الفصل الأول
جلستُ مكاني أبكي ولا شىء سوى البُكاء، تلك القطعة الأثرية الباقية لي من أُمي، لمَ يتسابقون على أخذِها؟
يغمرني الآن شعور الوحدة، الألم، الحزن، الخذلان، و الأشتياق!
أشعر بالذعر لكوني مهددة بالخطر في أيٍ لحظة، لست متمسكة بالحياة لأجلي بالطبع، بل لأجله هو، أشتقت له كثيرًا هذا "الرائد" المخادع، وعدني ألا يتركني، وها هو أخلف بوعده، تركني وحدي بمنزل مهجور، يطاردنا بعض اللصوص، أو أظن أنهم عصابة! حقًا لا أعلم، أنا مشوشة ولا أعلم ما عليَّ فعله.
انتفضتُ مِن مكاني عندما شعرتُ بملمس بارد علي كَتِفي، كانت صديقتي ريم، أظن أنها الوحيدة التي ترافقني بِكُل إرادتها، لا لأجل ذاك التمثال الباقي لي من والدتي العزيزة- رحمها اللّه- ولا حتى لأجل مصلحتها الخاصة؛ لأجلي فقط. وهذا أكثر ما يجعلني أُحِبُها وأثق بها ثقة تامة، فِقتُ من شرودي على كلماتها الدافئة الحنونة:
-قمر هل أنتِ بخير عزيزتي؟
ابتسمتُ لها من بين بكائي، ومن دون سابق إنذار ارتميت بِحُضنِها وقلتُ من بين شهقاتي:
-لقد هاجموني مرة أخرى، كدت أموت خوفًا يا ريم.
ربتت على كَتِفي بحنان وهي تقول باستياء :
-سحقًا لهم سحقًا سحقًا.. كم مرة قلت لكِ أعطيهم ذاك التمثال يكفي ما فعلوه بكِ حتى الآن يا قمر.
توقفت عن البكاء ووقفت باستقامة وقلت باستياء:
-لا، مستحيل هو أخر ما تبقى لي من أمي، لقد أخذوا منزلي وثروتي وأهلي وكل شيء فليتركوه لي أو يقتلوني.
قالت بتذمر:
-قمر يا بلهاء! أتفقدين حياتك من أجل تمثال سخيف؟!
قُلت لها من بين أسناني:
-كم مرة سأقول لكِ، أنه أعز ما أملك، ولا تنعتيه بالسخيف مرة أخرى.
كانت ستتحدث، لولا سماعنا لصوت آتي من الخارج، تسمرت في مكاني، وتوقفت عن التنفس وشعرتُ بالذعر كما لم أشعر به من قبل، نظرت إلي ريم بسرعة فكانت تنظر لي بخوف وقالت بهمسٍ:
-كيـف عرفوا مكانك!
أجبتُها بهمسٍ مُتقطع:
-لا أظنـهم هم، اا أنصتي يبدو لي أنه صوت حذاء رجل، أيعقل أن يكون رائد وجاء أخيرًا لأنقاذي؟
قالت بنفاذ صبر:
-أين عقلك أنتِ؟ رائد تخلى عنكِ للأبد يا غبية، هو كان يريد ثروتك فقط لا غير.
لذت بالصمت لأنه ليس الوقت ولا المكان المناسب للحديث في ذاك الأمر، فأنا الآن أشعر بالرهبة من المكان ومن القادم، حاولت الأنصات بتركيز، فكان قد أقترب الصوت أكثر من ذي قبل، هوى قلبي تحت قدمي، و لم أستطع أن ألتقط أنفاسي قط، قلبي يدق بعنف وجنون، دموعي تكونت، نظرت في اتجاه ريم فكانت تفتح الخزانة، ثم جاءت أمامي وأمسكت بيدي وذهبت بي في اتجاهها، أمسكت بأصبعي وقالت:
-هيا هيا يا قمر ضعي إصبعك الآن؛ يجب أن تفتح ببصمتك لنأخذ التمثال.
وبالفعل فُتِحت الخزنة وأخذت ريم التمثال بسرعة، وأمسكت بيدي مرة أخرى وباليد الأخرى كانت تحمل تمثال والدتي، ركضنا بسرعة تجاه الممر الطويل، فتركت يدي وأمسكت بالتمثال بكلتا يديها وقالت:
-اركضي بأسرع ما يمكنكِ يا قمر.
أمتثلت لأمرها وركضت بسرعة جهة الباب الخشبي الذي ظهر لنا عند أخر الممر، مسحت عيني بكفي بقوة لأستدل الطريق من بين تلك الدموع التي تنزل بغزارة. فتحت ريم الباب وخرجنا منه، ركضت كثيرًا بخطوات متعثرة من شدة خوفي، كنت أتلفت من بين ركضي لأرى من يلاحقنا، ولكن لم أستطع تميز من يكون؛ بسبب الظلام الدامس الذي يحيط بنا، واصلنا ركضنا و شعرتُ بآلام في قدمي، حتى وصلنا لغابةٍ ما، توقفت فجأة وأنا ألهث وآخذ نفسي بصعوبة وقلت:
-لا أستطيع ريم، لنتوقف قليلًا.
قالت لي بصوت متقطع من الركض:
-سيأتي بأي لحظة لا نستطيع هيا.
كدت أجاوبها لكنها قاطعتني وأردفت بتفكير وهي تنظر للتمثال:
-أو أنتظري، هو يلاحقنا من أجل ذاك التمثال، فما رأيك لو قمت بدفنه هنا بجانب تلك الشجرة الكبيرة؟
كدت أرفض لكنها لم تهتم لي، بل لم تنتظر لتسمع ردي، وكأنها كانت تفكر بصوتٍ عالٍ فقط!، ركضت وبيدها التمثال وصلت للشجرة وأخرجت من حقيبتها ملعقة ضخمة؛ تعجبت كثيرًا من وجودها معها بهذا الوقت والمكان؛ لكنها ألتفت لي وأخبرتني بغير اكتراث وابتسامة صغيرة:
-كنت استخدمها للدفاع عن نفسي أحيانًا عندما أخرج ليلًا.
وبعدها حفرت الحفرة ووضعت التمثال بها، و نظرت بعيدًا فنظرت لنفس الرقعة فكان هناك حجرًا كبيرًا، نادتني وتعاونا لحمل الحجر فقلتُ لها بعدما انتهينا:
-لماذا جئنا إلي هنا؟ لمَ لم نذهب إلي مكانٍ مكشوفٍ؟
أجابتني بنبرة يشوبها الجفاف:
-اصمتي فورًا، فهذا ليس وقته.
طريقتها الجافة زادتني بُكاءً فوق بكائي، حتى هي لم تتحملني! شعرت بالجنون؛ فأنا لدي فوبيا من فقد الأقربين لي، فكرت قليلًا بتوتر، وأنا أتجنب النظر لها ودموعي تغمر وجهي بالكامل.
أظن أنني المخطئة، ما كان عليَّ أن أسأل أسئلة سخيفة وساذجة، سأعتذر منها فورًا؛ فأنا لا أريدها أن تتركني، أنا أريدها بجانبي دائمًا وأبدًا. كدت أعتذر، لكنها رمقتني بنظرة أرعبتني، ابتلعتُ ريقي بصعوبة وهمستُ اسمها:
-رر يـم
ولم أشعر بعدها بشىء سوى صوت الصفعة التي وجهتها لي ريم، فتحت عيناي على اتساعها من الصدمة وأمسكت وجهي، تراجعت خطوة للوراء وأنا أسمعها تقول:
-غبية ومن اليوم الذي رأيتك فيه يا قمر، أتظنيني أرافقك حبًا لكِ حقًا!
ثم ضحكت بهستيرية وقالت من بين ضحكاتها:
-لم أر في نقاء قلبك يا بلهاء.
واستمرت في الضحك وانا أنظر لها كالتمثال الذي في يديها تمامًا، ودموعي تتسابق بالنزول في صمت
قالت وهي تدور حولي:
-أأخبركِ سرًا؟
ثم توقفت واقتربت من وجهي وهمست:
-أنا من قتلت والدتكِ.
شعرت أن العالم توقف من حولي فجأة، ماذا، كيف، وأين! تحجرت الدموع في عيني، وتسارعت دقات قلبي، ذهبت ذاكرتي لأمي فورًا، لابتسامتها، ملامحها الجميلة، حضنها الحنون، كلماتها الدافئة، وأخيرًا يوم قتلها، اليوم الذي قُتلت فيه مليون مرة وأنا حية أتنفس، حاولت منع دموعي بالنزول؛ فأنا لن أبقى ضعيفة بعد الآن، مسحت الدموع التي تسربت من عيني وبقيت أنظر لها بجمود.
ضَحِكت وعادت للدوران حولي مرة أخرى:
-همممم، كنت أنقذك منهم فقط لأخذ هذا التمثال السخيف، وطبعًا ليس لذكرى والدتكِ السخيفة أيضًا، بل لأنه سينقلني إلي عالم الثراء الفاحش.
وأردفت قائلة بتهكم:
-كل تلك العِصابات برأيك لمَ تلاحقك؟
نعم صحيح من أجل التمثال يا بلهاء، التمثال ليس من ممتلكات والدتكِ.
ثم اقتربت أكثر من وجهي وهمست:
-أنه يخصهم، ووالدتك المصونة، كانت تعمل معهم، وعندما شَعرتْ بالطمع أكثر أخذته منهم، وتكلفتُ أنا بمهمة قتلها.
ثم ابتعدت مرة أخرى وأكملت:
-أتعلمين، كنت سأخذ منها التمثال بهدوء وسأرحل، لكنها أستفزتني، ونعتتني بالحقيرة، تبًا تب..
لم أجعلها تُكمل وصفعتها بكل قوتي، حاولت لملمة شتاتي المبعثرة، استجمعت قوتي وأردفت بصوت مُرتجف:
-ك كيف تتجرئين؟
تغير لون وجهها للأحمر الداكن، تراجعت خطوة للخلف عندما رأيتها تقترب مني، لكنها فجأة توقفت مكانها، و ضحِكت بسخرية وقالت وهي ترفع إحدى حاجبيها:
-لا تخافي عزيزتي، فسوف أُرسلُكِ لها.
تراجعت خطوة أخرى إلي الوراء عندما رأيتها تخرج سكينًا حادًا من جيب سروالها الخلفي، وعلى وجهها ابتسامة تدل على الخبث، اقتربت مني وانا أتراجع وأحرك رأسي يسارًا ويمينًا عدم تصديق لما يحدث، شهقت شهقة قوية عندما رفَعت السكين وأغمضت عيني بسرعة ولم أسمع شيئًا سوى أرطدام جسدها بقوة على الأرض.
فتحت عيني لأري رائد أمامي مُمسكًا بعصا بيده، وريم مُمددة على الأرض، تذكرت كلام ريم عنه وأنه تركني ورحل عندما أصبحت الثروة بيده، لكنه المتبقي لي من عائلة والدتي الحبيبة، ومن الممكن أن تكون إحدى أكاذيبها!
اقترب مني وأحتضنني بقوة، انفجرت في البكاء في تلك اللحظة ولم تعد قدماي تحملاني فسقطتُ أرضًا استندت على صدرِه العريض وبكيت بمرارة وهو يربت على كتفي في حنان، ويهمس بآيات من القرآن الكريم، توقفت عن البكاء قليلًا، ونظرت له وقبل أن أتحدث ابتسم لي وقال:
أششششش، سأقص عليكِ كُل شيء.
نظرت له باهتمام بينما هو أردف:
-كنت أريد إنقاذك منها، لكنها تعمل مع تلك العصابة، وضعوني في سجنهم لمدة أسبوعين، لم أعرف كيف أهرب منهم، هم الأكثر والأقوى.
قلت له باستياء:
-كيف! لكن ريم أخبرتني أنك هربت، وكنت أنا هنا وحدي.. وحدي يا رائد، كانوا يطاردونني، كنت أركض من مكان لمكان، لا يوجد مكان واحد يحميني و...
قاطعني وهو يمسك يدي ويضعها على صدره، وقال بحنان:
-هنا.. هنا المكان الوحيد الذي يحميكي، ويشعرك بالأمان عزيزتي.
قلتُ له والدموع في عيناي:
-ولكنه لم يكن هنا..
وقف فجأة، حملني بين يديه نظر إلي عيناي وقبل جبيني بعمق وقال بهمس:
-اشتقت لكِ كثيرًا يا حبيبة رائد.
أخفيت وجهي في صدره وتعلقت بعنقه أكثر وقلتُ:
-يا لنذهب بعيدًا، بعيدًا للغاية، أرجوك يا رائد.
سمعت صوته:
-حسنًا، لا تقلقي فقط، أرجوكِ.
شعرت بالسعادة تغمرني، بالرغم من هول الصدمات
التي تلقيتها، تناسيتُ كُل شيء، حتى أظن أنني نسيت اسمي! أنا لم أشعر بالأمان في حياتي قط إلا بوجوده بجانبي، فهو قبل أن يكون قريبي، فهو رفيق طفولتي، شاركني كل لحظة من حياتي، يعرفني أكثر ما أعرف نفسي، أتمنى أن تن تهي كل هذه المطاردات، أتمنى أن يتركوني بخير أنا وهو فقط، وسأنسى مقابل هذا كل تلك الآيام السيئة التي مرت.
كان يسير بي حتى توقف فجأة وأنزلني وقال:
-لقد نسينا التمثال.
تذكرت ريم وقتها وأمسكت بطرف سترته ألتمس منها الأمان وقلت برعب:
-لا، لا أريده يا رائد اتركه لها.
قال بحنان:
-اهدئي يا قمري، يجب أن نجد كل لهذه المشكلة؛ حتى ينتهي هذا الكابوس.
تمسكت أكثر به وعدنا لريم والتمثال بعدما كنا قطعنا من الطريق مسافة لا بأس بها، ولم نجدها مكانها!
شعرت بالخوف واقتربت من رائد أكثر وتمسكت بِكتفه وقلت بهمس:
-لقد اختفت!
تلفتنا حولنا ومن كل جانب نبحث عنها، بالتأكيد لم تبتعد كثيرًا، كنت أشعر برهبة كبيرة تجتاحني، أشعر بأني أختنق، نظرت تجاه رائد الذي ابتعد قليلًا يبحث بجانب شجرة، وقتها تذكرت أننا دفنا التمثال، فقلت بسرعة:
-لقد قمنا بدفن التمثال هنا!
فأردف بتفهم:
-حسنًا، ابتعدي.
ظللت واقفة ورائه، حتى سمعت صوته وهو يخبرني بأن التمثال ليس بمكانه!
فقلت في تعجب:
-ماذا!
واقتربت لأنظر واردفت بخوف:
-قليلًا بعد يا رائد، أظنه كان على عمق أكبر من هذا.
ثم تراجعت مرة أخرى، وبعد دقيقتين، قال لي بابتسامة:
-وجدته!
وبنفس ذات اللحظة صرخت بقوة عندما شعرت بسكين تُغرس في ظهري، ووضعت يدي على ظهري لأجد الدماء تملأ يدي، سَقطتُ أرضًا، ولا أعلم متى سحب رائد السكين من ظهري، أظن من كثرة الألم لم أشعر بشيء، سمعت صوت رائد وهو يقول:
-قمر! قمري حبيبتي لا تذهبي أرجوكِ لا، ستأتي الشرطة حالًا، ابق مستيقظة، حسنًا حبيبتي؟
كنت ألتقط أنفاسي بصعوبة، كدت أجيبه لكن قاطعني صوت ريم وهي تضحك بهيسترية وتقول:
-أحمقان ستأتي الشرطة لتجد جثة قمركم تلك، والجاني يجلس أمامها وممسِكًا بالسكين أيضًا يالا السخافة!
وأكملت وهي تتصنع البراءة:
-أما أنا، فالشاهد الوحيد أيضًا، لأن قمر صديقتي الحميمة ستكون عند والدتها العزيزة حينها.
قال لها رائد باشمئزاز:
لا تقلقي من هذا الجانب، ستأتي الشرطة وستتعافى قمر، ولن تنجي بفعلتك تلك.
تسحبت ريم من وراء رائد وبيدها عصا كبيرة، وتحركت لأخذ التمثال على غبتة، فتلفت لها رائد بسرعة ليفصل بينها وبين التمثال وبيده السكين، وقال بتهديد:
-إن لم تبتعدي الآن، سأكون مجبرًا على طعنك.
قالت وهي تتراجع خطوتين للوراء:
-لا تستطيع..
حاولت الوقوف على قدمي والاقتراب منهم، بينما رائد يقترب من ريم محاولًا تهديدها، فهتفت باسم رائد لمنعه من هذا،
ليتغير كل شيء فجأة، وتجذبني ريم من يدي بسرعة وبيدها العصا، وتهدد رائد بعدم الاقتراب وتقول:
-اعطيني القطعة، وإلا..
كنت أشعر بالدوران، وبدأت الاصوات تتداخل في بعضها، لأجد ريم تتركني فجأة وتهبط بالعصا على رأسي لأفقد وعي مباشرة.
شهق رائد فجأة وبدون وعي، غرز السكين في قدم ريم!
لتحاصر الشرطة المكان في ذات الوقت الذي يقف فيه رائد ممسكًا بالسكين وأمامه قمر فاقدة الوعي وبجانبها صديقتها ريم مجروحة قدمها.
يغمرني الآن شعور الوحدة، الألم، الحزن، الخذلان، و الأشتياق!
أشعر بالذعر لكوني مهددة بالخطر في أيٍ لحظة، لست متمسكة بالحياة لأجلي بالطبع، بل لأجله هو، أشتقت له كثيرًا هذا "الرائد" المخادع، وعدني ألا يتركني، وها هو أخلف بوعده، تركني وحدي بمنزل مهجور، يطاردنا بعض اللصوص، أو أظن أنهم عصابة! حقًا لا أعلم، أنا مشوشة ولا أعلم ما عليَّ فعله.
انتفضتُ مِن مكاني عندما شعرتُ بملمس بارد علي كَتِفي، كانت صديقتي ريم، أظن أنها الوحيدة التي ترافقني بِكُل إرادتها، لا لأجل ذاك التمثال الباقي لي من والدتي العزيزة- رحمها اللّه- ولا حتى لأجل مصلحتها الخاصة؛ لأجلي فقط. وهذا أكثر ما يجعلني أُحِبُها وأثق بها ثقة تامة، فِقتُ من شرودي على كلماتها الدافئة الحنونة:
-قمر هل أنتِ بخير عزيزتي؟
ابتسمتُ لها من بين بكائي، ومن دون سابق إنذار ارتميت بِحُضنِها وقلتُ من بين شهقاتي:
-لقد هاجموني مرة أخرى، كدت أموت خوفًا يا ريم.
ربتت على كَتِفي بحنان وهي تقول باستياء :
-سحقًا لهم سحقًا سحقًا.. كم مرة قلت لكِ أعطيهم ذاك التمثال يكفي ما فعلوه بكِ حتى الآن يا قمر.
توقفت عن البكاء ووقفت باستقامة وقلت باستياء:
-لا، مستحيل هو أخر ما تبقى لي من أمي، لقد أخذوا منزلي وثروتي وأهلي وكل شيء فليتركوه لي أو يقتلوني.
قالت بتذمر:
-قمر يا بلهاء! أتفقدين حياتك من أجل تمثال سخيف؟!
قُلت لها من بين أسناني:
-كم مرة سأقول لكِ، أنه أعز ما أملك، ولا تنعتيه بالسخيف مرة أخرى.
كانت ستتحدث، لولا سماعنا لصوت آتي من الخارج، تسمرت في مكاني، وتوقفت عن التنفس وشعرتُ بالذعر كما لم أشعر به من قبل، نظرت إلي ريم بسرعة فكانت تنظر لي بخوف وقالت بهمسٍ:
-كيـف عرفوا مكانك!
أجبتُها بهمسٍ مُتقطع:
-لا أظنـهم هم، اا أنصتي يبدو لي أنه صوت حذاء رجل، أيعقل أن يكون رائد وجاء أخيرًا لأنقاذي؟
قالت بنفاذ صبر:
-أين عقلك أنتِ؟ رائد تخلى عنكِ للأبد يا غبية، هو كان يريد ثروتك فقط لا غير.
لذت بالصمت لأنه ليس الوقت ولا المكان المناسب للحديث في ذاك الأمر، فأنا الآن أشعر بالرهبة من المكان ومن القادم، حاولت الأنصات بتركيز، فكان قد أقترب الصوت أكثر من ذي قبل، هوى قلبي تحت قدمي، و لم أستطع أن ألتقط أنفاسي قط، قلبي يدق بعنف وجنون، دموعي تكونت، نظرت في اتجاه ريم فكانت تفتح الخزانة، ثم جاءت أمامي وأمسكت بيدي وذهبت بي في اتجاهها، أمسكت بأصبعي وقالت:
-هيا هيا يا قمر ضعي إصبعك الآن؛ يجب أن تفتح ببصمتك لنأخذ التمثال.
وبالفعل فُتِحت الخزنة وأخذت ريم التمثال بسرعة، وأمسكت بيدي مرة أخرى وباليد الأخرى كانت تحمل تمثال والدتي، ركضنا بسرعة تجاه الممر الطويل، فتركت يدي وأمسكت بالتمثال بكلتا يديها وقالت:
-اركضي بأسرع ما يمكنكِ يا قمر.
أمتثلت لأمرها وركضت بسرعة جهة الباب الخشبي الذي ظهر لنا عند أخر الممر، مسحت عيني بكفي بقوة لأستدل الطريق من بين تلك الدموع التي تنزل بغزارة. فتحت ريم الباب وخرجنا منه، ركضت كثيرًا بخطوات متعثرة من شدة خوفي، كنت أتلفت من بين ركضي لأرى من يلاحقنا، ولكن لم أستطع تميز من يكون؛ بسبب الظلام الدامس الذي يحيط بنا، واصلنا ركضنا و شعرتُ بآلام في قدمي، حتى وصلنا لغابةٍ ما، توقفت فجأة وأنا ألهث وآخذ نفسي بصعوبة وقلت:
-لا أستطيع ريم، لنتوقف قليلًا.
قالت لي بصوت متقطع من الركض:
-سيأتي بأي لحظة لا نستطيع هيا.
كدت أجاوبها لكنها قاطعتني وأردفت بتفكير وهي تنظر للتمثال:
-أو أنتظري، هو يلاحقنا من أجل ذاك التمثال، فما رأيك لو قمت بدفنه هنا بجانب تلك الشجرة الكبيرة؟
كدت أرفض لكنها لم تهتم لي، بل لم تنتظر لتسمع ردي، وكأنها كانت تفكر بصوتٍ عالٍ فقط!، ركضت وبيدها التمثال وصلت للشجرة وأخرجت من حقيبتها ملعقة ضخمة؛ تعجبت كثيرًا من وجودها معها بهذا الوقت والمكان؛ لكنها ألتفت لي وأخبرتني بغير اكتراث وابتسامة صغيرة:
-كنت استخدمها للدفاع عن نفسي أحيانًا عندما أخرج ليلًا.
وبعدها حفرت الحفرة ووضعت التمثال بها، و نظرت بعيدًا فنظرت لنفس الرقعة فكان هناك حجرًا كبيرًا، نادتني وتعاونا لحمل الحجر فقلتُ لها بعدما انتهينا:
-لماذا جئنا إلي هنا؟ لمَ لم نذهب إلي مكانٍ مكشوفٍ؟
أجابتني بنبرة يشوبها الجفاف:
-اصمتي فورًا، فهذا ليس وقته.
طريقتها الجافة زادتني بُكاءً فوق بكائي، حتى هي لم تتحملني! شعرت بالجنون؛ فأنا لدي فوبيا من فقد الأقربين لي، فكرت قليلًا بتوتر، وأنا أتجنب النظر لها ودموعي تغمر وجهي بالكامل.
أظن أنني المخطئة، ما كان عليَّ أن أسأل أسئلة سخيفة وساذجة، سأعتذر منها فورًا؛ فأنا لا أريدها أن تتركني، أنا أريدها بجانبي دائمًا وأبدًا. كدت أعتذر، لكنها رمقتني بنظرة أرعبتني، ابتلعتُ ريقي بصعوبة وهمستُ اسمها:
-رر يـم
ولم أشعر بعدها بشىء سوى صوت الصفعة التي وجهتها لي ريم، فتحت عيناي على اتساعها من الصدمة وأمسكت وجهي، تراجعت خطوة للوراء وأنا أسمعها تقول:
-غبية ومن اليوم الذي رأيتك فيه يا قمر، أتظنيني أرافقك حبًا لكِ حقًا!
ثم ضحكت بهستيرية وقالت من بين ضحكاتها:
-لم أر في نقاء قلبك يا بلهاء.
واستمرت في الضحك وانا أنظر لها كالتمثال الذي في يديها تمامًا، ودموعي تتسابق بالنزول في صمت
قالت وهي تدور حولي:
-أأخبركِ سرًا؟
ثم توقفت واقتربت من وجهي وهمست:
-أنا من قتلت والدتكِ.
شعرت أن العالم توقف من حولي فجأة، ماذا، كيف، وأين! تحجرت الدموع في عيني، وتسارعت دقات قلبي، ذهبت ذاكرتي لأمي فورًا، لابتسامتها، ملامحها الجميلة، حضنها الحنون، كلماتها الدافئة، وأخيرًا يوم قتلها، اليوم الذي قُتلت فيه مليون مرة وأنا حية أتنفس، حاولت منع دموعي بالنزول؛ فأنا لن أبقى ضعيفة بعد الآن، مسحت الدموع التي تسربت من عيني وبقيت أنظر لها بجمود.
ضَحِكت وعادت للدوران حولي مرة أخرى:
-همممم، كنت أنقذك منهم فقط لأخذ هذا التمثال السخيف، وطبعًا ليس لذكرى والدتكِ السخيفة أيضًا، بل لأنه سينقلني إلي عالم الثراء الفاحش.
وأردفت قائلة بتهكم:
-كل تلك العِصابات برأيك لمَ تلاحقك؟
نعم صحيح من أجل التمثال يا بلهاء، التمثال ليس من ممتلكات والدتكِ.
ثم اقتربت أكثر من وجهي وهمست:
-أنه يخصهم، ووالدتك المصونة، كانت تعمل معهم، وعندما شَعرتْ بالطمع أكثر أخذته منهم، وتكلفتُ أنا بمهمة قتلها.
ثم ابتعدت مرة أخرى وأكملت:
-أتعلمين، كنت سأخذ منها التمثال بهدوء وسأرحل، لكنها أستفزتني، ونعتتني بالحقيرة، تبًا تب..
لم أجعلها تُكمل وصفعتها بكل قوتي، حاولت لملمة شتاتي المبعثرة، استجمعت قوتي وأردفت بصوت مُرتجف:
-ك كيف تتجرئين؟
تغير لون وجهها للأحمر الداكن، تراجعت خطوة للخلف عندما رأيتها تقترب مني، لكنها فجأة توقفت مكانها، و ضحِكت بسخرية وقالت وهي ترفع إحدى حاجبيها:
-لا تخافي عزيزتي، فسوف أُرسلُكِ لها.
تراجعت خطوة أخرى إلي الوراء عندما رأيتها تخرج سكينًا حادًا من جيب سروالها الخلفي، وعلى وجهها ابتسامة تدل على الخبث، اقتربت مني وانا أتراجع وأحرك رأسي يسارًا ويمينًا عدم تصديق لما يحدث، شهقت شهقة قوية عندما رفَعت السكين وأغمضت عيني بسرعة ولم أسمع شيئًا سوى أرطدام جسدها بقوة على الأرض.
فتحت عيني لأري رائد أمامي مُمسكًا بعصا بيده، وريم مُمددة على الأرض، تذكرت كلام ريم عنه وأنه تركني ورحل عندما أصبحت الثروة بيده، لكنه المتبقي لي من عائلة والدتي الحبيبة، ومن الممكن أن تكون إحدى أكاذيبها!
اقترب مني وأحتضنني بقوة، انفجرت في البكاء في تلك اللحظة ولم تعد قدماي تحملاني فسقطتُ أرضًا استندت على صدرِه العريض وبكيت بمرارة وهو يربت على كتفي في حنان، ويهمس بآيات من القرآن الكريم، توقفت عن البكاء قليلًا، ونظرت له وقبل أن أتحدث ابتسم لي وقال:
أششششش، سأقص عليكِ كُل شيء.
نظرت له باهتمام بينما هو أردف:
-كنت أريد إنقاذك منها، لكنها تعمل مع تلك العصابة، وضعوني في سجنهم لمدة أسبوعين، لم أعرف كيف أهرب منهم، هم الأكثر والأقوى.
قلت له باستياء:
-كيف! لكن ريم أخبرتني أنك هربت، وكنت أنا هنا وحدي.. وحدي يا رائد، كانوا يطاردونني، كنت أركض من مكان لمكان، لا يوجد مكان واحد يحميني و...
قاطعني وهو يمسك يدي ويضعها على صدره، وقال بحنان:
-هنا.. هنا المكان الوحيد الذي يحميكي، ويشعرك بالأمان عزيزتي.
قلتُ له والدموع في عيناي:
-ولكنه لم يكن هنا..
وقف فجأة، حملني بين يديه نظر إلي عيناي وقبل جبيني بعمق وقال بهمس:
-اشتقت لكِ كثيرًا يا حبيبة رائد.
أخفيت وجهي في صدره وتعلقت بعنقه أكثر وقلتُ:
-يا لنذهب بعيدًا، بعيدًا للغاية، أرجوك يا رائد.
سمعت صوته:
-حسنًا، لا تقلقي فقط، أرجوكِ.
شعرت بالسعادة تغمرني، بالرغم من هول الصدمات
التي تلقيتها، تناسيتُ كُل شيء، حتى أظن أنني نسيت اسمي! أنا لم أشعر بالأمان في حياتي قط إلا بوجوده بجانبي، فهو قبل أن يكون قريبي، فهو رفيق طفولتي، شاركني كل لحظة من حياتي، يعرفني أكثر ما أعرف نفسي، أتمنى أن تن تهي كل هذه المطاردات، أتمنى أن يتركوني بخير أنا وهو فقط، وسأنسى مقابل هذا كل تلك الآيام السيئة التي مرت.
كان يسير بي حتى توقف فجأة وأنزلني وقال:
-لقد نسينا التمثال.
تذكرت ريم وقتها وأمسكت بطرف سترته ألتمس منها الأمان وقلت برعب:
-لا، لا أريده يا رائد اتركه لها.
قال بحنان:
-اهدئي يا قمري، يجب أن نجد كل لهذه المشكلة؛ حتى ينتهي هذا الكابوس.
تمسكت أكثر به وعدنا لريم والتمثال بعدما كنا قطعنا من الطريق مسافة لا بأس بها، ولم نجدها مكانها!
شعرت بالخوف واقتربت من رائد أكثر وتمسكت بِكتفه وقلت بهمس:
-لقد اختفت!
تلفتنا حولنا ومن كل جانب نبحث عنها، بالتأكيد لم تبتعد كثيرًا، كنت أشعر برهبة كبيرة تجتاحني، أشعر بأني أختنق، نظرت تجاه رائد الذي ابتعد قليلًا يبحث بجانب شجرة، وقتها تذكرت أننا دفنا التمثال، فقلت بسرعة:
-لقد قمنا بدفن التمثال هنا!
فأردف بتفهم:
-حسنًا، ابتعدي.
ظللت واقفة ورائه، حتى سمعت صوته وهو يخبرني بأن التمثال ليس بمكانه!
فقلت في تعجب:
-ماذا!
واقتربت لأنظر واردفت بخوف:
-قليلًا بعد يا رائد، أظنه كان على عمق أكبر من هذا.
ثم تراجعت مرة أخرى، وبعد دقيقتين، قال لي بابتسامة:
-وجدته!
وبنفس ذات اللحظة صرخت بقوة عندما شعرت بسكين تُغرس في ظهري، ووضعت يدي على ظهري لأجد الدماء تملأ يدي، سَقطتُ أرضًا، ولا أعلم متى سحب رائد السكين من ظهري، أظن من كثرة الألم لم أشعر بشيء، سمعت صوت رائد وهو يقول:
-قمر! قمري حبيبتي لا تذهبي أرجوكِ لا، ستأتي الشرطة حالًا، ابق مستيقظة، حسنًا حبيبتي؟
كنت ألتقط أنفاسي بصعوبة، كدت أجيبه لكن قاطعني صوت ريم وهي تضحك بهيسترية وتقول:
-أحمقان ستأتي الشرطة لتجد جثة قمركم تلك، والجاني يجلس أمامها وممسِكًا بالسكين أيضًا يالا السخافة!
وأكملت وهي تتصنع البراءة:
-أما أنا، فالشاهد الوحيد أيضًا، لأن قمر صديقتي الحميمة ستكون عند والدتها العزيزة حينها.
قال لها رائد باشمئزاز:
لا تقلقي من هذا الجانب، ستأتي الشرطة وستتعافى قمر، ولن تنجي بفعلتك تلك.
تسحبت ريم من وراء رائد وبيدها عصا كبيرة، وتحركت لأخذ التمثال على غبتة، فتلفت لها رائد بسرعة ليفصل بينها وبين التمثال وبيده السكين، وقال بتهديد:
-إن لم تبتعدي الآن، سأكون مجبرًا على طعنك.
قالت وهي تتراجع خطوتين للوراء:
-لا تستطيع..
حاولت الوقوف على قدمي والاقتراب منهم، بينما رائد يقترب من ريم محاولًا تهديدها، فهتفت باسم رائد لمنعه من هذا،
ليتغير كل شيء فجأة، وتجذبني ريم من يدي بسرعة وبيدها العصا، وتهدد رائد بعدم الاقتراب وتقول:
-اعطيني القطعة، وإلا..
كنت أشعر بالدوران، وبدأت الاصوات تتداخل في بعضها، لأجد ريم تتركني فجأة وتهبط بالعصا على رأسي لأفقد وعي مباشرة.
شهق رائد فجأة وبدون وعي، غرز السكين في قدم ريم!
لتحاصر الشرطة المكان في ذات الوقت الذي يقف فيه رائد ممسكًا بالسكين وأمامه قمر فاقدة الوعي وبجانبها صديقتها ريم مجروحة قدمها.