سر الختمة الحلقة الرابعة

تابع عزيز أحد الفلاحين وهو يقوم بأعمال الزراعة ..... تذكر حينها محمد سر الختمة في شبابة... وهو يُفلح أرضه وكم كان شاباً مستقيماً ومسالماً ..هناك في أرض عائلة سر الختمة كان يرى
منصور و محمد في مشاهد مختلفة... يعملون ..، ويعزقون الأرض بالفؤوس..، ويبدرون الأرض ويرونها..
شاهد في الذكريات منصور يصلي جماعة بجانب حفيده محمد في الحقل ....
وشاهد محمد في موقف آخر.. سارحاً بخياله في السماء واضعاً رأسه على أرجل منصور وهو يرتل آيات من القرآن ..وشاهده أيضا وهو يعمل في الأرض وحده ...ومنصور يدخل عليه بطعام موضوع في مشنة ، والمشنة ملفوفة في منديل كبير ليسهل حملها في اليد ( المشنة طبق كبير من الخوص) وضعها منصور على الأرض وأخذ يحل المنديل ....

المشنة بها العسل والجبن القديم وبعض التمر .. يخلي منصور المشنة ويضع كل الطعام على المنديل :

_كيفك يا محِمد يا ولدي .

_نحمد ربنا ونشكر فضله ياچد .

منصور ينحني على ركبتيه ليكون في مستوي طول محمد واضعاً يده على كتفي محمد :

_ أنا ماعيزش حديت أمك إللي مالوش أخر يلاجي في راسك مكان يطوف فيه أو يحُط ولو لساعة .. الفكر فالتار مابيچيش من وراه غير الدم وإراجة الدم يا ولدي يعني خراب الأرواح ، وخرابها يعني الموت و موت الروح للحي أشج ألف مرة من موت البدن .. واعي للحديت يا محِمد ؟

"محمد يهز رأسه بالموافقة"

_واعي يا چد .


يقوم منصور واضعاً المشنة في ماء النيل .. ثم يرفعها فإذا بها إمتلأت بأسماك كثيرة تتحرك أخذ يقفز بعضها في الماء مرة أخرى ... في حين كان محمد يأخذ فأسه ويفلح الأرض... هناك كان طوسون من أرضة يتابعهم بعينه من على بعد كضبع يتوارى من فريسته قبل مباغتتها ....
.......................................

كم تمنى عزيز باشا أن يكون هناك ويقضي على طوسون ، كم تمنى أن يغير القدر ... ولكن قدر الله نافذ لا محالة... دارت ساقية الزمن ، ومرت إثنتا عشرة عامًا ..، محمد أصبح فيها شاباً قوي البنية متناسق الجسم .. ووجهه قد لفحته الشمس .. كان كما كان يفلح الأرض بفأسه .. كما دارت ساقية عمر منصور هو الأخر فأصبح كهلاً قد طالت لحيته..، وإزدادت بياضاً .... لقد ترك عليه الزمن أثاره بكل قسوة .... إقترب منصور أكثر من محمد مناديا :

_محِمد يا ولدي.

محمد( فرحا وبصوت منخفض وإبتسامة كمن يحدث نفسه )

_چدي .

وقف منصور وأعطى لمحمد الطعام

منصور( بتعب):

_خد يا ولدي چبتلك الوكل أهاه.

محمد( مبتسما ):

_ بس أنا واخد على خطري منيك يا چد .. إكده تناساني في الوكل لحد مابجينا جُرب الضهر .

_ ممشى الشابع على الجايع بطي يا محِمد ...حجك عليا يا ولدي .. أُعذرني أني جاعد إهناك في الضل ومش حاسس بجوعك إهنه.

_ ياچد أنا فداك... ربنا مايحرمني منيك أبداً وحج الله بضحك وياك .

إنحنى محمد يقبل يد منصور ومنصور يربت على كتفه.
................................

( منزل سر الختمة)

الخالة فضة جالسة في الدوار أمام الفرن تخبز و قد أصبحت أكبر في العمر ، والشيخ منصور جالساً على المصطبة يسبح على أصابعه كما هي عادته ، و محمد جالس على المصطبة المقابلة .


منصور( بإبتسامة):
_مش أن الأوان يا فضة نخلي محِمد يتأهل .

(ينظر منصور لمحمد ومحمد يبتسم)

فضة (بسعادة):

_بتمنى اليوم إللي أشوفَه فيه عريس .... ودساله بدل الجرش خمسمية ... داه اليوم إللي بتراچاه من الدنيا ، وعنيا وجلبي مختار له بت زينة ومن توبنا.

محمد (بشغف):

_ وتُبجى مين دي يا ماي ، أوعي تكون بت طوسون.

فضة (غاضبة) :
_إمشي.

يضحك محمد ومنصور بشدة

فضة (بسعادة) :

لاه دي ست البِنته ... رشيدة بت خالك الزيني الله يرحمو ويحسن إليه.

رد محمد والشيخ منصور في نفس واحد:
_ رحمة الله عليه.

_ بِنيته زينة وچميلة ... البدر يختشي يطُل فوچودها.

محمد يبتسم في خجل ومنصور سعيد بالكلام

منصور :

_على بركة الله مبروك مُجدما يا ولدي ربنا يفرحك ويعطيك الذرية الصالحة .

محمد في سعادة وخجل :

_ تعيش يا سيد .

يقوم محمد مبتسماً ... يجلس بجانب فضة ويقبل يديها وهي تنظر في عينه

_ مبروك يا ولدي وعُجبال الفرحة الكَبيرة يوم ماتلمِلي الطلج متعاص دم من چتت الفاچر.

نظر الشيخ منصور لمحمد بإستفهام يريد معرفة أثر الكلام عليه ، ومحمد مصدوم وقد تغيرت ملامحه... يلتفت لمنصور ويقشعر أنفه ثم يستدير لفضة يطيب بخاطرها ، ويقبل خدها ..ثم قام بلف ذراعه حولها يحتويها به :

_ماشي ماشي يا ماي ... روجي دمك ياغالية.. وإن شاء الله خير.

فضة تنظر له بإستنكار فيهزها محمد مداعباً إياها وذراعه لازال حولها ... تبتسم فضة وترمي الحطب داخل الفرن فتعلو النار أكثر وتتوهج.

...........................................

إستقل عزيز باشا سيارته حيث منزله ... وما أن دخل إلي غرفته حتي إرتمى على سريره كجثة هامده..، ولكن عقله لم يكف عن التفكير و إلتقاط الذكريات لعرس محمد الختم الذي كان داخل وخارج منزل الشيخ منصور ...

داخل البيت كانت الخالة فضة ، والنساء ومعهم رشيدة عروس محمد .. شابة فاتنة الجمال ورقيقة وجذابة ... كانوا جالسون يغنون ويصفقون ..، وعيون فضة على صورة زوجها محمود لا تغيب .. كانت تسرح فيها من وقت لأخر ... بينما بعض النسوة تطلق الزغاريد ...كانت بعض النساء توزع الطعام وأخريات يُقدمن الشربات ...

أمام منزل منصور كانت مظاهر الفرح ، مطرب بربابة يغني ... الإضاءة كانت مبهرة .. الكراسي الخشبية كانت كثيرة وكان يجلس عليها الرجال وأمامهم الطعام على صواني ضخمة بها أرز وبطاطس ودجاج ..مجموعة أخرى من الرجال تجلس منفردة ،وأمامهم أكثر من جوزة بلدي.. تتبادل كل مجموعة صغيرة منهم عليها تدخين الحشيش والأفيون مع زجاجات البيرة ..

كان هناك حصان عربي يرقص على المزمار.. بينما الأطفال الصغار فوق الكراسي الخشبية يرقصون ،ويلهون ويقفزون من فوقها ..محمد يقوم بالتحطيب مع أحد شباب القرية ثم يضرب محمد عصا الشاب ضربة قوية فتتطاير العصا لتقع أمام أقدام شخص ما جالس يتابع محمد ... ينظر محمد فيجد أن هذا الشخص هو طوسون الذي إبيضت بعض شعراته ، وتقدم بسيطا في العمر.. لكن يتمتع بكامل حيويته ، وإبنه نسيم الذي أصبح شابا يجلس إلى جواره ..

إبتسم طوسون لمحمد.. ومحمد ينظر له نظرة بائسة فيها كره مخفي .... إنحنى طوسون وأخذ العصا ينظر لها ثم يعطيها لنسيم وهو لم يحرك بصره من على محمد ...ثم وجه نظره ناحية نسيم وقام يرفع يده فتوقفت الموسيقي والغناء.

طوسون (بإبتسامة مصطنعة):
جوم يا نسيم يا ولدي حطب ويا أخوك .

كان منصور يتابع في غضب ويجز على أسنانه .. خرجت فضة للشباك مضطربة من توقف المزامير تتابع ما يحدث .. تظهر رشيدة بجانبها مع بعض النسوة خلفهم يشاهدن في إرتباك وترقب ..
ضغط نسيم على العصا بيد واحدة بعنف وهو يقوم من على كرسيه ... ليضع يده الأخرى على العصا..، ويضغط أكثر في تحفز .... يقف أمام محمد ثم يدورون حول بعضهم البعض..، و يشتبكون بالتحطيب .. قام الإثنان بالتحطيب بمهارة ... يضغط نسيم على محمد بقوة ويدفعه بقوة بعيداً عنه .... يقوم محمد بالهجوم مرة أخرى... يحطبون ثم يضغطون بالعصا على بعضهم البعض والجميع يتابع في ترقب...
كانت فضة منفعلة ، وكان نسيم يحاول أن يدفع محمد مرة أخرى فلا يستطيع ...
فقد كان محمد يستميت على العصا ثم دفع بعضهم الأخر ليبتعد الإثنان في وقت واحد.. يعودان للتحطيب..، وقد أظهر كل منهم مهارة فكانت بينهم النتيجة (سجال) .. تشتد كفة نسيم على محمد ..،ويضرب ضربات قوية كالبرق على عصا محمد فيرجع محمد للخلف وهو يصد ضربات نسيم حتي يلتصق بحائط .. يقفز محمد على مصطبة بجانب الحائط ليصبح أعلى من نسيم وهنا بدء محمد في ضرب نسيم من الأعلى بقوة جعلت طوسون يضطرب..

أظهر محمد قوة ومهارة جعلت نسيم يبتعد للخلف فقفز محمد عائدا للأرض مرة أخرى.... إبتعد نسيم أكثر حتى وصل لكرسي طوسون رفع نسيم عصاه وخفض رأسه .. أخذ يصد ضربات عصا محمد التي أصبحت أقوى وأعنف فجعلته ينحني على ركبتيه ..ومن خلفه طوسون الذي جحظت عيناه في حقد و غل ... أخذ يضغط محمد بعصاه ونسيم يقاوم ، ثم نزعها بسرعة وضرب عصا نسيم من الأسفل ... فطارت العصا من يد نسيم ... هلل الرجال وأطلقت فضة والنساء الزغاريد .. إبتسمت رشيدة في إعجاب تام ، وعادت الموسيقي والغناء..

كان طوسون يبتسم في مكر وينظر له الشيخ منصور خلسة في قلق ... بينما أخذ نسيم يمسح أثار التراب من على جلبابه ... نزل الخيال من على الحصان وطلب من محمد أن يمتطيه ..
إعتلى محمد الفرس وقام بالرقص به فهللت الرجال وصفقت حتى أنهى محمد رقصة الفرسان.. ودخل المنزل ليأخذ عروسته

فضة متهللة :
_مبروك يا محِمد يا ولدي ..مبروك يا حليوة يا أشجر.

محمد مبتسماً يُقبل يد أمه:

_تعيشي يا ماي يا ست الناس كِلتهم.

محمد( لعروسته مداعبا) ماداً يده إليها:

_ يلا يا عروسة ولا إنتي حابه الجعدة إهنه.

قامت رشيدة مبتسمه في خجل .. حملها محمد إلي غرفتها .. خلفهم صعدت فضة وإمرأة أخرى ... فأطلقت النساء كلهن الزغاريد ..

الرجال خارج المنزل يتابعون غزية ترقص ... فضة تخرج وبجوارها محمد وأحد النسوة من شرفة غرفة النوم..
ترمي فضة أمام الرجال بمنديل عليه أثار بقع دماء بكارة رشيدة ، ثم تزغرد وتتعالى زغاريد النساء في الأسفل بينما يضرب الرجال أعيرة نارية إحتفالاً بذلك .... يُخرج محمد مسدساً من جلبابه و يرُد ببعض الطلقات في الهواء يبتسم له منصور من الأسفل في سعادة غامرة
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي