28

أخبرتها ثنية أن ابنتها الكبيرة رباب تزوجت بعد سجنها بعام واحد. تزوجت في مكان هنا بالقرية من شاب مهذب لم توافق عليه عائلته في البداية بسبب سجن والدته.

دمرت والدتها بسجنها كل شئ. بعد زواج ابنتها. انتقلت مع زوجها للحياة بالقاهرة حيث وجد عمل جيد وبأجر أعلي مما كان يتقاضاه من عمله السابق. مرت عليها فترات قاسية في حياتها لأنها لم تتأقلم خاصةً في بداية الزواج. انتقالها للحياة في مجتمع مختلف تماماً عما كانت عليه. رغبت في الاستقرار هنا، ولكن ما باليد حيلة. ذهبت مع زوجها واستقرت بهما الحياة.
تأتي زيارات من وقت لآخر علي فترات متباعدة لم تنسي أخوتها وحياتها هنا. غيابك عنها ترك جرح غائر في قلبها لم تجدك بجوارها في أوقات كهذه. لم يجعلها تكون سعيدة يوم زفافها. أقام لها علوان بيه فرح ياست نجوي كبير وضخم.
أتي فيه الكثيرين من الاعيان والرجالات المهمةالتي تزوجت منهم ابنتك الثانية.
لم تلبث ان تستقر الحياة بعد سجنك. بات الجميع يعتبر البيت وساكنيه من رواد السجون ومخلفاتها التي لا ترد ولا تباع من الأساس. أرهق ذلك علوان بيه فتزوج من سلوي ابنته عائلة كبيرة تليق به وأيضاً تمحو عار السجن عن العايلة التي التصق بها. فلم يجد حل أمامه غير ذلك.
سلوي ربما مغرورة ومتكبرة لكنها لم تترك الفتيات قط. هي من ساعدت ابنتك الكبيره نرجس في كل اعدادات جهازها وتجهيزاته بأكملها لازمتها في كل شئ لم تتركها قط برغم انها ليست والدتها، ولكنها لم تتركها لحظة واحدة احتاجت لها فيها. عمدت نرجس إن ترد لها ذلك فدعمت وجودها بين الجميع ليس حباً ورداً لما فعلته معها فقط بل خوفاً علي اخوتها بعد زواجها خاصةً انها اكبرهن سناً.كانت رغم انها لم تتجاوز عامها السابع عشر متزنة ناضجة كثيراً ما بكت علي غيابك والرغبة بزيارتك لكن الجميع رفض خوفاً من السمعة والشبهة التي تلتصق به من جراء هذه الزيارة.

علمت كم مضي عليهن من سنوات قاسية دونك ولكن الله لم يتركهن قط. كانت سلوي تهتم بهم وترعاهم ليس فقط لما اعتراهم مش حزن بل اشفاق علي حالتهن وتقرباً لعلوان بيه. قصت ثنية كل ذلك علي نجوى وهي لاتعرف بما تجيب عليها كل ذلك مضي من العمر بعد ان سمعت كل هذا شعرت بالمشيب علي كل ما مضي من وقت وهي بعيدة وحيدة خلف القضبان بسبب قضايا عائلة علوان الذي تزوج عليها وتركها كالخادمة بالمنزل الذي كانت سيده ذات عمر مضي عليه الكثير.
كيف يمكن إن تعيد العمر الضائع؟ كيف تعود السنون؟ ومن يعيد السنون هل سيعيد من كانوا أجمل ما فيها؟ كم كانت الوقت سريعاً؟ كم مضي ولم يمضي بداخلها شئ؟
بعض الأوقات تشعر بأنك اخطئت اخطاء لا يمكنك تصحيحها ولا العدول عنها فهي قد حدثت، ولكن الأشد أسف هو الثمن الغالي الذي تدفعه مقابل هذا الخطأ. هذا ما يشعرك في كل مرة إنك اخطئت خطأ ستسدد فواتيره طوال ما بقي لك من الحياة.
الله يغفر لأنه الله، ولكن أياك إن تتوقع العفو من أحد غير الله. الله يغفر لأنه عفو رحيم كريم مهما فعلنا وارتكبنا من معاصي، ولكن الإنسان لا يغفر دائماً غفرانه ناقص إن كان يغفر من الأساس.
هل كان علينا أن نفكر جيداً في تلقي رد فعل كل تصرف أو سلوك ونراجعه جيداً ونقارن ونفكر وماذا لو؟
أنني لم أشعر يوماً بكم مضي من الوقت داخل السجن بقدر ما شعرت أنني سجنت في المجتمع بعد خروجي لا أحد يعبأ بي. كم أنني لستُ منهم ولن أكن يوماً منهم من قبل.
نحن قاسيون جداً حين نعاقب لا نرحم ولا نترك غيرنا يرحم ما إن يسن الجميع أسنانه للقتل والانتقام لا يمنعه أحد من هذا بل يتكاتفون ويتراصون بجواره لمساعدته.
لماذا دائما نفكر في الانتقام والظلم ولم نفكر في شعور الحزين المظلوم حين ينام باكياً قهر كل ليلة. اخطأت ولا أنكر أني اخطئت، ولكن حتي متي سأظل اعاقب علي هذا الخطأ؟ متي سنتراحم ونسامح ويغفر كل منا الآخرين؟ متي سوف نعلم اننا ربما نسقط في نفس الخطأ؟ متي سوف نذكر لبعضنا البعض شئياً لنصفح؟ هل كان لازم علينا ان نري بعضنا البعض علي حافة القبر لنغفر ونسامح؟ كيف نطلب من الآخرين الصفح ونحن لا نصفح ولا نغفر ذلك؟ كيف لنا إن نضل ونجهل إنسانيتنا لهذا الحد؟
لم يعد بيننا سبب واحد ولو كان صغير للصفح. سبب ولو صغير. موقف صغير فعلته يحتسب لي. يا لنا من طغاة جبابرة علي الجميع ومجاملون جاهلون علي أنفسنا. نواجه بعضنا البعض كل يوم ولا تستطيع تجاوز أبسط الذلات ولا أشدتها علي نفوسنا.«فويل للقاسية قلوبهم.»
دائما كنت اتعجب مما لا يستطيعون الصفح أبداً. لأنني حمقاء بمجرد مرور الوقت أنسي وأعفر ببساطة شديدة. بعد أن رأيت كل من حولي وما يفعلونه ببعضهم البعض أدركت إن قسوة القلوب لعنة تحل بعض البشر. هم وباء علي أنفسهم حين لا يستطيعون تجاوز بعض المواقف والأشخاص الذين داخل هذه المواقف وكل يوم يستيقظون وينامون وهم في اذهانهم هكذا.
أشعر وكأننا بدأنا نتنصل من إنسانيتنا شئ فشئ. وكأنه أصبحت الإنسانية جرم. أنت طيب القلب تستحق الشقفة. لم يعد هناك متسع من الوقت لنسامح ونعاتب ونلوم ولا فائدة من هذا ولا هم يتغيرون ولا نحن نتعلم.
كثيراً ما تمنيت إلا أكون في هذا الوقت من الزمن القاسي الذي كل ما فيها يمثل ضغط علي بعضه البعض بشدة وعنف.

بعد كل ما مضي من وقت ونضج الجميع ونضب معين الصبر حتي نهايته لم يعد هناك رغبة في شئ. أصبتُ بشيء في قلبي علوان تزوج أبناءي تغيروا شعرت بعدم القبول والتقبل لوجودي. فتياتي أصبحن يخشين مني. لا أجد مكان لي علي سطح هذه الأرض. برغم ان السجن عقاب إلا أنه كان أشد رحمة من كل هؤلاء علي وغضبهم الرهيب الذين يصبوه علي صبا. كم يلزم من الوقت للغفران والنسيان؟
جلست استمع لثنية عن نرجس كم باتت أمنية غالية رؤيتها وضمها. اتوهم لم استطيع ان اعانق من هم بجواري هل استطيع معانقة نرجس. كم تمنيت إن اموت وأرحل عنهم وعن هذه الحياة التي لم يعد بها شئ يجذبني لها ولا لأي أمل كاذب فيها.
بات الموت في نظري مساوياً للحياة والقبر مساوياً بالمنزل الذي أقيم فيه. لم بعد هناك سبب واحد يدفعني للحياة والبقاء بها. كم طعنت طعنة نافذة في القلب. أشد ما يكون هو صفعة الخذلان ووقعها علي النفس. قضيت هذه الليلة مع ثنية حتي النوم قررت النوم عندها. عوضاً عن الحياة معهم جميعاً. أعتبرتها ابنتي التي لم انجبها.
بات لون الحياة باهت والقلب ملبد بالخذلان من كل من حولي. اعتكفت في حجرة ثنية لم أخرج واتركها لا مكان لي في هذا المنزل وتلك القلوب إلا حجرة ثنية والخادمات. لم بفرق غيابي من حضورى فقد اعتادوا علي المقعد الفارغ علي المائدة عفواً أقصد ما قد كان فارغاً من قبل إن تأتي سلوي وتملأ كل فراغات المنزل بحضورها الآخاذ.
جلست مع ثنية لتخبرني عن ابنتي الاخري نرمين التي تزوجت من ابن رجل مهم من عائلة سلوي وتقيم في بداية البلدة وتأتي من حين لآخر لزيارتنا هنا وانها منذ إن وضعت طفلها الأول محمود لم تأتي كثير إلينا. بهجت بأخبار نرمين وانه أصبح لي حفيد صغير يدعي محمود. تزوجت نرمين من رجل يعمل ابيه مدير الأمن وهو موظف ثقيل في أحدي الأماكن. ذو نفوذ وسلطة ومال وجمال، ولكنه صعب الميراس وقد يكون عصبي بعض الأحيان فقد حدث في أحد المرات إن جاءت نرمين غاضبة منه وضجر علوان بيه وارسل إليه وحل المشكلة وعادت معه إلي بيتها. تأتي هنا علي فترات بعيدة وتهاتف دائماً سلوي فهي تساعدها علي زوجها وتسدي لها بعض النصائح والتعليمات التي بحاجة إليها.
مضت الليلة والثانية والعاشرة ولم يهتم أحد بغياب نجوي بالمنزل حتي جاءت نرمين لزيارتهم ذات مساء. ما إن جلست وتحدثت مع أخوتها حتي اخبروها بقدوم أبنتها والدتها وانهم لا يعرفون أين ذهبت فقد اختفت منذ عدة أيام عن الأنظار. وقفت بكل غضب تصرخ فيهم جميعاً علي ما قالوه لها وانهم لم يقدرون قيمة رجوعها وعودتها.
هبطت للأسفل تسأل عنها ثنية فأخذتها إليها والجميع خلفها ماعدا والدها وسلوي. جلست تحتضن وتقبل والدتها التي لم تتوقع منها هذا الترحاب والبهجة في اللقاء. جلست وجلس الجميع من حولها وتحدثوا كثيراً معها والدتها التي ذكرتهم بها نرمين وهاتفوا نرجس يخبروها بما حدث وقررت إن تأتي في أقرب وقت للوضع هناك فقط يستقر الحمل أولاً.
عادت السعادة والحب بقدوم نرمين ولم تنسي ما فعلته ثنية مع والدتها وجلست تتحدث إليها وأعطتها الكثير من الأموال جراء فعلتها. واخذت والدتها واعدت لها فراش خاص بها لتنام فيه بحجرة تنام فيها هي معها وامتلا المنزل بهجة وحب بعد السنوات العجاف التي قضاها الجميع.
انتهت القصة بعد ان طرقت نرمين علي قلوب وعقول اخوتها تذكرهم بفضل والدتهم عليهم ومهما فعلت فهمي والدتهم ولا بديل وتغيير في ذلك. جاءت تجلس مع الجميع وتتحدث إليهم بحب وحنان كم كانت في أشد الحاجه لقدوم نرمين ولا فعلته وأدخلت البهجة علي قلوبهم.
وضعوا التلفاز في منتصف الحجرة والطعام والمياه الغازية احتفاء بعودة نجوي. وبدات جلسات السمر المعتادة بينهم. جلست نجوي تحمل محمود وهي في غاية الفرح والسعادة بأنها تحمل حفيدها مع بهجة؟ الجميع من حولها وتحدثوا كثيراً معها والضحك عما المكان من حولها فجاءت نرمين بسلوي فهي لها فضل عليهن في غيابها ولا حق لهم في تركها بمفردها هكذا.
اجتمعنا حول مائدة واحدة وتعالت الأحاديث والصيحات والدفء الأسري.
أخرجت أمي من ذهبها خاتم كبير الحجم أعطته لي تعبيراً الحب وتعويضاً لغيابها لفترة مهمة عنا. انقضي الاجتماع بقدوم أبي وكل ذهب لموضعه إلا أنا وأمي قضينا الليل بأكمله نتحدث حتي ينام محمود، ولكنه لم ينام. تأخر الوقت كثيراً ومحمود يعبث بيديه في قدميه وكأنه في عالم آخر بعيداً عنه.
أجمل مراحل عمرية يمر بها الفرد هي مرحلة الطفولة و ما فيها من سذاجة وبراءة وعبث ولعب. لم يكن يشغل عقلنا شئياً ولا أحد يعبأ بنا مهما فعلنا من أخطاء اما بمجرد إن تكبر يبدأ عداد الاخطاء يعمل يحصون عليك كل خطوة. بتُ أحمد الله أن افكارنا داخل عقلنا إلا حاسبنا الناس عليها بشدة وعنف ودون أدني رحمة.
أصبحت أعلم كنه كل ما حولي فلم يشغلني أي شئ أو أحد كل ما بتُ أريده هو أن يكبر محمود ويعيش حياة سعيدة ممتليء بالبهجة والأمل. لم يعد ما مضي بكل تفاصيله يأخذ حيز ولو صغير من تفكيري أو طاقتي وأقبالي علي الحياة.
بعد ميلاد محمود وزواجي اختلفت نظرتي لكل من حولي لم يعد يشغل عقلي الكثير الغير مهم لا بشر ولا مال. زوجي يعمل والحياة تمضي فهما هو ما يعرقل سيرها لا أحد فلما نحن نعرقل أنفسنا بأنفسنا!
هل خلقنا لنحي ما بها من الم؟ هل لا تستقر وتستقيم لنا؟ هل تدوم لأحد؟ لا أذن لما نشغل عقولنا بغيبيات في علم الله عز وجل فقط؟
قضاء الله وقدره واقعاً لا محالة. مهما تأخر وتعرقل كم نظن قضاء الله يمضي وفق مراد الله. لا اختلف إن الدعاء يغير الأقدار ويبدلها لأفضلها. حملت أمي محمود واخذت تغني له الأغنية الأشهر عند كل الأمهات « نينه هوه نينه هوه نام نام ياحمام وادبخلك جوزين حمام» وأنا اضحك مستمتعة باستعادة ذكريات جميلة معها.
الذكريات لا تموت بل تتجدد تخلق تعيش أكثر من أصحابها بكثير وكثير. يمكن إن نورثها من بعضنا البعض من كثرت أحاديثنا عنها ونحن في غاية الأستمتاع والانبهار بها.
كم ممتع التذكر ومراجعة شريط حيواتنا كل فترة خاصةً ذكرياته السعيدة البهية التي تجعل قلوبنا تتراقص من السعادة طرباً وانسجام مع ما نذكره.
يأتي لذهني شعور من وقت لآخر عن سبب الكثير من النوازل والخطوب التي نمر بها هل هي اختبار واختيار أم هي امتحان رباني بحت؟
بدأ الجميع ينتظر قدوم نرجس مع زوجها والاعدادات بالمنزل علي قدم وساق لقدومها لأنها سوف تقيم هنا حتي تضع. المنزل بأكمله علي أهبة الاستعداد تنظيف وعناية خاصةً الحجرة التي تقيم فيها. لم يترك أحد عمله حتي ينتهي من تنظيف المنزل وإعادة كل ما به لما كان عليه من قبل كما كان.
أصوات الحب واجراس السعادة شعرت انها بدأت تعاود القرع في منزلنا فاللهم بارك لنا فيما نحن فيه. لأجتماع العائلة وجمعتها لون مبهج يدخل السعادة للقلب والروح ومراجعة الذكريات والبهجة والحب. هل كان من الفترض إن يحدث كل هذا لتعود الحياة كما كانت بنا ونعود لهذه الجمعة العائلية. جاءت نرجس وصلت وجاء زوجها يحمل الحقائب كنا نعد الطعام للغذاء. جلسنا متحلقين حول المائدة وبدأت عملية الهجوم المسلح بالأيدي علي الطعام من كل حدب وصوب. سنت سكاكين اسناننا وبدأنا الحديث والطعام والضحك والسعادة والحياة تنبعث من كل المائدة من حولنا.
مرت علينا هذه الفترة هادئة هانئة اتمنى أن تدوم هكذا، ولكن سنة الحياة التبديل والتغيير المستمر لدوام الحياة.
جلست نرجس تروي لنا مواقفها الطريفة. وأمي تتأمل هذا الجمع في سعادة ثم نظرت تطلب من ثنية المبخرة خوفاً من الحسد أو وقوع شر ما. استجابت لها ثنية وأشعلت البخور واخذت تدور بها في المنزل بأكمله حتي لا تصيبنا العين. أخبرتنا نرجس بأن الطبيب طلب منها الراحة التامة في الحمل خاصةً انه لم يثبت لها حمل من قبل لذلك طلب منها توخي الحذر وتابعت مع طبيبة هنا كنت أذهب إليها وقت حمل محمود.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي