الأول
الفصل الأول
العميان
***********____*******
"إن تلك الحياة لم تكن بالعادلة أبداً، فدوماً ما تحفل هذه الحياة بالمُظلومين، ولكن ما العيب في أن تظهر الحياة سمتها الأساسية، ولكن لا يجب أن تختص تلك السمة بفردٍ واحد، ألسنا نعيش في تلك الدنيا سواء كلٍ بعمله، يا لسخرية أي عملٍ؟ بل أية حياة نعيش فيها سواء، فهناك من ترفع حتى يصلوا للعنان ويعيشوا سعداء، أو تحط بهم في سبع أراض تحت الأرض وتعيش بها في ظلماتها، وأنا كان لي النصيب الأكبر من تلك النكبة، نكبة الحياة التي دوما ما تُصيبني، تجعلني غير قادرة على الحراك، فقط أبدو وكأني جثة هامدة لا حول لي ولا قوة، أعجز دوماً عن الحديث، ولكن هذه المفكرة التي أكتب فيها جزء لا يتجزأ مني؛ فقط هي الوحيدة التي تعرف دواخلي، فأنا أمامها كما ولدتني أمي، ورقة شفافة مفضوحٌ دواخلها، اللعنة عليكِ يا بئر أسراري، إلى متى سأظل صامتة؟ إلى متى سيظل العناء هذا من الخارج وداخلي حصون تتساقط واحد تلو الآخر، أتتأملين صديقتي من كون دموعي قد هطلت عليكِ غصباً، فما بالكِ بي أيتها الصماء عندما أنوح وأنا غير قادرة على التمرد للثانية، أعلم يقينا أنه إن فكرت في ذلك بالتأكيد لن تجدي أحد يعبث معكِ، يمنحك من روحه وذكرياته المتألمة، ولكن يا للعجب أشعر وكأنكِ سوف ترتاحي مني بالفعل، لا تحاول التمرد على أنه إن أتيحت لكِ الفرصة من الهروب مني لن تفعلي، لا يا عزيزتي أنا على يقين بأنك ستفعلين، لن أحزن منكِ حتى لو فعلت هذا، ففي تلك الحياة الراحة صعبة، والسعادة أصعب وأصعب، لذا أنا لا ألومك ولكن رجائي لكِ ألا تتركيني وحيدة، لا تتركيني أعيش في ظلمة نفسي الحالكة التي أود الهروب منها، وأنت مهربي الوحيد، أنتِ مأمني وملاذي، أنتِ الصديقة التي لن تبوح بسري، ولا بأملي، ولا شقائي، آخر ما أود قوله لكِ صديقتي أنه رغم كل ذلك، رغم تعبي لم أحزن فأعلم أن الدنيا شقاء، ولكن مقدار ألمي وكسرة روحي أنه من كان لهم أن يقفوا في ظهري كانوا أول من نهشت يداهم في روحي، إنهم أخوتي الذين أصابوا روحي بظلمة أتمنى أن أقدر على أن أتحرر منها يوماً"
انتهت من كتابة مذكراتها في اليوم الذي لم تعرف عدده بعد، لم تجد إلا في تلك الوريقات الصامتة صديق وفي ينصت لها دون أن يبدي برأيه أو يستهزأ بوجعها الذي لا ينفك أن يزول، تهدلت أجفانها حتى انضبت على محيط عيناها الزرقاء تخفيهما، وكأنها تخفي محيط البحر الثائر خلف ستار الظلام، بل هو ستار حزنها التي تدعو الله كل ثانيةٍ أن يُزاح من على عاتقها، أطبقت على جفناها بقوةٍ وكأنها تمنعهما عن ممارسة طقس أصبحت تمقته أشد المقت، إلا أن ذلك الكريه أصر على كراهته وهطلت دموعها تفضح حزنها الصامت الذي كانت تواسيه فقط مذاكرتها، حاولت نفض دموعها تلك سريعاً، لعل سرها الذي لا يمت للأسرار بصلة ألا ينكشف، أقرت حقيقة في نفسها أنها لن تقبل أوجاعاً من جديد، فقد وصل بها المرار أقصاه إلى هنا، كفاها إلى الآن، نفضت دموعها عن خديها الذي ظهر بهما وديان الحزن القاحلة، حاولت تعمير ملامحها المُعدمة بإزالة تلك الدمعات البغيضة عن وجههاـ حاولت أن تتصنع الابتسامة على وجهها، جاهدت بأقصى طريقة برسمها، ولكنها كم توقعت باهتة لا حياة فيها وكأن أحدهم يطلب منها الابتسامة داخل القبور بين الأموات.
نفضت شراشف الفراش عن نفسها، نفضت حزنها قليلاً، وطوت حزنها كما أخذت تطوي ذلك الفراش وتهندمه، ومع كل محاولة تجاهد أن تلملم بقايا نفسها الضائعة بلا حول ولا قوةٍ، حبست أنفاسها داخل صدرها وهي تنتهي من نظافة غرفتها، وقفت بشموخ ينافي انكسار دواخلها، ولكنها توقفت بجمود حينما سمعت صوت يتحدث من خلفها قائلاً:
_آنستي الجميلة، الفطور جاهز قبل أن تذهبي إلى المشفى عند والدك لقد اتصل وطلبك هذا الصباح.
استدارت تنظر إلى تلك السيدة التي تجاوز عمرها الخمسين عاماً، تجاعيد وجهها المرسومة، والبسمة التي تخط خطوطها لتمحي تلك التجاعيد تمنحها سعادةً لا توصف، اقتربت من السيدة وقالت وهي تربت على كتفها:
_حاضر دادة جميلة، أنا قادمة خلفك، فقط أبدل ملابسي وسآتي خلفك.
ضحكت تلك السيدة بصخب ورددت بمحاولة لسحب الطاقة سلبية داخلها قائلة:
_أوه آنستي، أنتِ قلتِ تبدلين ثيابك وتصلين، والله لو كان بمقدورك فعلها أن تعتكفي طوال اليوم بل عمرك بين يدي الله لفعلتِ.
نكست ملك رأسها بحزن، والدموع عادت تغزو وجهها من جديد هامسة:
_إن ذلك المكان هو مأمني دادة جميلة، أنا بين يدي من خلقني، من لن يلفظني قط، من لن يقول لي سارقة وأنا والله ما سرقت شيء، إن نظروا لي سيجدون أني من سُرق منها الكثير، هنا فقط يمكنني الشكوى دون أن يحاول أحدهم أسر لساني داخل قفص محكمة أسبابه أبغض من القفص نفسه.
لم تجد تلك السيدة ما يمكن أن تُجيب به تلك الفتاة الصغيرة وهي تعلم تمام العلم ما تمر به، إنها على يقين أن تلك الفتاة الجميلة ليس لها ذنباً مما يرمون عليها، فقد كانت ضحية من بين كثير من الضحايا، وكذلك لم يرعوها إنما أخذ كل واحد منهم دور القاضي والجلاد عليها، أعادت كرة ربتها على يدها وكأنها تواسيها في محنتها، رحلت من أمامها وداخلها أحاديث كثيرة متخوفة، فهي تعلم جيدا أن حالة السيد محمود سيئة جداً، ربما تكون أيام يقضيها في تلك الدنيا، أما هي فكانت على يقين أن من سيُعاني من تلك الأزمة هي تلك الفتاة التي لم تتخطى سنوات عمرها العشرين، دعت لها في سرها أن يحفظها الله و يُعينها على ما ستراه هذه الأيام، أدارت رأسها لها قبل أن تنصرف من أمامها، منحتها نظرة تواسي بها أيامها المقبلة، ثم أدارت رأسه صوب الرحيل.
بعد رحيل جميلة تحركت ملك من مكان وقوفها ثم ذهبت إلى المرحاض، أخذت تبدل ملابسها لملابس صلاتها تُسمي ثم بعد تبدأ وضوئها، مر وقت ليس بالطويل وليس قصيراً كذلك، انتهت مما كانت تفعله، خرجت من مرحاضها وهي تجذب سجادة الصلاة لتقف بعد ذلك بين يدي الله، وقفت في خشوع تام، وبعدها لا إراديا أخذت تنتحب حتى تحول انتحابها الصامت إلى بكاءٍ حار وسط صلاتها، وكأنها تشكو عجزها وقلة حيلتها إلى الله، وكل سجود كلن يعلو صوت البكاء، ويظم ضعفها، وتتهدم قواها التي تصنعها أمام الجميع، ولكنها هنا كانت عاجزة على إبقاء حصونها مُقامة، أخذت تترد أدعية في سجودها
"اللهم إني أمتك الضعيفة فاجعل من ضعفي وقلة حيلتي وصبري جزاء حسن يرضيني عما عانيته في تلك الحياة، اللهم إنك أنت القوي العزيز الجبار، فأعطني بعضاً من القوة، ,أعزني بين من أرادوا زلي، وارزقني جبرك ومن يجبر كسوري، اللهم إني راضية بما عانيته، فجازني الخير على ما صبرت عليه"
توقفت عن الدعاء وكأن أنفاسها الأخرى توقفت عن الشهيق والزفير وكأنها فارقت الحياة، ظلت بذلك الضعف والتذلل لفترة طويلة لا تعلم كم مر، ولكنها هنا فقط وجدت الراحة، أًبحت على يقين بأن أياً كان الضعف سيمنحها الله قوة لا مثيل لها، نهضت من سجودها للتشهد، ولكنها هنا رمت كل انكسارٍ من روحها خلفها، وكأنها طفل ولدي اليوم وسيواجه حياته اليوم، انهت صلاتها بعد وقتٍ طويل قضته بين يدي الله، وبعدما فرغت وضعت سجادتها في مكانها الصحيح، ومن ثم بدلت ثيابها بأخرى لكي تخرج للذهاب إلى والدها في المستشفى، كانت على مقربة من باب غرفتها ولكنها وقفت في مكانها حينما سمعت إلى صوت طائر يُغرد على شرفتها، جذبها إليه بصوتها، وكأنه يثير بداخلها مشاعر حقيقة كانت طمرتها الظروف، هرولت إليه وهي تتأمله لوقتٍ قصير تسرق فيه السعادة من فم الدنيا، ولكنه كطائر حر أبى أن يغرد في مكان واحد، ولكنه أسرع في الأفق، يشدو بصوته وكأنه يرسل إلى الدنيا معاني السلام والحرية.
أطلقت زفراتها وحررتها هي الأخرى، ابتلعت أنفاسها، ورسمت قناع القوة الواهي على وجهها، وشرعت في نزول درجات السلم الداخلي، وداخلها يتمنى ألا يكون سر شقائها وتعاستها بالأسفل، ولكن ربما الحظ لم يكن حليفاً لها، إذ استمعت إلى أصواته أسفل في غرفة المعيشة، ابتلعت أنفاسها، وأخذت في التقدم حتى وقفت على باب الغرفة تنظر بعين دائرة حول الجالسين.
شرعت عيناها تدور في فلكٍ غير محدود وهي تراقب الجالسين حولي الطاولة، نظراتهم المشتعلة بلهيب تعلمه جيداً أسرت بداخلها رغبة تحثها على الفرار من بينهم، فقد علمت من بريق أعينهم النارية أنها غارقة لا محال، ابتلعت ريقها واستجمعت أنفاسها وهي تخطو أول خطواتها تجاه الطاولة، سارت بضعة خطوات هادئة حتى توقفت قرب الطاولة، وقفت جوار أكثر الشخوص الموجودين نارية عينيه تقتلها، ابتلعت توترها وأنفاسها المضطربة وهي تراقب نظراته التي تلتهمها، وتمنح للرهبة الداخلية الأذن في أن تبوح في ذاتها أمامه، ولكنها جمدتها داخلها، استدارت حتى تكون قابلته تماماً، تعمقت بنظراتها في عينيه وقالت:
_نعم خالد، ماذا تُريد؟
ترك الطعام من فمه، رمقها بنظرة كارهة وهو يقول من تحت أسنانه:
_اجلسي لتأكلي بالسم، وتذهبين إلى المشفى مع السائق، لأن أبي يُريد رؤيتك، وبعدها تعودين إلى هنا دون أن تذهبي هنا أو هناك.
تأملت نظراته التي تبوح بضغينة تعلم جيداً أنها لا تملك فيها ناقة ولا جمل، ولا بيدها سبب كرههم هذا لها، أشاحت ببصرها وهي تتجه صوب مكانها المعتاد في أبعد مكان على الطاولة، فهي ليس لها مكان بين الجالسين، ثلاثة أخوةٍ تعلم جيداً أنها ليس لها مكان محبة في قلوبهم، ابتلعت تلك الغصة المؤلمة التي استباحت قلبها، اتجهت صوب المكان النائية على الطاولة، جلست على كرسيها، أخذت تتفقد الطعام الموضوع أمامها ودون إرادة منها شعرت بدموعها تتدفق من عينها تأخذ مسارها على خدها، نفضتها بسرعة قبل أن يعلم بها الجميع ويسخروا من ضعفها كم يروها، فهم لا يعرفون أن ذلك البكاء ما هو إلا بكاء على أحبة لم تعرف قلوبهم الحب لها يوماً، تناولت بعة لقيمات قليلة ومن ثُم نهضت متوجهة لأبيها بالمستشفى الراقد به، ولم يوقفها أحد للحديث معها فقد اكتفت من النظرات المُهلكة لها، وعلى ما استطاعت الصبر صبرت وبعدها خرجت.
خرجت ملك من غرفة الطعام وكلها يقين أنها الوحيدة المتألمة في ذلك المكان، حينما كانت جالسة لم تعبأ بنظرات الجالسين غير نظرات أخوتها، ولكن على الطاولة ذاتها كان البؤس هيمن على وجوه أخرى لا تسطيع البوح بحزنها في ذلك المجلس اللعين الذي باتت تكرهه أشد الكره، ولكن ذلك القلب اللعين هو من يصر عليها بالصمود، شرعت في لعن ذلك الحب الذي بدأ يضعف من ذاتها وصمودها، يحطم من كبرياء أنوثتها المخملية الراقية، وطباعها الهادئة التي بدأت تتحول تدريجياً إلى فوضى عارمة ولكنها مأسورة بداخلها عاجزة على أن تحررها، رمقت الجالسين بنظرات كارهة حاقدة، حتى ذلك الذي يرأس الطاولة وعيناه السوداء كالليل يشتد سوادها أكثر، أزاحت بصرها عنه تراقب طفلها الوحيد الذي انجبته بعد عناء شديد يتناول طعامه، حزنت عندما تذكرت أنه بات من الضعيف أن تنجب أطفال غيره بعد أن تضرر رحمها بعد ولادة صغيرها أيهم خالد الدمنهوري، تأملته ببسمة صافية وهو يتناول طعامه بهدوء، إنه الصغير الذي هدمت كبريائها من أجله، أزاحت بصرها عنه وأعادته إلى الجالس يترأس الطاولة من جديد، حاولت الصمت ولكنها لن تستطيع من الآن، زفرت أنفاسها الغاضبة وهي تردد بحدة بدت في صوتها جيداً:
_إلى متي ستظل هكذا خالد؟ إلى متى ستظل تعامل أختك الصغيرة بذنبٍ لا يد لها فيه؟ المفروض أنك الكبير، السند، الأب، وبعدها يأتي كونك الأخ أين أنتَ مما هي فيه؟ أين أنتَ من معاملتك تلك؟ قل لي ما ذنبها تلك الصغيرة؟
ألقت بعض مما في جوفها، ورفعت بصرها صوبه تراقب تعابير وجهه، وجدتها جامدة كما هي، لا حياة فيها، وجه جليدي متجمد بكراهية لتلك الفتاة التي لا تعلم ما ذنبها، أدارت بصرها تتطلع إلى الضلعين الباقيين من مثلث القوة والسند وجدتهم بنفس الجمود الذي هو عليه، بل كان هو أشد قسوة منهم أجمعين على تلك الفتاة التي لا تعرف ما فعلت في تلك الحياة، لم تقدر على الصبر أكثر من ذلك، نهضت من مجلسها وهي تضرب على الطاولة بغضبٍ بيديها، وقالت بصوتٍ عالٍ:
_ماذا تنتظر خالد؟ أتنتظر أن يكون ولدك بنفس القوة التي أنتَ عليها؟ أتعلم لما حرنا الله من أطفال آخرين رغم أنه لا مانع؟
كانت كلماتها تلك كفيلة جذب انتباهه إليها، فكم كان يطوق أن يصبح لها أطفالاً كثيرين من محبوبته، ورفيقة روحه، رفع بصره لها وكأنه ينتظر الجواب الذي ربما يشفي ضير قلبه البائس، ولكن إجابتها جاءت بما ربما سيقضي على أي قوةٍ داخله:
_ربما لأن الله أراد الرحمة لنا مما تفعل، ربما لأن الله يرحمنا بألا يفعل أيهم بأخوته، أو بنا ما تفعله أنتَ في أختك اليتيمة التي تزيد أنتَ وأخوتك من يتمها وقهرها.
كادت أن تتحرك من مكانها، ولكنها توقفت حينما سمعت صوت آخر غير صوت زوجها يرد عليها متهكماً على حديثها بكل جمود وصلفاء:
_وماذا تعلمين أنتِ يا زوجة أخي عما عشنا به أنا وأخوتي؟ هل عانيتِ أنتِ أو ابنك مما عانينا منه نحن؟ هل عانت ولدتك مع والدك الذي هجرها أعواماً من أجل امرأةٍ أخرى يا ابنة الحسب والنسب؟ أنت ما شاء الله عشتِ في عائلة رائعة متحابة والدك جوار والدتك، ولكن ماذا عنا نحن؟
كادت أن ترد عليه، ولكنها توقفت حينما سمعت زوجته ترد عليها بكل تكبر وعنجهية كاذبة:
_ماذا هناك سيدة أميرة، هل دفع لكِ أحدهم حتى تدافعي عنها، المفروض تكون جوار زوجك وتتجنبيها، ألم تتعلمي أن طاعة الزوج واجبة.
استدارت لهم من جديد وهي تتطلع لها، تعلم كل شيءٍ عن تلك الشمطاء الكاذبة جيداً، لا تعيرها انتباه، ولكن بصرها وقف غصباً لدى الثنائي الصامت اللذان اعتكف بعيداً عما يدور في تلك الساحة الملحمية من كره، فهم دائما على وضعية المتفرج ولا يشتركون في أي حديث يُعلن فيما يخص أخته وزوجته صامتة كذلك، بعدت عينها عنهم، وأعادته إلى تلك الشمطاء كما اسمتها ونعتتها بالساحرة الشريرة، وردت عليها بتهكمٍ واضح:
_طاعة زوجي فيما يُرضي الله، وليس طاعته في شر إن علم حقيقته لتمنى أن تُأخذ روحه الآن، الزوجة تأخذ بيد زوجها للصواب لا للضلال كما تفعلين سيدة علا.
اقتربت من زوجها حتى أصبحت أمامه مباشرةً، أمعنت النظر في عينه، وجدتها مازالت كما هي، وكأنها بحديثها لا تثير فضوله، ولكنها قررت أن تضع البنزين جوار النار:
_أنا حقاً آسفة عليكَ خالد، أتعلم لما؟!
نظرت إليه وجدت لمحة من الفضول تخللت عيناه وهو يراقبها، فأخذت تجيب على ما طرحته بلسانها:
_رُغم إنك أكبر أبناء تلك العائلة وأكثرهم حناناً وانتماءً لها، إلا أنك دوماً ما تُخدع تحت سبيل الحب والعائلة والانتماء، تلك العائلة خدعتك، بل زيفت ماضٍ بائس ربما أنت تكون على علماً به ولكنك تجاهلته، وضعت على عينك عصبة سواد أفقدتك ابصر، وجعلتك تنسى ماضيك الذي بالتأكيد ستجد فيه جواباً على كل شيءٍ، ولكنك أحببت الدور الذي تعيش فيه، وذلك الوعد اللعين الذي أسرك بأصفاد من حديد تملك مفتاحها ولا تعلم جوابها.
كانت قد اتخذت قرار الرحيل، ولكنها توقفت مرة أخرى وقالت بآخر شيءٍ قبل الرحيل:
_أنت تعلم جيداً سبب زواج والدك الآخر، ولكنك تصر على أن تكون ضحية، آه آخر شيءٍ أود قوله أنا ذاهبة إلى منزلنا، كما تعلم زفاف أخي غداً، سأذهب وأبيت هناك، لقد أخذت أذنك مُسبقاً، ويجب عليّ تذكيرك.
رحلت من أمامه بعد أن هز رأسه لها يمنحها الأذن بالرحيل، ألقت بجمراتها النارية كلمات جعلت القلوب تشتعل وهي تبحث عن إجابة لذلك السر البغيض الذي قالته منذ قليل، لا أحد يُصدق أن ما عاشوه ربما يكون أكذوبة حلها الوحيد عنده، وللكن هل للدب الصامت أن ينطق، انسحب من أمام الجميع وهو يتجه إلى الداخل، بعدما راقب زوجته وهي تحمل أغراضها للذهاب إلى بيت عائلتها، انصرف من المجلس بعدما رأى التساؤلات تطيح بعين أخيه الصغير، هو يعلم أنه لن يقدر على أن يجيب على أحدهم الآن، هرع بسرعةٍ إلى غرفته يهرب من الفوضى التي أحدثتها زوجته قبل الرحيل، لا يعلم أعليه أن يلومها، أما يشكرها على ذلك التقدير، ولكنه لن يقدر على أن يفعل أكثر من ذلك، هو يشعر أنه مقيد بذلك الوعد الذي أخذته أمه عليه صغيراً، وعليه أن يلتزم به وهو كبيراً، شعر الآن أنه بمتاهةٍ كبيرة لا يعلم أسيكون قادر على الخروج منها أم لن يكون بقادرٍ.
نعم لم يزداد القتلة قتيلاً، ولا الموتة ميتاً، وإنما زادت القلوب إرهاقاً، والنفس تزهق، والروح تُسلب بكل إقتدار، قد فر من أمامهم بكل قدرةٍ عندما أدرك جيداً أنه لن يكون بقادرٍ على الإجابة عن أي سؤال سوف يطرح، وكم هو بعالمٍ عن الاسئلة التي ستتوافد على ذهنه، وهو الآن لا يملك جواباً لها، زوجته باحت بشيء لا يعلمه مطلقاً، وهي تبدو له بعالمة عن كل شيء حدث وكأن سنوات عمرها المنصرمة قضتها بينهم، لا يعلم من أين علمت بوعده لأمه، هو نفسه لم يبح بذلك السر مطلقاً لأحدهم، فكيف علمت هي، هو لا يدرك حقيقةً مجردة، عندما أهلكته الاسئلة التي باح عقله بها ولى هارباً بكل جزعٍ، يأسر نفسه داخل صومعته التي دوماً ما يكون متمكناً من أسرها.
*********
العميان
***********____*******
"إن تلك الحياة لم تكن بالعادلة أبداً، فدوماً ما تحفل هذه الحياة بالمُظلومين، ولكن ما العيب في أن تظهر الحياة سمتها الأساسية، ولكن لا يجب أن تختص تلك السمة بفردٍ واحد، ألسنا نعيش في تلك الدنيا سواء كلٍ بعمله، يا لسخرية أي عملٍ؟ بل أية حياة نعيش فيها سواء، فهناك من ترفع حتى يصلوا للعنان ويعيشوا سعداء، أو تحط بهم في سبع أراض تحت الأرض وتعيش بها في ظلماتها، وأنا كان لي النصيب الأكبر من تلك النكبة، نكبة الحياة التي دوما ما تُصيبني، تجعلني غير قادرة على الحراك، فقط أبدو وكأني جثة هامدة لا حول لي ولا قوة، أعجز دوماً عن الحديث، ولكن هذه المفكرة التي أكتب فيها جزء لا يتجزأ مني؛ فقط هي الوحيدة التي تعرف دواخلي، فأنا أمامها كما ولدتني أمي، ورقة شفافة مفضوحٌ دواخلها، اللعنة عليكِ يا بئر أسراري، إلى متى سأظل صامتة؟ إلى متى سيظل العناء هذا من الخارج وداخلي حصون تتساقط واحد تلو الآخر، أتتأملين صديقتي من كون دموعي قد هطلت عليكِ غصباً، فما بالكِ بي أيتها الصماء عندما أنوح وأنا غير قادرة على التمرد للثانية، أعلم يقينا أنه إن فكرت في ذلك بالتأكيد لن تجدي أحد يعبث معكِ، يمنحك من روحه وذكرياته المتألمة، ولكن يا للعجب أشعر وكأنكِ سوف ترتاحي مني بالفعل، لا تحاول التمرد على أنه إن أتيحت لكِ الفرصة من الهروب مني لن تفعلي، لا يا عزيزتي أنا على يقين بأنك ستفعلين، لن أحزن منكِ حتى لو فعلت هذا، ففي تلك الحياة الراحة صعبة، والسعادة أصعب وأصعب، لذا أنا لا ألومك ولكن رجائي لكِ ألا تتركيني وحيدة، لا تتركيني أعيش في ظلمة نفسي الحالكة التي أود الهروب منها، وأنت مهربي الوحيد، أنتِ مأمني وملاذي، أنتِ الصديقة التي لن تبوح بسري، ولا بأملي، ولا شقائي، آخر ما أود قوله لكِ صديقتي أنه رغم كل ذلك، رغم تعبي لم أحزن فأعلم أن الدنيا شقاء، ولكن مقدار ألمي وكسرة روحي أنه من كان لهم أن يقفوا في ظهري كانوا أول من نهشت يداهم في روحي، إنهم أخوتي الذين أصابوا روحي بظلمة أتمنى أن أقدر على أن أتحرر منها يوماً"
انتهت من كتابة مذكراتها في اليوم الذي لم تعرف عدده بعد، لم تجد إلا في تلك الوريقات الصامتة صديق وفي ينصت لها دون أن يبدي برأيه أو يستهزأ بوجعها الذي لا ينفك أن يزول، تهدلت أجفانها حتى انضبت على محيط عيناها الزرقاء تخفيهما، وكأنها تخفي محيط البحر الثائر خلف ستار الظلام، بل هو ستار حزنها التي تدعو الله كل ثانيةٍ أن يُزاح من على عاتقها، أطبقت على جفناها بقوةٍ وكأنها تمنعهما عن ممارسة طقس أصبحت تمقته أشد المقت، إلا أن ذلك الكريه أصر على كراهته وهطلت دموعها تفضح حزنها الصامت الذي كانت تواسيه فقط مذاكرتها، حاولت نفض دموعها تلك سريعاً، لعل سرها الذي لا يمت للأسرار بصلة ألا ينكشف، أقرت حقيقة في نفسها أنها لن تقبل أوجاعاً من جديد، فقد وصل بها المرار أقصاه إلى هنا، كفاها إلى الآن، نفضت دموعها عن خديها الذي ظهر بهما وديان الحزن القاحلة، حاولت تعمير ملامحها المُعدمة بإزالة تلك الدمعات البغيضة عن وجههاـ حاولت أن تتصنع الابتسامة على وجهها، جاهدت بأقصى طريقة برسمها، ولكنها كم توقعت باهتة لا حياة فيها وكأن أحدهم يطلب منها الابتسامة داخل القبور بين الأموات.
نفضت شراشف الفراش عن نفسها، نفضت حزنها قليلاً، وطوت حزنها كما أخذت تطوي ذلك الفراش وتهندمه، ومع كل محاولة تجاهد أن تلملم بقايا نفسها الضائعة بلا حول ولا قوةٍ، حبست أنفاسها داخل صدرها وهي تنتهي من نظافة غرفتها، وقفت بشموخ ينافي انكسار دواخلها، ولكنها توقفت بجمود حينما سمعت صوت يتحدث من خلفها قائلاً:
_آنستي الجميلة، الفطور جاهز قبل أن تذهبي إلى المشفى عند والدك لقد اتصل وطلبك هذا الصباح.
استدارت تنظر إلى تلك السيدة التي تجاوز عمرها الخمسين عاماً، تجاعيد وجهها المرسومة، والبسمة التي تخط خطوطها لتمحي تلك التجاعيد تمنحها سعادةً لا توصف، اقتربت من السيدة وقالت وهي تربت على كتفها:
_حاضر دادة جميلة، أنا قادمة خلفك، فقط أبدل ملابسي وسآتي خلفك.
ضحكت تلك السيدة بصخب ورددت بمحاولة لسحب الطاقة سلبية داخلها قائلة:
_أوه آنستي، أنتِ قلتِ تبدلين ثيابك وتصلين، والله لو كان بمقدورك فعلها أن تعتكفي طوال اليوم بل عمرك بين يدي الله لفعلتِ.
نكست ملك رأسها بحزن، والدموع عادت تغزو وجهها من جديد هامسة:
_إن ذلك المكان هو مأمني دادة جميلة، أنا بين يدي من خلقني، من لن يلفظني قط، من لن يقول لي سارقة وأنا والله ما سرقت شيء، إن نظروا لي سيجدون أني من سُرق منها الكثير، هنا فقط يمكنني الشكوى دون أن يحاول أحدهم أسر لساني داخل قفص محكمة أسبابه أبغض من القفص نفسه.
لم تجد تلك السيدة ما يمكن أن تُجيب به تلك الفتاة الصغيرة وهي تعلم تمام العلم ما تمر به، إنها على يقين أن تلك الفتاة الجميلة ليس لها ذنباً مما يرمون عليها، فقد كانت ضحية من بين كثير من الضحايا، وكذلك لم يرعوها إنما أخذ كل واحد منهم دور القاضي والجلاد عليها، أعادت كرة ربتها على يدها وكأنها تواسيها في محنتها، رحلت من أمامها وداخلها أحاديث كثيرة متخوفة، فهي تعلم جيدا أن حالة السيد محمود سيئة جداً، ربما تكون أيام يقضيها في تلك الدنيا، أما هي فكانت على يقين أن من سيُعاني من تلك الأزمة هي تلك الفتاة التي لم تتخطى سنوات عمرها العشرين، دعت لها في سرها أن يحفظها الله و يُعينها على ما ستراه هذه الأيام، أدارت رأسها لها قبل أن تنصرف من أمامها، منحتها نظرة تواسي بها أيامها المقبلة، ثم أدارت رأسه صوب الرحيل.
بعد رحيل جميلة تحركت ملك من مكان وقوفها ثم ذهبت إلى المرحاض، أخذت تبدل ملابسها لملابس صلاتها تُسمي ثم بعد تبدأ وضوئها، مر وقت ليس بالطويل وليس قصيراً كذلك، انتهت مما كانت تفعله، خرجت من مرحاضها وهي تجذب سجادة الصلاة لتقف بعد ذلك بين يدي الله، وقفت في خشوع تام، وبعدها لا إراديا أخذت تنتحب حتى تحول انتحابها الصامت إلى بكاءٍ حار وسط صلاتها، وكأنها تشكو عجزها وقلة حيلتها إلى الله، وكل سجود كلن يعلو صوت البكاء، ويظم ضعفها، وتتهدم قواها التي تصنعها أمام الجميع، ولكنها هنا كانت عاجزة على إبقاء حصونها مُقامة، أخذت تترد أدعية في سجودها
"اللهم إني أمتك الضعيفة فاجعل من ضعفي وقلة حيلتي وصبري جزاء حسن يرضيني عما عانيته في تلك الحياة، اللهم إنك أنت القوي العزيز الجبار، فأعطني بعضاً من القوة، ,أعزني بين من أرادوا زلي، وارزقني جبرك ومن يجبر كسوري، اللهم إني راضية بما عانيته، فجازني الخير على ما صبرت عليه"
توقفت عن الدعاء وكأن أنفاسها الأخرى توقفت عن الشهيق والزفير وكأنها فارقت الحياة، ظلت بذلك الضعف والتذلل لفترة طويلة لا تعلم كم مر، ولكنها هنا فقط وجدت الراحة، أًبحت على يقين بأن أياً كان الضعف سيمنحها الله قوة لا مثيل لها، نهضت من سجودها للتشهد، ولكنها هنا رمت كل انكسارٍ من روحها خلفها، وكأنها طفل ولدي اليوم وسيواجه حياته اليوم، انهت صلاتها بعد وقتٍ طويل قضته بين يدي الله، وبعدما فرغت وضعت سجادتها في مكانها الصحيح، ومن ثم بدلت ثيابها بأخرى لكي تخرج للذهاب إلى والدها في المستشفى، كانت على مقربة من باب غرفتها ولكنها وقفت في مكانها حينما سمعت إلى صوت طائر يُغرد على شرفتها، جذبها إليه بصوتها، وكأنه يثير بداخلها مشاعر حقيقة كانت طمرتها الظروف، هرولت إليه وهي تتأمله لوقتٍ قصير تسرق فيه السعادة من فم الدنيا، ولكنه كطائر حر أبى أن يغرد في مكان واحد، ولكنه أسرع في الأفق، يشدو بصوته وكأنه يرسل إلى الدنيا معاني السلام والحرية.
أطلقت زفراتها وحررتها هي الأخرى، ابتلعت أنفاسها، ورسمت قناع القوة الواهي على وجهها، وشرعت في نزول درجات السلم الداخلي، وداخلها يتمنى ألا يكون سر شقائها وتعاستها بالأسفل، ولكن ربما الحظ لم يكن حليفاً لها، إذ استمعت إلى أصواته أسفل في غرفة المعيشة، ابتلعت أنفاسها، وأخذت في التقدم حتى وقفت على باب الغرفة تنظر بعين دائرة حول الجالسين.
شرعت عيناها تدور في فلكٍ غير محدود وهي تراقب الجالسين حولي الطاولة، نظراتهم المشتعلة بلهيب تعلمه جيداً أسرت بداخلها رغبة تحثها على الفرار من بينهم، فقد علمت من بريق أعينهم النارية أنها غارقة لا محال، ابتلعت ريقها واستجمعت أنفاسها وهي تخطو أول خطواتها تجاه الطاولة، سارت بضعة خطوات هادئة حتى توقفت قرب الطاولة، وقفت جوار أكثر الشخوص الموجودين نارية عينيه تقتلها، ابتلعت توترها وأنفاسها المضطربة وهي تراقب نظراته التي تلتهمها، وتمنح للرهبة الداخلية الأذن في أن تبوح في ذاتها أمامه، ولكنها جمدتها داخلها، استدارت حتى تكون قابلته تماماً، تعمقت بنظراتها في عينيه وقالت:
_نعم خالد، ماذا تُريد؟
ترك الطعام من فمه، رمقها بنظرة كارهة وهو يقول من تحت أسنانه:
_اجلسي لتأكلي بالسم، وتذهبين إلى المشفى مع السائق، لأن أبي يُريد رؤيتك، وبعدها تعودين إلى هنا دون أن تذهبي هنا أو هناك.
تأملت نظراته التي تبوح بضغينة تعلم جيداً أنها لا تملك فيها ناقة ولا جمل، ولا بيدها سبب كرههم هذا لها، أشاحت ببصرها وهي تتجه صوب مكانها المعتاد في أبعد مكان على الطاولة، فهي ليس لها مكان بين الجالسين، ثلاثة أخوةٍ تعلم جيداً أنها ليس لها مكان محبة في قلوبهم، ابتلعت تلك الغصة المؤلمة التي استباحت قلبها، اتجهت صوب المكان النائية على الطاولة، جلست على كرسيها، أخذت تتفقد الطعام الموضوع أمامها ودون إرادة منها شعرت بدموعها تتدفق من عينها تأخذ مسارها على خدها، نفضتها بسرعة قبل أن يعلم بها الجميع ويسخروا من ضعفها كم يروها، فهم لا يعرفون أن ذلك البكاء ما هو إلا بكاء على أحبة لم تعرف قلوبهم الحب لها يوماً، تناولت بعة لقيمات قليلة ومن ثُم نهضت متوجهة لأبيها بالمستشفى الراقد به، ولم يوقفها أحد للحديث معها فقد اكتفت من النظرات المُهلكة لها، وعلى ما استطاعت الصبر صبرت وبعدها خرجت.
خرجت ملك من غرفة الطعام وكلها يقين أنها الوحيدة المتألمة في ذلك المكان، حينما كانت جالسة لم تعبأ بنظرات الجالسين غير نظرات أخوتها، ولكن على الطاولة ذاتها كان البؤس هيمن على وجوه أخرى لا تسطيع البوح بحزنها في ذلك المجلس اللعين الذي باتت تكرهه أشد الكره، ولكن ذلك القلب اللعين هو من يصر عليها بالصمود، شرعت في لعن ذلك الحب الذي بدأ يضعف من ذاتها وصمودها، يحطم من كبرياء أنوثتها المخملية الراقية، وطباعها الهادئة التي بدأت تتحول تدريجياً إلى فوضى عارمة ولكنها مأسورة بداخلها عاجزة على أن تحررها، رمقت الجالسين بنظرات كارهة حاقدة، حتى ذلك الذي يرأس الطاولة وعيناه السوداء كالليل يشتد سوادها أكثر، أزاحت بصرها عنه تراقب طفلها الوحيد الذي انجبته بعد عناء شديد يتناول طعامه، حزنت عندما تذكرت أنه بات من الضعيف أن تنجب أطفال غيره بعد أن تضرر رحمها بعد ولادة صغيرها أيهم خالد الدمنهوري، تأملته ببسمة صافية وهو يتناول طعامه بهدوء، إنه الصغير الذي هدمت كبريائها من أجله، أزاحت بصرها عنه وأعادته إلى الجالس يترأس الطاولة من جديد، حاولت الصمت ولكنها لن تستطيع من الآن، زفرت أنفاسها الغاضبة وهي تردد بحدة بدت في صوتها جيداً:
_إلى متي ستظل هكذا خالد؟ إلى متى ستظل تعامل أختك الصغيرة بذنبٍ لا يد لها فيه؟ المفروض أنك الكبير، السند، الأب، وبعدها يأتي كونك الأخ أين أنتَ مما هي فيه؟ أين أنتَ من معاملتك تلك؟ قل لي ما ذنبها تلك الصغيرة؟
ألقت بعض مما في جوفها، ورفعت بصرها صوبه تراقب تعابير وجهه، وجدتها جامدة كما هي، لا حياة فيها، وجه جليدي متجمد بكراهية لتلك الفتاة التي لا تعلم ما ذنبها، أدارت بصرها تتطلع إلى الضلعين الباقيين من مثلث القوة والسند وجدتهم بنفس الجمود الذي هو عليه، بل كان هو أشد قسوة منهم أجمعين على تلك الفتاة التي لا تعرف ما فعلت في تلك الحياة، لم تقدر على الصبر أكثر من ذلك، نهضت من مجلسها وهي تضرب على الطاولة بغضبٍ بيديها، وقالت بصوتٍ عالٍ:
_ماذا تنتظر خالد؟ أتنتظر أن يكون ولدك بنفس القوة التي أنتَ عليها؟ أتعلم لما حرنا الله من أطفال آخرين رغم أنه لا مانع؟
كانت كلماتها تلك كفيلة جذب انتباهه إليها، فكم كان يطوق أن يصبح لها أطفالاً كثيرين من محبوبته، ورفيقة روحه، رفع بصره لها وكأنه ينتظر الجواب الذي ربما يشفي ضير قلبه البائس، ولكن إجابتها جاءت بما ربما سيقضي على أي قوةٍ داخله:
_ربما لأن الله أراد الرحمة لنا مما تفعل، ربما لأن الله يرحمنا بألا يفعل أيهم بأخوته، أو بنا ما تفعله أنتَ في أختك اليتيمة التي تزيد أنتَ وأخوتك من يتمها وقهرها.
كادت أن تتحرك من مكانها، ولكنها توقفت حينما سمعت صوت آخر غير صوت زوجها يرد عليها متهكماً على حديثها بكل جمود وصلفاء:
_وماذا تعلمين أنتِ يا زوجة أخي عما عشنا به أنا وأخوتي؟ هل عانيتِ أنتِ أو ابنك مما عانينا منه نحن؟ هل عانت ولدتك مع والدك الذي هجرها أعواماً من أجل امرأةٍ أخرى يا ابنة الحسب والنسب؟ أنت ما شاء الله عشتِ في عائلة رائعة متحابة والدك جوار والدتك، ولكن ماذا عنا نحن؟
كادت أن ترد عليه، ولكنها توقفت حينما سمعت زوجته ترد عليها بكل تكبر وعنجهية كاذبة:
_ماذا هناك سيدة أميرة، هل دفع لكِ أحدهم حتى تدافعي عنها، المفروض تكون جوار زوجك وتتجنبيها، ألم تتعلمي أن طاعة الزوج واجبة.
استدارت لهم من جديد وهي تتطلع لها، تعلم كل شيءٍ عن تلك الشمطاء الكاذبة جيداً، لا تعيرها انتباه، ولكن بصرها وقف غصباً لدى الثنائي الصامت اللذان اعتكف بعيداً عما يدور في تلك الساحة الملحمية من كره، فهم دائما على وضعية المتفرج ولا يشتركون في أي حديث يُعلن فيما يخص أخته وزوجته صامتة كذلك، بعدت عينها عنهم، وأعادته إلى تلك الشمطاء كما اسمتها ونعتتها بالساحرة الشريرة، وردت عليها بتهكمٍ واضح:
_طاعة زوجي فيما يُرضي الله، وليس طاعته في شر إن علم حقيقته لتمنى أن تُأخذ روحه الآن، الزوجة تأخذ بيد زوجها للصواب لا للضلال كما تفعلين سيدة علا.
اقتربت من زوجها حتى أصبحت أمامه مباشرةً، أمعنت النظر في عينه، وجدتها مازالت كما هي، وكأنها بحديثها لا تثير فضوله، ولكنها قررت أن تضع البنزين جوار النار:
_أنا حقاً آسفة عليكَ خالد، أتعلم لما؟!
نظرت إليه وجدت لمحة من الفضول تخللت عيناه وهو يراقبها، فأخذت تجيب على ما طرحته بلسانها:
_رُغم إنك أكبر أبناء تلك العائلة وأكثرهم حناناً وانتماءً لها، إلا أنك دوماً ما تُخدع تحت سبيل الحب والعائلة والانتماء، تلك العائلة خدعتك، بل زيفت ماضٍ بائس ربما أنت تكون على علماً به ولكنك تجاهلته، وضعت على عينك عصبة سواد أفقدتك ابصر، وجعلتك تنسى ماضيك الذي بالتأكيد ستجد فيه جواباً على كل شيءٍ، ولكنك أحببت الدور الذي تعيش فيه، وذلك الوعد اللعين الذي أسرك بأصفاد من حديد تملك مفتاحها ولا تعلم جوابها.
كانت قد اتخذت قرار الرحيل، ولكنها توقفت مرة أخرى وقالت بآخر شيءٍ قبل الرحيل:
_أنت تعلم جيداً سبب زواج والدك الآخر، ولكنك تصر على أن تكون ضحية، آه آخر شيءٍ أود قوله أنا ذاهبة إلى منزلنا، كما تعلم زفاف أخي غداً، سأذهب وأبيت هناك، لقد أخذت أذنك مُسبقاً، ويجب عليّ تذكيرك.
رحلت من أمامه بعد أن هز رأسه لها يمنحها الأذن بالرحيل، ألقت بجمراتها النارية كلمات جعلت القلوب تشتعل وهي تبحث عن إجابة لذلك السر البغيض الذي قالته منذ قليل، لا أحد يُصدق أن ما عاشوه ربما يكون أكذوبة حلها الوحيد عنده، وللكن هل للدب الصامت أن ينطق، انسحب من أمام الجميع وهو يتجه إلى الداخل، بعدما راقب زوجته وهي تحمل أغراضها للذهاب إلى بيت عائلتها، انصرف من المجلس بعدما رأى التساؤلات تطيح بعين أخيه الصغير، هو يعلم أنه لن يقدر على أن يجيب على أحدهم الآن، هرع بسرعةٍ إلى غرفته يهرب من الفوضى التي أحدثتها زوجته قبل الرحيل، لا يعلم أعليه أن يلومها، أما يشكرها على ذلك التقدير، ولكنه لن يقدر على أن يفعل أكثر من ذلك، هو يشعر أنه مقيد بذلك الوعد الذي أخذته أمه عليه صغيراً، وعليه أن يلتزم به وهو كبيراً، شعر الآن أنه بمتاهةٍ كبيرة لا يعلم أسيكون قادر على الخروج منها أم لن يكون بقادرٍ.
نعم لم يزداد القتلة قتيلاً، ولا الموتة ميتاً، وإنما زادت القلوب إرهاقاً، والنفس تزهق، والروح تُسلب بكل إقتدار، قد فر من أمامهم بكل قدرةٍ عندما أدرك جيداً أنه لن يكون بقادرٍ على الإجابة عن أي سؤال سوف يطرح، وكم هو بعالمٍ عن الاسئلة التي ستتوافد على ذهنه، وهو الآن لا يملك جواباً لها، زوجته باحت بشيء لا يعلمه مطلقاً، وهي تبدو له بعالمة عن كل شيء حدث وكأن سنوات عمرها المنصرمة قضتها بينهم، لا يعلم من أين علمت بوعده لأمه، هو نفسه لم يبح بذلك السر مطلقاً لأحدهم، فكيف علمت هي، هو لا يدرك حقيقةً مجردة، عندما أهلكته الاسئلة التي باح عقله بها ولى هارباً بكل جزعٍ، يأسر نفسه داخل صومعته التي دوماً ما يكون متمكناً من أسرها.
*********