرض للحظات لتحثه: لو خلصت الرمانة وانت ساكت هقوم اروح
نظر لها وتحدث بهدوء: أمينة من ساعة ما خطبتك فى شوية أحداث مؤسفة بتحصلك .. طبيعى انك تخافى أو يحصل أن حد يربط لك بينى وبين اللى بيحصل معاكى .
ابتلعت أمينة بتلذذ كأنها لم تسمعه وهى تخرج منديلا وتجمع داخله مخلفات الرمانة وتمسك ثمرته متسائلة: هتاكل دى ؟؟
هز رأسه نفيا: انت سمعتى اللى قولته ؟
بدأت تقطع الثمرة وهى تقول: شوف يا هلال ..انا لا بتشاءم ولا بحب التشاؤم وانا كبيرة كفاية علشان اعرف أن مفيش رابطة بين خطوبتنا وبين اللى بيحصل . اللى بيحصل ده قضاء الله ولا راد لقضاءه .. الناس تتكلم ،تسكت مش هتفرق كتير . انا اللى يفرق معايا انت هتقدر تكمل ولا لا؟ والصراحة احسن واقصر طريق واتمنى انك تحدد موقفك من غير ما حد فينا يتوجع.
لم تمنحه وقتا ليجيب و رفعت كفها تتناول حبات الرمان لتتساءل: ليه رمانتك احلى من رمانتى ؟؟ إيه الظلم ده !
ابتسم هلال: اصلى محظوظ
مغرور
همهمت بصوت مسموع ليضحك : انا بجد محظوظ انى عرفتك يا أمينة
غبى
همهمت مجددا ليرفع حاجبيه بدهشة فتتابع: الجملة دى مقدمة لإنهاء علاقة مش تقولها لخطيبتك؟؟ تنين بعقل عصفورة !!
لم يستجب للمزاح بل احتدت ملامحه وتساءل: وانت تعرفى منين أنها مقدمة لإنهاء علاقة؟؟
نفضت كفيها من أثر حبات الرمان التى إلتهمتها بوقت قياسى لتجيب بلا تفكير: كل اللى جم يخطبونى قبلك قالوها لما عرفوا انى عيانة صح بابا كان بيخبى عليا بس انا كمان كنت بخبى عليه أنهم بيتصلوا بيا وانا بقولهم يكلموه.
قبضة غاشمة اعتصرت أيسر صدره ليسب نفسه على هذه الملاحظة التى زادتها ألما وإن لم تظهر ذلك .. إلتقط ثمرة أخرى دون الحاجة للحركة ليقدمها لها: كلى دى كمان علشان خاطرى
نظرت للثمرة المغرية ولم تتردد وهى تأخذها: لو ماكنتش تحلف !!
ابتسم وعاد للرسم على التراب بحطبته لتتحدث هى: الجو هنا احسن من مصر كتير ..فى مصر مااقدرش امشى شوية كده أبدا ..بس عندى جهاز مشى فى البيت
قاطعها هلال: بسيطة اتجوزينى واقعدى هنا علطول .
رفعت مديتها بوجهه محذرة: عندى شرط
قرب صدره منها لكنها لم تتراجع ورفعتها لتضرب بها وجنته بلطف: غمازاتك
ارتد للخلف وارتفع حاجبه الأيسر لتتابع: لو ماطلعوش للعيال هخلعك
ضحك هلال وشاركته بإبتسامة واسعة قبل أن ينهض ويقدم لها كفه :ما دام وصلنا للعيال يلا نمشى احسن الشيطان شاطر وأحنا وحدينا
وضعت كفها بكفه سامحة له بسحبها حتى استقامت أمامه لتقول : ماتخافش معايا سلاح
تعجب لجمعها المنديل والاحتفاظ به لكنه لم يعلق وسار بجوارها بصمت ليتخذا نفس الطريق للعودة .. مرا بأرضه مجددا لتتساءل: انت زارع ايه؟
أجاب بهدوء: غلة
أجابت فورا: عارفاها بتاعة البليلة ابقى هات شوية.
لاحظ فورا تغير حدة تنفسها ليتابع فيرغمها على الصمت: والارض البحرية زارعها مآتة تاخدى شوية؟
توقفت خطواتها لتتخصر وتضيق عينيها بشكل مضحك: انت فاكرنى جاهلة؟ المآتة دى عصاية بتلبس جلبية وتهش العصافير .
هيئتها، طريقتها، نظراتها وتلك الحدة الساذجة كل ما فيها يطلق ضحكات نابعة من صدره ترك لها العنان لتحلق معبرة عن سعادته ومغيرة مشاعره السلبية التى عانى منها ليلة أمس بسبب مخاوفه التى اكتشف انها مجرد مزاعم لا أساس لها ، رأى تصاعد الغضب لملامحها ليتوقف عن الضحك رافعا كفه لفمه ليوقف تدفق ضحكاته وهو يقول: يا أمينة انت لو عايشة هنا كنت عرفتى أن خيال المآتة اسمه كده علشان اتعمل يحرس المآتة من الطير واكترها ابو قردان وغربان مش عصافير . أما المآتة نفسها فهى انواع خضار زى الطماطم والخيار والقرع بكل أنواعه
قاطعته وملامح وجهها تعبر عن تعجبها لما يقول: اوعى تكون بتضحك عليا؟
عاد يضحك: طب اسألى...
نفقت الضحكات فوق شفتيه وبهتت ملامحه وقد كاد يطلب منها أن تسأل جدتها ويبدو أن هذا وصل لها ليرتخى ذراعيها بينما ابتلع ألمه الذى نبت بين عينيها: مش بضحك عليكى وإسألى عمك سليمان لو مش مصدقانى
بدأت تتحرك وتعود للسير: لا انا بثق فيك يا هلال عارفة انك مش بتضحك عليا بس بحب اعاكسك .
ابتسم للتلقائية التى تحدثت بها قبل أن يصمت وهى لم تسمح لها رئتيها بمتابعة الحديث لتتأكد أنها بحاجة لزيارة طبيبها فى أقرب وقت .
وصلا لقرب الباب لتقف وتقول له: روح انت بقا
أشار نحو المنزل: اسلم على عمى زمانه صحى
لم تفكر فى المراوغة : لا صحباتى هنا
اقترب خطوة واحدة وتساءل بترقب: بتغيرى عليا يا أمينة؟
حاولت أن تحاكى تعبير وجهه للدهشة برفع حاجب واحد لكنها بدت مضحكة وشعرت بذلك لتتحرك للداخل فورا هربا من انتظاره إجابة منها .
*************
لم يبرح فرج المقعد منذ ليلة أمس.. مرت أمام عينيه كل حياته مع ابنة عمه التى لم يقدم لها أى حياة.
تصفعه كلماتها الأخيرة ويرفض عقله التصديق. دارت عينيه بالغرفة.. إنها نفس الغرفة التى شهدت جدرانها كامل حياتها معه.. عادت أفكاره لأول ليلة زج بها إلى الغرفة.. لازال يذكر جيداً كيف كانت ترفض النظر إليه..
نظر نحو الباب وهو يرى نفسه يعبره بينما كانت أمينة تجلس بطرف الفراش مطرقة الرأس.. وقف أمامها وهى ترفض النظر نحوه فاقترب ليتحدث بنبرة ساخرة: نورتى دارك يا بت عمى
لم ترفع رأسها ولم تجب ليتساءل:لسه قلبك محروق على ابن البحيرى ولا إيه؟
فى هذه اللحظة رفعت له وجها كساه الحزن ليتأكد من ظنونه فتكن أول صفعة تلقتها من كفه ألقت بها فوق الفراش .
تنهد فرج ونكس وجهه حزنا لتهبط عينيه للأرضية الصماء التى لم تتغير فيرى فستان زفاف ممزق نزعه عنوة دون أي مراعاة .
اغمض عينيه ليسمع نحيبا خافتا طالما صم أذنيه عنه وعن أنين ألمها كذلك منذ ليلة زفافهما حين نالها قسراً .. هى لم تمنحه نفسها مطلقاً.. وتنكر أنها عشقت غيره !!
أتظنه بهذه السذاجة؟؟
لقد كرهته وكرهت لمسته لها.. كرهته وكانت تنعى نفسها كلما نالها وكأنه يقتلها.. وغضبت لأنه حرم نفسه عليها .
منذ متى لم يمسها؟؟
لا يذكر، بل يذكر جيداً.. منذ تزوج جليلة.
كم سنة مرت ؟؟
سنوات طويلة تعذب فيها لبعده عنها .. كان يتعذب كما يعذبها.. لكنه كان يصل لخلاصه بعيداً عنها ويتركها للقتل البطئ الذى يدفعها نحوه بالحرمان .
عن أى حرمان يتحدث!! لقد كانت تكرهه.. لقد قدم لها معروفاً .. على الأقل توقفت عن البكاء
..لا يذكر متى توقفت عن البكاء ؛
بل يذكر جيداً.. بعد موت ابن البحيرى.. بل بعد أن تزوج من جليلة الخادمة.
عاد يفتح عينيه هربا من هذا النحيب لتسقط عينيه على صورتها المعلقة فوق الجدار .. من الجيد أن زوجة ابنه سهت عنها .
نظر لها فكانت عينيها خالية من الحياة.. عاشت معه عمرا وعينيها تخبره بموت روحها ولم ير هذا الموت حتى ماتت هى .
هل قتلها؟؟
لم يفعل..هى قتلته يوم قبلت بغيره، يوم عشقت غيره، يوم بكت حبيبا غيره.. هى قتلته وكان عليه أن ينتقم.. وانتقامه لم ينته بعد
ظل طيلة الليل بين أفكاره وذكرياته .. يدين نفسه مرة ويدينها ألف مرة .
مع الصباح الجديد قرر إغلاق هذه الغرفة للأبد.. إن غادرت هى فليهجر كل ما يذكره بها.
فى موعد فطوره طرق الباب لتدخل الخادمة وتضع الطعام أمامه: الفطار يا سيدى الحج
لم يبد عليه أنه سمعها لتترك الطبق أمامه وتهم بالأنصراف لكنه قال : شيعى لى ستك جليلة
نظرت له الفتاة بدهشة ورغم أنه لا يراها توقع رد فعلها لينهرها: همى چاك الهم .
هرولت الفتاة فلا احد يعلم متى اصبحت جليلة الخادمة سيدة بهذا البيت الذى طالما وضع فيه حدا فاصلاً بين سيده وبين الجميع حتى زوجته الراحلة .
*************
اجتمعت الأسرة حول طاولة الفطور التى أعدت بأمر فاطمة التى ضمت أحزان زوجها ليلا بضمه لصدرها كطفل صغير وهو لم يمانع بل كان بحاجة احتواءها له فتلهف لتلك الضمة التى سكنت انين روحه ليغفو دون أن يتحدث اى منهما بكلمة واحدة
جلس فرج على رأس المائدة كما اعتاد مظهرا قوته المعروفة .. تلفت حوله فهو لم ينس تهديد سليمان ولن يمرره مرور الكرام .
رفع صوته مناديا تلك الخادمة التى هرولت نحوه ليسألها: فين ستك جليلة؟
ارتفعت الأعين نحوه بفزع لتجيب الخادمة: والله يا سيدى قلبنا الدار مالهاش اثر
انتفض فرج ضارباً الأرض بعصاه: يعنى إيه!!هتروح فين يعنى؟؟
ترك سليمان الطعام وغادر فورا يلحقه مهيب بينما قالت فاطمة: انا شيفاها مع رقرقة النهار خارجة ومعاها صرة باينها طفشت
ضرب الأرض مجددا: طفشت راحت فين؟ وقعتها اسود من القطران
اشاحت فاطمة بلا إهتمام: ما تروح مطرح ما تروح يا عمى .. إن راحت ولا جت حتة خدامة !!
ليعلن فرج بلا تردد: جليلة مش خدامة ..جليلة مراتى
ضربت فاطمة صدرها بفزع؛ هذا سبب صمت سليمان وقهره وإصراره على ترك البيت .
لكن كيف كانت زوجة عمها تعامل جليلة بهذا الود؟
ألم تكن تعلم!!
مؤكدا كانت تعلم، كيف تحملت؟؟
وكيف علم سليمان؟؟
ما الذى يحدث بهذا المنزل ؟
أفاقت على صوت الباب الذى صفع بغضب لتكتشف اختفاء فرج وولديها كذلك.
لم يبق سوى أهل البيت وصديقات أمينة اللائى عدن للعزاء ليفضل جمال العودة لمنزله وصحبتهن فهو لا قبل له بتحمل هذا البيت الذى خلا من أنفاس أمه.
تحرك فرج الذى أظهر ثباتاً يحسد عليه ليخترق تجمع أسرته فيقف سليمان منتفضا: أبا
وقف فرج دون أن يلتفت ليتابع سليمان: يا أنى وولادى فى الدار دى يا جليلة . أخرى تالت يوم عزا وهخرج من الدار.
وقف مروان معترضا: انا مش هسيب دار جدى ابدا
رفع فرج رأسه منتشيا بدعم حفيده المفضل بينما نظر سليمان لابنه: وانى مش هعمل زى جدك واقولك اللى يعصانى مش منى .. بس هقولك كل واحد متعلق من عرقوبه وانت حر لما تلف بيك الدنيا هتلاقى دار ابوك مفتوح.
ثم نظر إلى زوجته التى تحركت بتثاقل ليمد لها ذراعه فتتكأ عليه ويتوجهان للدرج بصمت راقبه الجميع دون أن تحاول فاطمة التساؤل عما يحدث فهى تشعر بجرحه وعليها تضميده لا فتحه .. نظرت أمينة نحو أبيها ليشير لها برأسه فتنظر هى لمها التى قالت : يلا يا بنات
ولم يخترق صمت اللحظات التالية سوى صوت الخطوات المغادرة التى يبدو أنها لن تكون النهاية .
مرت ليلة عصيبة أخرى لازمت فيها أمينة فراشها رغم أنها عانت من الاختناق عدة مرات .. مرضها يشعرها بالضعف وهى تكره كونها ضعيفة .. تصالحت مع طبيعتها منذ سنوات لم تعد مناقشة حالتها الصحية تزعجها لكنها رغم ذلك تفضل عدم الأفصاح عنه للجميع .
مع بداية يوم جديد بدلت ملابسها فهى بحاجة لممارسة الرياضة.. كل من يهمها أمره أصبح يعلم بأمر مرضها وممارسة الرياضة جزء أساسى من تعايشها مع مرضها لتتقى تتابع الأزمات .
غادرت المنزل لتتحرك نحو الطريق الممهد الممتد قرب الحقول حيث الهواء النظيف الأكثر إفادة لها .
كانت لا تزال تحت وطأة الحزن الذى يقلل من عزيمتها وحماسها لكنها تسير بأسرع ما تتحمله رئتيها .
أشعة الشمس التى بالكاد تلامس الأرض زادت من روعة المشهد الذى منحها طاقة إضافية دفعتها للمتابعة .. كان بعض الفلاحين يمرون بالقرب منها وجميعهم يلقى التحية ويتابع طريقه وهى تتابع سيرها .
بدأت أنفاسها تتعالى لتتوقف جانبا مستندة بكفها لشجرة كبيرة .. سمعت صوت هرولة خلفها لتستعد لرفض العرض بالمساعدة لكنها دهشت حين سمعت صوته متسائلا بنبرة محملة بالقلق: مالك يا أمينة؟؟ بتعملى إيه هنا؟؟
التفتت نحوه متسائلة: انت اللى بتعمل ايه هنا؟
هز كتفيه مجيبا:بروى ارضى ..معادى النهاردة..انت تعبانة؟؟ مالك؟؟
زاد قربا لتنظر هى نحو الأرض بفضول : لا انا كويسة بس بتمشى شوية .. المشى جزء من يومى المفروض تعرف بيساعدنى اقلل الأزمات واتنفس احسن .
أومأ بتفهم لتتابع : فكرت ولا لسه؟!
إلتقى حاجبيه بدهشة: فكرت فى إيه؟؟
تقدمت تتخطاه نحو الأرض متابعة: إن الحياة مع واحدة مريضة هتبقى متعبة
تبعها بهدوء: الأمراض المزمنة امراض تعايش طول ما انت محافظة على النظام اللى الدكتور حدده الدنيا تمام ولو حصل والموضوع خرج عن السيطرة انا هكون جمبك .
رفعت رأسها تنظر له بتشكك.. تعلم ما أخبرها به للتو لكنها لا تعلم هل سيفى بدعمه ام سيمل من رعايتها ؟
عادت تنظر نحو الأرض ثم تقول : انا هكمل مشى واروح
لحق بها: استنى جاى معاكى
تساءلت: مش هتروى ارضك؟؟
بدأ ينفض الغبار عن ملابسه فهذا ما يمكنه أن يحصل عليه من تأنق فى الوقت الحالى: الرجالة هيكملوا انا رايح جنينة الفاكهة تيجى معايا؟
فرصة جيدة لها فرغم أنها لا تشعر برغبة فى الصحبة لكنها تريد صحبته علها تفك بعضا من طلاسم شخصيته.
سار بجوارها ليقول: انا عارف أن صعب تتكلمى وانت ماشية بس انا كنت هاجى النهاردة ازورك محتاج اوضح لك حاجة ..نوصل الجنينة ونتكلم .
اومأت بصمت استمر حتى وصلا للحديقة التى تضم أشجار الرمان لتتقدم وتجلس قرب أول شجرة وهى تقطف إحدى الثمرات متسائلة: افصفص لك واحدة؟
رآها تخرج مدية صغيرة وتقطع الثمرة ببراعة لكنه تساءل: تعملى إيه؟؟ وايه ده ماشية بمطوة فى جيبك؟
نظرت للمدية بدهشة: مطوة إيه يا عم انت هتلبسنى قضية ؟ وبعدين بعمل ايه يعنى ده انا بفصفص رمانة ابل ريقى ..انت شكلك بخيل وهتتعبنى
جلس بجوارها وهو يقطف ثمرة أيضا: يا أما اتكلمى زى الناس مفيش حاجة اسمها افصفص اسمها افصص والرمان بيتفرط مش بيتفصفص.
نظرت للحبات الكهرمانية بكفها لترفعها لفمها مباشرة فهى لا تهتم بالمسمى الذى يصل بهذه الحبات اللذيذة إليها المهم انها تتذوقها بتلذذ .. رفعت عينيها إليه فهى لم يفتها خطأه فى النطق لكنها ليست فى حالة جيدة لتتبعه لذا قالت: قول يا هلال عاوز توضح لى إيه!!
أمسك حطبة جافة يخطط فوق الأرض للحظات لتحثه: لو خلصت الرمانة وانت ساكت هقوم اروح
نظر لها وتحدث بهدوء: أمينة من ساعة ما خطبتك فى شوية أحداث مؤسفة بتحصلك .. طبيعى انك تخافى أو يحصل أن حد يربط لك بينى وبين اللى بيحصل معاكى .
ابتلعت أمينة بتلذذ كأنها لم تسمعه وهى تخرج منديلا وتجمع داخله مخلفات الرمانة وتمسك ثمرته متسائلة: هتاكل دى ؟؟
هز رأسه نفيا: انت سمعتى اللى قولته ؟
بدأت تقطع الثمرة وهى تقول: شوف يا هلال ..انا لا بتشاءم ولا بحب التشاؤم وانا كبيرة كفاية علشان اعرف أن مفيش رابطة بين خطوبتنا وبين اللى بيحصل . اللى بيحصل ده قضاء الله ولا راد لقضاءه .. الناس تتكلم ،تسكت مش هتفرق كتير . انا اللى يفرق معايا انت هتقدر تكمل ولا لا؟ والصراحة احسن واقصر طريق واتمنى انك تحدد موقفك من غير ما حد فينا يتوجع.
لم تمنحه وقتا ليجيب و رفعت كفها تتناول حبات الرمان لتتساءل: ليه رمانتك احلى من رمانتى ؟؟ إيه الظلم ده !
ابتسم هلال: اصلى محظوظ
مغرور
همهمت بصوت مسموع ليضحك : انا بجد محظوظ انى عرفتك يا أمينة
غبى
همهمت مجددا ليرفع حاجبيه بدهشة فتتابع: الجملة دى مقدمة لإنهاء علاقة مش تقولها لخطيبتك؟؟ تنين بعقل عصفورة !!
لم يستجب للمزاح بل احتدت ملامحه وتساءل: وانت تعرفى منين أنها مقدمة لإنهاء علاقة؟؟
نفضت كفيها من أثر حبات الرمان التى إلتهمتها بوقت قياسى لتجيب بلا تفكير: كل اللى جم يخطبونى قبلك قالوها لما عرفوا انى عيانة صح بابا كان بيخبى عليا بس انا كمان كنت بخبى عليه أنهم بيتصلوا بيا وانا بقولهم يكلموه.
قبضة غاشمة اعتصرت أيسر صدره ليسب نفسه على هذه الملاحظة التى زادتها ألما وإن لم تظهر ذلك .. إلتقط ثمرة أخرى دون الحاجة للحركة ليقدمها لها: كلى دى كمان علشان خاطرى
نظرت للثمرة المغرية ولم تتردد وهى تأخذها: لو ماكنتش تحلف !!
ابتسم وعاد للرسم على التراب بحطبته لتتحدث هى: الجو هنا احسن من مصر كتير ..فى مصر مااقدرش امشى شوية كده أبدا ..بس عندى جهاز مشى فى البيت
قاطعها هلال: بسيطة اتجوزينى واقعدى هنا علطول .
رفعت مديتها بوجهه محذرة: عندى شرط
قرب صدره منها لكنها لم تتراجع ورفعتها لتضرب بها وجنته بلطف: غمازاتك
ارتد للخلف وارتفع حاجبه الأيسر لتتابع: لو ماطلعوش للعيال هخلعك
ضحك هلال وشاركته بإبتسامة واسعة قبل أن ينهض ويقدم لها كفه :ما دام وصلنا للعيال يلا نمشى احسن الشيطان شاطر وأحنا وحدينا
وضعت كفها بكفه سامحة له بسحبها حتى استقامت أمامه لتقول : ماتخافش معايا سلاح
تعجب لجمعها المنديل والاحتفاظ به لكنه لم يعلق وسار بجوارها بصمت ليتخذا نفس الطريق للعودة .. مرا بأرضه مجددا لتتساءل: انت زارع ايه؟
أجاب بهدوء: غلة
أجابت فورا: عارفاها بتاعة البليلة ابقى هات شوية.
لاحظ فورا تغير حدة تنفسها ليتابع فيرغمها على الصمت: والارض البحرية زارعها مآتة تاخدى شوية؟
توقفت خطواتها لتتخصر وتضيق عينيها بشكل مضحك: انت فاكرنى جاهلة؟ المآتة دى عصاية بتلبس جلبية وتهش العصافير .
هيئتها، طريقتها، نظراتها وتلك الحدة الساذجة كل ما فيها يطلق ضحكات نابعة من صدره ترك لها العنان لتحلق معبرة عن سعادته ومغيرة مشاعره السلبية التى عانى منها ليلة أمس بسبب مخاوفه التى اكتشف انها مجرد مزاعم لا أساس لها ، رأى تصاعد الغضب لملامحها ليتوقف عن الضحك رافعا كفه لفمه ليوقف تدفق ضحكاته وهو يقول: يا أمينة انت لو عايشة هنا كنت عرفتى أن خيال المآتة اسمه كده علشان اتعمل يحرس المآتة من الطير واكترها ابو قردان وغربان مش عصافير . أما المآتة نفسها فهى انواع خضار زى الطماطم والخيار والقرع بكل أنواعه
قاطعته وملامح وجهها تعبر عن تعجبها لما يقول: اوعى تكون بتضحك عليا؟
عاد يضحك: طب اسألى...
نفقت الضحكات فوق شفتيه وبهتت ملامحه وقد كاد يطلب منها أن تسأل جدتها ويبدو أن هذا وصل لها ليرتخى ذراعيها بينما ابتلع ألمه الذى نبت بين عينيها: مش بضحك عليكى وإسألى عمك سليمان لو مش مصدقانى
بدأت تتحرك وتعود للسير: لا انا بثق فيك يا هلال عارفة انك مش بتضحك عليا بس بحب اعاكسك .
ابتسم للتلقائية التى تحدثت بها قبل أن يصمت وهى لم تسمح لها رئتيها بمتابعة الحديث لتتأكد أنها بحاجة لزيارة طبيبها فى أقرب وقت .
وصلا لقرب الباب لتقف وتقول له: روح انت بقا
أشار نحو المنزل: اسلم على عمى زمانه صحى
لم تفكر فى المراوغة : لا صحباتى هنا
اقترب خطوة واحدة وتساءل بترقب: بتغيرى عليا يا أمينة؟
حاولت أن تحاكى تعبير وجهه للدهشة برفع حاجب واحد لكنها بدت مضحكة وشعرت بذلك لتتحرك للداخل فورا هربا من انتظاره إجابة منها .
*************
لم يبرح فرج المقعد منذ ليلة أمس.. مرت أمام عينيه كل حياته مع ابنة عمه التى لم يقدم لها أى حياة.
تصفعه كلماتها الأخيرة ويرفض عقله التصديق. دارت عينيه بالغرفة.. إنها نفس الغرفة التى شهدت جدرانها كامل حياتها معه.. عادت أفكاره لأول ليلة زج بها إلى الغرفة.. لازال يذكر جيداً كيف كانت ترفض النظر إليه..
نظر نحو الباب وهو يرى نفسه يعبره بينما كانت أمينة تجلس بطرف الفراش مطرقة الرأس.. وقف أمامها وهى ترفض النظر نحوه فاقترب ليتحدث بنبرة ساخرة: نورتى دارك يا بت عمى
لم ترفع رأسها ولم تجب ليتساءل:لسه قلبك محروق على ابن البحيرى ولا إيه؟
فى هذه اللحظة رفعت له وجها كساه الحزن ليتأكد من ظنونه فتكن أول صفعة تلقتها من كفه ألقت بها فوق الفراش .
تنهد فرج ونكس وجهه حزنا لتهبط عينيه للأرضية الصماء التى لم تتغير فيرى فستان زفاف ممزق نزعه عنوة دون أي مراعاة .
اغمض عينيه ليسمع نحيبا خافتا طالما صم أذنيه عنه وعن أنين ألمها كذلك منذ ليلة زفافهما حين نالها قسراً .. هى لم تمنحه نفسها مطلقاً.. وتنكر أنها عشقت غيره !!
أتظنه بهذه السذاجة؟؟
لقد كرهته وكرهت لمسته لها.. كرهته وكانت تنعى نفسها كلما نالها وكأنه يقتلها.. وغضبت لأنه حرم نفسه عليها .
منذ متى لم يمسها؟؟
لا يذكر، بل يذكر جيداً.. منذ تزوج جليلة.
كم سنة مرت ؟؟
سنوات طويلة تعذب فيها لبعده عنها .. كان يتعذب كما يعذبها.. لكنه كان يصل لخلاصه بعيداً عنها ويتركها للقتل البطئ الذى يدفعها نحوه بالحرمان .
عن أى حرمان يتحدث!! لقد كانت تكرهه.. لقد قدم لها معروفاً .. على الأقل توقفت عن البكاء
..لا يذكر متى توقفت عن البكاء ؛
بل يذكر جيداً.. بعد موت ابن البحيرى.. بل بعد أن تزوج من جليلة الخادمة.
عاد يفتح عينيه هربا من هذا النحيب لتسقط عينيه على صورتها المعلقة فوق الجدار .. من الجيد أن زوجة ابنه سهت عنها .
نظر لها فكانت عينيها خالية من الحياة.. عاشت معه عمرا وعينيها تخبره بموت روحها ولم ير هذا الموت حتى ماتت هى .
هل قتلها؟؟
لم يفعل..هى قتلته يوم قبلت بغيره، يوم عشقت غيره، يوم بكت حبيبا غيره.. هى قتلته وكان عليه أن ينتقم.. وانتقامه لم ينته بعد
ظل طيلة الليل بين أفكاره وذكرياته .. يدين نفسه مرة ويدينها ألف مرة .
مع الصباح الجديد قرر إغلاق هذه الغرفة للأبد.. إن غادرت هى فليهجر كل ما يذكره بها.
فى موعد فطوره طرق الباب لتدخل الخادمة وتضع الطعام أمامه: الفطار يا سيدى الحج
لم يبد عليه أنه سمعها لتترك الطبق أمامه وتهم بالأنصراف لكنه قال : شيعى لى ستك جليلة
نظرت له الفتاة بدهشة ورغم أنه لا يراها توقع رد فعلها لينهرها: همى چاك الهم .
هرولت الفتاة فلا احد يعلم متى اصبحت جليلة الخادمة سيدة بهذا البيت الذى طالما وضع فيه حدا فاصلاً بين سيده وبين الجميع حتى زوجته الراحلة .
*************
اجتمعت الأسرة حول طاولة الفطور التى أعدت بأمر فاطمة التى ضمت أحزان زوجها ليلا بضمه لصدرها كطفل صغير وهو لم يمانع بل كان بحاجة احتواءها له فتلهف لتلك الضمة التى سكنت انين روحه ليغفو دون أن يتحدث اى منهما بكلمة واحدة
جلس فرج على رأس المائدة كما اعتاد مظهرا قوته المعروفة .. تلفت حوله فهو لم ينس تهديد سليمان ولن يمرره مرور الكرام .
رفع صوته مناديا تلك الخادمة التى هرولت نحوه ليسألها: فين ستك جليلة؟
ارتفعت الأعين نحوه بفزع لتجيب الخادمة: والله يا سيدى قلبنا الدار مالهاش اثر
انتفض فرج ضارباً الأرض بعصاه: يعنى إيه!!هتروح فين يعنى؟؟
ترك سليمان الطعام وغادر فورا يلحقه مهيب بينما قالت فاطمة: انا شيفاها مع رقرقة النهار خارجة ومعاها صرة باينها طفشت
ضرب الأرض مجددا: طفشت راحت فين؟ وقعتها اسود من القطران
اشاحت فاطمة بلا إهتمام: ما تروح مطرح ما تروح يا عمى .. إن راحت ولا جت حتة خدامة !!
ليعلن فرج بلا تردد: جليلة مش خدامة ..جليلة مراتى
ضربت فاطمة صدرها بفزع؛ هذا سبب صمت سليمان وقهره وإصراره على ترك البيت .
لكن كيف كانت زوجة عمها تعامل جليلة بهذا الود؟
ألم تكن تعلم!!
مؤكدا كانت تعلم، كيف تحملت؟؟
وكيف علم سليمان؟؟
ما الذى يحدث بهذا المنزل ؟
أفاقت على صوت الباب الذى صفع بغضب لتكتشف اختفاء فرج وولديها كذلك.