الفصل الثالث
الفصل الثالث
******
أحياناً نحتاج لعينٍ أخرى
عقل آخر
رأي مختلف عنا
نظرة من زاوية أخرى بعيدة
تمحو غشاوة العقل واهتزاز الرؤية
تمحو غبار العناد الذى احتل عقلها
(ريم)
الصديقة الأقرب والأعز لدى تولين
مرآتها وانعكاس روحها.
أصدقاء منذ المراهقة علاقة بدأت بمشاجرة وانتهت بصداقة أقوى من رابطة الأخوة
ملاذها الوحيد الآمن.
ليست ريم وحدها ولكن أباها (محسن) وأمها (صفية )
كانوا عوضاً لها عن كثير لم تجده بحياتها.
يمتلكون مقهي علي الطراز الغربي يقدم الحلوى التي اشتُهرت بها صفية ..محسن يدير المكان وريم تشربت من أمها حرفتها وبجدارة وإن أضافت بعض الأصناف الغربية ليلمع اسم المقهى أكثر وأكثر.
حينما تشتاق للحلوى تسرع إليها
وحينما تحتاج لشخص آخر يشاركها القرار تسرع إليها
_ طبعاً حضرتك افتكرتينى عشان(الديسباستيو)
وقبلة على وجنتها وحقيبة ظهرها تُلقيها جانباً ترفع خصلات شعرها الأسود لأعلى قبل أن تصيح بها
_ لمى ديل الحصان ده عشان مينزلش في الأكل وصفية تطردنا من هنا
ارتكنت بظهرها على حائط المطبخ تراقبها وهى تصنع حلواها
عيناها شاردة مع حركات يد ريم
تشعر بحالها كريشة طائر سقطت على غفلة من جناحه المكسور .
تشعر بوحدتها تزداد يوماً بعد يوم.
أمينة موجودة ...
ريم أمامها ...
ولكن .....لما تشعر بالتيه !
هناك ما ينقصها تحاول شغل نفسها بأكثر من عمل تهلك جسدها لتستسلم في النهاية للنوم رغبة في الهروب .
_ شكلك محتاجة تتكلمى ولا أنا غلطانة ؟
رفعت عينيها نحوها مبتسمة :
_ محدش في الدنيا دى فاهمنى قدك وقد أمينة
ابتسمت ريم وهى تكمل عملها :
_ قلب الأم بقى تقولي إيه
نظرت نحوها عاقدة حاجبيها وابتسامتها تختفى فجأة وريم لاحظت فسألتها بريبة:
_ وشك اتقلب كده ليه ....هى كلمتك ؟
اعتدلت وابتعدت متجهة نحو حقيبتها تحملها على ظهرها:
_ بتحاول تكلمنى وأنا مش عاوزة أسمع صوتها.
رفعت رأسها تواجهها بنظرة غاضبة ساخطة :
_ يا بنتى اعقلى بقى ما تتكلمى معاها ..قربى منها مش هتفضلى بعيدة كده دى أمك مهما كان.
صاحت بها غاضبة :
_ وأنا مش محتاجاها .....مش عاوزاها يا ريم
مش بعد كل السنين دى وهحن
مينفعش اقابل قلبها الجاحد بقلب صافى مفتوح في أي وقت ...
دى متستهلش .
_ مزعلة بنوتّى ليه يا ست ريم؟
التفتا نحو محسن الذى دخل المطبخ يحمل بعض الصوانى الفارغة يضعها على الطاولة الرخامية ويشير لأحد العمال بغسلهم
(محسن) ذلك الرجل دوماً كان سبباً لابتسامتها وراحة قلبها منذ وفاة أبيها وهو يوليها اهتمامه ورعايته هو وزوجته صفية يحاولان تعويضها
ملئ فراغ رحيل الأب
وهجر الأم
وهى مستمتعة بالدور الذى يلعباه في حياتها.
نظرت إليه بجسده الممتلئ وبطنه المنتفخة يرفع بنطاله بحمالات عريضة
نظارته التي تسقط دوماً عن عينيه.. خصلات شعره الرمادية الخفيفة
يقترب منها مبتسماً بسماحة من قلب صافى تحتاجه :
_ البنت اللى اسمها ريم دى مزعلاكِ ولا إيه قوليلى وأنا أعلقها.
صاحت ريم مستنكرة:
_ تعلق مين يا بابا أنت هتفضل تدلعها كده ؟!
عبث بشعر ابنته :
_ اها هدلعها أنتِ مالك متتدخليش بينا
التفت لتولين :
_ تعالى معايا لحد ما الشيف ريم تعملك أحلى ديسباسيتو.
صاحت ريم :
_ وياريته بيبان عليها نفسى أعرف الأكل اللى بتاكله بيروح فين ....ده أنا لو شربت شويه ميه بزيد خمسة كيلو ودى الله ينور مش عاتقة ومحافظة على جسمها.
أخرجت تولين لسانها لتغيظها وترفع كفها في وجه صديقتها :
_ الله أكبر...مش هتبطلى تحسدينى
_ لما تتخنى هبطل أحسدك .
******
هواء بارد وكوب الشيكولاته الساخنة تحمله بين كفيها ومحسن يجلس أمامها على أحد مقاعد المقهى يدخن سيجارته تارة ويرتشف من فنجان قهوته تارة أخرى ينظر إليها بحزن على حالها .. فتاة في عمر الزهور وحيدة ضائعة تحاول بكل جهدها أن تتمسك بالحياة...بالابتسامة
تعافر لتصنع دنياها ورغم قوتها وعنادها .. لكنها قوة ظاهرية تخفى ضعفاً تحاول جاهدة ألا يراه ولا يشعر به أحد.
كثيراً ماينظر إليها ويتذكر ابنته الوحيدة التي من الممكن أن تواجه نفس المصير إن رحل وتركها لإخوته الذين لا يتذكرونه إلا عند حاجتهم للمال.
يخشى أن يتركها وأمها في مواجهتهم وحدهما وحينها لن يتذكروا أخاهم الأكبر قط. فقط سيتذكرون الأموال التي سيحصلون عليها بعد مماته خاصة وإنه لم ينجب الذكر الذى يحمل اسمه و يمنع إخوته من الاستيلاء على المقهى الذى يسترهم.
_ عندك كلام كتير ومترددة يا تويا؟
رفعت عينيها إليه وابتسامة خجلي ممن يقرأ خلجات نفسها ..صدق قلبها حين أوحى إليها بزيارتهم.
هي تحتاجه....تحتاج أباً روحياً يشاركها القرار ويهديها سبيل السكينة.
_ أنا فعلاً عاوزه اتكلم مع حضرتك ومفيش حد هيفهمنى غيرك .
ابتسم مربتاً على كفها:
_ قولى اللى عندك وأنا سامع
حلت شعرها المعقود أعلى رأسها ثم عادت وربطته بعقدة مطاطية وتركتها ينسدل علي ظهرها واعتدلت تحكى له كل شيء تقص عليه ما تريد منفعلة ....غاضبة
ولكنها أيضاً خائفة تريد من يمد يده إليها كطفلة صغيرة تقف على حافة طريق سريع تخشى أن تندفع للناحية الأخرى وهى ترى السيارات مسرعة من كل إتجاه إن عبرت قد تدهسهها وإن ظلت مكانها ضاعت فرصتها في الحياة.
أنهت حديثها وهو ينصت إليها بتركيز
_ هتسمعى كلامى يا تولين ولا هتعاندى معايا زى ما بتعاندى مع عمك؟
_ أنا مش بعاند معاه ...هو اللى رافض يدينى حقى وورثى من بابا الله يرحمه مع إنه يقدر بس هو رافض.
اعتدل في جلسته قائلاً:
_ طيب اسمعينى بقى كويس وافهمى
عمك هيفضل معاند ومكبر دماغه من ناحيتك مش هقولك إنه شايف إنك بنت صغيرة وقيمتك بالنسبة له صفر.
لأ هو كل همه إن شركته دى تكبر وتعلى وهيقولك إنه تعب وشقى فيها من يوم أبوكِ الله يرحمه ما مات
تيجى أنتِ وتقوليلى أنا هروح اشتغل بره في شركة تانية مع الدكتور بتاعك ده اللى معرفش اسمه تبقى هبلة وهتضيعى تعب أبوكِ وشقاه.
اعترضت تصيح :
_ هبلة ليه بقى ....ما هو أنا عاوزه اشتغل وأبنى نفسى بنفسى ويبقى ليّ شركتى الخاصة مش اشتغل عند حد
_ حلو قوى....وعندك الخبرة اللى تخليكِ تغامرى وتاخدى ميراثك وتجازفى وتديه لواحد ممكن ينصب عليكِ وتبقى خسرتِ كل حاجة ؟!
صاحت مستنكرة :
_ لا والله يا عمو دكتور رائف رجل محترم جداً خبرة وشاطر جداً في شغله حتى الشركة اللى بيشتغل فيها مش عاوزاه يسيبها ويبقى له شغل لوحده.
أمسك بطرف أذنها يصيح بها:
_ يا بت أنتِ اسمعى الكلام
فلوس أبوكِ وتعبه مش من حق حد ياخده ولا تقوليلى خبرة ولا غيره ....اللى أعرفه إنك تروحى تقفى في وش عمك وتقوليله أنا هشتغل في شركتى
اعترضت غاضبة:
_ اشتغل معاه....لأ طبعاً مستحيل
_ ومستحيل ليه إن شاء الله!!
اسمعينى كده ومن الأخر ....مختار مش هيطلّع قرش واحد من الشركة عشان حضرتك تاخدى ورثك يبقى التفكير الصحيح بيقول إنك تروحى وتقعدى على قلبه ويبقى عارف إنك مش سهلة ومش هتفرطى في حقك
خليه يحس إنك عضمة ناشفة هتقف في زوره لو حاول يبلعها.. غير كده تبقي عبيطة ومش هتطولى لا سما ولا أرض.
-أنت مش ناوى تجيبها لبر أنا ساكتالك من زمان بس المرادى مش هسيبك ..
قاطع حديثهما صوت ريم الزاعق وهى تقف أمام شاب يبتسم لها يضع أحد كفيه في جيب بنطاله وبيده الأخرى يرجع خصلات شعره المتوسط الطول للخلف
_ أنا جيت جنبك دى أنتِ بتلككِ بقى !!
صاحت به غاضبة:
_ أنا اتلكك لواحد زيك ..ليه إن شاء الله !!
رقّص حاجبيه وهو يكمل :
_ يمكن تكونى معجبة ولا حاجة
همت لتصرخ به ولكن قبضة صغيرة احتلت وجهه لتجعله يتراجع متفاجئاً من تلك الضربة التي جاءته على حين غرة.. اعتدل ليمسك برأس من فعلها ليجدها فتاة تقارب ريم طولاً وجسداً شعرها أسود طويل ترفعه أعلى رأسها تقف تنظر إليه بغضب وكفيها على جانبيها مستعدة لمعاودة الكرة .
_ أنتِ مجنونة يا بت ؟!!
أنتِ عارفة بتمدى إيدك على مين ؟ أنا مازن الجبالى ....عارفة مين مازن الجبالى ؟
صاحت به وهى تقترب منه بسرعة تمسك بتلابيبه غاضبة:
_ عيل أهبل مترباش ساعة على بعضها هتغور من هنا على رجليك ولا على نقالة.
نفض يدها وعدل من سترته ونظر إليها بغيظ:
_ أنا عشان محترم مش همد إيدى على بنت زيك
صاحت به :
_ طيب يلا يا عم الأمور على أمك يا حيلتها
ابتعد عنها وغادر المكان لتصيح به :
_ يا كابتن ...
التفت إليها بغيظ لتكمل :
_ لو شوفت وشك هنا تانى هزعلك
ابتسم مشاكساً:
_ماشى يا كابتن كلاى ..
ركب سيارته وظل مكانه للحظات قبل أن يصدح صوت هاتفه في جيبه.. أخرجه لينظر للمتصل بقلق ولم يجد بُداً من إجابته
_ صباح شريف أدهم باشا
_ أنت فين يا زفت ع الصبح؟
صاح معترضاً :
_ هي دى صباح الخير يا ابن عمى
سمع صوته غاضباً :
_ والخير هيجى منين مع واحد مستهتر زى حضرتك .....مش في طلبية أسمنت داخله المخازن النهارده ولا أنا غلطان؟
شاكسه ضاحكاً:
_ لأ طبعاً يا هندسة أنت عمرك ما تغلط
صرخ به :
_ ولما أنا مش غلطان الباشا فين لحد دلوقتي
أقولك أنا.. طبعاً صايع مع بت جديدة ومقضيها وإحنا يتحرق دم أهالينا عشان الباشا يعيش شبابه مش كده؟
صاح معترضاً :
_ أبداً والله.. ده أنا في الطريق أهو حتى أسأل زياد
_ مازن اتعدل ....زياد مش هيفضل يغطى عليك كتير
ودينى لو ما اتعدلت لارفدكم أنتوا الاتنين وعلىّ وعلى أعدائى يا ولاد الجبالى.
_ ولا تزعل نفسك يا كونت.....ساعة وتلاقينى تحت أمرك
قبل ما تدعك المصباح هتلاقينى قدامك بقولك شبيك لبيك
مازن ابن عمك بين إيديك.
والرد كان صوت انقطاع الاتصال ليتنهد :
_ هو نهار باين من أوله
*******
الكلام لم يعد له معنى
ترفعت عن الاعتذار
والهجوم في عرفه أفضل وسيلة للدفاع
العتاب لمن يعز عليك فراقه
لمن يحزنك هجره
أما هي ...
فقد كسرت تعويذة حبه..
استندت على رصيد عشقه لها
ظلت تسحب منه ولم يكن في حسبانها أنه كما أخذت عليها أن تعطى
والآن حان موعد الحساب و سداد الدين.
ولكنها سلكت الطريق الخطأ...
طريق التهديد والوعيد ..
طريق لا رجعة فيه
انتفضت ....صرخت
هددته بأبيها الذى لطالما ألحقت كل كلمة بمنصبه السابق ووضعه الحالي
وهو آخر من يليق به التهديد.
غادرت بيته وذهبت لمنزل أبيها كورقة ضغط ليتراجع عن مخططه للزواج
_ أنا هروح بيت بابا ويوم ما تعقل وترجع في كلامك أنت عارف هتلاقينى فين يا أدهم.
ولم يعد فراقها يلقى صديٍ في قلبه
وكأنها بالبعد توسع الفجوة بينهما..
تترك لقلبه العنان ليبتعد ...
ليتخلص من قيد عشقها الذى اعتقده أبدى ..
وعلى الرغم من وجع الفراق ...ألم البعد والاشتياق
هو يفكر
سنوات العمر تتسرب من بين أصابعه في انتظار أن تتغير
أن تتبدل نظرتها للحياة معه.
وتلك سذاجة ليست من صفاته
لقد اكتفى من مجاراتها وتدليلها دلالاً أفسدها
وعليه أن يعيد الأمور إلي نصابها.
مغادرتها المنزل ليست بالجديدة فعلتها أكثر من مرة كلما يفتح أمامها حديثاً عن رغبته بالأطفال وهي ترفض وبإصرار وكان يتركها حتى تهدأ ويهدأ ثم يذهب لإحضارها ..
الأمر بات مملاً....مهلكاً
قبل أن ترحل أعطاها خياران لا ثالث لهما أمِا أن تذهب معه للطبيب لتبدأ رحلة العلاج في سبيل الإنجاب.
أو تتركه ليتزوج ولكنها صرخت وزعقت وعلم البيت بمن فيه بما يدور بينهما
البعض يلومها ....والبعض يطلب منه أن يحكم صوت العقل في خلافهما
والبعض شامت....بل سعيد بالخلاف الذى ظهر على السطح ..خلاف قد يسمح بفرض السيطرة والاستحواذ على مقاليد كل شيء.
الله وحده يعلم ما بالسرائر ..لكن الوجوه تفضح ما تحمله القلوب ويصعب عليه أن من يريد إزاحته لم يكن سوي أخاه وشقيقه الأوسط (خالد)
يرى نفسه الأحق أن يكون مكانه وإن لم ينطق بها لسانه فتصرفاته وأفعاله تشي بذلك.
كثيراً ما كذب عقله وإحساسه ولكن نما إلى مسامعه حواره مع زوجته (رانيا)
التى يؤمن أنها السبب الأعظم لتغير أخيه من النقيض إلي النقيض.
وإن سخر حينها من حديثهما ولكن آلمه قلبه وهو يستمع إلي أخيه يخطط للتخلص من وجوده في الشركة ليصبح هو صاحب الحق في الإدارة وبالتالي في كل شيء يخص العمل والمنزل .
وصوتها يبثه الغيرة والبغضاء.
تزرع بداخله حقداً نحو أخيه وتغذى بداخله نبتة الغل والعداء.
_ ألحق نفسك يا خالد لازم تركب من دلوقتي .. أخوك لا عنده عيل ولا مراته ناوية تخلف ....لكن إحنا عندنا ابننا ومن حقنا يكون لينا أضعاف اللي له .. أدهم عرف إزاى يضحك على عقل جدك الخرفان وخلاه يمسّكه كل حاجة ولو جدك مات كلنا هنكون تحت رحمته ومش هنطول الهوا.
لم يعرف أحد أنه استمع لحديثهما وسارت الأمور طبيعية ولكنه يعلم الآن ما تخفيه النفوس .
******
اليوم حفل خطبة أخيه الأصغر (زياد) والأجواء متوترة وكل من في المنزل يسارع لتجهيز حاله قبل حلول المساء
لكن يومه مختلف
الإتفاق بينه وبين جده أنه سيلقى عروسه اليوم في حفل الخطبة..سيراها فقط دون الحديث في أمور الزواج
رغم أنه يبغض أن يكون مُسير تحت إمرة أحدهم ولكنها تجربة
قد تثبت نجاحها ....وقد تفشل ويبقى الوضع كما هو عليه
_ حمدلله على السلامة يا أدهم
ابتسم لزوجة ابن عمه الأكبر (قاسم ) وهى تهبط من أعلى الدرج تمسك بكف طفلتها ( تاليا) التي انحنى إليها عندما أسرعت نحوه ككل مرة تراه فيها تتعلق برقبته وأحياناً كثيرة تغفو على كتفه مثيرة غيرة ابن عمه
_ نفسى أفهم أنت بتعملها إيه عشان تتعلق بيك كده؟!
ويغيظه غامزاً:
_ بالحنية يا دوك
حملها يقبل وجنتها المكتنزة بحنو:
_ يا أهلاً يا أهلاً بقمر البيت كله
محدثاً( ياسمين ) زوجة قاسم بدعابة:
_ أومال جوز حضرتك فين بقالى يومين مش عارف اتلم عليه
ضحكت قائلة:
_ والله يا أدهم ولا أنا كمان عارفة اتلم عليه من المستشفى للعيادة وبيرجع هلكان يا حبيبي وبينام على طول.
ابتسم بخبث :
_ عيادة برضه ....مش بعيد تلاقيه متجوز عليكِ ومقضيها مع مراته التانية
شعر بمن يقبض علي رقبته صائحاً :
_ هو مين ده اللى مقضيها يا هندسة
التفت إلى محدثه مبتسماً :
_ ابن حلال وبتيجى على السيرة
(قاسم الجبالي) كبير أحفاد هارون الجبالى
جراح القلب الشاب الذى بدأ اسمه يلمع مؤخراً في الأوساط الطبية بنجاحه المميز في علاج الحالات الصعبة والجراحات الكبري.
جده ينتشى به ويفخر بوجوده خاصة بعد وفاة أبيه يرى فيهم جميعاً حُلماً حُرم منه وهو صغير ولكنه حققه في أولاده وأحفاده.
قاسم الأخ الكبير لأدهم وإن لم يكن شقيقه فصلة الدم والقربي بينهما جعلت منه الشقيق والصديق والعون عند الحاجة.
يشبهه إلى حد كبير في العقل والتفكير.
وسيم بملامح شرقية بعينيه الزيتونية ..شعره البنى وجسده الرياضى وإن شابته زيادة بسيطة في الوزن باتت تؤرقه.
تزوج من ياسمين منذ أربع سنوات بعدما رأها في حفل زفاف شقيقها صديقه المقرب تقدم لخطبتها وتزوجا في وقت قصير ورغم ذلك كان اختياره موفقاً وإن أزعجته أمه بمعاملتها لها ورغم ذلك فهي تصمت إكراماً له وحباً .. ولكنه لا يقف صامتاً وإن لم يكن أمامها فالعتاب واللوم بينه وبين أمه دائماً بسبب معاملتها الفظة لها فقد كانت تريد له ابنة أخيها زوجة ورفض هو حينها وتشبث بياسمين التي لم تخذله يوماً
_ هو النهارده خطوبة مين بالظبط عشان أبقى عارف
زياد ولا أدهم باشا
ابتسم ادهم بسخرية:
_ خطوبة مين يا قاسم ....دى مجرد مقابلة
تدخلت ياسمين متسائلة:
_ أنت فكرت كويس يا أدهم ....هدم بيت مش سهل أبداً
التفت إليها وعيناه شاردتان في البعيد :
_ وأنا هعمل إيه أكتر من كده يا ياسمين أنا تعبت ومش قادر أكمل بالوضع ده
_ عندك حق....بس حاول تانى يا أدهم مش يمكن تتغير
ابتسم لقاسم بسخرية:
_ ما أنا بقالى خمس سنين بحاول يا قاسم ....إيه اللى اتغير
مد شفتيه بسخرية مردفاً :
_ طبعاً مفيش...الطبع بيغلب التطبع يا قاسم وأنا مهما اتكلمت وحاولت معاها مفيش فايدة.
خرج صوت زوجة عمه والدة قاسم ( عايدة) :
_ حمد لله على السلامة يا حبيبي
اقترب منها مقبلاً جبينها:
_ الله يسلمك يا أمى
نظرت لزوجة ابنها بتأفف :
_ هو مش جوزك وصل والمفروض تحضريله الغدا ولا هتسيبه كده جعان وهو يا حبيبي تعبان وواقف على رجليه من الصبح وأنتِ واقفة ترغى
نظر إليها قاسم بغضب حاول التحكم به:
_ في إيه ياماما ؟
ما هي واقفة معايا وأنا لو جعان كنت طلبت
صاحت مستنكرة :
_ يعنى أنا اللى غلطانة يا قاسم عشان خايفة عليك ومش هاين عليّ ....صحيح ما خلاص أنا وجودى بقى زى عدمه.
اقتربت ياسمين معتذرة :
_ محصلش حاجة يا ماما ....أنا هروح أجهز الغدا حالاً
زعق قاسم غاضباً:
_ متحضريش حاجة أنا مش هتغدى دلوقتي وتعالى على الأوضة أنا هستريح شويه لحد ما الكل يتجمع ونتغدى سوا .....بعد إذنكم .
أنهى حديثه وحمل ابنته وصعد بصحبة زوجته للأعلى وعايدة تقف تكاد تعض أناملها غيظاً.
ليقترب منها أدهم مبتسماً بخبث:
_ يا عايدة بلاش شغل الحموات ده
ضربت كتفه بغيظ ناله :
_ بقى أنا بعمل شغل حموات يا قليل الأدب ما هي ليلى معرفتش تربيك
_ أومال شغل ملايكة يا دودو ....اهدى على البنت شويه كتر خيرها مستحملاكِ أنتِ وابنك.
صرخت به غاضبة:
_ نعم يا حبيبي وهى كانت تطول تتجوز واحد زى ابنى ..ده ألف مين تتمناه ده الدكتور قاسم الجبالى.
_ طيب بس حاسبى على نفسك ومالك طالعة بيه القلعة ليكون دكتور مجدي يعقوب وإحنا منعرفش.
عاد والتزم الجدية يضم كتفيها إليه مبتسماً :
_ ياسمين بتحب قاسم وبتراعى ربنا فيه وبتعاملك كويس ليه بقى تعملى مشاكل ودوشة أنتوا في غنى عنها.
حاولت إبعاده غاضبة:
_ بس بقى يا واد ....بس هقول إيه طالع لجدك كلامك زيه بالظبط
_ وماله جده يا عايدة؟
انتفضت عندما سمعت صوت هارون فنظرت إليه بقلق:
_ أبداً يا حاج....
بقوله إنه واخد منك كتير ....عن إذنكم.
وفرت هاربة وورائها ضحكة أدهم وابتسامة هارون الذى أقبل عليه:
_ مختار العزيزى كلمنى من شويه يا أدهم
اختفت ضحكته وأحس بشعور المجبر على شيء لم يرده قط .. ولكن لم تعد أمامه الفرصة للتراجع
_ وكان عاوز إيه ؟
ابتسم هارون بخبث:
_ هيكون عاوز إيه....بنرتب هتقابل عروستك إزاى وهتعمل إيه ؟
_ أنا مقولتش إنها عروستى يا جدى....أنا قولت هشوفها حصل قبول ماشى محصلش يبقى كل شيء قسمة ونصيب.
فهم هارون تهربه فابتسم:
_ طبعاً كل شيء قسمة ونصيب بس ميمنعش إنك تشوفها ....وتكلمها رغم إنها متعرفش إنك متقدملها ....المقابلة هتكون في الحفلة هتقابل مختار وتقعد معاه وتشوفها عن قرب من غير الدخول في تفاصيل هو ده كان شرطه.
وضع أدهم كفيه في جيبى بنطاله براحة:
_ حلو قوى ....وأنا نفسى مش هدخل في تفاصيل لحد ما أشوف أنا هعمل إيه
بعد إذنك يا حاج ....أنا هدخل لبابا.
ابتسم هارون وتركه يغادر وهو يعلم أن بداخله حرباً....صراعاً
بين البعد عنها وهجرها وبين كرامته ووجعه الذى ناله منها
يريد الأخذ بثأره من ناحية ....ويريد الصفح عنها من ناحية أخري ولكن إن انتصر قلبه على عقله
ضاع كل شيء وسيخسر كل شيء.
******
أحياناً نحتاج لعينٍ أخرى
عقل آخر
رأي مختلف عنا
نظرة من زاوية أخرى بعيدة
تمحو غشاوة العقل واهتزاز الرؤية
تمحو غبار العناد الذى احتل عقلها
(ريم)
الصديقة الأقرب والأعز لدى تولين
مرآتها وانعكاس روحها.
أصدقاء منذ المراهقة علاقة بدأت بمشاجرة وانتهت بصداقة أقوى من رابطة الأخوة
ملاذها الوحيد الآمن.
ليست ريم وحدها ولكن أباها (محسن) وأمها (صفية )
كانوا عوضاً لها عن كثير لم تجده بحياتها.
يمتلكون مقهي علي الطراز الغربي يقدم الحلوى التي اشتُهرت بها صفية ..محسن يدير المكان وريم تشربت من أمها حرفتها وبجدارة وإن أضافت بعض الأصناف الغربية ليلمع اسم المقهى أكثر وأكثر.
حينما تشتاق للحلوى تسرع إليها
وحينما تحتاج لشخص آخر يشاركها القرار تسرع إليها
_ طبعاً حضرتك افتكرتينى عشان(الديسباستيو)
وقبلة على وجنتها وحقيبة ظهرها تُلقيها جانباً ترفع خصلات شعرها الأسود لأعلى قبل أن تصيح بها
_ لمى ديل الحصان ده عشان مينزلش في الأكل وصفية تطردنا من هنا
ارتكنت بظهرها على حائط المطبخ تراقبها وهى تصنع حلواها
عيناها شاردة مع حركات يد ريم
تشعر بحالها كريشة طائر سقطت على غفلة من جناحه المكسور .
تشعر بوحدتها تزداد يوماً بعد يوم.
أمينة موجودة ...
ريم أمامها ...
ولكن .....لما تشعر بالتيه !
هناك ما ينقصها تحاول شغل نفسها بأكثر من عمل تهلك جسدها لتستسلم في النهاية للنوم رغبة في الهروب .
_ شكلك محتاجة تتكلمى ولا أنا غلطانة ؟
رفعت عينيها نحوها مبتسمة :
_ محدش في الدنيا دى فاهمنى قدك وقد أمينة
ابتسمت ريم وهى تكمل عملها :
_ قلب الأم بقى تقولي إيه
نظرت نحوها عاقدة حاجبيها وابتسامتها تختفى فجأة وريم لاحظت فسألتها بريبة:
_ وشك اتقلب كده ليه ....هى كلمتك ؟
اعتدلت وابتعدت متجهة نحو حقيبتها تحملها على ظهرها:
_ بتحاول تكلمنى وأنا مش عاوزة أسمع صوتها.
رفعت رأسها تواجهها بنظرة غاضبة ساخطة :
_ يا بنتى اعقلى بقى ما تتكلمى معاها ..قربى منها مش هتفضلى بعيدة كده دى أمك مهما كان.
صاحت بها غاضبة :
_ وأنا مش محتاجاها .....مش عاوزاها يا ريم
مش بعد كل السنين دى وهحن
مينفعش اقابل قلبها الجاحد بقلب صافى مفتوح في أي وقت ...
دى متستهلش .
_ مزعلة بنوتّى ليه يا ست ريم؟
التفتا نحو محسن الذى دخل المطبخ يحمل بعض الصوانى الفارغة يضعها على الطاولة الرخامية ويشير لأحد العمال بغسلهم
(محسن) ذلك الرجل دوماً كان سبباً لابتسامتها وراحة قلبها منذ وفاة أبيها وهو يوليها اهتمامه ورعايته هو وزوجته صفية يحاولان تعويضها
ملئ فراغ رحيل الأب
وهجر الأم
وهى مستمتعة بالدور الذى يلعباه في حياتها.
نظرت إليه بجسده الممتلئ وبطنه المنتفخة يرفع بنطاله بحمالات عريضة
نظارته التي تسقط دوماً عن عينيه.. خصلات شعره الرمادية الخفيفة
يقترب منها مبتسماً بسماحة من قلب صافى تحتاجه :
_ البنت اللى اسمها ريم دى مزعلاكِ ولا إيه قوليلى وأنا أعلقها.
صاحت ريم مستنكرة:
_ تعلق مين يا بابا أنت هتفضل تدلعها كده ؟!
عبث بشعر ابنته :
_ اها هدلعها أنتِ مالك متتدخليش بينا
التفت لتولين :
_ تعالى معايا لحد ما الشيف ريم تعملك أحلى ديسباسيتو.
صاحت ريم :
_ وياريته بيبان عليها نفسى أعرف الأكل اللى بتاكله بيروح فين ....ده أنا لو شربت شويه ميه بزيد خمسة كيلو ودى الله ينور مش عاتقة ومحافظة على جسمها.
أخرجت تولين لسانها لتغيظها وترفع كفها في وجه صديقتها :
_ الله أكبر...مش هتبطلى تحسدينى
_ لما تتخنى هبطل أحسدك .
******
هواء بارد وكوب الشيكولاته الساخنة تحمله بين كفيها ومحسن يجلس أمامها على أحد مقاعد المقهى يدخن سيجارته تارة ويرتشف من فنجان قهوته تارة أخرى ينظر إليها بحزن على حالها .. فتاة في عمر الزهور وحيدة ضائعة تحاول بكل جهدها أن تتمسك بالحياة...بالابتسامة
تعافر لتصنع دنياها ورغم قوتها وعنادها .. لكنها قوة ظاهرية تخفى ضعفاً تحاول جاهدة ألا يراه ولا يشعر به أحد.
كثيراً ماينظر إليها ويتذكر ابنته الوحيدة التي من الممكن أن تواجه نفس المصير إن رحل وتركها لإخوته الذين لا يتذكرونه إلا عند حاجتهم للمال.
يخشى أن يتركها وأمها في مواجهتهم وحدهما وحينها لن يتذكروا أخاهم الأكبر قط. فقط سيتذكرون الأموال التي سيحصلون عليها بعد مماته خاصة وإنه لم ينجب الذكر الذى يحمل اسمه و يمنع إخوته من الاستيلاء على المقهى الذى يسترهم.
_ عندك كلام كتير ومترددة يا تويا؟
رفعت عينيها إليه وابتسامة خجلي ممن يقرأ خلجات نفسها ..صدق قلبها حين أوحى إليها بزيارتهم.
هي تحتاجه....تحتاج أباً روحياً يشاركها القرار ويهديها سبيل السكينة.
_ أنا فعلاً عاوزه اتكلم مع حضرتك ومفيش حد هيفهمنى غيرك .
ابتسم مربتاً على كفها:
_ قولى اللى عندك وأنا سامع
حلت شعرها المعقود أعلى رأسها ثم عادت وربطته بعقدة مطاطية وتركتها ينسدل علي ظهرها واعتدلت تحكى له كل شيء تقص عليه ما تريد منفعلة ....غاضبة
ولكنها أيضاً خائفة تريد من يمد يده إليها كطفلة صغيرة تقف على حافة طريق سريع تخشى أن تندفع للناحية الأخرى وهى ترى السيارات مسرعة من كل إتجاه إن عبرت قد تدهسهها وإن ظلت مكانها ضاعت فرصتها في الحياة.
أنهت حديثها وهو ينصت إليها بتركيز
_ هتسمعى كلامى يا تولين ولا هتعاندى معايا زى ما بتعاندى مع عمك؟
_ أنا مش بعاند معاه ...هو اللى رافض يدينى حقى وورثى من بابا الله يرحمه مع إنه يقدر بس هو رافض.
اعتدل في جلسته قائلاً:
_ طيب اسمعينى بقى كويس وافهمى
عمك هيفضل معاند ومكبر دماغه من ناحيتك مش هقولك إنه شايف إنك بنت صغيرة وقيمتك بالنسبة له صفر.
لأ هو كل همه إن شركته دى تكبر وتعلى وهيقولك إنه تعب وشقى فيها من يوم أبوكِ الله يرحمه ما مات
تيجى أنتِ وتقوليلى أنا هروح اشتغل بره في شركة تانية مع الدكتور بتاعك ده اللى معرفش اسمه تبقى هبلة وهتضيعى تعب أبوكِ وشقاه.
اعترضت تصيح :
_ هبلة ليه بقى ....ما هو أنا عاوزه اشتغل وأبنى نفسى بنفسى ويبقى ليّ شركتى الخاصة مش اشتغل عند حد
_ حلو قوى....وعندك الخبرة اللى تخليكِ تغامرى وتاخدى ميراثك وتجازفى وتديه لواحد ممكن ينصب عليكِ وتبقى خسرتِ كل حاجة ؟!
صاحت مستنكرة :
_ لا والله يا عمو دكتور رائف رجل محترم جداً خبرة وشاطر جداً في شغله حتى الشركة اللى بيشتغل فيها مش عاوزاه يسيبها ويبقى له شغل لوحده.
أمسك بطرف أذنها يصيح بها:
_ يا بت أنتِ اسمعى الكلام
فلوس أبوكِ وتعبه مش من حق حد ياخده ولا تقوليلى خبرة ولا غيره ....اللى أعرفه إنك تروحى تقفى في وش عمك وتقوليله أنا هشتغل في شركتى
اعترضت غاضبة:
_ اشتغل معاه....لأ طبعاً مستحيل
_ ومستحيل ليه إن شاء الله!!
اسمعينى كده ومن الأخر ....مختار مش هيطلّع قرش واحد من الشركة عشان حضرتك تاخدى ورثك يبقى التفكير الصحيح بيقول إنك تروحى وتقعدى على قلبه ويبقى عارف إنك مش سهلة ومش هتفرطى في حقك
خليه يحس إنك عضمة ناشفة هتقف في زوره لو حاول يبلعها.. غير كده تبقي عبيطة ومش هتطولى لا سما ولا أرض.
-أنت مش ناوى تجيبها لبر أنا ساكتالك من زمان بس المرادى مش هسيبك ..
قاطع حديثهما صوت ريم الزاعق وهى تقف أمام شاب يبتسم لها يضع أحد كفيه في جيب بنطاله وبيده الأخرى يرجع خصلات شعره المتوسط الطول للخلف
_ أنا جيت جنبك دى أنتِ بتلككِ بقى !!
صاحت به غاضبة:
_ أنا اتلكك لواحد زيك ..ليه إن شاء الله !!
رقّص حاجبيه وهو يكمل :
_ يمكن تكونى معجبة ولا حاجة
همت لتصرخ به ولكن قبضة صغيرة احتلت وجهه لتجعله يتراجع متفاجئاً من تلك الضربة التي جاءته على حين غرة.. اعتدل ليمسك برأس من فعلها ليجدها فتاة تقارب ريم طولاً وجسداً شعرها أسود طويل ترفعه أعلى رأسها تقف تنظر إليه بغضب وكفيها على جانبيها مستعدة لمعاودة الكرة .
_ أنتِ مجنونة يا بت ؟!!
أنتِ عارفة بتمدى إيدك على مين ؟ أنا مازن الجبالى ....عارفة مين مازن الجبالى ؟
صاحت به وهى تقترب منه بسرعة تمسك بتلابيبه غاضبة:
_ عيل أهبل مترباش ساعة على بعضها هتغور من هنا على رجليك ولا على نقالة.
نفض يدها وعدل من سترته ونظر إليها بغيظ:
_ أنا عشان محترم مش همد إيدى على بنت زيك
صاحت به :
_ طيب يلا يا عم الأمور على أمك يا حيلتها
ابتعد عنها وغادر المكان لتصيح به :
_ يا كابتن ...
التفت إليها بغيظ لتكمل :
_ لو شوفت وشك هنا تانى هزعلك
ابتسم مشاكساً:
_ماشى يا كابتن كلاى ..
ركب سيارته وظل مكانه للحظات قبل أن يصدح صوت هاتفه في جيبه.. أخرجه لينظر للمتصل بقلق ولم يجد بُداً من إجابته
_ صباح شريف أدهم باشا
_ أنت فين يا زفت ع الصبح؟
صاح معترضاً :
_ هي دى صباح الخير يا ابن عمى
سمع صوته غاضباً :
_ والخير هيجى منين مع واحد مستهتر زى حضرتك .....مش في طلبية أسمنت داخله المخازن النهارده ولا أنا غلطان؟
شاكسه ضاحكاً:
_ لأ طبعاً يا هندسة أنت عمرك ما تغلط
صرخ به :
_ ولما أنا مش غلطان الباشا فين لحد دلوقتي
أقولك أنا.. طبعاً صايع مع بت جديدة ومقضيها وإحنا يتحرق دم أهالينا عشان الباشا يعيش شبابه مش كده؟
صاح معترضاً :
_ أبداً والله.. ده أنا في الطريق أهو حتى أسأل زياد
_ مازن اتعدل ....زياد مش هيفضل يغطى عليك كتير
ودينى لو ما اتعدلت لارفدكم أنتوا الاتنين وعلىّ وعلى أعدائى يا ولاد الجبالى.
_ ولا تزعل نفسك يا كونت.....ساعة وتلاقينى تحت أمرك
قبل ما تدعك المصباح هتلاقينى قدامك بقولك شبيك لبيك
مازن ابن عمك بين إيديك.
والرد كان صوت انقطاع الاتصال ليتنهد :
_ هو نهار باين من أوله
*******
الكلام لم يعد له معنى
ترفعت عن الاعتذار
والهجوم في عرفه أفضل وسيلة للدفاع
العتاب لمن يعز عليك فراقه
لمن يحزنك هجره
أما هي ...
فقد كسرت تعويذة حبه..
استندت على رصيد عشقه لها
ظلت تسحب منه ولم يكن في حسبانها أنه كما أخذت عليها أن تعطى
والآن حان موعد الحساب و سداد الدين.
ولكنها سلكت الطريق الخطأ...
طريق التهديد والوعيد ..
طريق لا رجعة فيه
انتفضت ....صرخت
هددته بأبيها الذى لطالما ألحقت كل كلمة بمنصبه السابق ووضعه الحالي
وهو آخر من يليق به التهديد.
غادرت بيته وذهبت لمنزل أبيها كورقة ضغط ليتراجع عن مخططه للزواج
_ أنا هروح بيت بابا ويوم ما تعقل وترجع في كلامك أنت عارف هتلاقينى فين يا أدهم.
ولم يعد فراقها يلقى صديٍ في قلبه
وكأنها بالبعد توسع الفجوة بينهما..
تترك لقلبه العنان ليبتعد ...
ليتخلص من قيد عشقها الذى اعتقده أبدى ..
وعلى الرغم من وجع الفراق ...ألم البعد والاشتياق
هو يفكر
سنوات العمر تتسرب من بين أصابعه في انتظار أن تتغير
أن تتبدل نظرتها للحياة معه.
وتلك سذاجة ليست من صفاته
لقد اكتفى من مجاراتها وتدليلها دلالاً أفسدها
وعليه أن يعيد الأمور إلي نصابها.
مغادرتها المنزل ليست بالجديدة فعلتها أكثر من مرة كلما يفتح أمامها حديثاً عن رغبته بالأطفال وهي ترفض وبإصرار وكان يتركها حتى تهدأ ويهدأ ثم يذهب لإحضارها ..
الأمر بات مملاً....مهلكاً
قبل أن ترحل أعطاها خياران لا ثالث لهما أمِا أن تذهب معه للطبيب لتبدأ رحلة العلاج في سبيل الإنجاب.
أو تتركه ليتزوج ولكنها صرخت وزعقت وعلم البيت بمن فيه بما يدور بينهما
البعض يلومها ....والبعض يطلب منه أن يحكم صوت العقل في خلافهما
والبعض شامت....بل سعيد بالخلاف الذى ظهر على السطح ..خلاف قد يسمح بفرض السيطرة والاستحواذ على مقاليد كل شيء.
الله وحده يعلم ما بالسرائر ..لكن الوجوه تفضح ما تحمله القلوب ويصعب عليه أن من يريد إزاحته لم يكن سوي أخاه وشقيقه الأوسط (خالد)
يرى نفسه الأحق أن يكون مكانه وإن لم ينطق بها لسانه فتصرفاته وأفعاله تشي بذلك.
كثيراً ما كذب عقله وإحساسه ولكن نما إلى مسامعه حواره مع زوجته (رانيا)
التى يؤمن أنها السبب الأعظم لتغير أخيه من النقيض إلي النقيض.
وإن سخر حينها من حديثهما ولكن آلمه قلبه وهو يستمع إلي أخيه يخطط للتخلص من وجوده في الشركة ليصبح هو صاحب الحق في الإدارة وبالتالي في كل شيء يخص العمل والمنزل .
وصوتها يبثه الغيرة والبغضاء.
تزرع بداخله حقداً نحو أخيه وتغذى بداخله نبتة الغل والعداء.
_ ألحق نفسك يا خالد لازم تركب من دلوقتي .. أخوك لا عنده عيل ولا مراته ناوية تخلف ....لكن إحنا عندنا ابننا ومن حقنا يكون لينا أضعاف اللي له .. أدهم عرف إزاى يضحك على عقل جدك الخرفان وخلاه يمسّكه كل حاجة ولو جدك مات كلنا هنكون تحت رحمته ومش هنطول الهوا.
لم يعرف أحد أنه استمع لحديثهما وسارت الأمور طبيعية ولكنه يعلم الآن ما تخفيه النفوس .
******
اليوم حفل خطبة أخيه الأصغر (زياد) والأجواء متوترة وكل من في المنزل يسارع لتجهيز حاله قبل حلول المساء
لكن يومه مختلف
الإتفاق بينه وبين جده أنه سيلقى عروسه اليوم في حفل الخطبة..سيراها فقط دون الحديث في أمور الزواج
رغم أنه يبغض أن يكون مُسير تحت إمرة أحدهم ولكنها تجربة
قد تثبت نجاحها ....وقد تفشل ويبقى الوضع كما هو عليه
_ حمدلله على السلامة يا أدهم
ابتسم لزوجة ابن عمه الأكبر (قاسم ) وهى تهبط من أعلى الدرج تمسك بكف طفلتها ( تاليا) التي انحنى إليها عندما أسرعت نحوه ككل مرة تراه فيها تتعلق برقبته وأحياناً كثيرة تغفو على كتفه مثيرة غيرة ابن عمه
_ نفسى أفهم أنت بتعملها إيه عشان تتعلق بيك كده؟!
ويغيظه غامزاً:
_ بالحنية يا دوك
حملها يقبل وجنتها المكتنزة بحنو:
_ يا أهلاً يا أهلاً بقمر البيت كله
محدثاً( ياسمين ) زوجة قاسم بدعابة:
_ أومال جوز حضرتك فين بقالى يومين مش عارف اتلم عليه
ضحكت قائلة:
_ والله يا أدهم ولا أنا كمان عارفة اتلم عليه من المستشفى للعيادة وبيرجع هلكان يا حبيبي وبينام على طول.
ابتسم بخبث :
_ عيادة برضه ....مش بعيد تلاقيه متجوز عليكِ ومقضيها مع مراته التانية
شعر بمن يقبض علي رقبته صائحاً :
_ هو مين ده اللى مقضيها يا هندسة
التفت إلى محدثه مبتسماً :
_ ابن حلال وبتيجى على السيرة
(قاسم الجبالي) كبير أحفاد هارون الجبالى
جراح القلب الشاب الذى بدأ اسمه يلمع مؤخراً في الأوساط الطبية بنجاحه المميز في علاج الحالات الصعبة والجراحات الكبري.
جده ينتشى به ويفخر بوجوده خاصة بعد وفاة أبيه يرى فيهم جميعاً حُلماً حُرم منه وهو صغير ولكنه حققه في أولاده وأحفاده.
قاسم الأخ الكبير لأدهم وإن لم يكن شقيقه فصلة الدم والقربي بينهما جعلت منه الشقيق والصديق والعون عند الحاجة.
يشبهه إلى حد كبير في العقل والتفكير.
وسيم بملامح شرقية بعينيه الزيتونية ..شعره البنى وجسده الرياضى وإن شابته زيادة بسيطة في الوزن باتت تؤرقه.
تزوج من ياسمين منذ أربع سنوات بعدما رأها في حفل زفاف شقيقها صديقه المقرب تقدم لخطبتها وتزوجا في وقت قصير ورغم ذلك كان اختياره موفقاً وإن أزعجته أمه بمعاملتها لها ورغم ذلك فهي تصمت إكراماً له وحباً .. ولكنه لا يقف صامتاً وإن لم يكن أمامها فالعتاب واللوم بينه وبين أمه دائماً بسبب معاملتها الفظة لها فقد كانت تريد له ابنة أخيها زوجة ورفض هو حينها وتشبث بياسمين التي لم تخذله يوماً
_ هو النهارده خطوبة مين بالظبط عشان أبقى عارف
زياد ولا أدهم باشا
ابتسم ادهم بسخرية:
_ خطوبة مين يا قاسم ....دى مجرد مقابلة
تدخلت ياسمين متسائلة:
_ أنت فكرت كويس يا أدهم ....هدم بيت مش سهل أبداً
التفت إليها وعيناه شاردتان في البعيد :
_ وأنا هعمل إيه أكتر من كده يا ياسمين أنا تعبت ومش قادر أكمل بالوضع ده
_ عندك حق....بس حاول تانى يا أدهم مش يمكن تتغير
ابتسم لقاسم بسخرية:
_ ما أنا بقالى خمس سنين بحاول يا قاسم ....إيه اللى اتغير
مد شفتيه بسخرية مردفاً :
_ طبعاً مفيش...الطبع بيغلب التطبع يا قاسم وأنا مهما اتكلمت وحاولت معاها مفيش فايدة.
خرج صوت زوجة عمه والدة قاسم ( عايدة) :
_ حمد لله على السلامة يا حبيبي
اقترب منها مقبلاً جبينها:
_ الله يسلمك يا أمى
نظرت لزوجة ابنها بتأفف :
_ هو مش جوزك وصل والمفروض تحضريله الغدا ولا هتسيبه كده جعان وهو يا حبيبي تعبان وواقف على رجليه من الصبح وأنتِ واقفة ترغى
نظر إليها قاسم بغضب حاول التحكم به:
_ في إيه ياماما ؟
ما هي واقفة معايا وأنا لو جعان كنت طلبت
صاحت مستنكرة :
_ يعنى أنا اللى غلطانة يا قاسم عشان خايفة عليك ومش هاين عليّ ....صحيح ما خلاص أنا وجودى بقى زى عدمه.
اقتربت ياسمين معتذرة :
_ محصلش حاجة يا ماما ....أنا هروح أجهز الغدا حالاً
زعق قاسم غاضباً:
_ متحضريش حاجة أنا مش هتغدى دلوقتي وتعالى على الأوضة أنا هستريح شويه لحد ما الكل يتجمع ونتغدى سوا .....بعد إذنكم .
أنهى حديثه وحمل ابنته وصعد بصحبة زوجته للأعلى وعايدة تقف تكاد تعض أناملها غيظاً.
ليقترب منها أدهم مبتسماً بخبث:
_ يا عايدة بلاش شغل الحموات ده
ضربت كتفه بغيظ ناله :
_ بقى أنا بعمل شغل حموات يا قليل الأدب ما هي ليلى معرفتش تربيك
_ أومال شغل ملايكة يا دودو ....اهدى على البنت شويه كتر خيرها مستحملاكِ أنتِ وابنك.
صرخت به غاضبة:
_ نعم يا حبيبي وهى كانت تطول تتجوز واحد زى ابنى ..ده ألف مين تتمناه ده الدكتور قاسم الجبالى.
_ طيب بس حاسبى على نفسك ومالك طالعة بيه القلعة ليكون دكتور مجدي يعقوب وإحنا منعرفش.
عاد والتزم الجدية يضم كتفيها إليه مبتسماً :
_ ياسمين بتحب قاسم وبتراعى ربنا فيه وبتعاملك كويس ليه بقى تعملى مشاكل ودوشة أنتوا في غنى عنها.
حاولت إبعاده غاضبة:
_ بس بقى يا واد ....بس هقول إيه طالع لجدك كلامك زيه بالظبط
_ وماله جده يا عايدة؟
انتفضت عندما سمعت صوت هارون فنظرت إليه بقلق:
_ أبداً يا حاج....
بقوله إنه واخد منك كتير ....عن إذنكم.
وفرت هاربة وورائها ضحكة أدهم وابتسامة هارون الذى أقبل عليه:
_ مختار العزيزى كلمنى من شويه يا أدهم
اختفت ضحكته وأحس بشعور المجبر على شيء لم يرده قط .. ولكن لم تعد أمامه الفرصة للتراجع
_ وكان عاوز إيه ؟
ابتسم هارون بخبث:
_ هيكون عاوز إيه....بنرتب هتقابل عروستك إزاى وهتعمل إيه ؟
_ أنا مقولتش إنها عروستى يا جدى....أنا قولت هشوفها حصل قبول ماشى محصلش يبقى كل شيء قسمة ونصيب.
فهم هارون تهربه فابتسم:
_ طبعاً كل شيء قسمة ونصيب بس ميمنعش إنك تشوفها ....وتكلمها رغم إنها متعرفش إنك متقدملها ....المقابلة هتكون في الحفلة هتقابل مختار وتقعد معاه وتشوفها عن قرب من غير الدخول في تفاصيل هو ده كان شرطه.
وضع أدهم كفيه في جيبى بنطاله براحة:
_ حلو قوى ....وأنا نفسى مش هدخل في تفاصيل لحد ما أشوف أنا هعمل إيه
بعد إذنك يا حاج ....أنا هدخل لبابا.
ابتسم هارون وتركه يغادر وهو يعلم أن بداخله حرباً....صراعاً
بين البعد عنها وهجرها وبين كرامته ووجعه الذى ناله منها
يريد الأخذ بثأره من ناحية ....ويريد الصفح عنها من ناحية أخري ولكن إن انتصر قلبه على عقله
ضاع كل شيء وسيخسر كل شيء.