27

رأيت أمامي مشهد ثابت يحدث في كل ما حولي من وسائل الإعلام. رأيت فيه والدي في دور أحمد ذكي في زوجة رجل مهم وغيرهم الكثيرين الذين يمثلون فصيل والدي ودكتاتوريته.

بدأت أهتم بأن يمضي الوقت فقط دون إن أعرف كيف يمضي؟ ولا بأي حال وشكل ينتهي. وصلت لدرجة من الاكتئاب إن أكره الاستيقاظ كل يوم في الصباح وكأنه لا يوم ولا هدف وحلم في هذا اليوم. كل ما أصبحت أرغب فيه ان تمضي سنون العمر حتى دون طائل منها فقط أردتها تمضي ولا أحد ولا شئ يوقفها مهما حدث ومهما ساءت الأوضاع أكثر.

علمت شهد خطورة ما تمر به مريم وهو انعدام المعايير والرؤية وتشويش بسبب ما فعله والدها. الآن قد انطلق بها الركب ولا يمكن أن يعود فقد بعد به المسير وتعسرت العودة كما كانت.

لم تمهلنا الحياة فرصة الاستيعاب لكل ما يحدث بها وينعكس علينا. ما أنا علي يقين به هو أنه«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.» فمادام الله عز وجل يبتلينا أذن ففي مقدرتنا إن نتجاوز ما يحدث ربما نتغير داخلياً وخارجياً لم نعد كما كنا، ولكن حتماً سنتجاوز حطام الحياة ولا فيها من منعطفات قاسية ومنحدرات وعرة.

تركت الحياة شروخاً وفوالق ضخمة ملتهبة في نفوسنا، ولكن مهما استهلكت من طاقتنا وحياتنا فأنها حتماً ستمضي. إن استمرت يوماً أو قرن ستمضي الحياة ذاتها قائمة علي مبدأ التغيير وإن دامت لأحد ما كانت وصلت لنا هنا الآن.
ما يحدث معك ويشعرك إنك الوحيد الذي مررت به مر به غير الكثيرين. وتركوا من خلفهم دروس وقصص تدرس ولم يكونوا كمن مضي دون إن يترك آثر واضحاً.

جاءت سامية تخبرنا بأنها سوف تسافر وتتأخر هذه المرة كثيراً لأنها مريضة وسوف تجري أحدي العمليات الجراحية في الخارج. يبدو علي هيئتها الخوف والاضطراب الداخلي مما هي مقبلة عليه. أغلب مخاوفها ليست من الموت بل من عدم رؤيتها ابنها الذي أصبح الآن صبي كبير.
ربما إن التقي أحدهما بالآخر لم يعرفه بسبب كبرهما. فلم تبقي ملامح أحد كما كانت.

ولا بين مخاوف الجميع عليها تركت كل املاكها للجمعية إلا المحلات وبعض المال اللازم للعملية. جاءت ودعت الجميع في حزن وقهر عليها. آه من غدر الحياة وعبثها بنا. كم كانت سامية وردة وفتاة جميلة مزدهرة ابنة عائلة راقية يحدث لها ما حدث بسبب حسام. اه من الاعيب الحياة وصدماتها التي تجعلك تمر بأشياء تظن انها لن تمر بها يوماً.
الآن لم يعد شيئا جديد يختفي علينا أو لم نراه. ماذا يعد مبهراً في الحياة بعد إن رأينا كل مل فيها ومررنا به كمن يصعد قطار الموت علي أمل إن ينجو فإن نجي فقد عنصر الابهار وإن لم يصعد القطار ظل طوال حياته نادماً علي ما لم يراه.

انتظر الجميع في توجس وخيفة من قدوم أي اخبار عن سامية التي ذهبت لتجري عملية خارج مصر. هن قلقين عليه وهي قلقة علي ابنها الذي لم تراه بعد وكانت تطمح إن تراه قبل إن يحدث لها شئ ولا يمكنها رؤيته مرة أخرى قبل موتها.

الفصل 27
لم يتوان وهدان عن التراجع عن التخطيط عما شرع فيه وساعده علي ذلك سعد. رأي أمامه فرصة هروب سانحة لم لم لا يستغلها ويهرب؟
صعد علي السور الخارجي للسجن مع سعد ووقف للقفز في سيارة القمامة وبالفعل تم له ذلك، ولكن كاميرات المكان التقطته. فلم يتمكن من الهروب هو وسعد وأعادوهما للسجن مرة أخرى.
لم تتوقف محاولة وهدان عن التخطيط وتحين الفرص للهروب من هذا الجحيم. كلما تذكر زوجته وفتياته اللاتي منها. وانه لم ينجب ابن صبي يحمل اسمه.
استوقفني حديثه هل الابن الصبي يحمل اسمه والفتيات لا تحمله مثلا. أمر عجيب يحدث في عقول الرجال. تذكر تعنيفه الشديد لهن رغم صغر سنهن. لم يرحم ذلك.محاولات وهدان الدائمة للهرب كللت جميعها بالفشل الذريع. توقفه عن المحاولات بشكل نهائي بل حتي تغفل عنه عين الشرطة. حدث في السحن شجار مع سعد فتدخل وهدان لتهدأ الأمور فلم تهدأ. وتطورت لضرب واخرج أحدهما سكين رشقها في صدر وهدان. انفجرت الدماء وتحول السجن لنهر أحمر من شدة الدماء حول الجميع.
بدأ الطرق علي باب السجن حتي فتح الباب وتم نقله إلي المشفى. نزف الكثير من الدماء. وظل في حجرة العناية المركزة لوقت طويل. اخبرهم الطبيب بأنه لو مضت الأربع وعشرون ساعة علي خير لتمكن من النجاة. علي الجهة الأخرى في سجن النساء قبعن الثلاث نساء هناك وقت قاربت مدة السجن علي الانتهاء. هم كانوا يستقون علي سحر وهم ضعفاء ما عاشوه في السجن من ذل وقهر وبعد عن أبناءهم علمهن درس مهم في الحياة.
تجنبت كل منهن التدخل فيما لا يعنيها. مشكلات مع اهل زوجها ليس لها فيها باع ولإذراع. فلما تشارك؟ دمرت كل شئ في حياتهن من سمعة وخلق لهن ولأبنائهم من بعدهم.
ما عادت الحياة كمان كانت من قبل لهم ولن تعود مجدداً. لا شئ يعود كسابق عهده. ظلت أيام قليلة علي خروجهن من السحن. ليواجهن مجتمع أشد قسوة وضراوة من مجتمع السجن.
هل ستستقيم الحياة لهن؟ هل ستعود المياه لمجاريها القديمة تاركة الركود؟ هل يمكن الخروج من المنعطف الضيق الذي وضعتهم الحياة به؟ هل ما حدث لهن ظلم أم قمة العدل بعد كم التعدي والافتراء علي سحر؟
لم تتغير قناعتهن بأن سحر هي سبب كل ما مررن به. وليس حمقهن بأن المشكلات تحل بالضرب لو كانت هكذا فلما وضعت الكثير من الدول القوانين المختلفة طالما ينهون مشكلاتهم باليد والذراع. ما حاجتنا لقوانين تنظم الضرب والشجار مثلا.
ما حدث لهن منذ سنوات السجن وأنه لم يذهب أحد لزيارتهن خلال هذه الفترة مطلقاً. هذا أكد ما يدور في أذهانهن عن أنهم لم يقبلون بينهم مجدداً. عار وأي عار أن تسجن امرأة لدينا بالصعيد لذلك شعرن أن السجن الحقيقي أنتهي وسوف السجن المجتمعي من الجميع حولهن.
كل منهن رسمت في ذهنها صورة عما تقابل في الخارج من نظرة مجتمع متدنية وحقيرة تضعهم في أقل مراتب الاحترام. لم يحتملوا كثيراً مما يرون حولهن ورفض الجميع لهن .مضي الوقت سريعاً. كأنها بضع سويعات وليست سنوات مضت بسرعة البرق.
خرجن لمنازلهن ولم يبقي سوي الطريق ليصل كل منهن إلي أبناءها. ما أن وصلت كريمة لمنزلها وأولادها لم تجد منهم أدني ترحيب أو اهتمام وكأنها كانت بينهم ولم تتركهم كل هذا الوقت.
نظرت أبناءها المتدنية التي رأتها وشعرتها منهم جعلتها تكره كل شيء حولها. دلفت إلي داخل المرحاض تبكي وتنتحب بشدة علي كلما لمتراه بعد من نظرة المجتمع المتدنية من هم منها كانوا يعاملوها هكذا فماذا سيفعلون معها الغرباء؟
جاءت والدة زوجها وهي تضحك بصوت عالي لتثير غضبها. وتزيد الحنق بداخلها علي ما يحدث له. لم تدرك في لحظاتها الأولي أن كل هذا سيحدث لها ولهم جميعاً. كانت قد ذهبت هي وهم لها للانتقام وليس ليتطور الأمر إلي هذا الحد ووصوله لقضية وسجن وكل هذا.
لم تحتمل كريمة كل هذا في اليوم الأول لها. كانت قد تمني نفسها بكل ما سيحدث لها. كبرت وظنت أن أبناءها سيقفون بجوارها ولم تجد أحد منهم. كيف لها أن تتأقلم مع هذا الوضع وتلك الحالة التي لم تذهب بتفكيرها لها قط؟ وهذا علي المستوي العائلي فماذا عن المستوي المجتمعي؟
علي الجانب الآخر كانت نجوي تتوسط مائدة الطعام بعد أن غمرت نفسها بماء دافئ لتتفاجآ بما لم يخطر علي ذهنها قط من قبل. ما أن جلست واجتمع الجميع علي مائدة الطعام حتي جاءت امرأة من حجرتها وهي ترتدي ملابس ضيقة تظهر مفاتنها الأنثوية. جلست تتوسط المائدة بين أبناء نجوي وهي تشتعل غضباً وتستعر أحقادها عليه وعليها.
جلست تلك المرأة الجديدة التي لا تعرف نجوي من هي تتوسط المائدة ونظرت لنجوي بكل ازدراء. تتطلب منها أن تنهض تساعد الخدم في جلب الطعام ووضعه علي المائدة. نظرت لها نجوي تقول : أنا أساعد للخدم أيتها الحقيرة.
نظرت لها تلك المرأة: ولما لا تساعديهم؟ الم تكوني في السجن ؟
ابتلعت نجوي هذه الغصة لتنهض عن المائدة واجتذبت المرأة الأخرى من خصلات شعرها . دارت معركة حامية الوطيس بينهما وتفرقت المائدة وما عليها من طعام ولم يكن أحد يجلس ليتناول الطعام كل ذهب لوجهته. ضربت نجوي المرأة الأخرى بعنف وهي الأخرى ضربت، ولكن ليس كما ضربتها نجوي.
نهضت كلتاهما علي صوت علوان يصرخ بصوت جهوري فيهما فاجتمع الجميع من حوله. فنهضت كلتاهما تقف في جانب. لم تمهلها تلك المرأة وقت للتفكير بمجرد رؤية علوان ارتمت علي صدره واحتضنته. وادعت البكاء أمام الجميع من أبناء نجوي فجاءت نجوي تهرول بعنف تمسك بها وتستخرجها من أحضانه فلم تتركه .
وقف علوان يفكر فيما يراه أمامه. نظر إلي نجوي وهو يحمل يدها بعيداً عن التي في أحضانه. بكل ازدراء لها ولهيئتها الرثة. واحتضن الثانية وهو يقول : كيف تمتد يدك عليها هذه ست هذا المنزل. صمت الجميع بعد هذه العبارة القاتلة التي استمعوا إليها منه.
انصرف الجميع كل في زاوية من زاوية المنزل إلي حجرته الأ نجوي. وقفت هذه المرأة أمامها تنادي علي أحد الخدم وهي تتطل منهم تنظيف المنزل من القمامة وهي تشير إلي نجوي وتقول: هذه هي الخادمة الجديدة.
نظرت لها نجوي ولم تجد حديث تجيب بها عليه. ذهبت إلي علوان وأخذ تنظر له ولم تتحدث ثم تركته وذهبت. لم تصدق نجوي كل ما حدث هل هذا هو علوان ؟ هل تغير إلي هذا الحد؟ هل هي خسرت كل شيء؟ هل يمكن أن تعود كما كانت؟
تغير الجميع حولها أبناءها لم يقدروا أنها والدته. ولم يشكل ذلك معهم أي فارقاً يذكر خاصة أنها لم تري منه أي لون من ألوان المراعي والترحيب ,ولكن تركوها وحيدة مشردة لم تجد لها موضع تنام فيه حتي. أقامت في حجرة فتياتها فهي معها خمس فتيات تتفاوت أعمارهم في أثناء سجنها تزوج أثنين منهن بصعوبة شديدة بسبب وصمة العار التي لحقت بهم من أمهم التي سجنت.
سجن والدتهم وما سمعوه من الجميع عنها في أنها أصبحت مشبوها لسجنها. لم تجد مفر من نظرة المجتمع التي آثرت علي أبناءها سلبياً بسبب السمعة السيئة. سيظل العار يلاحق الجميع الأ يكفيهم ما لحق بهم من سجن عمهم والآن تأتي والدتهم تدخل هي الأخرى السجن لتكتمل سلسلة العار لديهم.
حاولت التقرب منهم لمعرفة التغيرات التي حدثت في بيتها في غيابها. كيف تحولت الأوضاع في غيابها وساءت إلي هذا الحد؟ كيف يمكن أن تستعيد ثقة الجميع ؟ كيف يمكن أن تعود سيدة المنزل كما كانت؟ وكيف تنتقم من هذه التي لا تعرفها؟ وكيف وكيف؟
بدأت تقيم مع بناتها في الحجرة تتجنب السيدة الجديدة حتي تعرفها جيداً. ثم هبطت في صباح اليوم إلي المطهي لتري الخادمات وجدتهن تغيرن عما كانوا قبل السجن توفيت بركة الخادمة الكبيرة والتي كانت بمثابة ذراعها الأيمن وعينها في غيابها. نظرت تبحث بينهم عن خادمة تعرفها فوجدت بنت بركة ثنية وهي فتاة في عمر فتياتها.
جلست تساعدها وتتحدث إليها حتي عرفت منها كل ما تريده وأكثر بكثير. أخبرت عن المرأة الجديدة التي تدعي سلوي وهي امرأة من بيت وعائل كبيرة هنا. تزوجها بعد سجنها وهي تهتم بأناقتها وثيابها وليل نهار بهذه الثياب الخليعة في البيت تتحرك بها هنا. لا أحد يستطيع الوقوف في وجهها ومجاراتها بكلمة واحدة فهي المعني الحقيقي للتجبر والغرور. نصحتها بالبعد عنها لأنها لا يمكنها الوقوف في وجهها.
استيقظت سلوي وصرخت تنادي علي ثنية لتضع الإفطار علي المائدة. خرجت لها ثنية ثم سألتها عن الخادمة الجديدة لم تعر من هي ثم قالت اسم نجوي. فثبتت عيناي ثنية فخرجت لها نجوي وبدأت الشجارات الأنثوية بينهم. أحداهما بالأعلى والأخرى بالأسفل . استيقظ الجميع عوضاً عن تناول الإفطار غضب.فطار لتناول كلتا المرأتين في غضب .
استيقظ الثلاثة رجال والثلاث فتيات وعلوان. ووقف الجميع في مشهد واحد فاقتربت سلوي من علوان تدعي البكاء وتهمس له في أذنه فضحك. وقف علوان يقول للجميع: سلوي هي ست المنزل وكلمتها سارية علي الجميع.
نظر لها يقول: أنتِ يا بقرة التي تدعي نجوي أن تفعل كل ما تطلبه ستك سلوي.
اجتمع الجميع علي مائدة الطعام. ينظرون لبعضهم البعض في حذر وخيفة من ما هم مقبلون عليه من مواسم الشجار. جلست نجوي علي المائدة بجوارهم تأكل لم تتوقف سلوي عن ترك يد علوان والضحك والغنج عليه أمام أولاده والجميع وخاصةً نجوي التي لم تحتمل كل ذلك. فنهضت من علي المائدة غاضبة تفكر في حل لسلوي. فأسقطت سلوي كأس الحلي من يدها فنادت علي نجوي بصوت عالي لتأتي تنظف الأرض. جاءت روهي في قمة الغضب تحمل معها أدوات التنظيف في يدها.
انحنت أسفل قدميها تنظف ما أن وقفت وانتهي حتي رأت السكينة بجوارها. أمسكت السكينة بحركة سريعة وهي تمسك بها وتضعها علي رقبة سلوي. وتهددها وتهدد الجميع وتقول لهم: الذي دخل السجن مرة يمكن أن يدخله مرة أخرى في قتل.
نظر لها الجميع في توجس وخيفة مما يحدث وتركتها وذهبت. أخذت ثنية تنظف المائدة والأواني مما علق بها من بقايا طعام. ولم تستطيع نجوي الاستقرار في منزلها ألا بعد أن فعلت ما فعلته أمام الجميع. ليعي كل واحد منهم حجمه جيداً ما يمكنها فعله بأي وقت لا تجد معاملة لا تليق بها.
جلست مع فتياتها وما أن اقتربت من أحدي فتياتها حتي خافت منها لما فعلته علي المائدة مع سلوي. تحركن تركن لها الحجرة خوفاً أن تفعل في أحد منهم شيئاً. نظرت لهن ولنفسها وما وصلت له من حالة كل هذا بسبب سحر هبط تساعد ثنية علها تجد أحد تحدثه في هذا المنزل بدلاً من جلوسها هكذا.
لم تحتمل كلا ما تراه وتمر به. لم ينسي أحد ما فعلته بنفسها لأجل هذه العائلة والانتقام لها والآن تقف هكذا في هذه الحالة بمفردها. زوجها تزوج عليها وفتياتهن التي تركتهن. لن يعود هناك أحد ثابت علي حبه وانتمائه لها. الجميع تخلي عنها تواجه حياتها بمفردها دون أحد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي