الفصل الثامن

-الموت!

قالها أحمد بصدمة، لتقول زينو بهدوء:
-هكذا يعتقدون.

قلت بلا اهتمام لما يحذرون:
-لا يهم سأذهب.

ثم أردفت:
-ولكن كيف سأذهب؟

وجهنا أعيننا تجاه زينو لتبتلع ريقها ثم تضع خصلة من شعرها خلف أذنها وتقول:
-يوجد عصاتان لطروادة، الاولى كانت لعائشة ولكنها معي الآن كانت اعطتني إياها قبل أن تتداخل الأحداث وتُنفى، أخبئها منذ زمن،
ولكني لا أعرف كيف تعمل.


قلت:
-والثانية؟
قال أحمد:
-إنها لقمر طروادة، ومن المؤكد أنها معها الآن.

اختفت زنيو فترة لتجهز حقيبة تحتوي على معدات وكل ما سأحتاجه في جبل إيدا، لو سمع آسر بأني سأخوض مغامرة كهذه، سيتوقف عن نعتي بالجبان.
صحيح أنني أخاف من الأماكن الجديدة، أخاف القوانين والأشخاص ومن كل جديد،
ولكن إن كان الأمر يخص قمر، فأنا مستعد لأحارب وأضحي بنفسي من أجلها..


بعد دقائق معدودة جاءت زينو ومعها حقيبة غريبة الشكل ولكن في الوقت ذاته شكلها جميل مربعة الشكل قمت بأخذها، بادرت زينو بالكلام قائلة:
-ستحتاج لأقل شيء موجود في هذه الحقيبة وستعلم متى ستحتاجها وبأي موقف، حدسك سيخبرك.


حدقت في الحقيبة لثوان، لأجد احمد يضع يده على كتفي ويقول:
-وهذه المرآة ستضمن تواصلنا ببعضنا.

قلت بتعجب:
-المرآة؟

تنهدت زينو وقالت:
-نعم، ستفهم ذلك أيضًا عند الوصول.

واخيرًا كان بيدها عصا منطوية على نفسها قصيرة الطول، ثم حركتها في الهواء بقوة لتزداد طولًا فجأة.

مدت زينو يديها وقالت:
-خذها.

امسكتها ثم لوحت بها في الهواء، لتنشق فجوة في منتصف غرفة الجلوس، نظرت السيدة الكبيرة إليها وفاهها مفتوح، نظر أحمد وزينو لبعضهم البعض ثم نظروا لي، وأومأ أحمد برأسه تشجيعًا لي على دلوف الفجوة.

لتغلق الفجوة ويعم الصمت في غرفة الجلوس على أحمد وزينو ووالدتهما...







كنت دلفت مغمض العينين للفجوة، وإذا بي أفتح عيناي ببطء شديد ولكن لا شيء!
كأنني لم أفتحهما قط، المكان شديد الظلام، العتمة تنتشر في كل مكان، تمسكت بالحقيبة جيدًا وكأنني أخشها فقدانها، ثم ابتلعت ريقي وأمسكت بالقلادة التي تلتف حول عنقي بشدة، فوجدتها تتوهج!
توهجت القلادة وأنارت المكان من حولي شيئًا فشيء، أشعر بأني تحت الأرض، وجهت بصري لأعلى وجدت المكان مظلم للغاية واكتشفت أنني على عمق كبير تحت الأرض، ازدادت توهج القلادة لأكتشف بأنني داخل بئر.

بئر ولكن بئر غريب ومحتواياته أغرب بكثير، المكان مرتب وكأن يأتيه الزوار باستمرار، تحركت قدماي لأول مرة منذ وصولي إلى جبل إيدا أو ما يسمى بوادي طروادة.
يا لها من طروادة! هل يمكن أن يتخيل شخص يعيش حياته طبيعيًا في عالمنا الذي نعرفه أن يسقط في عالم أخر لا يشبه عالمه قط، ولكنه يشبهه في الوقت ذاته!
هل يمكن تخيل مكانًا بهذا النظام، الدقة، الجمال، والإختلاف!
هل يمكن تخيل عالمًا يوجد به موز أزرق؟
وقعت فجأة أرضًا بسبب تعثري بشيء ما، بُعثرت الأشياء التي كانت في الحقيبة المكان كله فبدأت بجمعها واحدة تلو الأخرى لأكتشف أنني معي مصباح أصلًا، مسكته بيدي بشدة لأنيره ثم ضيقت عيني وقلت بينما أحرك رأسي يمينًا ويسارًا:
-تبًا لذكائي.

ثم أكملت جمع أشيائي من جديد بعدما أصبحت الإضاءة أكثر وضوحًا، لأجد بينهم سبب تعثري، تمثال صغير جدًا يكاد يكون في حجم عقلة الأصبع.
ذهب عقلي فورً لتمثال خالتي والدة قمر يشبهه لحد كبير ولكنه ليس هو، هذا أصغر حجمًا بكثير، وأيضًا يحتوي على علامة حمراء بينما تمثال خالتي كان يحتوي على علامة زرقاء، نعم فأنا أتذكر جيدًا!
 تجمدت مكاني ووقفت مستقيمًا وجهت المصباح حولي تمامًا لأكتشف بأن المكان يحاوطني بالأثار من كل مكان، ومنها أثار فرعونية أيضًا، وكأنني سقطت بمعبد.


-رائد، هل تسمعنا؟

نظرت لأسفل لأجد الصوت يصدر من المرآة، أمسكت بها فورًا، وأخذت أقلبها بيدي ثم رمشت مرتين وأنا أنظر لوجه زينو  وأحمد قائلًا بدهشة:
-ما هذا؟ إنها تشبه الكاميرا كثيرًا...


أغمض أحمد عينيه متنهدًا ثم فتحها قائلًا:
-هل أنت بخير؟

قالت زبنو:
-لم المكان معتم هكذا؟

ثم قال أحمد:
-هل قابلت أحدًا من الكهنة؟

-لا سمح الله يا احمد، لا تتكلم بالسوء فيحدث، هل أصابتك اللعنة؟
-أم هل وجدوك فورًا وقاموا بسجنك؟


قلت بقلة صبر:
هلا تصمتوا قليلًا؟
كم أنتم مولوعون بالمصائب يا أصدقاء؟
أنا بخير، لا يوجد بي شيء، لم أقابل أي كاهن، ولم تصبني أية لعنة، ولكن بالنسبة لمسئلة أنني مسجون؟
على الأغلب نعم.


قالت زينو:
-كيف؟
ألم تسقط عند الجبل؟

هززت رأسي قائلًا:
-لا.
قال أحمد:
-لا!
أين أنت أيها الشاب الشهم؟ بماذا تهدر وقتك!
لا يوجد معنا الكثير من الزمن، ستنتهي مدة القلادة وتصيبك لعنة عائشة.

قلت:
-ماذا أفعل؟ لا يوجد بيدي ما أفعله،
سقطت في بئر مليئ بالأثار غالبا، والأسوأ أنه على عمق كبير..

قالا أحمد وزينو معًا:
 -همممم، أتقصد بئر طروادة!

ثم أضافت زينو:
-رائد!
سيكون عملك أصعب مما تصورنا..











تجمع حول الطاولة، وسكون تام يعم المكان، لا يصدر صوتًا من أحد ليس لشرودهم أو رغبتهم بالصمت، بل لخوف أحدهم بالتفوه بحرف بعدما فقدوا قمر وحدث أكثر ما كانوا يخشوه.

-يا قائ..

-اصمتي.
بادرت ريم بالكلام بعدما تم تحريرها من باقي العصابة لمواجهة القائد عمر لومًا عليها بأنها السبب، فلو لم تتركها تذهب مع آسر كانوا لم يروا مثل هذا اليوم.


وقف عمر مكانه وأخذ يسير في المكان بينما يضع يده خلف ظهره، ويسير باستقامة،
يرتدي بدلة رسمية، عيناه البندقية تتطاير منها الشرر، وسيم كثيرًا لذلك تتحمله ريم، تحبه ولكن كيف لها أن تظهر هذا؟
ما الذي أجبرها على العمل بين كل هؤلاء الرجال وحدها!
ما الذي جعلها تغامر بحياتها، وجعلها تغدر بصديقتها ورفيقة دربها قمر؟

أحيانًا تحزن..تحزن كثيرًا ولا تستيطع فعل شيء، بالنسبة لها هما خياران لا غير، يا قمر ووقتها ستحترق لأن عمر لا يترك أحدا يفلت منه بعدما يعمل معه، أما عمر وعصابته والاستمرار بهذه اللعبة.

ولكن عندما تفكر مرة أخرى تجد أنها اختارت الأصوب، لو لم تختار عمر لم تكن تستيطع معرفة حقيقة والدة قمر، لو كانت اختارت قمر، كانت ستظل الصديقة الغبية التي تسير بجانب صديقتها وحيدة..صديقتها التي معها حب طفولتها وكبروا سويًا، بينما ريم دائمًا كانت الطرف المهمش من قبل العائلة، الحي، والرجال.


ولكن الآن مهما ذلت ومهما سقطت لن تعود إلى أيام ضعفها ووحدتها أبدًا.

دار عمر حول نفسه ليقف فجأة وينظر لهم بعد صمت دام لمدة طويلة، ليتشتت نظرهم جميعًا في كل مكان بعدما كانوا يراقبون حركته بدقة شديدة.

-أولًا حسن الغبي الذي لا يستطيع إتمام مهمة واحدة،
لو أنك استطعت التخلص منها عندما كانت في المستشفى لما حدث كل ذلك.
-ثم نأتي لعباس الاكثر غباء، أعطيناه أكثر شيء هام في جميع المهام، وهو إيصال التمثال سالم إلى المزرعة، ولكن لا تستطيع إكمال أي شيء على أكمل وجه.

قال عباس:
-ولكن...

-اخرس.
كلمة من عمر جعتله يبتلع لسانه وأخفض رأسه أيضًا ثانية.

وجه عمر نظره لريم وقال:
-وانتِ..
عل عكس الجميع لم تخفض رأسها، تعلم أنه يتأثر بنظراتها، فأخذت تتوسل بأعينيها بينما هو أكمل:
-أنتِ...بالنسبة لي كنتِ أكثرهم ثقة يا ريم، كيف ترتكبين حماقة مثل هذه؟ كيف تتركين قمر وحدها!

أخذت ريم تنظر له باستعطاف بدون التفوه بحرف واحد،
قال واحدًا منهم:
-ماذا سنفعل يا قائد؟

-لا يوجد في يدنا ما نفعله، قمر طروادة عادت لها وانتهينا..











-والآن متبقي معك فقط ساعة وعشرون دقيقة..

قالتها زينو للمرة الثانية على التوالي، بدات أتوتر كثيرًا وكأنني في لجنة امتحان الثانوية، قلت بتوتر:
-أعلم زينو أعلم، لقد ذكرتيني بالوقت إلى الآن عشرون مرة، أيمكنك الهدوء قليلًا لأفكر قليلًا؟

حركت يديها أمام فمها وكأنها تغلقه قائلة:
-حسنًا لن اتكلم مرة أخرى..

مرت دقيقة ثم قالت:
-والآن متبقي ساعة وتسعة عشر دقيق..

حسنًا حسنًا أسفة لم أقصد!
لا تغلق المرأة أرجوك.

أمسكت بالمرآة مرة ثانية ونظرت لها بتحذير أنا وأحمد وقلنا في الوقت ذاته:
-زينوووو.

رمت خصلة من شعرها لأعلى قائلة:
-حسنًا..


قلت وانا أتجول داخل هذا المكان:
-يجب أن يكون هناك طريقة للخروج؟
قال أحمد:
-بالتاكيد، ولكن كيف.

قالت زينو:
-لا أظنها فكرة تقليدية.

قلت:
-ماذا تقصدين؟

قالت؛
-يعني، لماذا تسقط في بئر طروادة مع مجموعة أثار اتضح أنها موجودة أيضًا في عالمك؟

نظرت لأحمد ثم للمرآة أي تجاهي وقالت:
-فكروا معي، بالتأكيد هناك شيئًا عليك رؤيته، أو إصلاحه لا اعلم أعبث بالمكان قليلًا يا رائد.

نظرت بالمكان قليلًا، تركت المرأة أرضًا وأخذت أحوم في المكان، أمسك الأثار التي تجنبت لمسها أولًا خشية من حدوث شيء ما، أخذت أفعل هذا لمدة والجميع صامت حتى قالت زينو:
-أسفة أعلم أنكم حذرتوني ولكن عليّ أن أذكرك ان باق من الوقت فقط ساعة وخمس...

-وجدتها!

تبادل قمر وزينو النظرات وقالوا معًا:
-ماذا وجدت!

قلت بفقدان أمل:
-انذار خاطئ.
قالت زينو:
-كيف يعني؟
قلت وانا مازلت واقفًا في نفس الرقعة:
-وجدت زرًا أحمر اللون.

قال أحمد بسرعة:
-لا تقل أنك ضغط عليه أرجوك أرجوك.

حركت حاجباي لأعلى بلا اكتراث وقلت:
-يكمن الانذار الخاطئ هنا، ضغط عليه ولكن لم يحدث ش...

لم أكمل كلامي ووجدت المكان من حولي بدأ بالتحرك وكأنه هناك زلزالًا حل عليّ بدأت بعض الأحجار تتساقط، أخذت ألتقط أنفاسي بسرعة، ركضت بأسرع ما يمكن لأرتدي حقيبتي، أمسكت بالمرآة لاقول:
-ما كا هذا؟

قال أحمد:
-لماذا ضغط عليه؟ سينهار عليك البئر الآن..










"قمر"

-أنني اتحدث معكِ منذ ساعات، أرجوكِ أريد أن أخرج من هنا.

لا رد أيضًا، احدثها منذ وقت طويل ولا فائدة وكأنني أتحدث مع نفسي، لا تصدر صوتًا ولا تفعل شيء سوى العبث بشعرها والنظر في المرآة، ولكن معها حق، منذ وصولي وأنا ينتابني الفضول لمعرفة كيف أصبح شعرها بهذا الشكل وهذا اللون وهذا التدرج! إنه يعجبني.


-تمام، لقد حان الوقت.
قالتها فجأة وعينيها تلمع للمرآة، فقلت:
-حمدًا لله تكرمتي عليّ وأجبتني، وقت ماذا؟
أرجوكِ أخرجيني من هنا، عليّ أن أعود من حيث أتيت، يجب أن أخرج رائد من السجن.


ابتسمت ابتسامة كبيرة قائلة:
-ولكن عزيزتي أظن أنك ستودين خروجك ليس لتخرجيه من السجن بل لتخرجيه من مكان آخر.

عقدت حاجباي وقلت:
-ماذا؟

-لن أجيب هذا المرة ستشاهدي بنفسك.

ثم وجهت المرآة أمامي، نظرت لأجد وجهي الذي أصبح شاحب اللون منذ وصولي هنا، وسرعان ما تغير فجأة لوجه رائد لأشهق فجأة وأنطق باسمه، لأجد أنه ينطق باسمي في الوقت ذاته:
-رائد!
-قمر!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي