1 حرب البيقان
مَرَدَة، سَعَالي، غِيلان؛ وغيرها من الأسماء التي أُطلقت علىٰ تلڪ المخلوقات المُعتَرف بها بإسم جِن، وفي اللغة العربية يُطلق عليهم جِن تيمنًا بكُل ما جُنَّ عليه الليل، أي اختفىٰ أو لم يتم إدراكه.
مخلوقاتٍ من مارج نار، مُيّزوا بما لم يتم تمييز البشر به، في حين مُيّز الإنس بما لم يُميّزوا هُم به، من دون افتراض الأفضيلة لأي الطرفين.
وفي حقيقة الأمر، وإن تمَّ تفضيلهم عن الإنس في سبق الذكر بالقُرآن، فهُم في النهاية مخلوقين لنفس الغرض، ولنفس الوسيلة المخلوق لها البشر، فلمَ التفضيل في الصفات إذًا؟
فلنرجع بالزمان لعقودٍ مضت، لم يبقىٰ منها إلّا آثارٍ معدودة علىٰ أصابع اليد الواحدة من حول العالم..
***
حوالي أربعة ملايين سنة قبل الميلاد.
«القارة العظيمة».
مُنذ حوالي عامين ونصف العام بدأت الثورات تنتشر في مملكة الشمس، تلڪ التي حكمها ملكًا واحد مُنذ أن نُزّل الجن علىٰ الأرض، فكان الملڪ قامان وآله هُم المُكلفون مملكة الشمس، والتي كانت بالشمال، وكانت من توابع تلڪ الثورات مشاكل سياسية داخلية بالقصر، فمثلًا البعض قالوا أن الأمير قاران بدأ في مُحاولاتٍ عدة للسيطرة علىٰ الحُكم والانقلاب علىٰ والده، والبعض الآخر اقترحوا أنه لم يكن إلّا عميلًا لمملكة الجنوب؛ مملكة البحر.
وبما أن الفرق بين الجِن الناري والجِن البحري شتان، فكان من البديهي تكذيب تلڪ الشائعات وإن كانت لها أصولًا وأدلة.
بدأت الحرب بين المملكتين مُنذ بداية خليقة الجن، قد ندعو الأمر اختلافًا في سياسات كُل مملكة من المملكتين، الأمر الذي أجبر ملڪ الشمس -مع كامل رضاءه الشخصي- علىٰ إعلان علىٰ ملڪ البحر؛ جبريل.
وبالرغم من أن الأمر لم يكن يتطلب كُل هذا العناء، إلّا أن الأمر بعد حوالي ساعتين من إعلان حرب البيقان قد استحال مسألة شخصية، من بعد تلڪ الشائعات التي أطلقها بعض الجن الأقزام علىٰ ابنة جبريل؛ لارا، بتحالفاتها السرية مع الأمير، ابن ملڪ الشمس؛ قاران.
فإن نظرنا للأمر وجدنا أن مسألة التقائها به حتىٰ كانت محتومة التكذيب، إذ يُعتبر هذا أمرًا مُخالفًا للعادات والتقليد التي تُحتم علىٰ الأميرة الزواج من العائلة الملكية، كما وجب أن يكون الزوج من نفس نسل الجن؛ وكذٰلك الحال بالنسبة للأمير بالطبع.
وكان هذا كُله أمام مسمع ومرأىٰ من مملكة الشرق؛ مملكة الطيارة، والتي يحكمها آل الملڪ صقر، ومملكة الغرب؛ مملكة الرمل، أو كما عُرفت بإسم مملكة جِن الأرض، بحُكم آل الملڪ رئيف، والتي كانت كُلًّا منهن مُنشغلة بصراعاتها السياسية مع الأخرىٰ، فقط في تحديد الحدود بينهما.
كان الأمر كالحرب الباردة بينهما، واقعًا ملموسًا، ولٰكن من دون أي إعلانٍ رسمي فعليّ بالحرب، فكانت مثلًا مملكة الشرق تدفع لقوات العصابات المرتزقة لإحداث الحرائق والضربات المُمنهجة علىٰ مزارع الغرب، أو إحداث الفتن بين قُراها، وكانت مملكة الغرب كذٰلك تتبع نفس النهج.
***
«مملكة الغرب - القارة العظيمة».
مساء الليلة الثالثة في الشهر.
اقترب أولٰئِڪ المُرتزقة مُمطتيين جراويهم من الحيوانات الضارية، تلڪ التي لم يكن من السهل أبدًا ولن يكون ترويضها إلّا إذا كُنت شرسًا في العقاب، وقويًّا وشجاعًا في التعامل، تمامًا كهؤلاء.
كانت شعورهم طويلة، عيونهم حادة، أسنانهم قطاعة، وذقونهم كثيفة، كان منهم مَن يُزين أنفه بالحلقان، ومنهم مَن كان يُزين أذنيه بها، ومنهم كان يكتفي باكسسوارات يديه وقدميه، منهم من يمتلڪ قرنين، ومنهم من يمتلڪ أكثر، الطيارة منهم ذوي جناحين أو أربعة أجنحة، والأرضيين منهم أظافرهم طويلة، والبحارة منهم يستنسخون أية أشكالٍ قد تراودهم من الأسماڪ البحرية، وقد يسيرون لمسافاتٍ طويلة دون تعب، والأقزام منهم قصار القامة، ولٰكنهم يمتازون بعضلاتٍ قد لا تنبت لأي نوعٍ أو نسل آخر، منهم له رجلين كالإنس، ومنهم له أربعة كالدابة والماشية، كالأحصنة والثيران والأسود وحتىٰ أحادي القرن، ومنهم يستنسخون الدواب التي يريدون استنساخها في أي وقت وأي مكان، في النهاية تُمكنك رُتبتڪ ونسلڪ علىٰ اتباع أيٍّ من تلڪ المناهج.
وأمّا عن الملبس، فكان مثله كمثل باقي ملبس الجِن الشائع آنذاڪ، لا يُغطي إلّا الصدر والقدمين، وكانت أحزمتهم المسئولة عن حمل مُعداتهم إن كانوا تُجار، أو أسلحتهم إن كانوا مُحاربين، فكانت تُحمل علىٰ الخصر، مع مُراعاة أن تكون الأحذية ضخمة لتُلائم أرجلهم العملاقة في بعض الأحيان، وأمّا اليدين فما كان يغطيهم سوىٰ سوارين من الجلد إن كُنتَ من العامة، أو المعدن إن كُنتَ من المُحاربين، أو من الذهب إن كُنت من الملوڪ.
فكان هؤلاء يُغطون أياديهم بأجوازٍ من الأساور المعدنية المطلية باللون الأسود، تمامًا كحال باقي ملابسهم، وكانت تلڪ الأساور ليست إلّا للزينة، ففي النهاية كانت جلودهم تمتاز بقوة التحمل وإن كُنتَ تُهاجمها بالمعدن.
عُرفت تلڪ المجموعة من المُرتزقة بإسم: «النشالون»، فكانوا يتميزون بالرغم من اختلاف أنسالهم عن بعضهم البعض، بسُرعة ضربهم وتنفيذهم للمُهمة، والهرب بأسرع وقتٍ مُمكن.
وكان يقود تلڪ الجماعة من اللصوص والسفاحين والمطلوبين علىٰ نطاقٍ دولي علىٰ ذمة قضايا أخرىٰ، سفاحًا عُرف بإسم: ثور، كان من أصل الجِن الناري، وقد طُلب بالمملكة لسفكه الدماء، واغتصابه النساء سواء أرامل أو أنسات، وحتىٰ نهبه الأموال الملكية بالمملكة.
لم يكن لهذا الـثور عزيز بما كان يسعىٰ لتحقيقه، وكان مسعاه مُتلخصًا في حفر إسمه بحروفٍ من ذهب في ذهن وقلب كُل جنّي بالممالڪ الأربعة، وحتىٰ الطرقات الواسعة، والقُرىٰ المُتخلفة الغير تابعة لأيٍّ من الممالڪ؛ وإن كان قد نفذ من هذا الكثير.
تتسلل المجموعة من المُرتزقة وصولًا للبوابة الشمالية لمملكة الغرب، لتتخفي بما تمطتيه بالقرب منها، باستخدام قُدرتهم الهائلة علىٰ تشبيع اللون بما يغلب عليه المكان؛ تمامًا كالحرابي، وكانت تلڪ القدرة متوفرة لدىٰ أغلب الجِن بكُل نسلهم وكُل نوعهم ولٰكن بتمام العام الخمسين.. وكان هذا طبيعيٌّ جدًا بالمقارنة لمتوسط أعمارهم التي كانت تتراوح بين الألف والثلاثة آلاف عام؛ بل وكان منهم يعيش لعشرات الآلاف من السنين!
أقول..
وإذا اقتربنا بعض الشيء من البوابة لوجدناها تضج بالحرس من مملكة جِن الرمل، أو من الجان الأرضي، أولٰئِڪ الذين امتازوا بقُدراتهم الفائقة علىٰ التحكم بكُل أرضٍ بها رمل، بكُل ألوان الرمل، وكُل أشكالها وأنواعها.
ونظرًا لخطة صاحبنا ثور، فكان من المُفترض أن يتم تشتيتهم أولًا حتىٰ يتم الهجوم عليهم بشكلٍ لا يترڪ لهم مجالًا للرد.
وبما أن قواته لم تكن لتصد أو ترد أمام المواجهة المُباشرة مع أولٰئِڪ المردة الأرضيين، فكان من الواجب اتباع الخطة الماكرة، والتحركات الجانبية.
قام ثور بوضع يديه علىٰ فمه، فأحدث صوتًا إن سمعتَهُ تسلل لذهنڪ أنها حشرة ليل، أو حيوانٍ صغير، وكانت تلڪ الإشارة للفرقة الجانبية بالتحرڪ للأمام، ولتنفيذ ما أُمر منهم كما تم الإتفاق عليه بالخطة.
***
«مملكة البحر - القارة العظيمة».
بنفس التوقيت.
نرىٰ نفرين من الجِن البحارة، مُنتسبين للقصر الملكي، يتبعان الخادمة الشخصية للأميرة لارا، بعد أن أمرتهم الأميرة من اتباع الخادمة خروجًا من الجناح الخاص به، حتىٰ يغيبان تمامًا عن النظر.
فكانت الفُرصة المُناسبة للصاحبنا بالظهور بعد تخفية باستنساخ لونه لـِما كان يقف أمامه، فما كان منه سوىٰ أن توجه نحو جناحها الخاص بتسلل، كان من الجِن الطيارة، غير مُسلح، اللهم إلّا من خنجر واحد صغير، غالبًا يستخدمه كمهبط بطعنه في أي جدار، لتخفيف السقوط، وكان يُغطي جناحيه بجوارب سوداء كبيرة.
في البداية، أخذ يتجول بطرقات القصر وأركانه المصنوعة من الرخام، والتي كان منها مصنوعًا من الذهب الخالص، وأعمدته التي كانت تنتهي بالألماظ الحر، وستائره الحريرية المطلية بالأحمر، كان مُنبهرًا كحال أي طيارٍ من العامة، وكان هذا غريبًا في حد ذاته.
فإن كان من العامة، أنىٰ له أن يدخل هُنا؟
وماذا يسعىٰ أن يفعل بتسلله لهنا..؟
كاد يتحرڪ من مكانه متوجهًا نحو جناحها مُباشرةً قبل أن يستوقفه تمثالًا من الرخام، يُجسد الملڪ جبريل تمامًا كما يراه العامة! كان عالي الدقة، كثير التفاصيل، مُغطىٰ بالدروع.
توقف صاحبنا أمامه متأملًا إياه بنظرات الإنبهار والتجليل، وقد أوقفه هذا متأملًا للحظات، قبل أن يُقاطعه صوت أحد الأبواب تنفتح من وراءه.
وكرد فعل تلقائي، قام صاحبنا باستنساخ لون التمثال الواقف أمامه، ليتضح لنا أن المتسلل الآخر كان تلڪ المرة من عامة مملكة البحر، وأن الفارق بينه وبين صاحبنا أنه كان مُتنكرًا بِزي الحرس الملكي للقصر.
توجه مُباشرةً نحو جناح الأميرة، فطرق بابه، قبل أن ينفتح من الداخل بتلهف واضح وبين علىٰ ملامح لارا التي بادرت بإدخال الحارس المزيف بمُجرد أن فعلتها.
طالع الدخيل هذا بناظرين مُتعجبين، فما كان منه سوىٰ أن رفع حاجبيه..
آشير، أحد أسرع الجِن الطيارة المُختلسين والمُتسللين حول الممالڪ الأربعة، وبالرغم من عدم معرفة أصله أو لأي أبٍّ وأُم يُنسب، إلّا أن اسم آشير قد جاب الممالڪ كُلها، من جنيٍ لا يأبه لأمره أحد بأحد ملاجئ العامية، للصٍّ جاب الممالڪ الأربعة.
يُشاع عنه أن السبب وراء اختياره لهذا الطريق في تعلقه بإحدىٰ الجنيات بالعائلة الملكية الشرقية، وأن العلاقة بينهما كانت سرًّا، وكنوع من التعجيز طلبت منه أن يسرق لها تاج من كُل مملكة بالقارة العظيمة، يشاع قولًا بأنه قد نجح بهذا، ويشاع قولًا مُخالفًا بأنه لم ينجح.
ويقال علىٰ النظير من هذا أن السبب في اتباعه هذا المسلڪ في عداءه التام مع ملڪ البحر، وأنه كان السبب في قتل والديه علىٰ غير عمد، كتباعًا لعميلة التذبيح الجماعي التي أنشأها مُنذ حوالي خمس سنوات، وأن النتيجة التي وصل إليها آشير كانت لهذا السبب.
ويُقال أنه كان يعمل بأحد القصور الملكية بالمملكة الشرقية، وأن أحد العاملين بالقصر قد اختلس بعض العُملات الذهبية، وأعد مكيدة لـآشير كي لا يتم عقابه، وأن آشير مُنذ أن هرب من العدالة وقتها وهوَ علىٰ نهجه وطريقه من السرقة والاختلاس.
في النهاية، ما هيَ إلّا إشاعاتٍ تتداول بين العامة والحرس من مملكةٍ لأخرىٰ، لا يُعرف أيها الأصح وأين بدأت.
يبدو أن هذا هوَ السبب وراء قدومه إلىٰ هنا..!
تحرڪ مُتسللًا لباب جناحها، فاقترب بإذنيه ليختلس السمع:
-... هل رآك أحدهم!
- وإن حدث، فهذا الزي مُناسب للغاية للتنكر.
بعدها اختفت الأصوات، فاستنتج آشير أن ما يحدث ليس بخير.
- إخس!
***
«المملكة الشمالية - الجن الناري».
بنفس التوقيت.
اجتماعٍ عاجل أعده الأمير قاران وسط مجموعة من خيرة جنود و ساسة و مُستشاري الجن الناري علىٰ نطاق المملكة الشمالية بأكملها، وتم الإجتماع وسط حالة من التعتيم تحت سرداب المملكة، لأسبابٍ لم يعلمها إلَّاه.
حتىٰ المستشار الشخصي للأمير قاران لم يعلم بما لديه أو السبب وراء ما فعل، فاتبع نهج الطاعة حتىٰ النهاية.
نراه متوسطًا طاولة الإجتماعات مُستندًا عليه بنفس وقفته التي ظلَّ عليها لدقائق، وكان الأمر مخيفًا بقدر غرابته، ظل هوَ علىٰ هذا الحال حتىٰ طُرق الباب السرداب من الخارج، فقام أحد الخدم بتلبية النداء، ليتفاجئ الجميع بأحد الطيارة الملكيين ومعه حارسين من الجن الملكي الناري.
كثرت الأحاديث الجانبية بينهم، عن سبب حضور مثل هذا الجني لهنا، هؤلاء قومٍ لم نتبع معهم لا مُعاهدة ولا سلام، فما سبب التعاون الجانبي إذًا..؟
قبل أن يقوم هوَ بإنهاء هذا الكلام الجانبي بجُملة واحدة رجّت السرداب؛ حرفيًّا:
-... لحظة نظام!
فصمتوا جميعًا.
-... أُعرفكم بـحام، أحد أهم الجِن الطيارة بالمملكة الشرقية، وبحسب زعمه، فهُناك أنباءً عاجلة غير مُبشرة ستُصيبنا في خلال الشهر المُقبل.
ردد أحد المُستشارين:
- كُلنا آذانٌ صاغية، سموڪ!
هنا رمق قاران حام آذِنًا له بالحديث، فقال:
-... إنها أنباءً حملتُها علىٰ جناحيَّ مُنذ بضعة أيام.
ثم قال:
-... لقد أُصدر الأمر بهدر دمائنا لدىٰ أهل السماء!
شهقاتٍ وتمتمات بينهم جميعًا، فيما عدا قاران وحام، فمنهم قال بتلقائية مُجادلًا هذا الأمر الإلَٰهي:
-... كيف تُهدر دماؤنا ونحنُ الخُلفاء؟!
وصدر من آخر:
-... لمَ، ما الذي فعلناه، ألتلڪ الدرجة كُنا في غفلةٍ مُعرضين؟!
وكان علىٰ لسان آخر:
-... لابد من وجود خطئًا ما، حتمًا هذا ليس بصحيح!
وأمّا آخرهم:
- كيف ونحنُ المُعظمون، نحنُ المُمجدون، نحنُ أبناء الجِن المُعظم سوميا!
رد قاران بما حسم جدلًا بينهم جميعًا:
- هذا أمرٌ غير قابل للنقاش أو للتكذيب، كما قُلتُ لكم وأنا أدعوكم؛ فإنه أمرٌ عظيم الذي بلغني!
هنا سأل المُستشار الملكي للأمير:
- ما العمل إذًا مولايَ الأمير؟
صمت الأمير، ومعه تساقطت قلوب الموجودين واحدًا تلو الآخر، قبل لحظاتٍ من تمالكه لسانه ليرد:
-... هذا أمرٌ لا عمل فيه إلّا بأمر الله! أمّا أنا، فسأُعلم الملڪ بالأمر، وسننتظر جميعنا أوامره ونحن علىٰ أحر من الجمر.
ثم قال بنبرة حازمة بالرغم من عدم تصديق جسده لها:
-... أمفهومٌ قولي؟
فتجمدت أجسام الموجودين جميعًا، مُلقيين الرد بنفسٍ واحد كالصيحة:
- مفهوم، سموڪ!
نرىٰ أحد الخدم وقد أخذ يختلس السمع لما يحدث بالداخل، من وراء باب السرداب بالجهة الأخرىٰ، فكان كُل ما سمعه هوَ صيحات المُجتمعين، فاستنتج أن الأمير يسعىٰ لإحداث انقلابٍ آخر؛ رُبما.
فهرول تاركًا المكان لتنفيذ أمرٍ قد يُعلّي من شأنه، وقد يكون سببًا في شنقه في حدود الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر!
***
«جناح الأميرة لارا - المملكة الجنوبية».
بعد حوالي ساعتين.
يخرج صاحبنا مُرتديًا نفس الزي الملكي الذي تنكر به تسللًا إلىٰ هُنا، وهوَ يُكمل ارتداء ما خلعه بالداخل، غير مُنتبهًا لمن كان يُراقبه طوال هذا الوقت دون أن يلحظه.
وقبل لحظات من ترڪ ذٰلڪ الممر للممر الآخر...
-... كانت ليلة سعيدة، كما أرىٰ!
توقف مذهولًا، فالتفت وراءه نحو آشير ليجده مُستندًا علىٰ الجدار الجانبي، وهوَ يبرم أحد أظافره بخنجره الخاص، وكانت تعتلي وجهه ابتسامة بلهاء لجنّي مُنتصر.
رد صاحبنا بذهول...
-... ومَن أنتَ يا هذا، وصلت دخلت إلىٰ هنا؟
تُرڪ، أحد أمهر الجِن البحارة وأسرعهم، يعمل بالجيش الملكي، يُنسب لأبٍ عمِل في حدادة الأسلحة الملكية علىٰ مدار العشرة أعوام الماضية، وأمٍ تعمل كخادمة بالقصر الملكي، أسرة مُقربة للعائلة الملكية مُنذ مئات السنين، مَن ذا الذي يُعكر صفو علاقتهم بالعائلة المالكة!
بدأت علاقة صاحبنا بالأميرة لارا سرًّا مُنذ بلوغها الخمسين من عُمرها، فكان التقائهما صُدفة بحته ترتبت عليه عدة مُقابلات غير مُعلنة بينهما، لا يعلم طبيعتها وحدودها إلّا الله...
ثم آشير الآن!
تحرڪ صاحبنا بخطواتٍ مُتلكئة متوجهًا نحو تُرڪ وهوَ يلوح بسلاحه ذات اليمين وذات اليسار، كمَن يلعب، رامقًا كُل شيء بالممر إلّا وجه تُرڪ، قبل أن يبدأ بتغيير وجهة عينيه لوجه الأخير بقوله وبأسلوبٍ في غاية الابتزال:
-... في الحقيقة، إنه لأمرٌ عجيب؛ فأنا مَن كان ليسألڪ السؤال عينه لولا فعلتَ أنت!
انتصب صدر تُرڪ، وارتفعت ذقنه عن صدره مواجهًا بناظرين مُضيقين:
- التزم مكانك أيها الجني الحقير، ولتنطق بما لديڪ!
تجمد آشير بمكانه، فابتسم ذات الابتسامة البلهاء مُشيرًا بخنجره نحو صدر تُرڪ، قائلًا بنبرة مُتباطئة:
- أنا هُنا لسرقة الجناح، ولٰكنك هُنا لشيءٍ آخر، أيها العفريت الماكر!
زمجر تُرڪ قبل أن يسحب سيفه من غمده موجهًا إياه صوب صدر آشير مُباشرةً، فقال صائحًا:
- أتجرؤ علىٰ اتهامي بهذا الاتهام الخطير، أيها الطيار الحقير؟!
لا يزال آشير مُبتسمًا، فقال بنفس ملامحه التي لم تتبدل:
- نعم، أجرؤ.
- إسحبها!
- لأ، لن أسحبها.
- إذًا، عااا...
هلل صائحًا وقد فتح سيفه موجهًا إياه صوب آشير، فنرىٰ آشير ثابتًا قبل لحظات من اقتراب تُرڪ منه، فما كان منه سوىٰ أن رفع الخنجر قبيل وصول السيف إليه بثانية واحدة، فقام بضرب السيف مؤديًا به عكس اتجاهه، فعلها لثلاثة مرات قبل أن يقول مُستهزءً:
- رد فعلٍ بطئ مُقارنةً بجُنديّ شُجاع وشهم كحالك يا رفيقي!
- عااا..!!
لا يزال تُرڪ يُحاول إصابة آشير فحسب، ولٰكن الأمر كان صعبًا بالرغم من أن ما لديه كان خنجر لا يتجاوز المتر، ولٰكن حركته كانت سريعة، وكان يستعين بتحكمه قصير المدىٰ في الرياح.
ومن الناحية الأخرىٰ، بما أن صاحبنا كان من الجِن البحار، فأنه يزداد ضعفًا بخارج الماء، فكان من الصعب عليه التفوق علىٰ هذا الطيار ها هُنا.
- يبدو أنڪ فقدت مهارتڪ في المبارزة يا صاح!
قالها آشير باستهزاء، فوجد تُرڪ أن يستعين ببعض المُساعدة، فالتفت نحو مخرج الممر صائحًا:
- يا حرس، دخيل!!
بدأت ابتسامة الاستهزاء ونظرة السُخرية تختفي عن وجه آشير، وتبدلت ملامحه لبعض الجدية عن ذي قبل، وما هيَ إلّا ثوانِ معدودة.. وكان الممر مُدججًا بحرس القصر البحري، المُسلح بالأسلحة الثقيلة التي لن يتفوق عليها آشير وإن كان مُعدًّا لهذا.
- مَن أنت، وكيف دخلتَ إلىٰ هُنا؟
قالها كبير حرس القصر موجهًا قوله لـآشير، فأدخل آشير خنجره بغمده المُعلق في حزامه، ثم رفع يديه أمامه قائلًا لهم:
- أرجوكم فلتهدأوا، إن المسألة أبسط من هذا بكثير!
- إذًا، فلترد!
صاح بها، فقال آشير:
- حسنًا، مَن أنا؟.. أنا آشير، أتيتُ لهنا بُناءً علىٰ أوامر من أحد حُراس الغرب المُرتشون، كيف دخلتُ إلىٰ هُنا؟.. إنها أسرار المهنة؛ أنتَ لا تُريد مني أن أفشي بها إليڪ الآن، أليس كذٰلك؟!
فقال أحد الحرس بانبهار يُنافي كونه حارسًا:
- آاه..! أنا أعلمڪ، لقد سمعت عنڪ بإحدىٰ الحانات، إنتَ مَن سرقت التيجان الملكية الأربعة!
وقال آخر:
- لا لا، ما هذه إلّا شائعاتٍ تُنشر عنه، أنا أعلم أصله جيدًا.
قال له آشير ببعض الاستهزاء:
- أتحِفنا.
-... أنتَ أول مَن سرق مِن الجِن، بل أنڪ تعلمت هذا علىٰ يد العهود العتيقة، وعلّمته لكُل مَن تعلم السرقة الآن.
اعوجت شفتي آشير، وقد تجمد حاجبيه علىٰ التضييق للحظات، ثم قال نافيًا بإصبعه:
- اممم.. لا، أعتقد أن هذه الشائعة غير منطقية بعض الشيء، أنا لستُ بهذا الكِبر.
هنا صاح كبير الحرس:
- كفىٰ!!
صائحًا بها لـآشير والمُتحدثين من صفوف الحرس كحدٍّ سواء، وبعد أن صمتوا جميعًا، وبعد أن وضع آشير يديه علىٰ فمه كالطفل الصغير، قاصدًا بهذا الفِعل الاستهزاء من جديته، قال كبير الحرس:
-... يبدو أن الحديث سيطول معڪ، ولكن قبل أن نأخذڪ من هنا، ما الذي أتىٰ بڪ لهذا الجناح بالذات؟
أشار نحوه آشير.
- سؤال مُمتاز...
قالها قبل أن يُعرض ظهره عنهم، عاقدًا يديه وراء ظهره، متوجهًا خطوتين نحو باب غرفة الأميرة، فلم يقلق منهم سوىٰ تُرڪ!
-... أنا هُنا لسببٍ آلَٰهي، وجودي هُنا لإثبات واقعة تجري من وراء ظهوركم أجمعين.
فسأل كبير الحرس:
-... إذًا، هات ما لديڪ!
التفت له آشير برأسه فحسب.
- لقد رأيتُ بأم عيناي أحدكم وقد كان يُحاول التسلل لدخول غُرفة الأميرة.
رمقوا بعضهم البعض مُتعجبين، قبل أن يصيح به كبير الحرس:
-... مُستحيل! نحن لا نختلس النظر أو السمع علىٰ الأميرة لارا.
أشار برأسه يمينًا ويسارًا مُتصنعًا التعجب.
- يبدو أنني كُنت مُخطئًا إذًا.
فصاح به كبير الحرس قبل أن يُخرج سيفه موجهًا إياه للأمام:
- مَن هذا الذي رأيتَه؟
قال آشير مُحاولًا الاختصار، مُلاعبًا بعقولهم بلسانه:
- «مَن هذا الذي رأيتُه؟».. مَن تُراه قد يواري نفسه بينكم سوىٰ الشخص الوحيد الشاهد علىٰ دخولي للقصر، مَن تُراه قد يدّعي أنه من بين صفوفكم غير هذا الذي فعل مثل تلڪ الفعلة الشنعاء!...
ثم قال وعلىٰ وجهه وجهًا آخر يحمل ملامح مُستاءة:
- تُهمة عظيمة كتلك حُكمها الإعدام!
ثم أعرض وجهه عنهم قائلًا:
-... أمّا الآن، وقد بلغتُ الرسالة...
ثم هرول نحو باب غرفتها المُغلق، فاستخدم جسده بقفزه عالية ليدمر قفل الباب للداخل، فهرول الحرس مُلاحقين إياه بعد أن كانوا قد بدأوا في تخوين تُرڪ كما أراد آشير.
فزعت الأميرة لارا، والتي كانت قد أنهت ارتداء ملابسها توًّا وبدأت في تصفيف شعرها، قبل أن تُفاجئ بـآشير متوجهًا صوب الشرفة الموجودة بجناحها، والتي كانت تطل علىٰ الحديقة الخلفية للقصر.
- عن إذنڪِ، مولاتي!
قالها وهوَ يهرول بقربها، فلم ترد تلڪ التي تأملته بذهولٍ بعد فزع كسر باب غرفتها، وما كانت إلّا ثانية واحدة قبل وصول حرس القصر راكضين للحاق به،
ولٰكن هيهات!
فقد خلع صاحبنا جيوب أجنحته، لتنفرد تلڪ الأجنحة البيضاء اللامعة، قبل ثانية من قفزه عن الشرفة فاتحًا يديه بعرض كتفيه، سقط في البداية للأرض، ولٰكنه بعد لحظات من سقوطه قام بثني جناحيه ليغير مجرىٰ طيرانه، ليوجهه للأمام.
تأمل حرس القصر هروب آشير من المكان بنظراتٍ خائبة، غاضبة، مستوعدة، قبل لحظات من سؤال كبير الحرس لـتُرڪ:
- إنه مُحق، ماذا كُنت تفعل بجناح الأميرة أيها الجندي؟!
كانت لارا قد وصلت قبل ثوانِ من هذا السؤال، فردت عنه:
- فلتحمد الله أن وصوله كان مُناسبًا، إذ استجاب لاستغاثتي من دخول ذاڪ اللص الطيار!.. أهذا جزاؤه؟!
وبعد نظراتٍ دامت للحظتين للأميرة، تذكر كبير الحرس أنه من غير اللائق أن يُكذب أميرته، فطأطأ رأسه قائلًا:
- آسف يا أميرتي، سنُبلغ جلالة الملڪ بما حدث!
- فلتفعل.
وتركتهم ليخرجوا جميعًا من جناحها، وكان آخر هوَ الذي ابتسم لها شُكرًا علىٰ إنقاذها إياه من إعدامٍ وشيڪ.
***
«جناح الملڪ جبريل».
بعد دقائق.
جاب صياح الملڪ جبريل أرجاء الجناح بعد مُجرد إنهاء كبير الحرس لـمَا لديه:
- ماذا؟!.. أأنتَ مُتأكدٌ مما تقول يا كبير الحرس؟!
تلجلج كبير الحرس -معذورًا- ثم ازدرد غصة توتره من الملڪ، فقال:
- آء، أجل مولايَ، كتأكدي من مُخاطبتڪ.
تنهد الملڪ جبريل، قبل لحظات من رد:
- أُطلب لي مُستشاري الخاص، حالًا!
وما كانت إلّا دقائق قبل دخول المُستشار الخاص، والذي كان يقطن بجناحٍ مُخصص بداخل القصر ليكون مُتحضرًا بأي وقت قد يطلبه الملڪ، وبمُجرد أن وصل لأمام العرش، فاجئه الملڪ جبريل بقوله:
- أعلِن الحرب علىٰ المملكة الغربية يا عنان، فلتجعلهم يعلمون جيدًا أن العبث مع الملڪ جبريل ليس بأمرٍ سهل، وإن كان من قبل عسكري بالجيش!
تجمدت الدماع بعروق المُستشار عنان، فازدرد ريقه صامتًا، لا يعلم كيف سيشرع في تنفيذ تلڪ الأوامر.
مخلوقاتٍ من مارج نار، مُيّزوا بما لم يتم تمييز البشر به، في حين مُيّز الإنس بما لم يُميّزوا هُم به، من دون افتراض الأفضيلة لأي الطرفين.
وفي حقيقة الأمر، وإن تمَّ تفضيلهم عن الإنس في سبق الذكر بالقُرآن، فهُم في النهاية مخلوقين لنفس الغرض، ولنفس الوسيلة المخلوق لها البشر، فلمَ التفضيل في الصفات إذًا؟
فلنرجع بالزمان لعقودٍ مضت، لم يبقىٰ منها إلّا آثارٍ معدودة علىٰ أصابع اليد الواحدة من حول العالم..
***
حوالي أربعة ملايين سنة قبل الميلاد.
«القارة العظيمة».
مُنذ حوالي عامين ونصف العام بدأت الثورات تنتشر في مملكة الشمس، تلڪ التي حكمها ملكًا واحد مُنذ أن نُزّل الجن علىٰ الأرض، فكان الملڪ قامان وآله هُم المُكلفون مملكة الشمس، والتي كانت بالشمال، وكانت من توابع تلڪ الثورات مشاكل سياسية داخلية بالقصر، فمثلًا البعض قالوا أن الأمير قاران بدأ في مُحاولاتٍ عدة للسيطرة علىٰ الحُكم والانقلاب علىٰ والده، والبعض الآخر اقترحوا أنه لم يكن إلّا عميلًا لمملكة الجنوب؛ مملكة البحر.
وبما أن الفرق بين الجِن الناري والجِن البحري شتان، فكان من البديهي تكذيب تلڪ الشائعات وإن كانت لها أصولًا وأدلة.
بدأت الحرب بين المملكتين مُنذ بداية خليقة الجن، قد ندعو الأمر اختلافًا في سياسات كُل مملكة من المملكتين، الأمر الذي أجبر ملڪ الشمس -مع كامل رضاءه الشخصي- علىٰ إعلان علىٰ ملڪ البحر؛ جبريل.
وبالرغم من أن الأمر لم يكن يتطلب كُل هذا العناء، إلّا أن الأمر بعد حوالي ساعتين من إعلان حرب البيقان قد استحال مسألة شخصية، من بعد تلڪ الشائعات التي أطلقها بعض الجن الأقزام علىٰ ابنة جبريل؛ لارا، بتحالفاتها السرية مع الأمير، ابن ملڪ الشمس؛ قاران.
فإن نظرنا للأمر وجدنا أن مسألة التقائها به حتىٰ كانت محتومة التكذيب، إذ يُعتبر هذا أمرًا مُخالفًا للعادات والتقليد التي تُحتم علىٰ الأميرة الزواج من العائلة الملكية، كما وجب أن يكون الزوج من نفس نسل الجن؛ وكذٰلك الحال بالنسبة للأمير بالطبع.
وكان هذا كُله أمام مسمع ومرأىٰ من مملكة الشرق؛ مملكة الطيارة، والتي يحكمها آل الملڪ صقر، ومملكة الغرب؛ مملكة الرمل، أو كما عُرفت بإسم مملكة جِن الأرض، بحُكم آل الملڪ رئيف، والتي كانت كُلًّا منهن مُنشغلة بصراعاتها السياسية مع الأخرىٰ، فقط في تحديد الحدود بينهما.
كان الأمر كالحرب الباردة بينهما، واقعًا ملموسًا، ولٰكن من دون أي إعلانٍ رسمي فعليّ بالحرب، فكانت مثلًا مملكة الشرق تدفع لقوات العصابات المرتزقة لإحداث الحرائق والضربات المُمنهجة علىٰ مزارع الغرب، أو إحداث الفتن بين قُراها، وكانت مملكة الغرب كذٰلك تتبع نفس النهج.
***
«مملكة الغرب - القارة العظيمة».
مساء الليلة الثالثة في الشهر.
اقترب أولٰئِڪ المُرتزقة مُمطتيين جراويهم من الحيوانات الضارية، تلڪ التي لم يكن من السهل أبدًا ولن يكون ترويضها إلّا إذا كُنت شرسًا في العقاب، وقويًّا وشجاعًا في التعامل، تمامًا كهؤلاء.
كانت شعورهم طويلة، عيونهم حادة، أسنانهم قطاعة، وذقونهم كثيفة، كان منهم مَن يُزين أنفه بالحلقان، ومنهم مَن كان يُزين أذنيه بها، ومنهم كان يكتفي باكسسوارات يديه وقدميه، منهم من يمتلڪ قرنين، ومنهم من يمتلڪ أكثر، الطيارة منهم ذوي جناحين أو أربعة أجنحة، والأرضيين منهم أظافرهم طويلة، والبحارة منهم يستنسخون أية أشكالٍ قد تراودهم من الأسماڪ البحرية، وقد يسيرون لمسافاتٍ طويلة دون تعب، والأقزام منهم قصار القامة، ولٰكنهم يمتازون بعضلاتٍ قد لا تنبت لأي نوعٍ أو نسل آخر، منهم له رجلين كالإنس، ومنهم له أربعة كالدابة والماشية، كالأحصنة والثيران والأسود وحتىٰ أحادي القرن، ومنهم يستنسخون الدواب التي يريدون استنساخها في أي وقت وأي مكان، في النهاية تُمكنك رُتبتڪ ونسلڪ علىٰ اتباع أيٍّ من تلڪ المناهج.
وأمّا عن الملبس، فكان مثله كمثل باقي ملبس الجِن الشائع آنذاڪ، لا يُغطي إلّا الصدر والقدمين، وكانت أحزمتهم المسئولة عن حمل مُعداتهم إن كانوا تُجار، أو أسلحتهم إن كانوا مُحاربين، فكانت تُحمل علىٰ الخصر، مع مُراعاة أن تكون الأحذية ضخمة لتُلائم أرجلهم العملاقة في بعض الأحيان، وأمّا اليدين فما كان يغطيهم سوىٰ سوارين من الجلد إن كُنتَ من العامة، أو المعدن إن كُنتَ من المُحاربين، أو من الذهب إن كُنت من الملوڪ.
فكان هؤلاء يُغطون أياديهم بأجوازٍ من الأساور المعدنية المطلية باللون الأسود، تمامًا كحال باقي ملابسهم، وكانت تلڪ الأساور ليست إلّا للزينة، ففي النهاية كانت جلودهم تمتاز بقوة التحمل وإن كُنتَ تُهاجمها بالمعدن.
عُرفت تلڪ المجموعة من المُرتزقة بإسم: «النشالون»، فكانوا يتميزون بالرغم من اختلاف أنسالهم عن بعضهم البعض، بسُرعة ضربهم وتنفيذهم للمُهمة، والهرب بأسرع وقتٍ مُمكن.
وكان يقود تلڪ الجماعة من اللصوص والسفاحين والمطلوبين علىٰ نطاقٍ دولي علىٰ ذمة قضايا أخرىٰ، سفاحًا عُرف بإسم: ثور، كان من أصل الجِن الناري، وقد طُلب بالمملكة لسفكه الدماء، واغتصابه النساء سواء أرامل أو أنسات، وحتىٰ نهبه الأموال الملكية بالمملكة.
لم يكن لهذا الـثور عزيز بما كان يسعىٰ لتحقيقه، وكان مسعاه مُتلخصًا في حفر إسمه بحروفٍ من ذهب في ذهن وقلب كُل جنّي بالممالڪ الأربعة، وحتىٰ الطرقات الواسعة، والقُرىٰ المُتخلفة الغير تابعة لأيٍّ من الممالڪ؛ وإن كان قد نفذ من هذا الكثير.
تتسلل المجموعة من المُرتزقة وصولًا للبوابة الشمالية لمملكة الغرب، لتتخفي بما تمطتيه بالقرب منها، باستخدام قُدرتهم الهائلة علىٰ تشبيع اللون بما يغلب عليه المكان؛ تمامًا كالحرابي، وكانت تلڪ القدرة متوفرة لدىٰ أغلب الجِن بكُل نسلهم وكُل نوعهم ولٰكن بتمام العام الخمسين.. وكان هذا طبيعيٌّ جدًا بالمقارنة لمتوسط أعمارهم التي كانت تتراوح بين الألف والثلاثة آلاف عام؛ بل وكان منهم يعيش لعشرات الآلاف من السنين!
أقول..
وإذا اقتربنا بعض الشيء من البوابة لوجدناها تضج بالحرس من مملكة جِن الرمل، أو من الجان الأرضي، أولٰئِڪ الذين امتازوا بقُدراتهم الفائقة علىٰ التحكم بكُل أرضٍ بها رمل، بكُل ألوان الرمل، وكُل أشكالها وأنواعها.
ونظرًا لخطة صاحبنا ثور، فكان من المُفترض أن يتم تشتيتهم أولًا حتىٰ يتم الهجوم عليهم بشكلٍ لا يترڪ لهم مجالًا للرد.
وبما أن قواته لم تكن لتصد أو ترد أمام المواجهة المُباشرة مع أولٰئِڪ المردة الأرضيين، فكان من الواجب اتباع الخطة الماكرة، والتحركات الجانبية.
قام ثور بوضع يديه علىٰ فمه، فأحدث صوتًا إن سمعتَهُ تسلل لذهنڪ أنها حشرة ليل، أو حيوانٍ صغير، وكانت تلڪ الإشارة للفرقة الجانبية بالتحرڪ للأمام، ولتنفيذ ما أُمر منهم كما تم الإتفاق عليه بالخطة.
***
«مملكة البحر - القارة العظيمة».
بنفس التوقيت.
نرىٰ نفرين من الجِن البحارة، مُنتسبين للقصر الملكي، يتبعان الخادمة الشخصية للأميرة لارا، بعد أن أمرتهم الأميرة من اتباع الخادمة خروجًا من الجناح الخاص به، حتىٰ يغيبان تمامًا عن النظر.
فكانت الفُرصة المُناسبة للصاحبنا بالظهور بعد تخفية باستنساخ لونه لـِما كان يقف أمامه، فما كان منه سوىٰ أن توجه نحو جناحها الخاص بتسلل، كان من الجِن الطيارة، غير مُسلح، اللهم إلّا من خنجر واحد صغير، غالبًا يستخدمه كمهبط بطعنه في أي جدار، لتخفيف السقوط، وكان يُغطي جناحيه بجوارب سوداء كبيرة.
في البداية، أخذ يتجول بطرقات القصر وأركانه المصنوعة من الرخام، والتي كان منها مصنوعًا من الذهب الخالص، وأعمدته التي كانت تنتهي بالألماظ الحر، وستائره الحريرية المطلية بالأحمر، كان مُنبهرًا كحال أي طيارٍ من العامة، وكان هذا غريبًا في حد ذاته.
فإن كان من العامة، أنىٰ له أن يدخل هُنا؟
وماذا يسعىٰ أن يفعل بتسلله لهنا..؟
كاد يتحرڪ من مكانه متوجهًا نحو جناحها مُباشرةً قبل أن يستوقفه تمثالًا من الرخام، يُجسد الملڪ جبريل تمامًا كما يراه العامة! كان عالي الدقة، كثير التفاصيل، مُغطىٰ بالدروع.
توقف صاحبنا أمامه متأملًا إياه بنظرات الإنبهار والتجليل، وقد أوقفه هذا متأملًا للحظات، قبل أن يُقاطعه صوت أحد الأبواب تنفتح من وراءه.
وكرد فعل تلقائي، قام صاحبنا باستنساخ لون التمثال الواقف أمامه، ليتضح لنا أن المتسلل الآخر كان تلڪ المرة من عامة مملكة البحر، وأن الفارق بينه وبين صاحبنا أنه كان مُتنكرًا بِزي الحرس الملكي للقصر.
توجه مُباشرةً نحو جناح الأميرة، فطرق بابه، قبل أن ينفتح من الداخل بتلهف واضح وبين علىٰ ملامح لارا التي بادرت بإدخال الحارس المزيف بمُجرد أن فعلتها.
طالع الدخيل هذا بناظرين مُتعجبين، فما كان منه سوىٰ أن رفع حاجبيه..
آشير، أحد أسرع الجِن الطيارة المُختلسين والمُتسللين حول الممالڪ الأربعة، وبالرغم من عدم معرفة أصله أو لأي أبٍّ وأُم يُنسب، إلّا أن اسم آشير قد جاب الممالڪ كُلها، من جنيٍ لا يأبه لأمره أحد بأحد ملاجئ العامية، للصٍّ جاب الممالڪ الأربعة.
يُشاع عنه أن السبب وراء اختياره لهذا الطريق في تعلقه بإحدىٰ الجنيات بالعائلة الملكية الشرقية، وأن العلاقة بينهما كانت سرًّا، وكنوع من التعجيز طلبت منه أن يسرق لها تاج من كُل مملكة بالقارة العظيمة، يشاع قولًا بأنه قد نجح بهذا، ويشاع قولًا مُخالفًا بأنه لم ينجح.
ويقال علىٰ النظير من هذا أن السبب في اتباعه هذا المسلڪ في عداءه التام مع ملڪ البحر، وأنه كان السبب في قتل والديه علىٰ غير عمد، كتباعًا لعميلة التذبيح الجماعي التي أنشأها مُنذ حوالي خمس سنوات، وأن النتيجة التي وصل إليها آشير كانت لهذا السبب.
ويُقال أنه كان يعمل بأحد القصور الملكية بالمملكة الشرقية، وأن أحد العاملين بالقصر قد اختلس بعض العُملات الذهبية، وأعد مكيدة لـآشير كي لا يتم عقابه، وأن آشير مُنذ أن هرب من العدالة وقتها وهوَ علىٰ نهجه وطريقه من السرقة والاختلاس.
في النهاية، ما هيَ إلّا إشاعاتٍ تتداول بين العامة والحرس من مملكةٍ لأخرىٰ، لا يُعرف أيها الأصح وأين بدأت.
يبدو أن هذا هوَ السبب وراء قدومه إلىٰ هنا..!
تحرڪ مُتسللًا لباب جناحها، فاقترب بإذنيه ليختلس السمع:
-... هل رآك أحدهم!
- وإن حدث، فهذا الزي مُناسب للغاية للتنكر.
بعدها اختفت الأصوات، فاستنتج آشير أن ما يحدث ليس بخير.
- إخس!
***
«المملكة الشمالية - الجن الناري».
بنفس التوقيت.
اجتماعٍ عاجل أعده الأمير قاران وسط مجموعة من خيرة جنود و ساسة و مُستشاري الجن الناري علىٰ نطاق المملكة الشمالية بأكملها، وتم الإجتماع وسط حالة من التعتيم تحت سرداب المملكة، لأسبابٍ لم يعلمها إلَّاه.
حتىٰ المستشار الشخصي للأمير قاران لم يعلم بما لديه أو السبب وراء ما فعل، فاتبع نهج الطاعة حتىٰ النهاية.
نراه متوسطًا طاولة الإجتماعات مُستندًا عليه بنفس وقفته التي ظلَّ عليها لدقائق، وكان الأمر مخيفًا بقدر غرابته، ظل هوَ علىٰ هذا الحال حتىٰ طُرق الباب السرداب من الخارج، فقام أحد الخدم بتلبية النداء، ليتفاجئ الجميع بأحد الطيارة الملكيين ومعه حارسين من الجن الملكي الناري.
كثرت الأحاديث الجانبية بينهم، عن سبب حضور مثل هذا الجني لهنا، هؤلاء قومٍ لم نتبع معهم لا مُعاهدة ولا سلام، فما سبب التعاون الجانبي إذًا..؟
قبل أن يقوم هوَ بإنهاء هذا الكلام الجانبي بجُملة واحدة رجّت السرداب؛ حرفيًّا:
-... لحظة نظام!
فصمتوا جميعًا.
-... أُعرفكم بـحام، أحد أهم الجِن الطيارة بالمملكة الشرقية، وبحسب زعمه، فهُناك أنباءً عاجلة غير مُبشرة ستُصيبنا في خلال الشهر المُقبل.
ردد أحد المُستشارين:
- كُلنا آذانٌ صاغية، سموڪ!
هنا رمق قاران حام آذِنًا له بالحديث، فقال:
-... إنها أنباءً حملتُها علىٰ جناحيَّ مُنذ بضعة أيام.
ثم قال:
-... لقد أُصدر الأمر بهدر دمائنا لدىٰ أهل السماء!
شهقاتٍ وتمتمات بينهم جميعًا، فيما عدا قاران وحام، فمنهم قال بتلقائية مُجادلًا هذا الأمر الإلَٰهي:
-... كيف تُهدر دماؤنا ونحنُ الخُلفاء؟!
وصدر من آخر:
-... لمَ، ما الذي فعلناه، ألتلڪ الدرجة كُنا في غفلةٍ مُعرضين؟!
وكان علىٰ لسان آخر:
-... لابد من وجود خطئًا ما، حتمًا هذا ليس بصحيح!
وأمّا آخرهم:
- كيف ونحنُ المُعظمون، نحنُ المُمجدون، نحنُ أبناء الجِن المُعظم سوميا!
رد قاران بما حسم جدلًا بينهم جميعًا:
- هذا أمرٌ غير قابل للنقاش أو للتكذيب، كما قُلتُ لكم وأنا أدعوكم؛ فإنه أمرٌ عظيم الذي بلغني!
هنا سأل المُستشار الملكي للأمير:
- ما العمل إذًا مولايَ الأمير؟
صمت الأمير، ومعه تساقطت قلوب الموجودين واحدًا تلو الآخر، قبل لحظاتٍ من تمالكه لسانه ليرد:
-... هذا أمرٌ لا عمل فيه إلّا بأمر الله! أمّا أنا، فسأُعلم الملڪ بالأمر، وسننتظر جميعنا أوامره ونحن علىٰ أحر من الجمر.
ثم قال بنبرة حازمة بالرغم من عدم تصديق جسده لها:
-... أمفهومٌ قولي؟
فتجمدت أجسام الموجودين جميعًا، مُلقيين الرد بنفسٍ واحد كالصيحة:
- مفهوم، سموڪ!
نرىٰ أحد الخدم وقد أخذ يختلس السمع لما يحدث بالداخل، من وراء باب السرداب بالجهة الأخرىٰ، فكان كُل ما سمعه هوَ صيحات المُجتمعين، فاستنتج أن الأمير يسعىٰ لإحداث انقلابٍ آخر؛ رُبما.
فهرول تاركًا المكان لتنفيذ أمرٍ قد يُعلّي من شأنه، وقد يكون سببًا في شنقه في حدود الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر!
***
«جناح الأميرة لارا - المملكة الجنوبية».
بعد حوالي ساعتين.
يخرج صاحبنا مُرتديًا نفس الزي الملكي الذي تنكر به تسللًا إلىٰ هُنا، وهوَ يُكمل ارتداء ما خلعه بالداخل، غير مُنتبهًا لمن كان يُراقبه طوال هذا الوقت دون أن يلحظه.
وقبل لحظات من ترڪ ذٰلڪ الممر للممر الآخر...
-... كانت ليلة سعيدة، كما أرىٰ!
توقف مذهولًا، فالتفت وراءه نحو آشير ليجده مُستندًا علىٰ الجدار الجانبي، وهوَ يبرم أحد أظافره بخنجره الخاص، وكانت تعتلي وجهه ابتسامة بلهاء لجنّي مُنتصر.
رد صاحبنا بذهول...
-... ومَن أنتَ يا هذا، وصلت دخلت إلىٰ هنا؟
تُرڪ، أحد أمهر الجِن البحارة وأسرعهم، يعمل بالجيش الملكي، يُنسب لأبٍ عمِل في حدادة الأسلحة الملكية علىٰ مدار العشرة أعوام الماضية، وأمٍ تعمل كخادمة بالقصر الملكي، أسرة مُقربة للعائلة الملكية مُنذ مئات السنين، مَن ذا الذي يُعكر صفو علاقتهم بالعائلة المالكة!
بدأت علاقة صاحبنا بالأميرة لارا سرًّا مُنذ بلوغها الخمسين من عُمرها، فكان التقائهما صُدفة بحته ترتبت عليه عدة مُقابلات غير مُعلنة بينهما، لا يعلم طبيعتها وحدودها إلّا الله...
ثم آشير الآن!
تحرڪ صاحبنا بخطواتٍ مُتلكئة متوجهًا نحو تُرڪ وهوَ يلوح بسلاحه ذات اليمين وذات اليسار، كمَن يلعب، رامقًا كُل شيء بالممر إلّا وجه تُرڪ، قبل أن يبدأ بتغيير وجهة عينيه لوجه الأخير بقوله وبأسلوبٍ في غاية الابتزال:
-... في الحقيقة، إنه لأمرٌ عجيب؛ فأنا مَن كان ليسألڪ السؤال عينه لولا فعلتَ أنت!
انتصب صدر تُرڪ، وارتفعت ذقنه عن صدره مواجهًا بناظرين مُضيقين:
- التزم مكانك أيها الجني الحقير، ولتنطق بما لديڪ!
تجمد آشير بمكانه، فابتسم ذات الابتسامة البلهاء مُشيرًا بخنجره نحو صدر تُرڪ، قائلًا بنبرة مُتباطئة:
- أنا هُنا لسرقة الجناح، ولٰكنك هُنا لشيءٍ آخر، أيها العفريت الماكر!
زمجر تُرڪ قبل أن يسحب سيفه من غمده موجهًا إياه صوب صدر آشير مُباشرةً، فقال صائحًا:
- أتجرؤ علىٰ اتهامي بهذا الاتهام الخطير، أيها الطيار الحقير؟!
لا يزال آشير مُبتسمًا، فقال بنفس ملامحه التي لم تتبدل:
- نعم، أجرؤ.
- إسحبها!
- لأ، لن أسحبها.
- إذًا، عااا...
هلل صائحًا وقد فتح سيفه موجهًا إياه صوب آشير، فنرىٰ آشير ثابتًا قبل لحظات من اقتراب تُرڪ منه، فما كان منه سوىٰ أن رفع الخنجر قبيل وصول السيف إليه بثانية واحدة، فقام بضرب السيف مؤديًا به عكس اتجاهه، فعلها لثلاثة مرات قبل أن يقول مُستهزءً:
- رد فعلٍ بطئ مُقارنةً بجُنديّ شُجاع وشهم كحالك يا رفيقي!
- عااا..!!
لا يزال تُرڪ يُحاول إصابة آشير فحسب، ولٰكن الأمر كان صعبًا بالرغم من أن ما لديه كان خنجر لا يتجاوز المتر، ولٰكن حركته كانت سريعة، وكان يستعين بتحكمه قصير المدىٰ في الرياح.
ومن الناحية الأخرىٰ، بما أن صاحبنا كان من الجِن البحار، فأنه يزداد ضعفًا بخارج الماء، فكان من الصعب عليه التفوق علىٰ هذا الطيار ها هُنا.
- يبدو أنڪ فقدت مهارتڪ في المبارزة يا صاح!
قالها آشير باستهزاء، فوجد تُرڪ أن يستعين ببعض المُساعدة، فالتفت نحو مخرج الممر صائحًا:
- يا حرس، دخيل!!
بدأت ابتسامة الاستهزاء ونظرة السُخرية تختفي عن وجه آشير، وتبدلت ملامحه لبعض الجدية عن ذي قبل، وما هيَ إلّا ثوانِ معدودة.. وكان الممر مُدججًا بحرس القصر البحري، المُسلح بالأسلحة الثقيلة التي لن يتفوق عليها آشير وإن كان مُعدًّا لهذا.
- مَن أنت، وكيف دخلتَ إلىٰ هُنا؟
قالها كبير حرس القصر موجهًا قوله لـآشير، فأدخل آشير خنجره بغمده المُعلق في حزامه، ثم رفع يديه أمامه قائلًا لهم:
- أرجوكم فلتهدأوا، إن المسألة أبسط من هذا بكثير!
- إذًا، فلترد!
صاح بها، فقال آشير:
- حسنًا، مَن أنا؟.. أنا آشير، أتيتُ لهنا بُناءً علىٰ أوامر من أحد حُراس الغرب المُرتشون، كيف دخلتُ إلىٰ هُنا؟.. إنها أسرار المهنة؛ أنتَ لا تُريد مني أن أفشي بها إليڪ الآن، أليس كذٰلك؟!
فقال أحد الحرس بانبهار يُنافي كونه حارسًا:
- آاه..! أنا أعلمڪ، لقد سمعت عنڪ بإحدىٰ الحانات، إنتَ مَن سرقت التيجان الملكية الأربعة!
وقال آخر:
- لا لا، ما هذه إلّا شائعاتٍ تُنشر عنه، أنا أعلم أصله جيدًا.
قال له آشير ببعض الاستهزاء:
- أتحِفنا.
-... أنتَ أول مَن سرق مِن الجِن، بل أنڪ تعلمت هذا علىٰ يد العهود العتيقة، وعلّمته لكُل مَن تعلم السرقة الآن.
اعوجت شفتي آشير، وقد تجمد حاجبيه علىٰ التضييق للحظات، ثم قال نافيًا بإصبعه:
- اممم.. لا، أعتقد أن هذه الشائعة غير منطقية بعض الشيء، أنا لستُ بهذا الكِبر.
هنا صاح كبير الحرس:
- كفىٰ!!
صائحًا بها لـآشير والمُتحدثين من صفوف الحرس كحدٍّ سواء، وبعد أن صمتوا جميعًا، وبعد أن وضع آشير يديه علىٰ فمه كالطفل الصغير، قاصدًا بهذا الفِعل الاستهزاء من جديته، قال كبير الحرس:
-... يبدو أن الحديث سيطول معڪ، ولكن قبل أن نأخذڪ من هنا، ما الذي أتىٰ بڪ لهذا الجناح بالذات؟
أشار نحوه آشير.
- سؤال مُمتاز...
قالها قبل أن يُعرض ظهره عنهم، عاقدًا يديه وراء ظهره، متوجهًا خطوتين نحو باب غرفة الأميرة، فلم يقلق منهم سوىٰ تُرڪ!
-... أنا هُنا لسببٍ آلَٰهي، وجودي هُنا لإثبات واقعة تجري من وراء ظهوركم أجمعين.
فسأل كبير الحرس:
-... إذًا، هات ما لديڪ!
التفت له آشير برأسه فحسب.
- لقد رأيتُ بأم عيناي أحدكم وقد كان يُحاول التسلل لدخول غُرفة الأميرة.
رمقوا بعضهم البعض مُتعجبين، قبل أن يصيح به كبير الحرس:
-... مُستحيل! نحن لا نختلس النظر أو السمع علىٰ الأميرة لارا.
أشار برأسه يمينًا ويسارًا مُتصنعًا التعجب.
- يبدو أنني كُنت مُخطئًا إذًا.
فصاح به كبير الحرس قبل أن يُخرج سيفه موجهًا إياه للأمام:
- مَن هذا الذي رأيتَه؟
قال آشير مُحاولًا الاختصار، مُلاعبًا بعقولهم بلسانه:
- «مَن هذا الذي رأيتُه؟».. مَن تُراه قد يواري نفسه بينكم سوىٰ الشخص الوحيد الشاهد علىٰ دخولي للقصر، مَن تُراه قد يدّعي أنه من بين صفوفكم غير هذا الذي فعل مثل تلڪ الفعلة الشنعاء!...
ثم قال وعلىٰ وجهه وجهًا آخر يحمل ملامح مُستاءة:
- تُهمة عظيمة كتلك حُكمها الإعدام!
ثم أعرض وجهه عنهم قائلًا:
-... أمّا الآن، وقد بلغتُ الرسالة...
ثم هرول نحو باب غرفتها المُغلق، فاستخدم جسده بقفزه عالية ليدمر قفل الباب للداخل، فهرول الحرس مُلاحقين إياه بعد أن كانوا قد بدأوا في تخوين تُرڪ كما أراد آشير.
فزعت الأميرة لارا، والتي كانت قد أنهت ارتداء ملابسها توًّا وبدأت في تصفيف شعرها، قبل أن تُفاجئ بـآشير متوجهًا صوب الشرفة الموجودة بجناحها، والتي كانت تطل علىٰ الحديقة الخلفية للقصر.
- عن إذنڪِ، مولاتي!
قالها وهوَ يهرول بقربها، فلم ترد تلڪ التي تأملته بذهولٍ بعد فزع كسر باب غرفتها، وما كانت إلّا ثانية واحدة قبل وصول حرس القصر راكضين للحاق به،
ولٰكن هيهات!
فقد خلع صاحبنا جيوب أجنحته، لتنفرد تلڪ الأجنحة البيضاء اللامعة، قبل ثانية من قفزه عن الشرفة فاتحًا يديه بعرض كتفيه، سقط في البداية للأرض، ولٰكنه بعد لحظات من سقوطه قام بثني جناحيه ليغير مجرىٰ طيرانه، ليوجهه للأمام.
تأمل حرس القصر هروب آشير من المكان بنظراتٍ خائبة، غاضبة، مستوعدة، قبل لحظات من سؤال كبير الحرس لـتُرڪ:
- إنه مُحق، ماذا كُنت تفعل بجناح الأميرة أيها الجندي؟!
كانت لارا قد وصلت قبل ثوانِ من هذا السؤال، فردت عنه:
- فلتحمد الله أن وصوله كان مُناسبًا، إذ استجاب لاستغاثتي من دخول ذاڪ اللص الطيار!.. أهذا جزاؤه؟!
وبعد نظراتٍ دامت للحظتين للأميرة، تذكر كبير الحرس أنه من غير اللائق أن يُكذب أميرته، فطأطأ رأسه قائلًا:
- آسف يا أميرتي، سنُبلغ جلالة الملڪ بما حدث!
- فلتفعل.
وتركتهم ليخرجوا جميعًا من جناحها، وكان آخر هوَ الذي ابتسم لها شُكرًا علىٰ إنقاذها إياه من إعدامٍ وشيڪ.
***
«جناح الملڪ جبريل».
بعد دقائق.
جاب صياح الملڪ جبريل أرجاء الجناح بعد مُجرد إنهاء كبير الحرس لـمَا لديه:
- ماذا؟!.. أأنتَ مُتأكدٌ مما تقول يا كبير الحرس؟!
تلجلج كبير الحرس -معذورًا- ثم ازدرد غصة توتره من الملڪ، فقال:
- آء، أجل مولايَ، كتأكدي من مُخاطبتڪ.
تنهد الملڪ جبريل، قبل لحظات من رد:
- أُطلب لي مُستشاري الخاص، حالًا!
وما كانت إلّا دقائق قبل دخول المُستشار الخاص، والذي كان يقطن بجناحٍ مُخصص بداخل القصر ليكون مُتحضرًا بأي وقت قد يطلبه الملڪ، وبمُجرد أن وصل لأمام العرش، فاجئه الملڪ جبريل بقوله:
- أعلِن الحرب علىٰ المملكة الغربية يا عنان، فلتجعلهم يعلمون جيدًا أن العبث مع الملڪ جبريل ليس بأمرٍ سهل، وإن كان من قبل عسكري بالجيش!
تجمدت الدماع بعروق المُستشار عنان، فازدرد ريقه صامتًا، لا يعلم كيف سيشرع في تنفيذ تلڪ الأوامر.