الفصل السابع

دار هلال فى غرفته كأسد حبيس لا يفهم ما الذى استجد فى هذه الساعات القليلة لتهدم أحلامه بهذه القسوة، حين هاتف جمال كان واضحاً أنه لا يعلم أى شىء عن قرار فرج الذى يثق أنه قراره هو وليس لأمينة .. هى ليست من النوع الذى يتهرب وإن أرادت فض الأرتباط لفعلت دون الحاجة للتخفى وراء فرج .

دخلت وداد لغرفته لترى حالته، ابنها يسقط فى بحر هذه الفتاة مستمتعا بالسقوط .. ما الذى يمكنها أن تقدمه له ؟

اقتربت متسائلة : وبعدين يا هلال ؟
نظر لها هلال منفثا عن غضبه : هتجنن يا أما
نهرته برفق : بعد الشر
انخفضت نبرة صوتها لتسأله : عرفت اللى جرى؟
تأفف هلال : خلينى فى اللى جرى لى انا يا أما

صمتت وداد لكنه أنتبه فوراً، ليست من شيم أمه تقصى أخبار الغير لذا نظر لها بلهفة : إيه اللى جرى يا أما؟
تنهدت وهى تراه بهذه المعاناة لتقول : جمال علام اخد بنته وضيوفها اللى جم للخطوبة وراح داره
قطب جبينه متعجباً : داره ؟؟
أشارت وداد : الدار اللى اشتراها اول البلد

حثته وهى تتجه للخارج : كلمه وشوف دى حياتك مش لعبة لفرج علام يعمل فيها ما بداله

أغلقت الباب ليخرج هاتفه ويطلب رقم جمال الذى أجاب بهدوء : اهلا يا عريس

تهلل صدره وانفرجت ملامحه لهذا اللقب الذى يعنى أن ما أخبره به فرج لن يتحقق وأن أمينة لازالت مستعدة لخوض التجربة معه وسيحرص هو على أن تكون تجربة مثمرة ليتحدث بهدوء : اهلا بيك يا عمى .. انا قولت اشوفك كلمت أمينة ولا لا؟
جاءه صوت جمال الهادئ : كل حاجة فى معادها يا هلال
وانهى الاتصال بهدوء ليسقط فوق فراشه يلتقط أنفاسه وكفه فوق صدره الذى لا يعلم فى هذه اللحظة إن كانت خفقاته منتهى السعادة ام منتهى الحماس.

**************

جلس مروان أمام جده الذى لا يبدو عليه سوى الصرامة والقوة ..تشابهت اعينهما التى تحمل أحقاد وقتامة ليقول مروان : مش قولت لك يا جدى بلاش اللعبة دى أدينا هندى لعيلة البحيرى مال عمى جمال وفوقه أمينة هدية

دارت كف فرج على رأس عصاه منفثا عن غضبه : ابن البحيرى مش هياخد أمينة مهما حصل

تساءل مروان : انا مش فاهمك يا جدى .. منين سعيت فى الجوازة ومنين رافضها ؟

لم تتغير ملامح فرج فقط اتقدت عينيه بغضب : انا لا سعيت ولا عملت .. هو اللى جالى طالب أيدها ولما شافنى رافض عرض كرسى المجلس وكانت فرصة ندى له ضربتين .. ناخد منهم الكرسى وناخد كمان أمينة .

صمت مروان مستحسنا ، تبدو له ضربة جيدة أيضاً لكنهما اعتمدا فيها على تشبث أمينة بالرفض الذى سيشغل هلال عن توقع الضربة حتى يتلقاها لكن ما حدث من تبدل فى رأى أمينة غير كل الموازين .

استعر صدر مروان هو لن يسمح له بالحصول على أمينة ولن يحصل عليها غيره فهو لن يجازف بمشاركة فى إرثه مستقبلاً كما أن الفتاة تعجبه كثيراً .. كم يتمنى أن ينزع تلك القوة التى تقاومه بعينيها ويزرع موضعها رضوخا له فقط .

عاد يتساءل : طيب وبعدين يا جدى هنعمل ايه؟؟
رفع فرج رأسه وهو يجيب : لسه اللعبة ماخلصتش وانا معايا الورقة اللى هتخلى جمال يطرد إبن البحيرى شر طردة بس نتمم الخطوبة قدام الناس علشان الكسرة توجع بعدها.

تمنى مروان أن يكون جده محقاً .. هو لا يخشى صراع محتمل مع هلال لكنه يخشى أن يزيد كره أمينة له فلا يمكنه أن يخطئ نظرة عينيها التى تشى بما يحتجز بصدرها وهذا سيزيد حربه هو معه عمه ضراوة لن يجازف بها.

************

رفض جمال فى اليوم التالى توجه أمينة لمنزل جدها بإصرار متعذرا بعدم تركها صديقاتها اللائى يصحبنها خاصة مع وصول المزيد منهن .

وصل هلال مع الصباح الباكر وقد حصل على مساعدة جديدة من جدته نعمة ظنا أنه سيحصل على وقت معها لكنه فوجئ بحشد من الفتيات قمن يإحتلال المنزل .

تقدم بثبات نحو الباب لتفتح إحدى صديقات أمينة : افندم ! مين حضرتك ؟
أجاب دون أن ينظر نحوها : انا هلال
شهقة دعته لرفع عينيه بينما صرخت الفتاة بحماس : بناااات العريس هنا .

تراجع للخلف ليأتى إنقاذه على يديها وهى تهرول نحو الباب فتحول بينه وبين صديقاتها لتتساءل : هلال جاى بدرى ليه ؟
أشار إلى فتاة تتبعه بصمت : ستى نعمة باعتة لك دهبية تشوف طلباتك وانا حبيت أصبح عليكى واتكلم مع عمى فى موضوع مهم .

نظرت للداخل ثم نظرت له : متأكد عاوز تدخل ؟؟
ابتسم بمودة : لا طبعا هستنى عمى هنا .

هزت كتفيها وهى تنظر نحو الفتاة : تعالى يا دهبية .  اسمك حلو اوي .

لم يطل انتظاره وكان أبيها يقف أمامه مرحباً ليبدو حرج هلال جليا وكذلك جمال .. لقد وضعهما فرج فى حرج كانا فى غنى عنه مع تسلسل الأحداث التى لا تحتاج للدفع وتتقدم بروية نحو صالح الجميع .

جمال لم يكن يتمنى لابنته أكثر من زوج تقتنع به وتسعد معه ويحتوى نوبات الجنون التى تثير ضحكات الجميع وقد أبدى هلال مودة منذ اللقاء الأول تنبئ بما كان يتمناه لذا تخلت ابنته عن معاندة جدها ومحاولة إفساد ما أراده جدها لكن الغريب أن يسعى الجد نفسه لإفساد ما عمل على تمامه مسبقاً .

تنحنح هلال : يا عمى اقسم لك انا شارى أمينة وباقى عليها .. مش عارف الحج فرج عمل كده ليه ؟
هز جمال رأسه بتفهم فهو أيضاً لا يفهم سر ما أقدم عليه والده لكنه سينتظر أن تتكشف الحقائق : كله هيبان يا هلال وانا مش مهتم غير بسعادة أمينة ومادامت راضية بيك يبقى الجوازة هتتم إن شاء الله.
زاد تهلل وجه هلال: وأنا هعمل كل الترتيبات زى ما اتفقنا

************

ظلت مكانها تراقب استعداده للمغادرة ككل يوم منذ سنوات عجاف قضتها تحت ظل طغيانه .. رأته يهم بالمغادرة لتقول : عاوزة اروح لأمينة

لم يظهر اى تفاعل : روحى وابعتى لى ابنك لما توصلى
توقف على بعد خطوات متسائلا : هتاخدى جليلة معاكى ؟

هزت رأسها نفيا ليغادر .. نظرت فى أثره بأعين متحجرة لم تعد تعكس نبضا للحياة فى هذه الغرفة
ثم تزحزحت عن الفراش الذى يفرش لها بجمر من الجحيم واتجهت نحو خزانة ملابسها .

****************

لم يقدم الفطور هذا اليوم بمنزل فرج علام .. أو قدم ولم يكن هناك من يمكنه ببساطة تناول الطعام فظل معروضا فوق الطاولة يشهد على برودة أرواح البشر .

لم يعترض سليمان على صحبة زوجته لأمه وطلب من مهيب أن يقلهما إلى هناك ويعود بعمه الذى يطلب الجد رؤيته .

وصل مهيب لمنزل عمه ليترجل عن السيارة فورا يساعد جدته التى اتكأت إلى قوة ساعده بإرتياح ليتقدم معها ببطء .. قرب الباب جلست فتاة تعرف عليها فوراً ؛ أنها مها صديقة أمينة تهز قدميها بمظهر مضحك لقصر قامتها وبين كفيها شطيرة كبيرة تتناولها بنهم .

حمحم لتنظر نحوهم وتنتفص فورا تتحدث دون أن تبتلع الطعام : اهلا تيتة ..اهلا طنط اتفضلوا ادخلوا
أشارت للداخل وكأنها صاحبة المنزل لتضحك الجدة وتتبعها فاطمة .
وقف مهيب ينظر لها لتناول الطعام بهذا النهم أمامهم بلا حرج أو تصنع : اعزمى طيب !!

نظرت له وكأنها اكتشفت وجوده للتو لتبتسم وتقسم الشطيرة مقدمة نصفها له ليتناولها متسائلا : بتاكلى إيه ؟
تفقد نصف الشطيرة وهى تقول : جبنة قريش
تناول بعضاً منها بلا حرج وهو يجلس أرضا بالقرب منها : انا جعان اوى مافطرتش

تبدلت ملامحها للأسى وهى تتساءل : اجيب لك فطار ؟
هز رأسه نفيا : لا راجع مع عمى
اومأت بتفهم وتابعت الحوار : انت ابن عم أمينة مش كده ؟
هز رأسه إيجابيا لتتابع : ممكن اطلب منك خدمة ؟
نفض كفيه وقد أنهى تناول شطيرتها متمتما : طبعا تحت أمرك .
جمعت كفيها بحماس : ممكن تفسحنى على الجرجار ؟
رفع حاجبيه : جرجار !! يارب بنت عمى لمت عاهات البلد كلها وصاحبتهم !!
تساءلت بحدة : بتقول ايه مش سامعة ؟

وصل جمال ليخفف عنه حدة مها ليشير لها : هشوف حاضر .

تحرك بإتجاه عمه ولديه رغبة ليس فى صحبتها بنزهة فحسب بل فى المزيد من هذه الفتاة، طالما تحدثت نساء قريتهم عن فتيات العاصمة وسطوتهن على القلوب لكنه لم يكن يرى ذلك كان يرى النساء هن النساء فى كل مكان، فمال هذه الفتاة يرجف لها جزء من صدره!!!

*****************

وصل جمال لبيت أبيه الذى كان ينتظره بمكتبه وحده وقد صرف الجميع .. جلس جمال بصمت طال وكأن أبيه يختبر قوة تحمله لصمته .

حمحم فرج : انت طبعاً مستغرب انا لاغيت الخطوبة ليه بعد ما أنا بنفسى حددتها ؟
هز جمال كتفيه : طبعا
نهض فرج ليدور حول مكتبه ويجلس أمام ابنه متظاهراً بالألم : ماقدرتش يا جمال .. انت راجل وهتقدر تفهمنى وتحس بالنار اللى عاشت جوايا سنين .

صمت قليلا يزيد من حبك ألمه ليتابع : كلكم عارفين الحكاية القديمة اللى كانت بينى وبين محمد البحيري

اختطف نظرة نحو جمال يتأكد من شغفه للمتابعة ليقول : بس محدش فيكم يعرف اكتر من اللى انا قولته علشان ادارى على وجعى .. اللى بينى وبين محمد البحيري ماكنش حتة ارض.. اللى بينى وبين محمد البحيري كان أمك يا جمال

اتسعت عينا جمال بفزع ليختنق صوت فرج بإحترافية وهو يتابع : حاولت اقبل جواز هلال من بنتك علشان مصلحة العيلة بس ماقدرتش ..لاقيت نفسى بتخنق وانا حاسس أن محمد البحيري رجع وبياخد منى مراتى .. بياخد منى امك .. بياخد منى عمرى كله .

ألجمت الصدمة جمال الذى لا يشعر أن أبيه يعنى أمه بكل هذه المشاعر .. لطالما عاشت مهمشة مهملة فى هذا البيت .

هل هذا سبب برودة زواجهما ؟

أنها أرادت ابن البحيرى وحكم عليها أن تتزوج ابن عمها؟
لا يشعر بالراحة لهيئة أبيه الضعيفة هذه غير المنطقية بالمرة.

حسم أمره وقرر أن يؤجل إعلان اى رد فعل وهو ينتفض عن مقعده ليغادر دون أن يفرج عن صرخة واحدة من صرخات قلبه .

راقب فرج مغادرته لتداعب شفتيه ابتسامة وأدها فوراً بنفس القوة المعتادة .

*************

سار جمال حتى منزله هو واثق أن أبيه أراد اللعب على عواطفه لينهى هذا الأرتباط بينما يجهل هو سبب تمسكه بإتمامه .ربما لأنه للمرة الأولى يرى سعادة أمينة مكتملة !

تقدم لها الرجال منذ سنوات وكانوا جميعاً بنظره لا بأس بهم لكنها كانت ترفض بلا تفكير وكأنها ترى بأعينهم ما لا يراه فجلسة واحدة كانت دائما كافية للرفض، لم يخبرها قط أن الرفض كان متبادلا وكأنه اراد أيضا منحها الإحساس أنها من رفضت فهو يعلم مدى حساسية مشاعرها.

وصل للمنزل وكانت أمه تجلس بالبهو وسط الفتيات .. منذ سنوات طويلة لم ير ابتسامة أمه بهذا الصفاء .. كان الألم خطا دمويا يهشم جمال ملامحها دائماً ولم يكن يتخيل أنها تزوجت أبيه رغما عنها .

ليس بهذه العقلية التى تدفعه للتعصب لمجرد أن أمه أرادت يوماً ما رجلاً غير أبيه .. كانت فتاة لها حق الإختيار ونزع منها هذا الحق مثل الكثيرات.

اقترب وجلس بالقرب منها متسائلا : مرتاحة يا أما ؟
ربتت فوق صدره بحنان : مرتاحة يا قلب أمك ربنا يريح قلبك .

ابتسم لتلك الابتسامة دون مقاومة وهو بالفعل يرى أمه سعيدة ببيته ماذا أراد من الحياة أكثر من ذلك؟

********

وصل مهيب لمنزل عمه مجددا حاملا بعض الطلبات التى أوصت بها جدته، حمل صندوق كبير وتوجه نحو الباب متذمرا: مفيش فى العيلة غير مهيب؟ روح يا مهيب، شيل يا مهيب، هات يا مهيب، يا عمرك اللى رايح هدر يا مهيب.

كانت بالحديقة أيضا تلك القصيرة التى اقبلت نحوه بلا تردد: انت شايل كل ده لوحدك؟ هات اشيل معاك

نظر لها مبتسماً لهذا الود الفطرى الذى يبدو جزء منها: بلاش هتندكى فى الارض اكتر من كده تروحى فين؟

نظرت له بحيرة تحولت لحدة طفيفة: مش فاهمة بس شكلك بتشتم صح؟

ضحك بقوة كادت تسقط ما يحمله: عيبة فى حقى لما اشتم ضيفة عندنا، انا بهزر معاكى

وقفت أمامه متشككة بأمره ليشير بالصندوق الكبير الذى يحمله: هتفتحى لى الباب ولا هفضل واقف كده ضهرى يا بنت الناس

تقدمت ضاحكة لتفتح له الباب ليمر وهى تتبعه: قول انك جايب حاجة حلوة تتاكل

توقف فجأة ونظر لها بدهشة: انت بتودى الأكل فين اصلا؟ امال لو كنت طويلة شوية !

شهقت بصدمة مصطنعة: والله لأقول ل أمينة

وغادرت بإنفعال وكأنه أخطأ خطأ فادح وهو يشعر أنه بالفعل أخطأ حين دفعها للمغادرة.

********

مر اليوم بإنهاك مضاعف على الجميع ولم يعلن جمال تراجعه عن الزيجة مما أثار غضب فرج لكن صمته أيضا أثار دهشة جمال .

يوم الخطبة

بدأ الاستعداد للحفل لكن أمينة لا تبدو بخير .. يرى أبيها أنها ليست كذلك ولاحظت صديقاتها هذا ايضا ليتخلل القلق قلوب الجميع دون أن يجرؤ أحدهم على التساؤل الذى قد تكون إجابته غير مستحبة لكن مع تقدم الوقت لم يكن أمام جمال سبيل سوى اكتشاف ما يجرى مع ابنته هو يريد إتمام الخطبة لسعادتها لا لهذه النظرة المتألمة بعينيها.

اقترب جمال من ابنته متسائلا : مالك يا أمينة ؟
هزت رأسها نفيا : مفيش يا بابا انا كويسة .

كانت هيئتها مبهرة فعليا وقد بدأت النسوة فى الوصول وكانت بقرب جدتها تتلقى التهانى بإبتسامة يعلم من يعرف أمينة جيداً أنها أتقنت صنعها .

وصل هلال وأسرته ليظهر فور ظهوره المزيد من الشحوب على أمينة التى تنظر إليه نظرة يراها للمرة الأولى منها ويرفضها قلبه بشدة .. تقدم منها بقلق دون تفكير متسائلا : مالك يا أمينة ؟
لكنها لم تجب بل أغمضت عينيها وسقطت ليتلقاها بفزع يكاد يخرج خافقا من بين أضلعه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي